مجلة حكمة

الصورة: القول والحقيقة – محمد جديدي

 


 

              في خاتمة كتيبه “الصورة” الصادر سنة 1950(Les Editions de Minuit, Paris, 1988) ص 18 يذكر صمويل بيكيت Samuel Becket

Je souris encore ce n’est plus la peine depuis longtemps ce n’est plus la peine la langue ressort va dans la boue je reste comme ça plus soif la langue rentre la bouche se referme elle doit faire une ligne droite à présent c’est fait j’ai fait l’image.

     يبدو أن الصورة التي صنعها بالتعبير كانت غاية فعله وكأنها لخصت علاقة التعبير بالصورة وبالرسالة، بالقول والتلقي فهل تطرح هذه الجدلية توترا بين الصورة واللغة قولا وكتابة وإذا كان القول الملفوظ غير معبر أو غير كاف فاللغة المكتوبة بحروفها المرسومة تريد أن تنقل الصمت في حالة العجز إلى صورة .


 

     إنها الصورة من دون تعليق No Comment.

     الصورة التي غدت الحدث الأكبر في التاريخ المعاصر كل حدث كل شيء يوضح ويفسر بالصور. صارت الصورة ملازمة لكل حدث في التاريخ، (لاسيما المعاصر منه في القرن العشرين بل وحتى ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر)، بحيث لم تعد لغة السرد أو التعليل تكفي بل لا بد من توضيح وتفسير يصاحب الوثيقة والنص فالكتب والمعاجم أضحت مزينة وموضحة بالرسوم والخرائط أي بالصور فلا شيء يحدث يمكنه الإفلات من الصورة التي يلتقطها محترفون أو هواة، على استعداد دائم  لتسجيل كل حدث كل شيء بل إن الصورة غدت إحدى مكونات الحرب (حرب العراق صورها الجنود الأمريكان وبالمباشر) وسواء في التاريخ العام أو الخاص أضحت الصورة مكونا لشخصيتنا الذاتية والوطنية إنها تمثل اللحظات الحاسمة التي تلخص جيلا بعينه.

     عن أي شيء ستتحدث الصورة ؟ عن صورة الفضيحة أو بالأحرى عن الفضيحة بالصور عن قرائن الجريمة المشاهدة بالفيديو، عن حقيقة الواقعة مصورة، عن بلوغ الإنسان القمر كما صورته الكاميرا، عن صورة الطفل الذي لم يولد بعد بالألوان، عن الصورة المركبة من أخرى بسيطة تشبه الواقع وتحوره.

     باختصار عن الصورة كحقيقة أو باعتبارها حقيقة الحقيقة، لأنها تصنع واقعها ومعه تمدنا بحقيقتنا، صورة المأساة البشرية كتلك التي أبدت جنون الإنسان (الإنسان الأمريكي مجسدا صورة الإنسان الغربي المتقدم) وهو يستخدم سلاحا نوويا من خلال صورة الفتاة اليابانية عارية، هاربة من هول الفاجعة والصدمة أو صورة تلك المرأة الجزائرية التي عرّت وحشية الاستعمار الفرنسي وتعذيب الإنسان للإنسان وهيمنته عليه باسم الحضارة والعقلانية التكنولوجية التي للأسف أنتجت صورتها الهدامة أيضا ضمن جدلية التطور الكاشف عن فناء الجميل وارتقائه  وتحوله بين السلبي والإيجابي لتأخذ معه الصورة شكل أيقونة للصمود والكفاح من أجل الحرية كما جسدتها جميلات الجزائر. وليس ببعيد عنها صورة أخرى لمرحلة أخرى، ما بعد كولونيالية، طبعها العنف والإرهاب ومثلتها تلك المرأة التي باتت صورتها تملأ صحف ومجلات العالم على إثر مجازر ارتكبت في حق مدنيين أبرياء في تسعيينات القرن الماضي إلى صور أخرى غيرها لا تخلّد مآثر البشر بقدر ما تذكر بمآسي الحروب والهجرة والمجاعة والأوبئة والكوارث الطبيعية والبيئية.

بين الصورة واللغة

     حينما يعجز الإفصاح والتعبير والكلام والكتابة والخطاب تأتي الصورة ملخصة جامعة بما لم يستطعه اللسان والقلم.

     تضم الصورة بين جنباتها وداخل إطارها جوامع الكلم. إنها توحي لما يكون الحدث يوحي بالإيحاء فقط وتتكلم حينما يكون الحديث مفهوما مسموعا في صمته الناطق. وتتكلم عندما لا يكون الكلام كافيا وملما فتعبر من دون تعبير أو أنها تقول ما لم يقل فيما نظن أنه قد قيل أو أن  ما قيل عاجز وغير كاف للإيضاح والتفسير فتكمله الصورة بما تقدمه.

     تفتح الصورة عيوننا وقلوبنا على الاختلاف والتنوع فتدفعنا إلى التأويل الذي لا يخطئ بعضه بعضا ماضيا إلى الأمام وهدفه الأسمى التسامح .

     هكذا كل ما جاءت به الحضارة وأوصلها تطورها الكبير إلى عبادة الصورة، إلى تصنيمها حتى وإن زيفت الحقيقة والواقع معا (الصور الملتقطة بالأقمار الصناعية) ليست الصورة بحد ذاتها هي المشكلة إنما توظيفها واستغلالها لفرض واقع معين أو تشويه حقيقة ما أو تزييف رأي وموقف هو ما يطرح قضية الصورة أخلاقيا.

     لقد تمكنت التكنولوجيات الجديدة من تحويل أنظار الإنسان المعاصر باتجاه الصورة ودوما باتجاهها بحثا عنها في كل لحظة إيمانا منه بأنها قرينة الحقيقة، حقيقة المعلومة والخبر والرأي والحدث والوقائع.

     نحن أمام صناعة الصورة. فالصورة التي رسمها الإنسان البدائي في الكهوف قديما مشخصا بها واقع حياته ومحيطه وتفنن إنسان العصور المتوالية في استخدام ريشته وأدواته الفنية على جداريات وبورتريهات لمن حكموه أو غزوه أو عايشهم فيبلغ صورة منمطة للحياة التي عاشها وأمد بها إنسان العصر الحديث الذي ضاعف من اكتشافاته وتقنياته التي سخرها في القرن العشرين للصورة وبث فيها الحركة ليخلد حياته تماما كما فعل أسلافه.

     أصبحت الصورة وسيلتنا إلى الحقيقة واليقين، هي التي من خلالها نتكشف عن أعماقنا (التشخيص في الطب أصبح يمر عبر الصورة، سواء بالأشعة أو بالسكانير أو بتخطيط على ورق للمخ أو القلب …إلخ).

     الصورة بهذا المعنى وسيلة، حينما يراد لها أن تكون جميلة وتلمع وتعد وتستخدم فيها التقنيات والأدوات التي تجعلها قمة في النقاء والوضوح والدقة.

     أين هي الصورة الغاية إذن؟ هل هي الصورة الفنية التي نادى بها أصحاب الفن للفن ؟ بعيدا عن كل استغلال إيديولوجي أو سياسي أو علمي أو أخلاقي هي إذن الصورة في الإبداع الحر فقط.

     لكن هل هناك إبداع حر أصلا متنصل من مشاعر ووجدان صاحبه أو الجماعة التي يعيش بين ظهرانيها وطموحاته ؟

     الصورة هي المرآة والصورة صورتنا مرآتنا، شكلنا الآدمي ونرجسيتنا التي انتبه إليها ذات يوم نرسيس Narcisse (نرجس) كاشفا عن وجهه في الماء، وهي هويتنا التي يعد ما نخط على بطاقات الهوية كافيا ليتثبت شخصيتنا بل الصورة هي من يعطينا يقين الهوية لنا ولغيرنا. من دون صورة أنت لست أنت، كما قد تستعير صورة غيرك لتعبر الحدود أو تتقمص شخصية وهوّية جديدة تصير قناعك الاجتماعي وتمحو بها تاريخا لا تعرفه سوى صورتك السابقة.

     وها هو اليوم يزيد من سرعة وتسارع التقدم باتجاه الصورة ليعوض بها كل ملكاته وقدراته فيستريح من التعبير الذي لازمه وظل ماهيته. فهل سيصمت الإنسان  مستقبلا إلى الأبد أمام الصورة ؟ وهل نحن بحاجة إلى الصمت بحضور الصورة ؟ هل ستغنينا عن القول ؟ وهل ستجردنا من إنسانيتنا أن أنها ستنير لنا دروبا أخرى للتواصل الإنساني ؟

     وحده المستقبل كفيل بتقديم إجابة عن هذه الإشكالية المتجددة: إشكالية الإنسان والتقنية (الآلة).

       في مجتمع انتشرت وتفشت فيه الصورة، إلى درجة باتت معها مهددة لكياننا الاجتماعي بل الفردي والإنساني عامة. وربما أكثر لصورة الإنسان ذاته، الصورة التي خلق عليها، فما هي صورة الإنسان ؟ هل هي صورة منسوخة من مثال كامل ؟ صورة ناسوتية مستمدة من أخرى لاهوتية، صورة الاستقامة والحُسن، صورة لم تتحقق ودوما في طور التشكل والإنجاز عبر التوق والاشتياق إلى اكتمالها في مثال يظل على الدوام بعيدا؛ وربما لن يبلغ لأنه مجرد دليل ومرشد إلى صورة نموذجية لم توجد يوما ولن توجد إنما هي من وحي خيال الإنسان، خيال صانع الصور ومنها صورته.

     ما هدف الصورة وما غايتها ؟ وما وظيفتها من منظور الفن أو بوصفها فنا يحدث جمالية مطلوبة أو مرغوبة ؟ وهل يرغب الإنسان في تقديم صورة جد مثالية عن نفسه ويكون هو نفسه ضحية لصنيعه؟ وهل نحن إزاء  نزاع بين الصورة والكتابة، الصورة تنازع الكتابة لأنها تستلزم قراءة وتأويلا فنيا والكتابة بوصفها شكلا وفنا يبدأ برسم صور الحروف ويحتاج إلى تأمل وشرح بعد القراءة، بما يفيد أننا أمام تحول استعاري الصورة ككتابة أو هيمنة الصورة على الثقافي والسعي إلى احتواء الثقافة المعاصرة.