مجلة حكمة
الشعر و الفلسفة

الشعر وماهية الفلسفة – عبدالهادي مفتاح


“إن الخاصية الجوهرية للفكر، باعتبارها عملا فنيا للشاعر، ما تزال محتجبة”
M.Heidegger: L’expérience de la pensée.

“الشعر لا يتطابق إلا مع الأفكار اليقظة، الشغوفة بالمجهول، والمنفتحة أساسا على الصيرورة، فليس هناك من شعر إلا حيث يكون ثمة خلق وإبداع مطلق”
Pierre Jean Jouve: en Miroir.

أولى أوجه التشابه بين الشعر والفلسفة تلك الخاصية التي يقدمها لنا تاريخ كل منهما ألا وهي غرابة ماهيتهما. وهذا يعني قدرتهما على التنكر لجميع التعريفات. فعن السؤال: ما هو الشعر؟ لا تقدم لنا وجهات النظر المختلفة للمدارس الأدبية إلا تعريفات صورية؛ كأن نقول مثلا: إنه كلام موزون ومقفى. أو تعريفات نوعية كالواقعية والسوريالية والرومنسية الخ. ولكن عندما يتعلق الأمر بالسؤال عن “الماهية” لتحديد هذا “الكائن” المجهول في عمق كينونته، يظل الفكر عاجزا عن فك طلاسم هذا اللغز المحير، شأنه في ذلك شأن كينونة الإنسان، أو وجود الموجود. فالشعر يبقى والحالة هذه، هو دائما ذلك “العمل الفني المفتوح على كل الرياح، على كل الاحتمالات، والذي يمكننا أن نخترقه صوب كل الاتجاهات”(1) وهذا يعني “أن القوة الخلاقة للإبداع تنفلت من كل تحديد، لتظل في نهاية التحليل لغزا لا تمكن صياغته وقوله”(2).

هذا أيضا شأن الفلسفة وقدرها. تاريخيا يمكننا أن نميز بين عدة فلسفات ونقوم بتحقيبها. وذلك من خلال فعل بسيط يستسيغه الحس المشترك، ألا وهو إضافة ياء النسب وتاء التأنيث، لنصبح أمام مادية ومثالية ووضعية ووجودية وهلم جرا. ومع ذلك، عن السؤال: ما هي الفلسفة؟ لا يفلح الجواب إلا إذا حافظ في نفسه على قدر من المرونة والتحفظ وتقوى السؤال؛ بحيث يكون التعريف في هذه الحالة قد أقحم الصيرورة والغرابة، وانفتح بهذا على ما في كينونة الإنسان من هشاشة وانزياح وسمو وقدرة على الخلق. ونعت كينونة الإنسان بهذه الصفات، يعني أنها من صميم ماهية الوجود التي بذلها فلاسفة كبار في فترات مختلفة من تاريخ الفلسفة، على تخصيص هذه الأخيرة في وظيفتها وماهيتها بقسط وافر من خاصيات الفن بصفة عامة، والشعر بصفة خاصة. وهذا ما فعله الفلاسفة الألمان في الربع الأخير من القرن الثامن عشر(3)، وبعدهم نتشه في بلورته للبعد التراجيدي والديونوزيسي للفلسفة(4)، لتبلغ هذه المحاولة ذروتها مع هايدغر، الذي حمل الفكر والشعر معا، قسطا وافرا من المسؤولية في قول حقيقة الوجود. وأقام حوارا فعليا بين الشعر والفلسفة شكلا ومضمونا، بل كشف أكثر من ذلك عن الأساس المشترك بين الفكر والشعر(5). وقد نقول دون مغالاة إن هذه الإشكالية لم تسلم منها حتى الفلسفة الأفلاطونية التي أراد مؤسسها أن يطهرها من العنصر الشعري والأسطوري (Le Mytheme)(6) في محاولة يائسة لطرد الشاعر من جمهوريته متوجا بأكاليل الشوك. في حين أن خطابه الفلسفي ذا الخاصية الرياضية (Le Mathème) قد انبنى على كثير من العناصر الشعرية كالأسطورة، والبلاغة بما فيها من كناية ومجاز. ناهيك عن أن اللغة ذاتها تجد أصلها في الاستعارة كمقوم أساسي لماهيتها(7).

ولنا أن نسأل: هل من قرابة فعلية بين الشعر والفلسفة؟ أين تتجلى هذه القرابة وما طبيعتها؟ وما سر انشغال الفلسفة بالشعر وتطابقهامعه في الكثير من الأحيان؟ هل يتعلق الأمر بانشغال طارئ لسد فراغ داهم، أم بمحاولة جذرية لكشف النقاب عن بعدها الشعري كأساس لماهيتها؟ وما دلالة هذا القصد الذي يروم موقعة الشعر في ماهية الفلسفة؟

قد نكتفي هنا بتبين عناصر الإجابة عن سؤال واحد هو التالي: هل يكمن أصل الشعر في ماهية الفلسفة؟ أو -وهو نفس الشيء- هل لماهية الفلسفة بعد شعري؟ إن السؤال عن “الماهية” يتضمن في حد ذاته السؤال عن الوظيفة والغاية. فما يكونه “الشيء” في “ماهيته”، أي الكيفية التي يوجد بها وعليها، لا تنفصل عن الغاية والوظيفة التي من أجلها يكون كذلك. وبما أن هذا السؤال قد نال حظا وافرا في فكر هيدغر، فإن محاولتنا هذه ستكون قراءة في “فلسفته”، أو بالأحرى تفكيرا في الإشكالية التي تطرحها هذه القضية من خلاله. فالفكر المعاصر كما تم التأكيد على ذلك مرارا “لا يكف عن شرح نفسه وتفسيرها من خلال هيدجر. بإمكانه أن يفكر معه أو ضده، لكنه نادرا ما يستطيع ذلك بدونه.”(8)
ما دمنا قد حددنا صيغة السؤال في تبين البعد الشعري لماهية الفلسفة، يبقى أن نعرف الخطوة والسبيل الذي يقود نحو الماهية بما هي كذلك. والماهية التي نقصدها هنا، هي تلك “الأرضية” التي في “تربتها تتجذر شجرة الفلسفة”(9) ونعني بها الأساس الباطن للفكر بصفة عامة، وللتفكير الفلسفي بصفة خاصة. أساسا لن يكون إلا ماهية الميتافيزيقا من حيث هي “ماهية الإنسان في تقاطعها مع ماهية الوجود”(10). لهذا السبب لن يكون للفكر الذي نقصده بأي حال من الأحوال بعد ذاتي وسيكولوجي “لأنه يتجاوز إرادة المعرفة”(11) مثلما لا يمكن “اختزال الشعر في بعد السيرة الذاتية للشاعر”(12).

الخطوة الحاسمة التي تقود إلى “أرضية” الفلسفة حيث تستقر ماهية الميتافيزيقا هي ما يمكن نعته بتعبير هيدجر: “الرجوع إلى الوراء”. هذا الرجوع لا يعني اجتيازا للمسافات المقفرة عبر التاريخ إلى “مكان” ناء ألفيناه وراءنا. بل إلى “مكان” على مقربة منا هو بمثابة “شيء” ما انفك يعود. وهذا ما تنطق به كلمة الوراء باعتبارها تتضمن التواري والاختفاء. فالوراء هو الخلف. والخلف هو ما يحتجب عن الظهور، ويتستر وراء “شيء” يكون بمنزلة الحجاب. الرجوع إلى الوراء إذن، عودة إلى ما يظل ثاويا في كل تجل حيث لا يظهر إلا المعطى ويحتجب ما عنه يصدر العطاء. إنه بحث فيما يتجلى عما لا يتجلى ويكون أساس كل تجل. وما يتجلى هو الوجود الماثل في الحضور. ما لا يتجلى هو الوجود ككينونة للموجود الحاضر. أما التجلي والظهور فهو الحضور ذاته بما هو كذلك.

السؤال إذن، عن ماهية الفلسفة أو ماهية الميتافيزيقا (وهما مترادفان)، “غايته إبراز آخر الموجود إلى العيان”(13) أي حمله إلى مجال الرؤية ما أمكن ذلك، علما بأنها محاولة شبيهة كما يقول أرسطو: “بتلك الطريقة التي تتكيف بها طيور الظلام مع ضوء الشمس الساطعة”(14). ما يسطع فلا يدركه الفكر هو الوجود الذي هو مرآته وعينه. والعين لا ترى ذاتها إلا في المرآة. ومرآة الوجود هي اللغة التي بها ينعكس الفكر على نفسه، على النحو الذي يتعرف فيه المطلق على ذاته عند هيغل.

الوراء إذن، هو اللا -مفكر- فيه الكامن فيما تم التفكير فيه. إنه “المجال الذي تحصل فيه ماهية الفكر، ويحصل فيه الفكر على ماهيته”(15). وما لا يفكر فيه الفكر بالضبط “وهو الاختلاف بين الوجود والموجود”. لذلك فالقول بأن تاريخ الميتافيزيقا هو تاريخ نسيان الوجود، يعني أن هذه الأخيرة حين تفكر فيه لا تفكر فيه من حيث الاختلاف الذي يمايزه عن الوجود. عدم التفكير هذا ليس نقصا أو تقصيرا منها، بل ضرورة أنطولوجية مردها إلى النسيان الذي هو لحمة الاختلاف وسداه. ذلك أن النسيان هو “الحجب ذاتها التي تستر الاختلاف ليهمين كقدر لماهية الوجود”(16).

الرجوع إلى الوراء إذن، يقود من اللا -مفكر- فيه “الذي هو الاختلاف الأنطولوجي بين الوجود والموجود، إلى ما يجب التفكير فيه ألا وهو نسيان الاختلاف الذي يشكل أساسا لماهيته، وبهذا تستطيع الخطوة إلى الوراء أن تنتقل من الميتافيزيقا لتبلغ ماهيتها.”(17)

ماذا يمكن أن تكون “أرضية” الفلسفة والحالة هذه؟ إنها المجال التفاضلي بين الوجود والموجود. “إنها الربع المنفتح بينهما من حيث هو المنفسح، المضاء، والمضيء لحقل الحرية المتفتح والمهيمن في الوجود”(18). وبما أن هذا “المجال” التفاضلي هو المسرح الذي تجري فيه لعبة الوجود وتتحقق، فإن اللا -مفكر- فيه سيكون عبارة عما يمكن نعته بـ: الحصول. إنه ما يتصدر الوجود كبعد زماني “عنه يصدر الوجود بقدر ما يصدر الزمان”(19). لهذا لا يمكننا أن نقول عن الوجود بأنه موجود مثلما لا يمكننا أن نقول عن الزمان نفس الشيء، بل نقول فقط: هناك وجود وهناك زمان. علما أنهما معا يصدران عن الـ: هناك “كانعطاء لا يتجلى منه إلا فعل العطاء ذاته كهبة”. إن الإشارة إلى المكان هنا، لها دلالة قوية تحيل إلى “الأرض” المتوارية الهاربة والمتحركة باستمرار، والتي هي “المجال” الشبه مكاني للحصول. لذلك لا يمكننا أن ندرك الحصول إلا كحدث. في حين أنه ما عنه وفيه يحصل كل حدث. ولذلك يكون اللا -مفكر- فيه الكامن في كل فكر هو ما إليه يستند هذا الأخير كـ”مجال” للرؤية حيث يعم الضياء كل ما ينبسط فيه ليتجلى هذا المجال وحده ويحتجب ما يجعله ينفسح ليشمل الموجود ووجوده وكذا الفكر الذي من أجلهما يكون. إن الفكر إذ ينتقل إلى هذا المجال من خلال التفكير في الاختلاف كنسيان للوجود، يكون قد حاول “الإقامة في توافق يستجيب للنداء الصادر عن الوجود”(20). باستجابة الفكر لهذا النداء يكون “فلسفة أساسها التطابق والتوافق”(21). والتطابق هو التوافق مع نداء السؤال والاستقرار فيه باعتباره إصغاء للبعيد. وهذا ما يدفع إلى نعت الإنسان “بأنه كائن الآفاق البعيدة”(22). إلا أن مفهوم البعد والبعيد هنا لا يحيل إلى قياس للمسافة، بل إلى علاقة التقارب والجوار كانتماء حميمي إلى نفس الماهية. إن البعيد الذي لا يمكن قياس بعده بواسطة الأرقام والحساب هو “ذات الشيء” Le Même، من حيث هو أصل كل تطابق. “إنه الاختلاف الذي ينخر كل هوية مباعدا بين طرفيها ومقربا بينهما بفعل ذلك التباعد نفسه”؛ وهذا ما لا تخفيه الكلمة في حد ذاتها بما لها من قرابة بمعنىالهاوية والهوة. فالهوية في حقيقة الأمر هي ما لا تكونه الذات أو الشيء حين يكون هو هو.

إن الفكر مرغم من أجل حسن الاستجابة لنداء الوجود على التخلي عن طريقته التي اعتاد بها أن يفكر فيه كموجود، والتي هي التمثل الذي يجعل من الفكر مجرد فعالية لذات على علاقة بموضوعاتها، متناسيا أن الوجود “علاقة علاقات أو وظيفة وظائف”(23). إن ماهية الوجود هي “اللعبة ذاتها التي مسرحها الاختلاف”(24). لهذا السبب يكون الفكر مدعوا أيضا للتخلي عن لغة الميتافيزيقا التي دأب على استعمالها حتى الآن خضوعا للتمثل، “ليكون فكرا متذكرا وأكثر جوهرية”(25). وهذا بالضبط ما تقتضيه الاستجابة لنداء “الأصل” البعيد/القريب التي يستطيع الفكر بواسطتها “أن يتملك الأرض الأم”(26). ومن أهم ما يجده في هذا التملك والانتقال وبواسطته أيضا هو “البنية الأنطو-تيو-لوجية للميتافيزيقا الناجمة عن القوة العليا للاختلاف”(27). إن هذه البنية تنكشف تبعا لمفهوم الفكر المتذكر كاتحاد له باللوغوس. هذا الاتحاد للفكر باللوغوس “الذي يتكلم تبعا لنداء وجود الموجود هو بالضبط ذلك التوافق والانسجام الذي تكونه ماهية الفلسفة”(28).

الفلسفة إذن تفكر في وجود الموجود تبعا للنداء الصادر عن الاختلاف بينهما. الفلسفة تفكر انطلاقا من الاختلاف بين الوجود والموجود، وبالتالي فهي تفكر في ماهيتها الميتافيزيقية كفكر للوجود يلمع في ضوئه الموجود، بحيث تدرك أن ما هو مستغرق في حضوره كموجود يستمد تطابق هويته باعتبارها “ذات الشيء”، من الغياب الذي يهيمن كقدر للوجود، ومن ثم كاتحاد لماهيتها باللوغوس. وهذا ما يجعل من الهوية وحدة تجتمع أطرافها في الواحد: L ‘un.

إن الوحدة المكونة للواحد من حيث هو “ذات الشيء” “تشكل خاصية أساسية لوجود الموجود، إنها ما يصدر عنه النداء”(29) كسؤال للفكر يدعوه لما يجب التفكير -فيه باعتبار اللا -مفكر- فيه الثاوي فيما -قد فكر- فيه. إنها الموقع أو الأصل أو المجال المنفتح والمضاء الذي يقيم فيه الفكر دون أن ينظر إليه باعتباره “الموطن الأصلي” الذي يحصل فيه الفكر والوجود معا، وذلك بفعل النسيان الذي يهيمن على قدر ماهيته.

“الرجوع إلى الوراء” يقود إذن إلى ما هو بالقرب منا يشدنا إليه ويحملنا إلى ما هو أبعد منه، مع أننا حين نفكر نكون منخرطين فيه دون أن ندركه كحقل على أرضيته يحصل الفكر ويكون. إنها أرض متوارية ضاربة في النسيان لأنها هي النسيان ذاته. أو على الأصح: ما هو هناك عنه يصدر ما يتجلى كتجل لحضور لا تدرك منه الميتافيزيقا إلا المعطى كوجود ظاهر. في حين أنه يتفاضل مع الوجود كآخره. إن هذا ما يجعل الميتافيزيقا حتى وهي تفكر في الوجود لا تدرك سوى الموجود وإن جعلته يستند إلى وجوده كعلة أولى مانحة بذلك لهذه العلة مكانة أسمى هي الذات الإلهية. هذا في حين أن هذه “الذات” أو “العلة” الفاعلة ليست إلا مفعولا لماهية الميتافيزيقا ذاتها من حيث هي تمثل للموجود في كليته وشموليته. لهذا السبب يتجذر اللاهوت في بنيتها الأنطو -تيو-لوجية. فما يجعل من الميتافيزيقا تيولوجيا أي لاهوتا، هو بالضبط كونها أنطولوجيا، أي تسأل عن الوجود وتبحث عنه جهة الموجود لتؤسس هذا من ذاك. “فمادامت الميتافيزيقا منخرطة في الاختلاف، وظل هذا الأخير غير مفكر فيه بما هو كذلك. فإنها وبالنظر إلى الاتحاد والوحدة التي تصالح بين طرفيها، أنطولوجية وتيولوجية في نفس الوقت. ولكن بشكل ملتحم، أي أنطو-تيو-لوجيا”(30). وهذا بالضبط ما يجعل “اللاهوت كما نعرفه في حاجة إلى الفلسفة، في حين يمكن لهذه أن تستغني عنه ما دامت تستطيع أن تتحقق وتحقق ذاتها بكل امتلاء خارج كل وظيفة لاهوتية”(31).

كنا نسعى لإيضاح البعد الشعري لماهية الفلسفة، فهل يسعفنا المسار الذي اتبعناه حتى الآن في ذلك؟ ظاهريا لا، ومع ذلك فهناك ثمة عناصر أساسية يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار لأجل ما تبقى من المسار الذي مازلنا تراوح مكاننا في بدايته. ولعل للمراوحة هنا دلالة حميدة. فهي تذكرنا بأن علينا ألا نجعل الموقع الذي حاولنا رسم بعض معالمه باعتباره بيت القصيد، ينفلت منا كقبلة للفكر وموطن له. فالفلسفة “عندما تكون شديدة الاهتمام بماهيتها لا تتقدم، بل تراوح مكانها وتثبت خطاها حيث هي، لتفكر بثبات وباستمرار في “ذات الشيء”. أما التقدم، أي الابتعاد عن هذا “المكان”، فهو الخطأ الذي يلاحق الفكر كظله”(32). ولكن ألم يكن هدفنا هو الوصول إلى “الأرض” التي تتجذر فيها شجرة الفلسفة؟ أليست هذه “الأرض” هي “الموطن” الذي ما انفك يزهر فيه الفكر؟ أليس الفكر الأصيل “صدى لكرم الوجود الذي تضاء فيه الحقيقة التالية وتأتي لتحصل بكل طواعية، وهي أن الموجود يوجد. بحيث يكون هذا الصدى هو الجواب الإنساني عن الكلام الذي يصدر عن الوجود في صمت مطبق”؟ أليس “جواب الفكر هذا هو أصل الكلام الإنساني الذي يخول وحده للغة نشأتها وانبجاسها كبوح”؟(33). أليست الكلمة هي “ما يخول المجيء والحصول في الحاضر، أي ما يستضيف الوجود الذي بداخله يستطيع شيء ما أن يتجلى كموجود حاضر”؟(34).

نعم، في كل هذا ينقال “شيء” هو بمثابة “الأصل” أو “المنبع” أو “الموطن” أو “الأرض”. وما هذه الأسئلة إلا حافز يوجه الفكر صوب ما على ربوعه يحصل ويكون. فبالوصول إلى “مكان” الحصول كتجمع لأبعاد الوجود وهو يتحقق بطريقته الخاصة، يمكننا أن نقول “شيئا” ما بصدد القرابة الحميمية بين الفكر والشعر، والتي هي انتماء “لموطن أصلي” عنه يصدر الفكر بقدر ما يصدر الشعر. وهذا ما دعوناه بالبعد الشعري للفلسفة. وأدرجناه تحت عنوان: الشعر وماهية الفلسفة. علما أن الواو التي تربط بينهما، ليست مجرد حرف عطف، بل أداة انتماء يظهر جليا في صيغة السؤال التالي: هل الشعر ماهية الفلسفة؟. ونحن نعلم أن الانتماء لا يكون، أي لا يحصل إلا إذا كان نابعا من جذر مشترك كالتربة بالنسبة للشجرة. وهذا معناه في حالة موضوعنا أن “الفكر والشعر يولدان معا من الوجود ويرتفعان إلى حد حقيقته”(35). من أجل هذا سنعود إلى بداية مسارنا لتجميع العناصر الأساسية الكفيلة بإيضاحه. وهو ما لن يكون سوى تصفح للعناصر ذاتها. ولكن هذه المرة من زاوية أخرى هي انكشافها كحقيقة وفيزيس.

-أولى هذه العناصر وأهمها أن الانكشاف الذي يتجلى في ضوئه الموجود، يحصل كمعطى لانعطاء يحتجب ما يخوله. وأن هذا الأخير شبه-مكاني Pro-spacial. لذلك قلنا بأن هناك وجودا، وكأن الأمر يتعلق بتوجيه النظر إلى مركز الحصول. ولكلمة مركز هذه دلالة مكانية لا نعثر عليها في أي جهة إذا ما نظرنا إليها من ناحية الموجود؟

-ثاني هذه العناصر أن موقع الحصول هذا، هو بمثابة اللا-مفكر-فيه الذي يهيمن على قدر ماهية الوجود كهوية تتولد عن الاختلاف وتخفيه. وبالتالي فهو ما يستند إليه الفكر من حيث هو ما-قد، أو ما-يتم-التفكير-فيه.

-العنصر الثالث هو أن الهوية التي تصدر عنها الميتافزيقا كبنية أنطو-تيو-لوجية هي بمثابة استجابة لنداء الوجود، “وأن هناك في قلب النداء ذاته، موقعا ليس أقل مدعاة للنداء منه، ألا وهو الموقع الذي إليه تأوي الأشياء وتحصل فيه، وهو هذا الحضور الساكن في قلب الغياب”(36). فلا عجب أن تكون كلمة هوية متضمنة وقريبة اشتقاقيا من معاني: الهوة والهاوية. وهذا ما يسمح بالحديث عن وجود تصالح واتحاد بين أطرافها بداخلها.

-العنصر الرابع والأخير، وليس الآخر، هو أن الفلسفة وبحكم بنيتها الأنطو-تيو-لوجية مدعوة ضرورة للتساؤل عن الإله. وهذا في حقيقة الأمر محاولة منها لسد الفراغ وإعطاء معنى للتواري والاختفاء، وإن كان ذلك يتم بذريعة البحث عن علة فاعلة وأسمى.

إذا كان هناك من قاسم مشترك بين هذه العناصر، فهو إحالتها إلى “شيء” هو بمثابة الظهور/ والإختفاء؛ الكتمان/والإفشاء؛ الكينونة/واللا-كينونة؛ الداخل والخارج… إنها تحيل إلى منطقة تفاضلية يعم الضياء كل ما يلج فيها، ليكتنفه في نفس الوقت الظلام والعتمة.

لقد تحدثنا عن لعبة الوجود كمسرح للاختلاف. وعلينا أن نذكر مرة أخرى أن مجال اللعبة هذا هو الموضع الذي تجري فيه الحقيقة بمعنى اللا-اختفاء. مع العلم أن في هذا اللا-اختفاء طرفين ما ينفكان يتبادلان المواقع بشكل لا يمكن لأي قياس كرونولوجي للزمن أن يقيسه. لأنه البعد الرابع للزمان، بل الأول والأساسي الذي يحصل الزمان بمقتضاه في ما-كان وما-يكون، وما سوف-يكون. فالحقيقة بهذا المعنى “هي رؤية الوجود وهو يقتحم المنفتح المضاء من تلقاء ذاته وبما هو كذلك، أي هوية ذاته. لينفتح بهذا على ما لا يحتجب في كل تجل”(38)، إنها ما يمكن أن ندعوه بالتفتح. والتفتح هو ما ينطوي على القوة العليا للاختلاف. ومن ثم فهو كخاصية أساسية للحقيقة اقتحام للحضور. وللحضور هنا معنى يتجاوز الاستغراق والدوام، ما دام يستمد كينونته من الفيزيس كقدرة أصلية على التجلي والتشكل، وبالتالي على الاحتجاب والتبدل، اللذين يهزان ثبات الموجود ليكون ثمة دائما قدوم إلى الحضور وحصول فيه، وخروج منه إلى “مجال” الغياب الكامن فيه(39). إن الفيزيس بهذا المعنى عبارة عن تشكل يتماهى مع الحقيقة. لهذا السبب يصح الحديث عن “حركة أسمى قابعة في قلب الثبات لا تمت بصلة إلى المكان أو الزمان، وإن كانت شرطا أنطولوجيا لهذه الأخيرة”(40). إنه-أي الفيزيس- “مسار” يسلكه التفتح من حيث هو الحقيقة كانفتاح. ومن ثم بطبيعة الحال “من حيث هو ذهاب لا يكف عن التفتح باتجاه الرجوع-إلى-ذاته، في قلب-ذاته”(41). من كل ما قيل يمكننا أن نستخلص ما يلي:

-إن الفيزيس هو مجال ظهور الحقيقة، وأن الحقيقة بحد ذاتها فيزيس.

-إن الحقيقة أو الفيزيس كلاهما انفتاح وقدرة على التفتح، وأن هذا التفتح حركة مستبطنة في الحضور كانكشاف واحتجاب.

-إن خاصية التفتح أو التشكل هذه كقوة أسمى للفيزيس، ومن تم للحقيقة، ذات بعد فني، ما دامت تنم عن قدرة خلاقة هي إبداع الأشكال. في إحدى كتاباته يصرح الرسام “بول كلي” بأن “التشكل أسمى من الشكل” نظرا لكونه لا يتوقف عند أي نموذج، وبالتالي فهو “خاصية أساسية لماهية الصيرورة. لذلك يكون الفن الأصيل مصادرة دائمة على المطلق”(42). بما أن الحقيقة إذن، من حيث هي فيزيس، قدرة دائمة على الخلق والتفتح فإنها تنم عن كونها مكمن العمل الفني بمعناه الأصيل؛ ونعني بهذا تلك القوة الأصلية الكامنة في الوجود كضرورة تبدع الأشكال وما يقابلها من عصور. إن هذه القوة الإبداعية الأصلية هي التي تسمح بإمكانية ظهور مدارس أدبية واتجاهات فنية وتيارات فلسفية بالمعنى الذي ذكرناه آنفا. أما الموطن الأصلي للعمل الفني كمجال لحقيقة الوجود، فهو محايث ضرورة كإمكان أنطولوجي في كل الأشكال. والأشكال وحدها هي التي تظهر مثلها في ذلك مثل الموجود. أما المفاضلة الأنطولوجية كتشكل كامن في قلب الوجود من حيث هو حقيقة وفيزيس، فهي بمثابة الصراع الدائم بين كل ما يلج الحضور أو يخرج منه إليه، أي بين الحضور والغياب. لهذا السبب تتقوض الأشكال ويكون هناك دائما تجاوز، لا سيما وأن الخاصية المميزة للحضور هي تجليه كمظهر للموجود. ولهذا السبب أيضا يصح الحديث عن كون الحقيقة أو الفزيس معركة دائمة مسرحها الوجود كلعبة أنطولوجية بين طرفين يتصدران الماهية كهوية، ألا وهما مختلف الأزواج المتصارعة والمنصهرة في وحدة التصالح والاتحاد والانتماء المشترك لذات الشيء: Le Même والتي يمكن حصرها في ما يلي: الشكل/واللا-شكل، الانكشاف/ والاحتجاب، الوجود/ والعدم. الظاهر/والباطن، المفكر-فيه/واللا-مفكر-فيه، والمفاضلة التي بينهما هي الاختلاف كحقيقة أنطولوجية منسية بين طرفي اللعبة. وبالتالي فهي “الموضع” الشبه-مكاني الذي يستقر فيه كل طرف “من حيث هو ما فيه يتجمع كل شيء ويلحق بعضه البعض”(43)، دون أن يتمكن من ضمان موقعه، لأنه لا يكون حاضرا فيه إلا عندما لا يكون(44). فكل انتصار آني هو بمثابة هزيمة، وبالتالي انتصار لصالح الطرف الآخر.

هناك إذن في قلب الحقيقة معركة كامنة ودائمة هي بمثابة العمل الفني الأصيل الذي عنه ينشأ الفن وعصوره. هذا العمل الفني هو “المشروع الشعري القبلي للحقيقة، الذي يدفع بهذه الأخيرة كقوة كامنة في قلب الفيزيس باتجاه العمل الفني كإبداع للفنان”(45) لنلاحظ بهذا الخصوص أن كلمة: “فنان” ذاتها تنطوي على معاني التفتح والتشكل وقوة الخلق، إذ هناك كلمة قريبة من كلمة الفن والفنان تجمع بحكم مرجعيتها الطبيعية كل هذه العناصر، ألا وهي كلمة الـ”فنن”، فالفنن هو الغصن الأخضر اليانع الذي ما زال في طور النمو والتفتح. وغالبا ما نقول عن النبتة أو الزهرة التي تفتحت بأنها قد فننت. والفنان (على وزن فعال كحرفة للدلالة على التطابق التام بين الماهية ومتطلبات الصفة) في تطابقه مع الفن يتلبس بهذه الماهية. إنه من يدفع بحركة التفنن بمعناها الإبداعي كخلق وإنجاز للجميل، وبمعناها الفيزيسي (الطبيعي) كتفتح ونمو باتجاه شكل هو بمثابة حركة يأخذها التشكل بشكل دائم، باتجاه هذا الأخير كوجه تنجز فيه معركة الحقيقة وتستقر فيه حينا لا يحين أبدا. لذلك كان “العمل الفني استضافة وإيواء لماهية الحقيقة بما هي كذلك”(46). إنه “ينجز في الموجود مشروعا للانكشاف يكون على علاقة حميمية بماهية الوجود كحقيقة وفيزيس”(47). وما ماهية الشكل الفني كأثر لمعركة أو لعبة الوجود، إلا شكل يحمل إليه عنصر الانفتاح والتفتق (التفنن) والنشأة إلى مجال الانكشاف انطلاقا من ماهية الفن الذي يمتح معناه من ماهية الفنن والتفنن كصيغة أولى لفعل الانكشاف ذاته.

أين نحن إذن من ماهية الفلسفة؟ هل بلغنا “موطن” الفكر حيث تنغرس شجرتها؟ هل لامسنا ذلك الفنن الذي ندعوه شعرا؟ هل يفيدنا ما قلناه في الإجابة عن سؤالنا: هل يكمن أصل الشعر في ماهية الفلسفة؟ أو هل للفلسفة بعد شعري؟

لنذكر مرة أخرى أن غايتنا هي تحديد “موطن” الفكر من حيث هو ذلك اللا-مفكر-فيه الذي يقدم نفسه كخلفية وأرضية يستند إليها ما-يتم-التفكير-فيه. وما قلناه حتى الآن ليس إلا محاولة لتحديد جغرافية وطوبوغرافيته، إلا أنه مع ذلك لا يكفي لرسم خريطته. وحتى تكتمل عناصر الإجابة، سنفتح السؤال على بعدآخر لماهية الحقيقة من حيث هي مجال للانكشاف والاحتجاب، أو من حيث هي القوة الفعالة للانكشاف ذاته كعمل فني للفيزيس. هذا السؤال هو: إذا كانت كل الأشكال بما فيها تلك التي يظهر فيها الفكر أو الفن، تصدر أصلا عن العمل الإبداعي للحقيقة كمشروع قبلي هو بمثابة الشرط الأنطولوجي لكل فكر وفن، فما هو العمل الفني الأصيل الذي تنكشف فيه ماهية الحقيقة بما هي كذلك؟

إن الحقيقة من حيث هي أصل العمل الفني تمتلك القوة التي تمكنها من أن تنقال عبر كل الأشكال. أولى هذه الأشكال التي تنفتح على ماهيتها كانقيال، هو القول ذاته كمأوى لها. إنها والحالة هذه تتطابق مع اللوغوس كتجميع للكلام الصادر عن الوجود. فالنداء الصادر عن هذا الأخير كدعوة للفكر كيما يتذكره ويفكر فيه، يأتي إلى الإنسان عبر اللغة التي تخترقه من كل الاتجاهات وتحمله من ذاته إلى ذاته أبعد من ذاته. إن مهمته في علاقته بها تنحصر في حسن الإصغاء لها. فهي أشمل منه وأبعد من يكون سيدا مالكا لها، مادامت هي المتكلم الفعلي لما يقول(48) فإذا كان الفكر والحالة هذه لا يتم إلا من خلال الإصغاء للغة كلوغوس، فإن هذا الأخير هو ما يخول له التفكير “لأنه يسمح بظهور الموجود في كينونته. فالقول والموجود، الكلمة والشيء ينتميان معا لبعضهما البعض بكيفية مستترة لا يمكن التفكير فيها إلا بمشقة”(49). إن الكلام هو مأوى الوجود. ومن تم فهو التملك والحصول كعلاقة تنشأ عنها كل علاقة. فليس مجازا إذن أن يقال بأن اللغة هي مأوى حقيقة الوجود. بل إنها أكثر من ذلك ما فيه تكمن الحقيقة كمشروع فني قبلي. ولكن إذا كانت اللغة هي المشروع الفني القبلي والأصلي للحقيقة، فماذا ستكون طبيعتها في مادتها الخام؟

بما أن اللغة عمل فني للحقيقة فليس هناك إلا فن واحد يكون من صميم ماهيتها. هذا الفن هو الشعر. اللغة بهذا المعنى قصيد أولي سابق على الشعر كشكل متحقق في القصيدة. ذلك أن “الكلام في مادته الخام هو القصيد”(50). والشعر الحقيقي “ليس أبدا مجرد نمط من القول متميز عن الكلام الذي نتداوله يوميا، ما دام هذا الأخير هو الذي يشكل على العكس من ذلك تماما قصيدا منفلتا [أي منسيا كحقيقة الوجود](51)، ومن تم قصيدا منهكا من فرط الاستعمال اليومي، مع أن ثمة نداء لا يكاد يسمع يأتي إلينا من خلاله”(52)؛ وبالتالي فإن نقيض الكلام الشعري من حيث هو القصيد في مادته الخام، ليس هو ما ندعوه نثرا “لأن النثر المحض ليس أبدا كذلك، بل شعري هو أيضا، ومن تم فهو ليس أقل ندرة من الشعر”(53). لهذا السبب نادرا ما يجد الفكر “شيئا” يقال بصدد الوجود، ونادرا ما يجد تلك العبارة الوحيدة التي “هي مما على الفكر قوله تكون من نفس طبيعة ما يجب عليه قوله”(53).

الحقيقة إذن كعمل فني أصلي تتحقق في اللغة من حيث هي مأواها كقصيد أصيل. إن الحقيقة بهذا المعنى شعرية في ماهيتها. وهي تستمد هذه الخاصية من ماهية الكلام الذي هو في مادته الخام شعر سابق على القول الشعري للشاعر. إنه مامنه يمتح الشاعر ويستلهم أشكال قوله وصوره. إنه يصغي إلى ما يرن في الكلام من صمت هو أقصى غايات الجمال. لذلك غالبا ما نتحدث عن الإلهام، ونذهب إلى حد الحديث عن “شيطان” الشاعر(55). وهذا مالا يخلو من الحقيقة شريطة أن ندرك أن ما في اللغة كمأوى للحقيقة من قدرة على التكلم هو الذي يمد الشاعر بالقدرة على الكلام الشعري. فالشاعر لا يقوم سوى بالإنصات للغة على أحسن وجه. من هنا عنايته الفائقة بالكلام.

هل الشاعر وحده هو الذي يعتني بالكلام؟ وما ذا يفعل المفكر؟ ألا يستلهم أفكاره وقوله من نفس المجال؟ ألا ينصت هو الآخر لنداء الوجود من خلال اللغة؟

إن العناية الفائقة بالكلام هي المهمة الوحيدة التي يجد المفكر نفسه حريصا عليها. إن عمله كمفكر يقتضي منه أن يجد العبارة المناسبة للتعبير عما يراه ضروريا لأن يقال -وما أكثر ما يتوقف حسن التفكير الجيد على فن التعبير الجيد كما قال أحدهم- وما هو بالنسبة لكلام المفكر ضرورة قصوى هو التوفيق في التكلم عن الوجود وتوضيح طريقة انقياله في اللغة. وهذا ما يفسر كون نجاعة أي خطاب فلسفي وجدته تكمنان أساسا في قدرته على ابتكار المفاهيم، ويجعل من كل فلسفة متميزة عن غيرها جهازا مفاهيميا متكاملا له حقل دلالته الخاص. والأدلة على ذلك كثيرة وواضحة. يكفي أن نذكر مفهوما واحدا كالمثال أو الوجود بالقوة أو إرادة القوة، أو الصراع الطبقي لنعرف إلى أي فلسفة ينتمي. صحيح أن ما يقوله الشاعر وما يقوله المفكر لا يتطابقان، مثلما لا يمكن أن يتطابق الشعر مع الفلسفة(56). فهذا الأخير يسعى لأن يلتقط الكلام الصادر عن الوجود. أما الشاعر فإنه إذ يصغي للغة كمجمع لقول الحقيقة في ماهيتها الفنية، يسعى لأن يسمي “شيئا” أكثر سموا وأصالة هو ما تخفيه الحقيقة ذاتها كانكشاف للموجود في ضوء الوجود. وما يسعى لأن يسميه بالضبط هو ما ندعوه بالمقدس(57). إلا أنهما يتلقيان في ما يلي:

-أولا، كلاهما يتعاطى لخدمة اللغة ويتفانى من أجلها.

-ثانيا، كلاهما يسعى لأن يقول الوجود أو يسمي المقدس انطلاقا من اللغة كمأوى للحقيقة.

-ثالثا، كلاهما يكون في ما يقوله منصتا ومصغيا للغة ككلام يتكلم لالتقاط ما يصدر عن الوجود كهمس لصمت مطبق.

-رابعا، لكلام كل منهما خاصية فنية تتمثل في رصد تمثلات الحقيقة كفن أصيل.

-خامسا وأخيرا، لقول المفكر ذاته خاصيته الشعرية، ما دام مجال اشتغاله الذي هو اللغة، هو القصيد الأصلي في مادته الخام. وبالتالي فهو كالشعر ينبجس من الوجود كحقيقة وفزيس يتجمعان في اللوغوس.

ولكن إذا كان للفكر والشعر هذا الجذر المشترك، أي هذا الموطن الأصلي الذي هو الوجود أو الحقيقة أو اللغة كأرضية يتجذر في تربتها الفكر، فلماذا يسعى المفكر لقول الوجود بينما يسعى الشاعر لأن يسمي المقدس؟ هل من فرق و اختلاف بين المقدس والوجود؟

الحقيقة أن الوجود ذاته هو المقدس. ذلك أن ماهيته التي هي الحقيقة كانكشاف واحتجاب، لا تسمح بقولها إلا بطريقة ملغزة. إنها تظل بما هي كذلك سرا لا يمكن استكناهه وسبر غوره أو استنفاده، فكل ما تقدمه ليس إلا تأويلا لتأويل، وأثرا لنص لا يحضر أبدا. إن الحقيقة بهذا المعنى من حيث هي لا-تحجب واختفاء، ليست سوى أسطورة حقيقة الوجود والظاهرة خالصة، أي في تجليها المحض. وبالتالي فهي أسطورة حقيقة المقدس باعتباره الاسم الآخر للمحتوى في جانبه الغرائبي والعجيب. ذلك الجانب الذي يمتزج فيه الحلم والخيال بالواقع، والوهم والسراب بالحقيقة، الخوف والرهبة بالسكينة، الشك باليقين، الجهل بالمعرفة، والانحراف الدائم للجواب في شكل علامة استفهام هي بمثابة منعطف صعب وطويل لا نلفي بعده إلا النزر اليسير كنقطة على السطر. وعلينا أن نقر بأن “الحقيقة من حيث هي أسطورة المقدس، أي الواقع في تعارضه مع المظهر، والداخل في علاقته بالخارج، ليست مجرد أسطورة، بل هي الأسطورة بال التعريف. وليست مجرد استعارة مادامت هذه الأخيرة، ذات أصل ميتافيزيقي، وبالتالي فهي منحرفة بالنظر إلى هذا الأصل الذي هو الأصل في كل كناية أو مجاز، ومن ثم في كل مفهوم بدءا بمفهوم الاستعارة ذاته. إن الحقيقة من حيث هي لا-تحجب تعد ماهويا أسطورة”(58). ومن ثم فهي المقدس ذاته كبعد للوجود. وما يحاوله الشاعر دائما هو أن يتحد بالجانب القدسي لماهيتها. وأهم جانب مقدس فيها هو انكشافها كلغة. فاللغة والحالة هذه من حيث هي مأوى حقيقة الوجود كقصيد أصلي يسمح بكل حرية للشعر بالانبجاس، هي الحضور ذاته كانكشاف شعري. الشعر إذن كعمل فني أصيل وأصلي كامن في الحقيقة كقوة خلاقة للفيزيس، يحاول دائما عندما ينتظم في القصيدة أن يقول خاصيته المقدسة التي تتمثل في استحضاره للإله، انطلاقا من اللغة كبعد منكشف للحضور الشبه-مقدس. لهذا السبب يمكن نعت كل القصائد بما فيها تلك التي تتخذ موضوعا لها موضوعات ثانوية بالنسبة للحقيقة المقدسة، بكونها تصدر عن حدس صوفي لا يمكن لأي شعر مهما كانت منزلته أن يتحقق بدونه. ولهذا السبب أيضايكون الشاعر وحده مؤهلا لأن يقيس ذلك المجال الشبه-مكاني للحقيقة، الذي قلنا عنه بأنه لا يمكن لأي مقياس كرونلوجي أن يحدد أبعاده، ألا وهو مجال الاختلاف بين الوجود والموجود حيث يتوحد العالم بأبعاده الأربعة: الإنسان والآلهة، الأرض والسماء(59).

أما المفكر فهو لا يبرح هذا المجال. إن شجرة فلسفته التي يعنى بها متجذرة في تربة الشعر كقصيد أصلي هو حقيقة الوجود ذاتها في بعدها الصوفي والأسطوري، أي المقدس. لذلك فالفلسفة حينما تحاول أن تقول الوجود لا تتمكن أبدا من قوله بشكل نهائي. إنها تظل مجرد تأويل لنص قبلي ليس بدوره إلا تأويلا يكون في أحسن الأحوال متعلقا بحقيقة التأويل. وهذا ما يجعل من أعظم الفلسفات واعتاها فلسفات نقدية: Critique، ويجعل من الفلسفة بال التعريف في بعدها الهرمينوتيقي شعرية بالمعنى البويتيقي(60)، أي كتقنية للتأويل، ولتأويل النصوص الشعرية على الخصوص، (كما فعل هيدغر) إلى جانب تأويلها للوجود وبسبب هذا التأويل. كما يجعل منها أيضا ذات بعد شعري يتمثل في انغراسها داخل اللغة كقصيد أصلي، علما أن الحضور هو الانكشاف الشعري للغة، وأن الوجود كحضور يتفاضل مع الغياب، هو الشعر الأصيل في بعده القدسي، الصوفي والأسطوري. فلا عجب أن تنفتح الفلسفة على الشعر وتتخذ منه أداة فعالة للتفكير في الوجود كقضية دائمة ووحيدة للفكر. فالفكر بمعناه الشمولي الذي يتجاوز إرادة المعرفة كقصد سيكولوجي للذاتية هو الموطن الأصلي والجذر المشترك بينهما.

من هنا يمكن القول بأن الفلسفة في ماهيتها الميتافيزيقية التي تشمل الإنسان والحقيقة، الوجود والموجود، ليست فقط ذات بنية أنطو-تيو-لوجية بل شعرية كذلك. أي شعر-أنطو-تيو-لوجية poetico-onto-théo-logique. هذا البعد الشعري لماهيتها تستمده من طبيعة “الأرض” التي تتجذر فيها شجرتها كقصيد أصلي، كشعر خام، كحقيقة مقدسة للوجود من حيث هو حضور مؤسس على غياب، وكقوة خلاقة للعمل الفني من حيث هو معركة دائمة في قلب الحقيقة كفيزيس، أي كانكشاف يتفاضل إلى حد التماهي مع الاحتجاب، الشيء الذي يشع كبعد مقدس للحضور بما هو كذلك، بعد مقدس يتجاوز المفهوم الفلسفي للإله في بعده التيولوجي(61). في حين أن المقدس الذي يشع في البعد الشعري للفلسفة ويسعى لأن ينقال في الشعر، هو نداء يدعونا للإصغاء له، والإصغاء له عبر اللغة أولا إلى حد التطابق والتوافق مع هذا النداء. وهذا ما يحاوله المفكر حين يلامس غرابة الوجود في دهشة السؤال، وما يحاوله الشاعر حين يسعى لتسمية المقدس باعتباره ما يبقى هاربا وضاربا في البعيد كمسافة لا تحد بين المساء والأرض. في هذه المسافة الشاسعة حيث يتوحد البشر بالآلهة والأرض بالسماء تمتد “مساحة” متوارية هي بمثابة الملاذ الذي يستوطنه الفكر. وطن هو “ذات الشيء” حين تكون الأشياء وتصير، وحين لا تكون إلا لتصير بما هي عليه من جديد.

لنستمع إلى الشاعر وهو يحاول أن يسمي هذا “الوطن” في نشيد ينقال كتراتيل صلاة.

“كل شيء بدأ
كل شيء لم يبدأ
هكذا أبدأ
تموت وعول النفس في خضرة الصراخ
وتشتعل حروب تغرق فيها سفن الأفكار”(*)
ماذا يفعل الشاعر إذن:
إنه يشتري العالم بأقل تكلفه
يختار أرضا في حجم القلب
يبحث عن السماء الأجمل
وعن طريق أغلى من الذهب
وقد يجد طرقا “تشبه البيضة لا بداية لها”(**)
لكن لا يهم
حذاء واحد دائما
حذاء واحد لكل الطرق”(*)

حيث يتيه الفيلسوف بدوره متجولا في نفس الماهية، ولكن بحذائه الخاص. حتى إذا ما انهك بحذاءه من فرط المسير، وما عاد يسعفه على المشي في دروب الفكر الموغلة، فلا بأس إن هو استعار حذاء الشاعر الذي سيكون حتما على مقاسه، ما دام هو الجار الوحيد الذي يتقاسم وإياه نفس الهم، يستوطن معه نفس “الأرض”، وإن كان يقيم بخلافه على الضفة الأخرى للنهر الهرقليطي.


الهوامش:
1 – Jean Pierre Richard: Poésie et profondeur . Points. Ed. Seuil 1955, p.10
2 – Paulklee: “Philosophie de la création in Théorie de l’art moderne, Ed. Bibliothèque médiations, Paris 1964, p.57.
3 – Lucien Brawn: La vision romantique de l’histoire de la philosophie in: L ‘histoire de l’histoire de la philosophie , CH IV.
4 – Nietzsche. F: Le livre du philosophe. Flammarion, Paris 91.
إحدى أهم الأسئلة التي يطرحها نيتشه في هذا الكتاب هي:
هل الفلسفة فن أم علم؟
5 – La naissance de la tragédie – idées-gallimard 194.
هذا ما سعى هيدغر إلى إبرازه في العديد من كتاباته.
6 – Alain Badiou: Le statut philosophique du poème après heidgger. In : Penser après heidgger. Colloque de centenaire. Paris septembre 1989 Ed. L’Harattan 1992
7 – Sémantique de la poésie Synecdoques. Par Tzvetan. Todorov. Coll. Points. Ed. Seuil 1979, p.15.
8 – Cité in : c’est à dire, poétique de Heidegger. Par: Marc Fromen-Meuice. Ed. Galilée 1996.
9 – Martin Heidgger: qu’est-ce que la philosophie? In: Qu:II Ed. Gallimard
10 – Entretien avec M. Heidegger 1969. In Cahier de l’herne.p. 94, Ed. L ‘Herne 1983.
11 – M.Heidegger: fragment d’un entretien sur la pensée. In Qu: III: p. 183.
12 – Michel haer: La biographie relèguée, in l’herne op.cit.
أنظر أيضا:
– Gaston Bachelard: la poétique de la reverie PUF, 1993.
“إذا ما نظرنا إلى الشعر من حيث احتدام وتوقد صيرورته الإنسانية وهو في قمة إلهام يمدنا بالكلام الجديد فما تجدي السيرة الذاتية التي تحدثنا عن الماضي. وبالضبط عن الماضي الثقيل للشاعر، ص 8.
13 – M.Heidegger : construction à la question de l’être. In Qu:I, p. 245.
14 – M.Heidegger qu’appel t-on penser? PUF, 1952, p.84.
15 – M.Heidegger: identité et différence, In Qu: I, p.284.
16 – M.Heidegger contribution à. Op.cité. p. 238.
17 – Identité. Op.cité. p. 285.
18 – M.Heidegger: la fin de la philosophie et la tâche de la pensée. In Qu: IV: p.130.
19 – M.Heidegger: temps et Etre. In Qu: IV. Voir aussi:
Lettre sur l’humanisme in Qu: III.
20 – M.Heidegger: la chose in : Essais et conférences. Tel. Gallimard 1958, p. 217.
21 – M.Heidegger: qu’est ce que la philosophie.op.cité.
22 – M.Heidegger: ce qui fqit l’être-essentiel d’un fondement ou raison. In Qu.I
(*) M.Heidegger: Identité , op.cité.
23 – M.Heidegger: la thèse de kant sur l’être. In Qu: II 1963. P. 73.
24 – Identité et op.cité, p. 300. Essais et. Op.cité, p. 217. Ainsi que: M.Heidegger: principe de raison. Tel. Gallimard 1962, p. 240.
25 – M.Heidegger : le chemin de compagne in Qu.III, p. 14.
26 – Op. cité, p.14.
27 – Identité et différence. Op. cité, p. 305.
28 – Qu’est ce que le philosophie. Op. cité, p. 30.
29 – Identité, Op. cité, p. 260.
30 – Op. cité, p. 305.
31 – Henri Biran: Philosophie et théologie in Cahier de l’Herne. Op. cité, p.393.
أنظر أيضا:
J.Derrida: Viloence et Metaphysique, in: l ‘écriture et la différence. C. Points. Ed. Seuil 1967.
32 – M.Heidegger: lettre sur l’humanisme in Qu.III.
33 – M.Heidegger: qui est ce que la metaphysique, in Qu: I, p. 8
34 – M.Heidegger: le mot in : Acheminement vers la parole. Tel. Ed. Gallimard 1976, p. 212.
35 – L’expérience de la pensée, in:Qu:II.
36 – “La parole” in Acheminement, op.cité, p.23.
37 – Temps et être; op.cité.
38 – C’est à dire, op. cité, p. 155.
39 – M.Heidegger: ce qui est etcomment se détermine la physis, in Qu:II, p. 227.
40 – Op. cité, p. 262.
41 – Op. cité.
42 – Paulklee: Théorie de l’art moderne, op.cité, p. 62
43 – “La parole dans l’élément du poème”. In :Acheminement, op.cité, p.41.
44 – J.Derrida: “Ousia et grammé”. In: marges de la philosophie. Ed. Minuit 1972, p. 64 et sui.
45 – Mechel Haar: le chant de la terre. Ed l’herne 1985, p. 191.
46 – M.Heidegger: l’origine de l’oeuvre d’art. In chemins qui ne mènentn nulle part. Ed. Gallimard. 1962, p. 53-4.
47 – M.Heidegger: Introduction à la métaphyisque. Gallimard 1967, pp. 167-6.
48 – M.Heidegger: L’homme habite en Poéte. In Essais et conférences. Ed. Gallimard 1958, p. 227.
أنظر أيضا:
Arion L Kelkel: la légende de l’être : langages et poésie chez Heidegger, Ed. Librairie philosophique 1980, p.494.
49 – Acheminement vers la parole: Op.cité, p. 223.
50 – Op.cité, pp. 34-5.
51 – M.Heidegger: l’être et le temps, Ed. Gallimard 1964, p. 160.
في الوجود والزمان يؤكد هيدغر تمشيا مع هذا الطرح المتأخر أن اللسان اليومي من حيث هو ثرثرة وضياع في لغة الـ”هم” (on) إحدى أهم سمات الوجود الزائف الذي يغرق فيه الإنسان وبالتالي فهي ابتعاد عن الوجود الأصيل.
52 – Acheminement vers la parole, op.cité, p.35.
53 – Op.cité, p. 35.
54 – Lettre sur l’humanisme, op.cité.
55 – أنظر: الحوار الرائع بين قيس وشيطانه في قصيدة “مجنون ليلى” لأحمد شوقي (ديوان) مسرحية غنائية.
56 – يقول هيدغر: “إن الفكر المممتثل بإصغائه لصوت الوجود يبحث لهذا الأخير عن الكلام الذي انطلاقا منه تأتي الحقيقة إلى اللغة. من هنا سر اهتمامه وانشغاله بحسن استعماله للكلام. وفي ذلك تكمن يقظته وهمه. من الصمت المطبق منذ زمن طويل، ومن الإيضاح الصبور للمجال المضاء فيه يأتي قول المفكر. ومن نفس الأصل والمنبع يقوم الشاعر بالتسمية. ولكن المشابه لا يكون مخالفا إلا كمماثل. فإذا كان القول الشعري والفكر الأكثر صفاء يلتقيان في حسن استعمالهما وعنايتهما بالكلام، فإنهما في نفس الوقت منفصلان في ماهيتهما بأكبر مسافة ممكنة. المفكر يقول الوجود، الشاعر يسمي المقدس. أما إذا أردنا أن نعرف كيف يتم ذلك؟ وإذا ما فكرنا انطلاقا من ماهية الوجود، فإن القول الشعري والفكر يحيل كل منهما إلى الآخر. مع أنهما في نفس الوقت متمايزان. السؤال هنا يجب أن يظل مفتوحا. ومن المحتمل أن الشعر والقول الشعري ينبجس بشكل مختلف من الفكر الأصلي الذي يوظف دون أن يتمكن مع ذلك من أن يكون فكرا. أننا نعرف الشيء الكثير عن علاقة الفلسفة بالشعر، في حين لا نعرف شيئا عن الحوار بين الشعراء والمفكرين الذين يقطنون بجوار بعضهم البعض على قمم جبال أكثر بعدا عن بعضها (ملاحظة: انفصال القمم وتباعدها يجب ألا ينسينا تلاحم السفوح ووحدة الأرض التي تقوم فوقها رغم بعد المسافة).
M.Heidegger: qu est ce que le metaphysique, op.cité, p.84.
57 – M.Heidegger: Approche de Hôlderlin. Gallimard 1977, p. 146.
“أن المقدس يأتي إلى اللغة من خلال الحلم الشعري (le songe) الذي هو القصيد السابق على القصيدة (…) وحده الفكر المفكر في الأصل الذي يفكر فيما هو سابق على كل فكر يستطيع أن يتعرف على المقدس بهذا المعنى (…) إن ماهية الجميل هي المقدس”.
Jean Greisch: Hِlderlin et le chemin vers le sacré, in Cahier de l’Herne, op.cité; p. 411-412.
58 – C ‘est à dire, op. cité, p. 152.
59 – M.Heidegger: L’homme habite en poète in: Essais et conférences, op.cite, p. 237-8.
60 – Voir: Tzvetan Todorov: définition de la poétiquen in: qu’est ce que le structuralisme? 2. Poetique, Coll. Points, Ed. Seuil 1968.
61 – Identité. Op. cité, p.306.
عن علاقة المقدس بالألوهية. انظر:
Lettre sur l’humanisme, op.cité.
*من ديوان: رأس المسافر: لسيف الرحبي. دار تبقال 1986.
*من ديوان: دفاتر الخسران: لأحمد بركات. منشورات اتحاد كتاب المغرب 1984.
**”طرق تشبه البيضة لا بداية لها” بمعنيين هنا وجهان لحقيقة واحدة: الأول: يتعلق بمفارقة الأسبقية: أهي للبيضة أو للدجاجة؟ حيث البداية مفقودة.
والثاني: يحيل إلى الحلقة المفرغة التي يقحمنا فيها مثل الفكر، والتي يقول هيدغر “إن الفلاسفة يحاولون دائما الانفلات منها، بيد أن الحكمة تقتضي أن نعرف كيف نلجها عن صواب” (L ‘être et le Temps) من بين هذه الطرق المتلوية للفكر، ما قيل عن الوجود كانعطاء وعن الحقيقة كانكشاف واحتجاب، وعن الفيزيس كحركة دائمة باتجاه الرجوع إلى ذاته في قلب ذاته، وما يقوله هيدغر عن الطريق إلى الكلام “بأنه ثعبان بعض ذنبه”. لأن الأمر يقتضي أن نحمل الكلام إلى الكلام بواسطة الكلام.
(Acheminement vers la parole)