مجلة حكمة
الصمت المذهل: تأملات في العدمية والعنف والصحوة - براين سشرويدر / ترجمة: فاطمة الشملان

الصمت المذهل: تأملات في العدمية والعنف والصحوة – براين سشرويدر / ترجمة: فاطمة الشملان


كيف يتعلق الصمت بالفلسفة والعدمية والتقنية والقمع؟ يعرض البرفسور براين سشرويدر سلسلة من التأملات عن الصمت مفرقا بين السلبية المذهلة في وجه موت الإله والانفتاح الذي يسمح للأصوات الأخرى أن تطفو

 

” فيما يتعلق بما لا يمكن للمرء الإفصاح به، أليس من الأفضل البقاء صامتا؟ سأجعلك تجيب على هذا السؤال، إنه منوط دائما بالآخرين.”

جاك دريدا

غالبا ما يُفسر الصمت على أنه غياب، كمساحة لامكانية حيث لا يحدث على العموم فيه الحديث أو الصوت. إلا أن الصمت مع هذا يدوّي في حضوره الخاص، مانحا معنى بطرق لا يمكن للغة وحدها أبدا أن تحققه. “يكون السكوت الأصيل ممكنا،” كما يلحظه مارتن هيدغر “في أثناء الكلام الرفيع.”1/2 غالبا ما ربط الميتافيزيقيون الغربيون الأصالة باللغة (archē بـ logos). ولكن كما كان الظلام في سردية النشوء مماثلا إن لم يكن سابقا للنور، فكذلك صمت الإله فيما يتعلق بالكلمة. يُحدث الكلينامين (clinamen)، الانحراف أو الانعطاف، تجاه حضور ما كان مبدئيا غيرحاضر حركة في الجانب المتابين من الوجود الحتمي لكل النمو والفهم، والذي يقطع بشكل يصعب إعادة سيطرة المماثل ويُجلي التباين في الكينونات الأخرى.

يقبض الفهم التقليدي على أن كسر الصمت يكون في فرض اللغة وأن فرض الصمت يكون في كسر اللغة. على المستوى السطحي هذا صحيح، ولكن الحقيقة الأعمق أن كسر الصمت هو أيضا كسر اللغة، وفرض الصمت هو فرض اللغة. هنا يتقدم الجانب المتضارب من الصمت، حيث الصمت يحفظ ويدمر؛ هو موقع الحرية والوسيلة لقمعها. يبدو أن العالم التقني المعاصر، حيث يشكل تدفق خطوط لحظية من التواصل والمعلومات فيه عملياتنا الإداركية والمفاهيمية على مستوى غير مسبوق، ينحي الصمت عن الطريق ليفرض فقط نوعا آخر من الصمت، صمتا يدعم سكونا سلبيا ويفتقر للتفاعل الإنساني ذي المعنى الذي لا يمكن أن يتوسط التقنية الرقمية. إن مساحة الصمت الفعالة التي تنمي التأمل والفهم مع هذا، محصورة في عنصر السرعة، وبذا متحولة بطرق يحتمل أن تكون خلّاقة ومدمرة تقطن فيها الأرض وكل سكانها. إن التحلل البيئي العالمي السريع والإبادة الآلية لعدد لا يُحصى من الكائنات الحية، بما فيهم البشر، ينذر بعصر حيث لا تلوح العدمية التامة بعد الآن كاحتمال تجريدي بل كواقع مخيف. ويشهد الكثير من العالم على هذا الانذهال الأخرس والرعب، مشلولين برغبة منهم للاستجابة عبر الصمت المذهل الذي يصف الآلة التقنية السوسيوسياسية الصناعية.

لا توفر الكلمات التالية والراسخة في تأمل الصمت عبر التمهيد حجة أو نظرية عن الصمت، أو في جانب معين منه. ولكن ما يقدم هنا هو سلسلة من التأملات التي تتوجه لأبعاد مختلفة ومنظورات عن الصمت والدور الذي يلعبه (أو لا يلعبه) في الأحداث الماضية والحالية التي تؤثر بشكل بالغ على العالم المعاصر أو علاقتنا معه. إذا ما كان هناك حجة كي تقام هنا على أي حال، فهي أن استعادة ونماء الصمت في الحياة اليومية مهم لتجنب أخطاء الماضي ومحن المستقبل التي تلوح.

 

“في الصمت تقف الفلسفة مكشوفة، تماما بلا هوية؛ تحتمل البلا اسم، دون أن تجد في ذلك اسمها. الصمت ليس كلمتها السرية وإنما ترحل كلمة الفلسفة دون الإفصاح عن صمتها.”

جورجيو أغامبين

 

نعيش اليوم في عالم تتزايد حلكته، عالم يخنق أصوات الحرية والتعاطف والحب والعدالة بشكل لم يسبق له مثيل. نعيش في زمن تبدو فيه الأرض غير مهمة أكثر فأكثر ويهدد فيه الانقضاض التقني للسياسيات الرأسمالية الطليقة في معدل متصاعد بقاء الكوكب كما نعرفه حاليا. نعيش في عصر حيث يهمين الخوف ويبخس الفكر والخطاب العقلاني، جالبا ليس سياساتنا فحسب بل حتى حياتنا البيولوجية المتقاطعة إلى حافة العدمية التامة، فيما نواجه التطلع المرعب لحروب أكثر بعد، ومعناة أكثر، وتدمير أكثر، وموت أكثر.

بيد أن المرء يجد بأن احتمالية الانفتاح على العالم خارج المشهد التقني للمجتمع الرأسمالي الحديث واقعة في الصمت. ففي الصمت تقع احتمالية التحول الداخلي الراديكالي للوعي وتطور الروح. يمكن للأصوات الأخرى أن تُسمع فقط من موقف صمت معين، أصوات تجر المرء خارج الرضا وعدمية المجهول في “هم”.

والفلسفة بطبيعتها معارضة للصمت وبذلك هي كاسر تام له. يذكر موريس بلانشوت بأن” المعنى صمت محدود،” أي أن المعنى لا يقام في اللغة فحسب بل في الصدوع بين الصمت والكلام، الصمت والمجتمع، الصمت والصحوة.

إنها لمفارقة بحق أن الصمت مُحفَز ومُعدَم في آن واحد في المجتمع المتسارع جدا والإعلامي “المتقدم”، والذي يقصف السكان بتدفق مستمر ومتغير أبدا من الصور والأصوات، مستبدلا الفكر والحكم النقدي والتأملي بهذا الانتاج. ولعل لا يوجد شيء أكثر غربة وبعدا كالصمت فيما أسماه هيربرت ماركوز ” الرجل ذو بعد واحد.” حتى لو بدا أن الناس غدوا صامتين بشكل متزايد أثناء انغماسهم بالأجهزة والعالم الرقمي، فما يحصل حقا هو سيل من الأصوات التي تملي رغبات وتنتج حاجات كاذبة، كلها ضمن سياق اشباع تلك الرغبات والحاجات. ينتج هذا السكون غالبا عدمية سلبية، فباستخدام نمطية فريدريك نيتشه، هو عارض من القوة المستنزفة، وعبر الاستنزاف تُفقد القدرة لمعارضة ومقاومة الهيمنة والتحكم بشكل فعال، سواء المفروضة من قوى الإنتاج أو الدولة السياسية. بيد يمكن للمرء بشكل متعارض وبتلك الطريقة أن يحدد في هذا السناريو بعينه الوسيلة لعكس راديكالي والفوز. كما يمكن للصمت أيضا أن يثير عدمية فاعلة، ولكن فقط إذا كان التحول متأثرا في النفسية بحيث يتحول الصمت نفسه إلى تصرف عبر فعل الإرادة.

تعد العدمية الفاعلة لنيتشه سيف ذو حدين: فمن ناحية، هي انقلاب للقيم القديمة البالية لصالح تقييمات جديدة؛ ولكن من الناحية الثانية، هي أيضا الدافع الذي يسوق الميتافيزيقا لطرح قيم عبر مصدر متسامي بالكامل، وبذلك تسعى بشكل فاعل لدمار المستوى الملازم للوجود لصالح آخرة “أعلى”. ولأن هذه الـ “الآخرة” خارج استيعاب الإنسان فإنها تهب نفسها على أنها غيب يؤول ويذاع من قبل أولئك الذين يدّعون “كشف الحجاب عنهم” ومن يدعمون روحانيات من طرف واحد مع الهياكل المؤسساتية الدينية والسياسية. هذه غنوصية تجريدية منحرفة تسعى في النهاية للهيمنة عبر التحكم ليس بالمجال الفكري من الحياة فحسب بل والعاطفي والحسي كذلك، مؤدية لصمت كامن بانعدام الصمت فيه. غير أن العدمية الفاعلة هي على شفا تجاوز ذاتها، وذلك فقط لأن العدمية الآن تُعرف كمكمل لأي تطور اجتماعي إيجابي. إن الصمت المُحدَث خارجيا عبر التدفق العنت للصور والتسجيلات الصوتية التي يتلاعب بها قوى الإنتاج والماكينات السياسية والدينية يعدم البعد التأملى والتصوفي الأعمق للصمت حيث كل التفكير منوط به. وبذا يُختزل الصمت ويُنتج عبر انعدامه ويفرق في تعابيره بين العدمية السلبية والفاعلة.

ففي المجتمع الإعلامي المعاصر، يتخذ مقيمو الكهف الأفلاطوني مظهرا جديدا، واحدا يتركنا أكثر عرضة للتلاعب السياسي الثنائي، مسار وصل لجمهور حرج في الأنظمة الشمولية للقرن العشرين ويستمر اليوم في مناطق مختلفة من العالم، أثناء مشاهدة الترجيح المتنامي للعنصرية العرقية والجندرية والطبقية ورهاب الأجانب في السياسات المضادة للهجرة والمعادية للسامية والتعصب ضد المثلية والإسلاموفوبيا، وصناعة التجارة الجنسية والقمع الثقافي والديني على النساء والعنف الأمني والقانوني ضد الناس الملونين، إلخ. وكل تلك بالطبع ليست بظاهرة جديدة؛ إلا أنها تعابير حديثة لتفاعل شامل وسيادي لما كان دائما تاريخيا موجودا، مثبتا في منطقيات ومؤسسات معينة ومبررة منذ زمن سحيق من قبل تواطؤ الميتافيزيقا والدين والسياسة والاقتصاد.

 

“نحوم حول الظلام تلتهمنا النيران”

مجهول3

 

“إنه من الغريب والمقلق التفكير بالجحيم متوجا بقبة سماوية زرقاء، مشعة ودافئة تحت ما يبدو تحديق هادئ رحيم لعين الشمس العظيمة.”

أوشفيتز-بيركيناو

 

لعل أكثر علامة صادمة في زيارة هذا الإنفيرنو* (هناك العديد من الجحيم) في شهور الساخنة لانتصاف الصيف، هو الفراغ الشاسع في نطاقه، مفاقما إياه الخواء المقفر للسماء الملتمعة، خصوصا في غياب الحيوانات والطيور وحتى الحشرات. غلف هواء الصيف الخانق الكل بصمت حالك لا يسبر غوره أبدا متدليا كستار غليظ متغلغل حتى على الهمسات المتفرقة للآخرين الذين قد يكونون متواجدين. وفي البعيد، يرتفع الحر من الأرض في موجات مرتعشة، مثيرة ذكريات أفلام سيرجيو ليون القديمة حيث ينبثق الغريب كشبح من الصحراء ليقبض على انتقامه المستحق. بدت الأرض لهذا الجحيم بلا نهاية، ولكنه لم يعد هناك تلك الموردور 5 العصرية التي يحرسها قطاع طرق بزي أسود خالين من التعاطف الإنساني بين صرخات اليأس المعذبة والألم الذي يخترق الصمت الليلي مانحا صيغة ضبابية تُرى عبر النتن الفائح من الدخان الهارب من غرف الغاز والأجساد المتفحمة. فبدلا عنها، يمكن للمرء أن يستحضر صورا بلا ضجة للحقول السماوية الشبحية أثناء ما يسبر المرء الأراضي العشبية الخضراء المطعمة برقع متفرقة من الزهور البرية. بالكاد يبدو سطوع السماء، بالكاد فقط، مبددا لظلال أولئك الذين عانوا هنا رعبا لا يتصور. فلولا بقايا الأحجار والحديد المفتت والأسلاك الشائكة الصدئة وبعض الصروح الخشبية التي ضربها المناخ وبعض مراكز الخفارة المرقعة بنتوءات سيراميكية، لشعر المرء فقط بأن هذا مكان مهجور لسبب منسي ما حيث لا يمكن لكائن حي أن يجعله موطنا له أبدا. من السهل تخيل مبعوثين من الموت، تخفيهم السماء المشرقة مؤقتا، عائدين بقوة وقت الشفق، يندمج عويلهم الخادش للسمع مع هزيم الرياح الليلية، كي يختفي فقط في صمت الذاكرة والعودة الصارخة للوعي الحاضر.

إن معدة المرء لتنعصر هنا على رائحة الموت المتغلغلة بالغثيان، ناحتا حفرة من الخواء واليأس، عاصرة الأمعاء في عقدة إمساك محبط والغم من عبثية التعاطف مع حتى نزر يسير من الألم الذي شعر به أولئك العديدين الذين بلا اسم وآخرين بلا وجه، أولئك الذين منعوا الموت بسلام، ممنوعين بكلمات نيتشه، أن يموتوا في الوقت المناسب.

إلا أنه وفي غمرة شلل الجسد والإرادة هذا، يمكن للمرء أن يشعر بأنه صحا، مخرجا إياه من الرضا الذاتي بطريقة مفاجئة والتي في أكثر الأحيان تصف وتحدد الوجود اليومي. يعلمنا ألفونسو لينغس “إن زخم ما مر لا يطلق قوة الصحوة، وإنما الصحوة قفزة خارج ذلك الزخم. يتقطع جريان المبهم في الليل، أو تسلل الظاهر في النهار. يحدث قطع وانفصال، وعبر هذه الفجوة ينزلق الماضي بعيدا عن المنال. إن القوة لصنع هذا القطع هي ما قال عنها نيتشه قوة النسيان الفاعل- القوة على مسح ما قد مر للتو. وكأن الصحوة تأتي من الفراغ. نهز أيادينا ونلوح كي نجد أين نحن.6 ” وفي الوقوف على الطرف المر والشروع في النزول ببلاهة عبر المسارات المؤدية لمحارق بيركيناو، يخرس المرء في وجه التعرف والإدراك. هنا يجد المرء نفسه في قلب العالم، معلقا بين احتمالات الجحيم والجنة، الفعل وعدمه، العدمية والصحوة.

 

“لعل الوجه الجميل هو المكان الوحيد حيث يوجد الصمت حقا…ولكن الصمت حينها ليس إيقافا للخطاب ببساطة، وإنما هو صمت الكلمة ذاتها، ما يكون مرئيا منها، أي فكرة اللغة. وهذا هو سبب أن في صمت الوجه يصل [المرء] هدفه.”

جورجيو أغامبين

 

إن الوجوه على جدران الثكنات العسكرية البولندية القديمة التي تحولت إلى زنازين وغرف تعذيب لمعسكر الاعتقال تلاحقنا؛ صور منسوفة طافحة بتعريفات قصيرة عن أولئك النسوة والأطفال والرجال الذين كانوا أول الواصلين هنا- كان الرعب جليا في بعضهم، وبينما كان آخرون متحدين بشجاعة أو خالين من التعبير نتيجة عدم التصديق أو عدم الاستيعاب، كلهم مصنفين منهجيا من قبل النازيين- خدرت تلك الصور كلا من الفكر والصوت، منتجة صمتا يثير الاشمئزاز والتوقير، عدم التصديق والإصرار بألا يحصل هذا مجددا أبدا. يبقى جمال تلك الأوجه، لعل أكثر حدة من قبل، في الأحلام المخنوقة والتطلعات التي أخرست للأبد في تعابيرهم الصوتية الذاتية، إلا ومع هذا تغدو مرئية في الكلمة المأخوذة والمتشاركة من قبل الآخرين من أجل الترويج الآمل لعالم أكثر سلاما.

وفقا لجاك دريدا، السلام “اقتصاد” كالعنف، يحصل فقط ضمن “صمت معين” يحدده ويحميه عنف “الخطاب.”7 فالمجتمع ليس مبنيا على التبادل السلمي لوجهات النظر اللفظية ولكن يقوم على الصمت أيضا، وهو ضروري كي يُسمع اختلاف الآخرين. تقع جدلية الصمت واللغة في لب المجتمع ((communitas والتي تتشكل ويُعبر عنها جزئيا من خلال أنطولوجيا متناغمة حيث تحصل بين ذبذبات الخطاب والصمت، مفرقة على الدوام بين النظام الوسيط والفوضى، الحقيقة والخطأ، الخير والشر، السلام والحرب، القانون والجريمة، التحضر والبربرية، العقل والجنون.

يتضمن المجتمع علاقات، ولكي يزدهر مجتمع ما، عليه أن يكون حساسا لحاجات الآخرين. ولكن كثيرا جدا ما تُخرس تلك الحاجات، عبر عنف القوة، اللامبالاة أو الجهل ببساطة. من المفارقة أن الثقافة الغربية عبر تخصيص تفوق أنطولوجي وميتافيزيقي للبصر والنور على الصوت والسمع، تميل لأن تعمي نفسها عن الوجوه الحالكة لهؤلاء في الطرف، أولئك الذين يقبعون على حواف أو أطراف المجتمع، الذين إن لم تُخفض أصواتهم تماما حد الصمت، غالبا ما تُنبذ على أنها كلام مشوه للبرابرة والهمج! ولكن الوضع الثانوي والاستبدادي المصمم للخطاب والصوت عبر تقدم وعي تاريخي (معين) لا يُخرس أصوات وصرخات صمت أولئك الذين لا يحصون. يكتب بلانشوت: “لعل الصمت كلمة، كلمة تعارضية، صمت كلمة الصمت، بيد أننا نشعر بالتأكيد أنها مربوطة بالصرخة، الصرخة الخرساء، التي تكسر كل الكلام، التي لا تتوجه لأحد والتي لا يستقبلها أحد، تهبط تلك الصرخة وتشجب…تجنح تلك الصرخة لأن تتعدى كل اللغات، حتى لو تسخر نفسها للتعافي كتأثير للغة.”8 لا يشير الصمت لعجز في التواصل من جهة المقموع فحسب؛ بل يدل على رفض الاستماع لصوت الآخرين الصامت.9

يردد الصوت الصامت نغمة تخصه، مرتجفا ونابضا عبر الجسد، عبر الأرض نفسها. يذكر ميشيل دي كيرتاو بشكل حاد بأن السكان الأصليين الأمريكيين على سبيل المثال استحضروا في صمت “الجسد المعذب” و “الأرض المتحولة” ذكرى ما “نسيت” الثقافة الأوربية غالبه، وهو تاريخ القمع المحفور ليس في النص المكتوب كثيرا وإنما على اللحم الجسدي للذاكرة تحديدا. هنا صوت صامت يعيد الصدى في مشهد رافض للكلمة التصويرية وعاكسا عوضا عنها العنف التدميري عبر استعادة حس من الصالح العام ووعي تاريخي جديد. ولكن هذا ليس تفاعلا نسياني حيث يُقمع فيه صوت الضمير بالصمت تحديدا، عبر البقاء أخرس الضمير، بل هو نسيان بالحس الفاعلي الذي كتب عنه نيتشه. وبكلمات الشاب البوليفي،” اليوم، وفي ساعة صحوتنا الخاصة هذه، علينا أن نكون مؤرخي أنفسنا.”10

 

“إن تعابير مثل (العين التي تنصت لصدى الصمت) ليست بشعة، فهي تحكي عن الطريقة التي يتوجه بها المرء نحو زمنية الحقيقة، وفي وجود زمني ينشر كنهها.”

إيمانويل ليفيناس

 

كتب غي ديبورد مجتمع المشهد بعد عقدين من نهاية النظام النازي (وليس من نهاية أيديولوجيته التي لا تزال تحوم). يشير “المشهد” للتمثيل المعكوس أو “صورة” مجتمع يستبدل العلاقات الإنسانية الواقعية بعلاقات بين الناس والأشياء أو السلع، مما ينتج حالة من الانسلاخ اللا إنساني، تسرمدها مبدئيا الصور المذهلة التي تنتجها التقنية لكل شيء من الترويج للفن، إلى الموسيقي، إلى الترفيه، إلى الأخبار، مؤثرة على كل جانب من حياتنا تقريبا، من الشخصي إلى السياسي. ففي مجتمع المشهد، تُنتج الرغبات عبر مصادر خارجية حيث تُبث المعلومات بعناية وتُزاح التجربة الواقعية لصالح الافتراضية، ويعبر عن التواصل من خلال الأجهزة الإلكترونية بدلا من أن تكون بشكل شخصي، والأكثر خطرا في كل هذا، تمزيق المجتمع لصالح اعتبار منعزل فرداني عن الحرية. وفي الدفاع عن هذا المفهوم الاستهلاكي عن الحرية، اقترفت الكثير من الشناعات.

وفي عقدين لاحقين، تقدم ديبورد في تحليله ملاحظات عن مجتمع المشهد عبر تحديد التجليات الثلاثة الكبرى للمشهد: المركز، المتفشي والمدموج. يربط ديبورد أول هذه الصيغ، المشهد المركز، بالدولة الشمولية والفاشية وبيروقراطيتها المنتفخة. إن التعبير المتطرف لها هو معتقل الموت/ العسكري، الذي وصفه أغامبين في المستباح كجزء من النموذج السياسي الحيوي للعصر الحديث. يجد المرء هنا الانقلاب الكامل لما يمكن أن يكون إنسانيا: مثل أن تُدان أعراق كاملة من الناس لاختلافها، وأن يُعامل الناس كالقطيع، والموت الجمعي. يلاحق شبح هذا الرعب الذي بالكاد يمكن تخيله المجتمع المعاصر، وهو تذكير صارخ بأحد أعظم الأخطار التي تواجهنا اليوم. بالتأكيد هناك أخطار أخرى تواجهنا الآن فظيعة للغاية لدرجة بالكاد يمكن تخيلها والتي هي بالمثل جزء من المشهد، كالدمار النووي والاعتداء البيئي المفرط على الأرض. أما المشهد المتفشي فهو أن وضع المجتمع الرأسمالي المعاصر نجح في استبدال استهلاك الكل مع سلع تتنافس على هيمنة السوق. يؤدي ها التطور التاريخي للمشهد إلى صيغتها الحالية الأكثر إغواء، المشهد المدموج تحديدا، والذي يجمع الصيغتين الآنفتين مستخدما جبروت الشرطة والجيش للمشهد المركز من أجل الحفاظ وخدمة مصالح المشهد المتفشي. يحصل كل هذا كي تتركز السلطة والمال في أيدي القلة.

يُعزَز مجتمع المشهد ويُسرمَد عبر علاقته مع الصمت. يحدث المشهد بطريقة محفزة بصريا وسمعيا، وأحيانا غامرة، صيغة من الصمت السلبي الذي لا يعرّض الفرد فحسب بل كامل المجتمع لأشد الأفعال صدمة وعنفا، حتى درجة التغاضي أحيانا عن تلك الأفعال. علاوة على أنه يفعل ذلك دون إدراك المدى الكامل للظلم، أو في أسوأ الحالات، الإيمان بأن التأثير التام عبر صور مذهلة الإنتاج ولغة الصدق والخير هو للصالح العام. إن الصمت محل النقاش هنا مدهوس من قبل العرض المدوخ المبهر للمشهد والذي يخدم كي يغربل ويصفي الامتعاض والمعارضة عبر الهجوم الخالص من قبل الرسائل الإعلامية الضخمة على أنها ترفيه وحقيقة أنطولولجية دينية سياسية. أي بمعنى آخر، تقليل أصوات الجمع إلى الصمت عبر الترويج لمصالح القلة، لـ (هم) المبهمين والمجهولين (لا حاجة لذلك، فكر فقط في ابتهال دونالد ترامب الفارغ والتكراري لمرجعية موهومة، ” كل ما أقوله هو، الكثير من الناس يقولون…”)، المشهد قادر على أن يلف المقلقات المشروعة الغالبية الأصلية، وحتى السواد الأعظم، إلى شيء غير ذي علاقة إذا ما نافست الرسائل المنتجة لأولئك الذين يتحكمون بآلة المشهد.

وفي التوجه لظاهرة المشهد والتي تمثل لديبورد صيغا شاذة من التواصل في المجتمعات الصناعية، يوسع أغامبين معنى المشهد ليشمل ليس الصور فحسب بل اللغة أيضا. تحصل محاولة تخفيض حزم الإنسانية إلى حالة من المستباحين، أولئك الملعونين، لإتقان آلية الموت الجمعي، في فرض صمت مطبق لا يلغي اللغة فحسب بل ينتج انعدام المقاومة. يذكر أغامبين، ” إن الصيغة المتطرفة لمصادرة الشائع [والتي ذكرها هرقليطس أول مرة في علاقته مع اللوغوس (logos)] هو المشهد، أي السياسات التي نعيش فيها. ولكن هذا يعني أيضا بأنه في المشهد الخاص يأتي وجودنا اللغوي معكوس. وهذا هو سبب (تحديدا لأن ما يتم مصادرته هو احتمالية الصالح العام بعينها) أن عنف المشهد مدمر للغاية؛ ولكن يسبب شيئا يشبه الاحتمالية الإيجابية التي يمكن أن تستخدم ضده.”11 يصل عنف المشهد لمرحلته التامة عبر قلب صيغة الصالح العام- أي، لوغوس التبادل المشترك- إلى تجلي منحل للا شيء: كبت الحرية والتطور، اخراس الممتعض، واستعباد الذهن والجسد. الكائن المعكوس هو الصورة ويتم تجربة كلمة المشهد الآن كفرض للصمت على الجموع منتجة ” هيئة بلوم”12 بالرغم من أن بلوم اسم كائن عدمي، إلا أنه موضع تجاوز متحول ومعاد تقييمه أيضا، واحتمالية تبدل عدمية سلبية أو فاعلة إلى عدمية محررة وانتشائية.

يكتب ديبورد في مجتمع المشهد بأن الرأسمالية استولت على المدن الحديثة، كوسيلة للتحكم ليس في البيئة الطبيعية والإنسانية فحسب ولكن كوسيلة يمكن لمصالح الطبقة وقتها أن يُحافظ عليها تحديدا عبر ذر وعزل العمال عن بعضهم البعض من خلال جمعهم سوية. لم تفعل تقنية الوقت الحاضر سوى تعزيز التمدن على أنه “أفراد معزولين سوية”. إن النتيجة الفورية والرضا عن تقنية الكمبيوتر والإعلام الصوتي الجماهيري يستبدل بروية التعامل المباشر وجها لوجه بظاهرة المشهد. “عكس الحوار” هو حيث المشهد ليس ملغما بالصور فحسب بل مدار بشكل مبهم، “علاقة اجتماعية بين الناس تديرها الصور.”

يعزز تقييم ديبورد السلبي للمجتمع المتمدن المذهل الحاجة لتفكيك القوة العازلة للصورة التقنية الفاتنة المنتجة. سيتصاعد التشكيل والتلاعب في كيف يُرى المجتمع والأرض من قبل أولئك الذين يتحكمون بالمشهد. وبالرغم من اختلاف الأنظمة وحدتها، سواء العنف الفاضح للمشهد الفاشي الشمولي أو تصعيد المجتمع الرأسمالي المعاصر للمشهد إلى مستوى استطيقي، فإن هناك هيكلا موازيا من المنطق في اللعبة، واحدا يحجب في الصمت المذهل للصورة والكلمة سحق الحقوق الأخلاقية والسياسية لعدد لا متناهي من الناس. وكما أظهر التاريخ المرة تلو الأخرى، إن هزم سياسيات العنف المتطرفة والمدمرة لا يمنع احتمالية صعود عنف مشابه. تكمن قوة المشهد في التحول السائل والمتدفق.

إذا كان الظاهر بأن العالم على ما يرام، فإن الناس سيعتقدون بأنه كذلك، وبهذا لن يكونوا متحفزين بالعادة لأخذ أي نوع من الفعل السوسيسياسي لضمان بأن الحاجات الحقيقية الصلبة للعالم يتم تأمينها. سيتم الاستعاضة عن المساحة الواقعية ” في الحياة اليومية للمجتمع بزمن زائف الدوران،” وهو زمن حوله المجتمع الصناعي إلى منتج استهلاكي. ووفقا لديبورد الزمن الزائف الدوران هو،” في تأثيره، وعي زائف بالزمن.” ماذا يعني هذا فيما يخص الصمت؟ يشكل الصمت والكلمة وحدة، وتحدد العلاقة التناغمية بينهما معنى مثلما يفعل المحتوى اللغوي تماما. فحين يصبح الزمن في المجتمع المذهل مصدرا للانعزال ووسيلة للتحكم، فكذلك الصمت يغدو قوة اغتراب. ليس وجود المرء الجسدي فحسب الذي يواجه الذات على أنها غريبة بل فكر المرء كذلك، في نزاع مع المنتج للاستهلاك من المعنى عبر الصور والكلمات. “وينقلب ما يُمرر على أنه حياة استطيقية ليكون مجرد حياة أكثر إذهالا في الأصالة.”13 يؤدي هذا إلى “انعزال مكاني”، والذي يمكن القول إنه “انعزال اجتماعي” من أي اتصال ذي معنى بين الذات والمجتمع، وبين الفرد والعالم الطبيعي. إن حس وجود المرء في مقره، الشعور بأنه مترابط مع الآخرين والأرض نفسها التي يختبرها المرء كفرد في الوحدة الصامتة للفكر مهدد عبر انقطاع هذا الصمت من قبل مصادر خارجية للأهمية والرغبات المُنتَجة، مما يؤدي إلى فصام ذهاني مميز كما لاحظ غيلس ديليوز وفيليكس غوارتاري.

إن التقنية العصرية مرتبطة بتزايد بحس الزمن المصنّع والمتلاعب به هذا، والذي يعد ملاصقا لظاهرة السرعة، وهو موضوع ألقى عليه بول فيريليو الكثير من التأمل، مظهرا بالحقيقة أن الزمن يعد الآن كزمن عالمي موحد وأن الزمان والمكان لم يعودا يحددان محليا بل عالميا. وفي أثناء ما الناس والتقنية يغدوان متشابكين أكثر، ينتج فقدان التحكم بالسرعة والإيقاع لوجود المرء. ويتحول ما يظل من بقايا الحرية الإنسانية- صمت الذهن- عبر فرض مطلب التسارع في التفكير والاستجابة والإنتاج والاستهلاك. وتُنتج هذه التنحية لنوع معين من الصمت اشتقاقا آخر من الصمت- صمت الجمود، والذي يحل محل أو حتى يمحق الإبداع والتأمل والمقاومة والامتعاض والروحانية وحتى الراحة. وبهذه الطريقة يبقى القطيع، باستخدام مثال نيتشه الشهير، تحت السيطرة. إن التغير التقني للإدراك المكاني- الزماني يشل الذاتية إلى مدى معين عبر إبقاء الناس مربوطين بصمت وسلبية وعدم فاعلية لشاشات التواصل التقنية بينما يتسارعون ذاتيا بشكل زمني، أي إبقاء المجتمع مثبتا ومتشربا في المسرحية الدائمة التحرك للمشهد بحيث يصبح الكثير غير واعين لحقيقة أن معنى وجودهم حُدد خارجيا وليس داخليا لأن كل شيء يمضي بسرعة لدرجة ألا وقت أو يوجد وقت نزر للتأني ومراجعة ما يحصل حقا. يشارك فيريليو قلق ديبورد بخصوص نماء هيمنة صورة المشهد، وينتقد بشكل متكرر التغير التقني للإدراك المكاني-الزماني. يؤدي هذا التسارع إلى انقطاع جوهري ليس مع الآخرين فقط ولكن ضمن الذات نفسها بشكل أكثر مكرا. ذلك هو التجلي، الكشف، عن أنطولجية ومنطق مجتمع المشهد. ما نحن بعوزه لإبطال هذا التسارع المشل هو إنماء ما أطلق عليه إيمانويل سويدنبورغ ونيتشه وإيمانويل ليفيناس وجون فرانسوا ليوتارد مصطلح ” العين المنصتة.”14 وهو منظور يفكك المشهد وينادي قدما من أجل توجه مختلف بالكامل لكل من الذات والآخر.

 

“أوه يا نفاق هذا الجمال الصامت”

فريدريك نيتشه

 

يصنف نيتشه العصر الحالي على أنه عدمي، وكشف للمنطق الداخلي للميتافيزيقيا. تنزلق العدمية، ” أكثر الضيوف رعونة”، عبر باب المجتمع بصمت ودون أن تُلاحظ، يحيط حضورها ضجيج المشهد. يجذب جرها لخواءها الصورة والخطاب حولها، ممتصة إياهما في دوامة من معنى لا أساس له مثل ثقب أسود يبدد كل الأجرام السماوية حوله عبر القوة المطلقة لجاذبيته الجرارة. تمضي العدمية في العادة دون أن تُلحظ لأنها لا تسمي وبذا تصرح عن نفسها بتلك الماهية. بيد لولا صمت سلبيتها، ما كان هناك إيجابية في المعنى اللغوي. ولعل لا شيء يُعرّف حالة ما بعد الحداثة أكثر من الحاجة لملئ الفراغ الذي هو الصمت المطلق ذاته. أسمى نيتشه هذا الفراغ بموت الإله؛ ولكن هناك سبل أخرى لتأويل هذا الخواء المذهل.

يوسع تحليل أغامبين وديبورد للمشهد ويربطانه بالاعتبار الكبالي 15 للشكينة (Shekinah) (تجلي الإله، وغالبا ما يتعرف عليه كبعد أنثوي)، وهي آخر الصفات العشر السيفروت (Sefirot)) للإله. وكما في المشهد، يوسع أغامبين معنى الشكينة لتشمل ليس الحس بحضور مرئي أو تخيلي فحسب بل الكلمة أو المعنى:” من الواضح أن المشهد لغة، التواصل الإنساني واللغوي بعينه.”16 إن السبب في إشارة أغامبين للشكينة هو لأنه حين تؤخذ بعين الاعتبار وحدها ومنفصلة عن الجوانب الأخرى من الإله، تغدو “الكلمة” منفصلة من الكل وتتخذ حالة “مستقلة” مضادة. وبنفس الوقت، حين يعود إلينا الوجود اللغوي “مقلوبا”، فإن هناك انفصال بين الكائن في المشهد المتخيل والوجود الإنساني الفعلي. تنتج هذه الحالة من العزلة والانفصال حالة من الاغتراب يصفها كارل ماركس في نصوص 1844- بين الإله والإنسان، الطبيعة والإنسان، البشر والعملية والمنتج العمالي، بين البشر أنفسهم وأخيرا ضمن الكائن الفردي. يكتب أغامبين،” في مجتمع المشهد، يصل عزل الشكينة إلى مرحلته الأخيرة، حيث لا تتشكل اللغة في محيط مجهول فقط بل لا تعود تكشف أي شيء- أو أفضل من هذا، تكشف اللاشيء في كل شيء…. بيد أنه في هذه العدمية الكاشفة الحادة، تبقى اللغة (الطبيعة اللغوية للبشر) مرة أخرى مخفية ومنفصلة. وبذا، وللمرة الأخيرة، وفي قوتها غير المنطوقة، تخسف البشر لعهد تاريخي وحالة: عهد المشهد، أو العدمية المتحققة.” 17 ليست هذه العدمية سوى صمت الجمود.

تحت السماء الرحبة نحن كلنا متصلين؛ فبمفهوم الكارما، لا وجود لفعل مستقل عن الأفعال الأخرى. والاعتماد المتبادل في البوذية ملتصق بالمعنى مع “الخواء” (Sanskrit: śūnyatā)، والذي يمكن تفريقه عن اللا شيء أو انعدام الوجود. خواء كل الهيئات وانعدام الهيئة في كل الخواء هو لب الدارما (Dharma)، والذي يستوعب ليس عبر الكلمة أو الفكر ولكن كصمت الانصات واللا أنا. يقتبس أغامبين من الفيلسوف البوذي العظيم ناغارجونا هذا التأثير: “لم يعد الخواء النسبي نسبة إلى المطلق. لم تعد الصورة الفارغة صورة لا شيء. تستقي الكلمة امتلاءها من فراغها ذاته. سلام التمثيل هذا هو الصحوة.”18 إن إدراك بأنه ملتصق بعملية صحوة المرء على حقيقته الذاتية وبل جعلها واقعا، والتي تعني انعدام الذات أو انعدام الأنا، هي الهوية الذاتية المؤقتة، المتشربة والمتجلية في الهوية الجمعية الأكبر لطبيعة بوذا.

يشدد نيتشه بأن تجاوز القبضة العميقة للعدمية يعني تبديل المتفاعل إلى الفاعل، قول (لا) إلى (نعم) العظيمة لتجاوز الذات، وتجاوز الصمت الخدر لانعدام الفعل إلى نشوة الفعل- تيك مهمة وهدف الإرادة المستقبلية التوكيدية. بيد أن السر في الاقتناع بأنه ممكن، أي إيمان راديكالي بفكرة الصحوة. يكتب لينغس، “نعم، يمكن للصحوة أن توقفنا وتخرسنا، مجمدة استمرارية وزخم الحركات…يمكن للصحوة أن تبعث الفعل…تنقطع أفعالنا مع الماضي. من قتامة تعاقب الميتات والإخضاع والاستعباد، تلك للطفولة وتلك لاستغلال الاستعمار والرأسمالية، والتي نسمو فوقها لنقف كرجل وامرأة. تنقطع أفعالنا عن الحاضر ومستقبله…تُبعث أفعالي حين أصحو لما علي فعله. وفي الفعل أنا أصحو.”19

تحويل صمت عدم الفعل إلى فعل صاحي ممكن فقط عبر استعادة البعد الفاعل للصمت. والذي يتعلق بقلب الصمت المعكوس للمشهد المستتر خفية خلف مشهد الصورة والكلمة. يعكس قلب كهذا “الأفلاطونية المعكوسة” لنيتشه، والتي ليست أكثر من مجرد تجاوز الميتافيزيقيات العدمية التي تلعب في مجتمع المشهد. وعبر فقط التصريح بموت إله صامت وعاجز، يمكن أن يُسمع الصمت الذي نودي به للتقدم في المكان حيث يقطن الصوت الجمعي للوجود. والعين المنصتة التي تخترق حجاب المشهد والكاشفة عن لا شيئيته، هي الصمت الفاعل الذي يحمله الكل، حتى لو لا يتم التعرف عليه عادة. هذا الصمت الفاعل، هو المكان- الزمان الذي يجعل من كل خطاب ممكن، رابطا الطبقة والدهر في الدمج الكارمي للماضي والحاضر والمستقبل. وحين يُنمى عبر التأمل والتفكر، فإن هذا الصمت المذهل يأتي بنا مجددا إلى أنفسنا وحينها فقط إلى العالم والآخرين – ويأتي بمن لديهم عيونا تنصت، لما هو أبعد.

 

 

 


 المصدر

 

المراجع:

1-Martin Heidegger, Being and Time, trans. Joan Stambaugh and revised with foreword by Dennis J. Schmidt (Albany: State University of New York Press, 2010), 159.

2- نقلت من كتاب الكينونة والزمان، مارتن هيدغر، ترجمة: فتحي المسكيني، مراجعة: إسماعيل المصدق (دار الكتاب الجديدة المتحدة، 2012) صفحة 319. (المترجمة)

3-ترجمت من العبارة اللاتينية المذكورة في النص “In girum imus nocte et consumimur igni.” (المترجمة)

4- نسبة إلى الملحمة الشعرية الإيطالية لدانتي أليغيري (الكوميديا الإلهية) والتي كان عنوان الجزء الأول منها بالإيطالية (Inferno) أي الجحيم. (المترجمة)

5- موردور (Mordor) هي أرض خيالية وردت في رواية سيد الخواتم (Lord of the Rings) للكاتب البريطاني جون ر. تولكين، حيث يحكم الأرض ساوران (ملك الظلام) للاطلاع أكثر انظر الجزء الأول من الكتاب: رفقة الخاتم، فصل: شبح الماضي، ترجمة: فرج الله سيد محمد، صفحة 52-79 (نهضة مصر، 2009)

6-Alphonso Lingis, Dangerous Emotions (Berkeley: University of California Press, 2000), 105.

7- Jacques Derrida, “Violence and Metaphysics: An Essay on the Thought of Emmanuel Levinas,” in Writing and Difference, trans. Alan Bass (Chicago: University of Chicago Press, 1978), 148.

8- Maurice Blanchot, The Writing of the Disaster, trans. Ann Smock (Lincoln: University of Nebraska Press, 1995, 51.

9- Brian Schroeder, “The Taciturn Tongue: On Silence,” in Etiquette: Reflections on Contemporary Comportment, eds. Ron Scapp and Brian Seitz (Albany: SUNY Press, 2006), 109-10.

10- Address by twenty-one year old Justino Quispe Balboa before the first Indian Congress of South America on October 13, 1974; cited in Michel de Certeau, “The Politics of Silence: The Long March of the Indians,” in Heterologies: Discourse on the Other, trans. Brian Massumi (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1986), 227.

11- Giorgio Agamben, The Coming Community, trans. Michael Hardt (Minneapolis and London: University of Minnesota Press, 1993), 79.

12- Brian Schroeder, “The Play of Blooming Nihilism,” four by three magazine 5 (2016).

13- Guy Debord, The Society of the Spectacle, trans. Donald Nicholson-Smith (New York: Zone Books, 1995), 110-14.

14- Brian Schroeder, “The Listening Eye: Nietzsche and Levinas,” Research in Phenomenology 31 (2001): 188-202.

15- نسبة إلى (الكبالا) وهي شروحات فلسفية روحانية عند اليهود. (المترجمة)

16- Agamben, The Coming Community, 79.

17- المصدر السابق، 81.

18- Giorgio Agamben, Idea of Prose, trans. Michael Sullivan and Sam Whitsitt (Albany: State University of New York Press, 1995), 133.

19- Lingis, 107-08.