مجلة حكمة

ظلمة تتهاوى: محاولة في فهم الانتحار – تأليف: كاي جاميسون / ترجمة: طلال العمري، هدى متبولي

ظلمة تتهاوى الانتحار
غلاف كتاب (ظلمة تتهاوى: محاولة لفهم الانتحار)

يمكنك شراء نسخة كندل من كتاب (ظلمة تتهاوى) عبر هذا الرابط


اعتاد صديقي جاك رايان أن يصحبني إلى حديقة بريستو في البيفرلي هلز، ظانًا أنه بالإمكان جعل مساءات لوس أنجلوس أقصر وأخف وطأة. كنت أطلب عادة سرطان البحر وكأس السكوتش على الصخور، بينما يقوم جاك من حين لآخر بعرض فكرة الزواج عليّ. كانت بالطبع فكرةً مثالية للحصول على براءة اختراع في توليد الكوارث، لكن على كل حال؛ لم يكن أيٌ منا ميالًا لأخذ عرض الزواج هذا بجدية، على عكس صداقتنا التي كنا نأخذها على محمل الجد.

في هذا المساء تحديدًا؛ وقد التهمت القطعة الأخيرة من سرطان البحر، أخذت أحرك كأسي خالقة بعض الدوامات ومتلاعبة بمكعبات الثلج بعصبية. كان حديثنا عن الانتحار يجعل مني عصبية المزاج وعاجزة عن الاسترخاء. أخذنا نقطع أغلظ الوعود: إذا ما فكر أحدنا بتقديم دمه قربانًا للموت؛ فسنجتمع حيث يقطن جاك في الكيب كود، وسيكون لدى الآخر أسبوع هناك ليقنعه بالعدول عن الانتحار، ويسرد له كافة الأسباب ليعود إلى تناول جرعات الليثيوم.. على افتراض أن الانقطاع عن الليثيوم هو السبب الرئيسي لهذه الأفكار الانتحارية (كان كلانا مصابًا بمرض الاكتئاب الهوسي، وعلى الرغم مما نبدو عليه من الحكمة والتعقل؛ كان كلانا لا يحبذ تناول الدواء)، أسبوع لإقناعه بالذهاب للمستشفى، وإيقاظ ضميره بتذكيره بالألم الحتمي الذي سيتسبب فيه لعائلته إن هو مات منتحرًا.

كنا خلال هذا الأسبوع ــ كما تصورنا ــ سنسير بمحاذاة الشاطئ يذكر بعضنا بعضًا بعدد المرات التي رأينا الأمل فيها يتلاشى والنهاية تصبح حتمية، فينقشع بطريقة ما كل هذا الظلام ويعود الأمل إلى البزوغ .. والحقيقة أنه إذا لم يكن الشخص الذي اختبر الهاوية هو الأقدر على إنقاذ من يقف على حافتها؛ فمن عساه يكون؟

كان كلانا يعرف الانتحار جيدًا، وله طريقته الحميمة في التعامل معه، وكنا نظن أنه في قدرتنا تجنّب أن تسجل عبارة «الوفاة منتحرًا» في شهادة الوفاة. كنا قد قررنا أن أسبوعًا واحدًا هو أكثر من كافٍ لمناقشة البقاء على قيد الحياة وجدواه، وحتى إذا لم يفلح ذلك؛ فعلى الأقل نكون قد حاولنا. ولأن لدينا سنوات طوال من الخبرة المتراكمة مع نمط الحياة المتسم بالتهور وغير القابل للتنبؤ، ولأننا نعرف كيف يمكن أن يكون الدافع للانتحار سريعًا وقاطعًا؛ فقد قررنا ألا يشتري أينا مسدسًا أبدًا، بل وأقسمنا ألا نجعل كائنًا من كان وتحت أي ظرف من الظروف يستودع مسدسًا في منزل نسكنه.

«في صحتك» قلنا بشكل متزامن مع قرقعة الثلج وارتطام الكأسين ببعضيهما

عدنا من إبحارنا نحو الواقع والعالم العقلاني، كانت ما زالت تعتريني بعض الشكوك. أصغيت للتفاصيل، حاولت استيضاح بعضها، تجرعت ما تبقى في كأسي، ثم حدقت في الضوء النحيل الذي يحيط بنا في الحديقة..

من كنا نخادع؟!

لم يحدث مرة خلال نوبة من نوبات الاكتئاب الانتحاري أن وجدت في نفسي الرغبة أو القدرة على رفع سماعة الهاتف وطلب المساعدة من صديق .. لم يحدث ذلك مرة، هذا لا يشبهني أبدًا!

كيف بإمكاني جديًا أن أتخيل أن أتصل بجاك ثم أحجز رحلة طيران ثم أذهب إلى المطار ثم أستأجر سيارة وأجد الطريق لبيت جاك في الكيب؟!

والحقيقة أن هذا يبدو أقل سخفًا بالنسبة لجاك، فهو شخص ثري على الأقل، وبإمكانه أن يسند إلى أحدهم مهمة إنجاز الإجراءات العملية نيابة عنه.

كلما فكرت في هذا، غدوت متشككة أكثر..

توّجَ هذا الحماس الوقاد، والاستدراج المغوي، والقدرة الهائلة على خداع النفس التي يستطيع ارتكابها اثنان مهووسا المزاج، حلوى السوفليه التي وصلت في الوقت الذي كنا فيه مقتنعين تمامًا أن اتفاقنا أصبح قيد التنفيذ وقابلًا للتماسك، سأتصل به حتمًا كما اتفقنا، وسيفعل هو ذلك، وسنطرح الفارس الأسود المسكين خارج الرقعة.

*  *  *

إن كان الأمر خاضعًا للفارس الأسود، فقد كان ميالًا للصمود والتمسك بموقعه على رقعة الشطرج… وكذلك فعل. فبعد سنوات عدة من لقائنا في الحديقة، تزوج جاك ورحلت أنا إلى واشنطن، ولم تتح لي رؤيته لفترة طويلة، حتى كان ذلك النهار الذي استقبلت فيه مكالمة من كاليفورينا يخبرني فيها المتصل أن جاك وجه مسدسًا إلى رأسه وأطلق النار.. لقد قتل نفسه، هكذا أكد المتصل.

لم يعد هناك المزيد من الأسابيع في الكيب كود ولا المزيد من محاولات ثني صديق عن الانتحار

جاك الذي كان مبدعًا بما يكفي ليحوز آلاف براءات الاختراع لطَيْفٍ واسع من الابتكارات، ابتداءً بالأنظمة الرادارية المستخدمة في وزارة الدفاع الأميركية لصواريخ الهوك وسبارو، مرورًا بالألعاب التي يلعب بها ملايين الأطفال على امتداد الأرض، وليس انتهاءً بالأجهزة التي تستخدم في كل بيت أميركي.. التاجر الناجح.. خريج ييل.. محب الحياة.. ذو المخيلة الخلاقة؛ لم تسعه مخيلته لإيجاد بديل لقتل نفسه بطريقة عنيفة.

والحقيقة أنني، وإن كان قد هزني موت جاك، إلا أني لم أُفاجأ به، ولم أكن أتوقع بالطبع أن يتصل بي حين بدأت تراوده فكرة الانتحار، فأنا بعد كل شيء، ومنذ العهد الذي قطعناه في الحديقة، أصبحت انتحارية غير مرة وفي مناسبات عدة؛ ولم أتصل به ولم يخطر لي حتى أن أفعل ذلك، فالانتحار ليس شيئًا يمكن ضبطه بوعود المساءات، ولا يمكن أن يلتزم الخطط المرسومة في لحظات رائقة، أو أن يغلف بالنوايا الحسنة .. وأنا أعرف هذا بالاستناد إلى حقيقة مرّة، تتمثل في أن الانتحار غدا في دائرة اهتمامي المهني لأكثر من عشرين سنة، واهتمامي الشخصي لفترة معتبرة أطول من ذلك.

ويمكنني القول إن الانتحار انتزع بحق احترامي وتقديري البالغ، لقدرته على اجتياح الإنسان وجرف أركانه والاستحواذ عليه وعلى عقله، وتدميره أخيرًا.

وكممارسة إكلينيكة، وباحثة، وأستاذة جامعية، عرفت دومًا مرضى شنقوا أنفسهم، أو أطلقوا النار على أنفسهم أو خنقوا أنفسهم بأنفسهم. قفزوا نحو حتوفهم من فوق السلالم، أو المباني، أو الجسور، ماتوا نتيجة لاستنشاق الغازات السامة أو بجرعات زائدة من الأدوية، قطعوا أرساغهم، أو شقوا حناجرهم. أصدقاء مقربون، زملاء دراسة، زملاء عمل وأبناؤهم.. فعلوا شيئًا كهذا أو قريبًا منه. أكثرهم كانوا يافعين وكانوا يعانون من اضطرابات عقلية، وكل الوفيات خلفت وراءها ألمًا غير متصور، وإحساسًا بالذنب لا يمكن لمرور الوقت أن يجعله يتلاشى.

وكآخرين يعانون من الاضطراب ثنائي القطب، عرفت الانتحار بشكل خاص ومريع، ولقد اختبرت فقدان الطهارة الأولى في ذلك اليوم الذي قررت فيه أن الانتحار هو الحل الوحيد لمستوى غير محتمل من الألم العقلي، بعد أن كنت حتى ذلك الوقت فتاة محظوظة أغرم بها كُثر، وصبية ذات مزاج حساس وشاعري ونظرة وردية للحياة. لم أكن أعرف الموت سوى في أكثر أشكاله رمزية، ولم أفكر يومًا في أنه يمكنني أن أخطط لموتي بنفسي أو أسعى إليه.

كنت في السابعة عشرة وغارقة في اكتئابي. وقد نَمَتْ معرفتي عن الانتحار بطريقة بعيدة عن الطريقة الوجودية التي يمكن لمراهقة أن تعرفه بها، ولوقت طويل من كل يوم، لأشهر عدة طوال سنتي الأخيرة في المرحلة الثانوية؛ فكرت كثيرًا إذا ما وكيف وأين ومتى كنت سأقتل نفسي. تعلمت كيف أبرز للآخرين وجهًا غير وجهي، وتفكيرًا غير تفكيري. تقصيت موقعين أو ثلاثة تحتوي على أبراج طويلة بسلالم غير محمية، استكشفت أسرع الطرق الممتلئة بالسيارات المندفعة صباحًا، ثم تعلمت كيف أحشو مسدس والدي بالرصاص. وهوى الظلام على بقية حياتي في ذلك الوقت، أصبحت الرياضة والكتابة والحصص الدراسية والأصدقاء والتخطيط للجامعة؛ مسرحية سخيفة لا يمكن احتمالها، وجود أجوف مزيف تمامًا، يزوَّر فيه الناس وجودهم ومسالكهم بأفضل ما يستطيعون. ثم وتدريجيًا انقشع الاكتئاب، طبقة إثر طبقة، وبحلول وقت تخرجي كنت قد أصبحت بخير لأشهر عدة، وانسحب الانتحار للمربع الخلفي من الرقعة، وغدا مرة أخرى مما لا يخطر على البال.

لحرصي على كتمان هذه الكوابيس وخصوصيتها، لا أحد مقربًا مني كانت لديه فكرة حقيقة عن المعاناة التي أبقيتها سرًا كبيرًا. كان ثمة حاجز بين تجربتي الشخصية والتعبير عنها علنًا، حاجز ذو وجود مطلق غير قابلٍ للنقاش، حتى إن تظاهري بعافيتي كان مقنعًا بشكل مخيف.

وخلال سنوات كان الاضطراب الاكتئابي الهوسي يزداد سوءًا، وحقيقة أنني سأموت منتحرة وأنا شابة، أصبحت كامنة في طريقة تعاملي مع الحياة، ثم وحين كنت في الثامنة والعشرين، أخذت جرعة هائلة زائدة من الليثيوم بعد نوبة ذهان هوسي مدمرة، متبوعة بنوبة طويلة من الكآبة وحصار عنيف ضربه حولي الظلام.

وكنت بحق أريد أن أموت، وكدت أفعل، فالموت منتحرة كان دائمًا احتمالية في حياتي، إن لم يكن حتمية.

وحقيقة أنني كنت عضو هيئة تدريس شابة في قسم الطب النفسي. لم تكن مسافة طويلة تلك التي فصلت بين تجربتي الشخصية وتجربتي الإكلينيكية والبحثية العلمية. كنت قد درست كل ما استطعت قراءته عن مرضي، وقرأت تقريبًا كل ما استطعت إيجاده عن الدوافع البيولوجية والنفسية للانتحار.

وكما يفعل مروّض النمور الذي يعرف تفكير كائنه المرقط وحركته المقبلة، وكما يفعل طيار يتعلم عن ديناميكة الرياح والهواء، تعلمت أنا عن المرض ونهاياته المحتملة.

تعلمت بأفضل ما أستطيع وبأكثر ما يمكن عن أمزجة الموت.

لقراءة الفصل الثالث من كتاب الظلام يتهاوى متتابعاً