مجلة حكمة
زيمل

العزلة والحرية في سوسيولوجيا زيمل – سيرين الحاج حسين


غلاف الكتاب

هذا المقال بمثابة قراءة لمفهومَي العُزلة والحرية عند عالم الاجتماع الألماني جورج زيمل، والمرجع الذي نقلت منه هذه المفاهيم هو كتاب “علم اجتماع جورج زيمل، 1950″، حيث يصف زيمل العزلة والحرية كحقائق اجتماعية Social Facts أكثر من كونها حالات نفسية أو سمات شخصية. وهو في الحقيقة ليس مقالًا بقدر ما هو جزء من سلسلة تدوينات أسعى بها للإشارة لمفاهيم واتّجاهات اجتماعية من نصوص ومباحث اجتماعية شهيرة تكاد تكون مُغيَّبة عربيًا لقدمها وعدم ترجمتها.

لم أجد نسخة عربية من الكتاب، ولم أسمع عن أحد نقله للعربية، ولم أجد في السعودية نسخة إنجليزية منه، لكني وجدت نسخة إنجليزية مستعملة في موقع بريطاني، وبعد اقتنائها وقراءتها قمت بترجمة مقتطفات منها للعربية للاستشهاد بها في هذا المقال. وقد نقل هذا الكتاب للإنجليزية وقدّم له الكاتب الألماني كورت وولف Kurt H. Wolf، ومقالي هذا مُذيّل بنبذة موجزة عن الكاتب ترجمتها من مقدّمة نفس الكتاب. قُسّمَ الكتاب إلى خمسة فصول، الفصل الثاني منه هو “الجوانب الكمّية للجماعة”، وتحت هذا الفصل هناك باب “الفرد المنعزل” المعني بعدة مباحث، من بينها ما تطرقت له في هذا المقال: الفرد المنعزل، العزلة، والحرية.


يؤكد زيمل على كون العُزلة والحرية حقائق اجتماعية، فهي -ولو أن جزء كبير منها يحصل داخل الفرد- في الحقيقة تفقد معناها إذا تحققت في غياب العلاقات الاجتماعية للفرد “الحُر” أو “المُنعزل”. ولا يُعبّر زيمل في هذا الفصل عن علاقة الفرد بمجتمعه باللفظ المعتاد “الفرد والمجتمع” The individual and the society، بل عوضًا عنه يستعمل مفاهيم وعبارات مثل The individual and the dyad: “الفرد ونظيره في العلاقة”، أو “الفرد كجزء من علاقة اجتماعية ثنائية” أو يستعمل “الفرد والطرف الآخر” The individual and the other party، سواء كان الطرف الآخر مجتمع كامل أو شخص واحد.

يبدأ زيمل الفصل بمفهوم الفرد المُنعزل ‘The Isolated Individual’، ويشير بأنه لا يقصد بهذا كون الفرد “وحيدًا فيزيقيًا”، فالشعور بالعزلة تعبير أعمق من الوحدة الظاهرية بمراحل:

“أكثر ما يهمنا في هذا الموضوع (الفرد المنعزل) ظاهرتان: العُزلة والحرية. الحقيقة المجردة بكون أحد الأفراد لا يتفاعل مع الآخرين هي بالطبع ليست حقيقة سوسيولوجية، و لا تُعبّر عن مفهوم العزلة ككل. إن مفهوم العزلة هنا لا يعني أبدًا غياب المجتمع، بل تتضمّن الفكرة وجود خيالي للمجتمع، ثم رفض لهذا الوجود… وكل ما في العزلة من مرارة ومن لذة ما هي إلا استجابات مختلفة لمثيرات اجتماعية. العزلة هي تفاعُل بين طرفين أحدهما يغادر بعد المرور بعدة مثيرات. والفرد المنعزل هو منعزل في واقعه فقط، أما نظريًا، أو بالنسبة للطرف الآخر، فإن هذا الفرد لازال يُمثّل عُنصُرًا حيًّا.

هناك حقيقة سايكولوجية ينبغي الإشارة لها هنا. الشعور بالعزلة نادرًا ما يكون طاغيًا أو حادًا عندما يكون الفرد في حالة وحدة فيزيقية وليس حوله أحد، بعكس حين يكون هذا الفرد غريبًا وبلا علاقات في وسط زحام من الغرباء القريبين فيزيقيًا، كأن يكون في قطار، مكان مزدحم أو مدينة كبيرة”.

إذًا فالعزلة التي يشعر بها الفرد في داخله فتؤثر على تفاعله مع الطرف الثاني في العلاقة هي ليست فقط غير مرتبطة طرديًا بالوحدة، بل قد يكون بينهما ارتباط عكسي. ألم يحصل أن كنت مرة مع مجموعة تربطك بها علاقة وطيدة جدًا وعلاقات قد تكون متقاطعة (قرابة بالدم أو بالزواج، وزمالة أو جيرة في نفس الوقت)، وأنك بالرغم من كل هذه الروابط تشعر بأنك مغترب عاطفيًا أو فكريًا عن هذه الجماعة؛ في كل تصادُم حقيقي تكتشف أن بينكم هوة سحيقة جدًا، وأن كل تلك الروابط ما هي إلا أشكال خارجية لعلاقات لا تنفي العزلة؟ ألا تشعر عادةً وأنت في منتصف جدال مُنهِك مع هذه الجماعة أو بعض أفرادها بأنك أبعد ما تكون عن هذا المجتمع؟ وبأنك تنتمي إلى مجتمع آخر تمامًا، سواء كان هذا المجتمع افتراضي، مثالي أو مجتمع تنتمي له روحيًا بغض النظر عن عدم كونك فعليًا من أفراده الفعالين الذين، بالنسبة له، كل واحد منهم حي وموجود. 

 “يحدد كون الجماعة “الطرف الثاني” تُفضّل أو حتى تسمح بمثل هذه الوحدة في وسطها سمة أساسية لبناء هذا المجتمع. المجتمعات المغلقة والحميمة مثلًا لا تسمح غالبًا بمثل هذه الفجوات بين عناصرها. وحين نتكلم عن ظواهر مُعارِضة للمجتمع كالأشخاص البائسين، المجرمين، الانتحاريين ومن يقوم بأعمال الدعارة وغيرها، قد نشير لهم كعجز اجتماعي نتج عن تفاعل نسب محددة من بعض الظروف الاجتماعية. بنفس الشكل، فإن نِسَب كمية وكيفية مُختلفة من معطيات الحياة الاجتماعية تخلق مقدارًا، مؤقتًا أو مُزمنًا، من الوحدة للعناصر الموجودة، رغم أنه لا يمكن قياس هذا إحصائيًا بالسهولة التي يمكن بها قياس الظواهر الأخرى.

وبالتالي فإن العُزلة ظاهرة أو حالة تحصل داخل الفرد، لكن في الحقيقة وجودها يتعدى داخل الفرد ويخرج ليتكوّن بينه وبين جماعة محددة أو بينه وبين الحياة مُجملًا. لكن لهذا أهمية اجتماعية أخرى: قد تكون هذه العزلة إعاقة لبعض العلاقات بين شخصين أو أكثر أو حدث دوري فيها. لكن يزيد تأثير هذه العزلة بشكل خاص في العلاقات التي من طبيعتها في الأساس نفي العزلة، وهذا ينطبق بالدرجة الأولى على الزواج الأحادي”.

في قوله:وبالتالي فإن العُزلة علاقة تحصل داخل الفرد، لكنها في الحقيقة موجودة بينه وبين جماعة محددة أو بينه وبين المجتمع مجملًا تأكيد على أن العُزلة عملية تحصل بين طرفين، فلا يمكن أن يكون أحدنا منعزلًا بلا أن يعتزل شيئًا ما أو أحدًا ما. ومن منطلق اعتقاد زيمل بأنه قد يكون هناك نوعًا من الحرية التي هي في حقيقتها ليست إلا انعدام العلاقات بالآخرين، أو غياب القيود التي تفرضها العلاقات مع الآخرين، يقوم زيمل بعد التطرق لمفهوم العزلة في فصل “الفرد المنعزل”، بتناوُل مفهوم الحرية؛ فالحرية كالعُزلة في كونها حدث اجتماعي أكثر من كونه فردي؛ لأنها تعمل ضمن نظام من العلاقات، وكونك حُر لا قيمة له ولا تطبيق فِعلي له إن لم تمتلك هذه الحرية ضمن نظام اجتماعي أنت فيه طرف من علاقة مع طرف آخر. لا يمكن قياس حريتك مثلًا أو اعتبارك حر في منفى خالي من البشر تمامًا. هناك؛ ما هي حريتك؟ كيف ستعرف أنك حر -بما أنه ما من عوائق-؟ ماذا سوف تمارس؟ ما هي معتقداتك؟ كيف ستعبر عنها؟ ماذا ستمتلك؟ ما قيمة الذي تمتلكه؟

“قد يكون هناك نوعًا من الحرية التي هي في حقيقتها ليست إلا انعدام العلاقات بالآخرين، أو غياب القيود التي تفرضها العلاقات مع الآخرين… لكن وبالنسبة للفرد الذي له علاقات بآخرين، فالحرية لها أهمية أكبر، وبالنسبة له الحرية في ذاتها هي علاقة بالبيئة، وظاهرة متلازمة تخسر جوهر معناها في حال غياب الطرف الآخر، أو النظير في العلاقة… وللحرية جانبان يشكلان أهمية كبيرة لبناء المجتمع:

 الجانب الأول للحرية: هو كونها ليست حالة يمكن أن تتواجد دائمًا بشكل يمكّن من ضمان بقائها، ولا يمكن حيازتها ماديًا، إن جاز التعبير، بشكل يضمن تحقيق حرية كاملة دفعة واحدة”.

فالحرية، والسعي لها، عملية مستمرة، طالما هناك مجتمع بشري، طالما هناك أفراد يسيرون في طريق طلب التحرُّر، من القمع، من الجهل، من الآلام، من الشعور بالذنب، من الخوف، من العُقَد، من الرذائل، من الأزمات الوجودية التي تقابلهم في حياتهم الواحدة تلو الأخرى خالقةً من الناس كائنات مقيدة بصورة أو بأخرى. سواء بالصراع، بالسلم، بالإصلاح، بالوعي، بالأدب، بالهرب، بالحديث، بالصمت أو بأي شكل آخر يلوذون لطلب هذه الحرية.

“الجانب الثاني للحرية: تختلف الحرية في وظيفتها وحقيقتها عن التحرر (الانعزالي) الكائن برفض العلاقات أو تحصُّن الفرد داخل مجاله الخاص عن المجالات المجاورة. وهذا بديهي، لأن الإنسان لا يريد أن يكون حرًا فقط، بل أن يستعمل هذه الحرية لاستخدامات عدة وبشكل أوسع من نطاقه الفردي، وهذا الاستعمال للحرية هو في الحقيقة ليس إلا امتلاك سلطة على الأشخاص الآخرين أو استغلالهم بصورة ما… فالحرية تتمثّل في السلطة والقوة في العلاقات مع الآخرين، في إمكانية جعل شخص ما مُعتبرًا في علاقةٍ ما، في التزامات الآخرين نحوه وإذعانهم له، مما يوجد تحديدًا قيمة الحرية وتطبيقها. أهمية الحرية كشيء يختص به الطرف الحُر، في أنها تبدو كنقطة تحول في الوظائف الاجتماعية له، حيث أن الحرية والطرف الحُر هنا مبنية على حقيقة أن الشخص مُقيَّد من قِبَل الآخرين ويقيد الآخرين أيضًا”.


في مرحلة من عملية التحرر؛ تصعد الحرية فوق قيد، وتتعارض مع قيد آخر. وهناك.. تجد معناها، وقيمتها، والوعي بأهميتها”


نبذة موجزة عن جورج زيمل Georg Simmel * :georg-simmel-4

كان جورج زيمل الابن الأصغر في عائلة لها سبعة أطفال، وقد ولد في مارس 1858م ببرلين. كان والده شريكًا في مصنع شوكولا واسع الانتشار بألمانيا في وقتها، وقد مات في طفولة جورج، تكفّل صديق للأسرة برعاية جورج حتى يكبر، وكان هذا الصديق يملك عمله الخاص به أيضًا، وهو شركة للإنتاج والتوزيع الموسيقي. وقد تركا لجورج الصغير ثروة مكّنته من أن يحيا حياة باحث وعالم بلا أن ينشغل بلقمة عيشه، وقد عُرف عن والدة جورج زيمل بأنها امرأة مسيطرة ومستبدة.

بعد تخرجه من معهد رياضي (في الرياضةGymnasium ، لا في الرياضيات)، سجّل في جامعة برلين وعمرها ثمانية عشرة سنة ليتخصص في التاريخ، وعلى الرغم من تأثّره بالمؤرخ والأديب تيودور مومسن Theodor Mommsen، إلا أنه بعد فترة حوّل لدراسة الفلسفة. لاحقًا، صار يرى لازاروس وستينثل  Lazarus and Steinthal, مؤسسا علم النفس الشعبي Völkerpsychologie كأهم أساتذته.

عمل زيمل كأستاذ في جامعة برلين بين لتسعة عشرة سنة، وذلك بدءًا من 1885 حين بلغ الخامسة والعشرين. ولاحقًا في 1914 وقبل وفاته بأربع سنين استُدعِي للتدرس في ستراتسبورغ. ثم مات في 1918م. حاضر زيمل في عدة برامج ومواد، هي: المنطق، مبادئ الفلسفة، تاريخ الفلسفة، الفلسفة المعاصرة، كانط، لوتزة، شوبنهاور، دارون، الفلسفة التشاؤمية، الأخلاق، فلسفة الدين، فلسفة الفن، علم النفس، علم النفس الاجتماعي، علم النفس السياسي وعلم الاجتماع. وكانت كتاباته غالبًا تُصنَّف تحت: علم الاجتماع، فلسفة التاريخ، الأخلاق، الفلسفة العامة، فلسفة الفن، فلسفة الحضارة المعاصرة، الميتافيزيقا.

* وردت هذه المعلومات عن جورج زيمل من مقدمة نفس الكتاب، وقد كتب كورت وولف مقدمة مفصّلة كتعريف عن جورج زيمل قبل الشروع في كتابه، وقد اخترتُ منها مقتطفات بسيطة بمثابة تعريف سريع. سيرين الحاج حسين.


Reference

.  Simmel, G. and Wolff, K.H., 1950. The Sociology of Georg Simmel. New York: Macmillan Publishing Co