مجلة حكمة
قصة الخلق

الرغبة في حوّاء (3): البعد الرغبوي المحجوب في قصة الخلق – يوسف عدنان

الجزء السابق لـ(البعد الرغبوي) من سلسلة (الرغبة في حواء)


لقد سبق أن دعانا الفيلسوف سبينوزا في مسائل تتعلق بانفعالات النفس وطبيعة الرغبة، تجاوز الثنائية الديكارتية القائمة بين العقل والجسد، ذاهبا إلى اعتبار أن العقل والجسد شيء واحد، وذلك من منطلق وجود جوهر واحد يحمل صفتي الفكر والامتداد في نفس الوقت. فالعقل والجسد عند سبينوزا صفتان أو حالان للجوهر الواحد. قد يتناغم هذا المنظور الفلسفي إلى حدّ ما مع تصورنا للرغبة. و الحقيقة وبدون أن نقتصر على هذا الجانب فقط، فقراءة سبينوزا لطالما ما تقودنا إلى ما يمكن أن ندعوه بالمحو الجذري أو الشامل، أن تمحو كل ما سبق أن تعلّمته، وبعددها تتجه نحو ما هو جوهري. وبداية من هنا نستطيع بناء شيء ما. حيث يصعب التّصديق أن حاجة آدم لحوّاء لم تأتي من رغبة ذاتية جوانية، مادامت الرغبة تشترط في قيامها، ازدواجية بين النفس والجسم (29). فأن نسلّم بأن فعل الوجود الأنثوي كان فقط مجرّد إملاء إلهي نزل كرها على آدم {قضية الضلع}، أو هو ترجمة لإرادة ملغوزة – كتصور ما منعكس في ذهن آدم عن عالم الحيوان –  لهو فعلا درب من الهراء. ذلك أن الرغبة لا تنبع هنا من تّصور قبلي*. أولا، لأن الإنسان يرغب في موضوع متعالي عليه، وبالتالي لا يمكن أن يمدّه الفردوس السّماوي بتصور ما عن شكل حوّاء، بقدر ما يمكن أن تتبلور لديه فكرة عن الحياة الثنائية وليس الرغبة في الجنس الآخر. لأن فكرة آدم عن وجود جنس آخر شبيه ومختلف – وإن حدث عكس ما ذهبنا إليه – لن تكون هذه الفكرة – التي هي عبارة عن تصور ذهني-  من الوضوح بأن تطابق موضوعها تماما، بكلّ ما في ذلك من مقتضيات البداهة الديكارتية.

إنّ هذه الماهية المبهمة للرغبة الأولى لآدم في الكيان الأنثوي هي ما يجب الانتباه إليه، فآدم رغب في حوّاء لكنه لم يكن ليعلم تماما علّة هذه الرغبة المتيقّظة فيه. فالرغبة هنا تعي ذاتها لكن لا تعي علّتها التي أحجبت عنها، أي انكشاف الجسد فيما بعد، ومعرفة البعد المزدوج للإنسان ككائن شبقي. ومن حيث علاقة الرغبة بشجرة المعرفة، نجد جلّ التفسيرات ترّد لعنة الجنس إلى الشجرة والإغواء الشيطاني، بينما هو في الحقيقة خرق مشدود بمطلب مدفوع بالغريزة. إنّ الشهوة التي وصلت حد التوثب ودفعت بحّواء للأكل من الشجرة وإطعام آدم منها، لم تكن فقط حاجة للأكل أو استسلام منهم للإغراء الشيطاني الحسي، وإنما هي نزوة مدفوعة بمطلب لاشعوري ملحّ، بما هي – الشهوة – عبارة عن كبت الغريزة الجنسية التي تحرّكت عند حوّاء قبل آدم. وسنعود للغوص في هذه المسألة. ثانيا نرى أنه لم يكن هناك نموذج مرجعي قبلي يستقي منه آدم صورة الأنثى قبل أن تتجلّى في منامه ويراها بعدها بدون حجاب في الواقع. لذلك، ولتحقيق هذا الرباط التّعارفي والتناقل العواطفي، كان الحلم مهادا –  كما نشرح في تفاصيل بحثنا – لترجمة مضمون هذه الرغبة في المتخيّل أو لنقول في اللاشعور نبعها الأصلي.

ندفع بالتّفكير في هذا المستوى إلى حدوده القصوى، متسائلين: كيف أدرك آدم حوّاء؟ هل من خلال ملكة العقل، أم عن طريق الحس، أم بواسطة الخيال ؟ فإذا عدنا إلى التفسير المذكور أعلاه {أنظر: ص، ص 14 – 15}، فسنجده يقصي جميع هذه السبل المشار إليها توّا، معتبرا إدراك انوجاد حوّاء من طرف آدم قد تم بشكل بديهي، والبداهة كما لا يخفا علينا هي معرفة حاصلة في الذّهن دفعة واحدة من غير نظر واستدلال عقليّ أو خبرة سابقة. و من حيث هي إدراك مباشر لا يتطلّب نوعا من التفكير، وبالتالي سنكون أمام تجاوب فوري لآدم مع حوّاء لم يحتج معه تفكيرا في طبيعة الموضوع المجرد والمعدوم الذي اقتحم عالمه في غفلة منه. غير أن نقطة التأزم  « critical point » في هذا التفسير، هو كون خلق ووجود حوّاء لم يكن من تلك البديهيات « axiomatique » الممكن أن ينفذ إليها  إدراك آدم في عفويته. فحتى قاعدة البداهة الديكارتية لا تجد لنفسها موطأ قدم في حل هذه المسألة العويصة. فالقضية البديهية هي من تفرض نفسها على العقل بحيث لا تترك له مجالا لأن يساوره الشكّ في صدقها. أمّا التّجلي الكشفي لحّواء في حلم آدم، فقد سبق الإدراك المباشر لها كموضوع بديهي ماثل أمام أعينه بعد اليقظة، أي بعد أن صار المعدوم موجودا. وهنا تفوت على ملكة البداهة العقلية وأيضا الحسية تعقّل الموضوع، لكي نستطيع القول في حقّه أنه بديهي. وبهذه التأملات نكون قد قمنا بإبطال التفسيرات المألوفة لواقعة الخلق الأنثوي الضّلعي والعديد من الخرافات الأخرى المصاحبة لتاريخ الانطولوجيا الذي تبقى مهمة اجتثاثه حاجة ينبغي إنجازها على حد تعبير فيلسوف الكينونة.

ثم بعدها تأتي مسألة الحوار البدئي آدم مع حوّاء، بعد أن تسوّت وانجلت أمام أنظاره لحما ودما وروحا. إذ لابد ولفت الانتباه إلى هذا الحدث البدئي للغة، للكلام الثنائي بين الجنسين. حيث اكتمل الخلق الالهي حينما تلقت الأشياء أسماءها من الإنسان. هذا الإنسان انطلاقا منه فقط يمكن للغة أن تتكلم داخل الاسم (30). فحوّاء وكما نعلم من خلال النصوص التراثية الدينية، لم يخاطبها الرّب واختص آدم وحده بذلك، عندما علمّه الأسماء كلّها، أو عندما أسكنه بسلطان اللغة وألوهية الحرف. وبالتالي نلحظ غياب أي مبادئ قبليّة تختّص بحوّاء في هذا الجانب. بمعنى كيف ستكون حوّاء جاهزة ككيان يتحدث، يحس، ينفعل (…) الخ، لتستقبل سؤال آدم عندما سألها عن نفسها. وكيف كان بمقدورها أن تتعّرف و تعرّف في نفس الوقت نفسها، بدون أن يكون لها وعي مسبق يشمل كل من اللغة، الهوية، الكينونة. ومن جهة أخرى كيف سيكون إقبال حوّاء على آدم وتجاوبها مع رغبته خاصة وأن الوعي بالفارق الجنسي لم يدخل بعد ضمن حيز المعرفة. فمن بين اشتقاقات اسم حوّاء نجد الحوار، المحاورة، إذ هذه الخاصية التي أقحمتها حوّاء في عالم آدم العمودي والأخرس، ينبغي أن توقظ فينا مزيد من الدهشة و التساؤل، بل وأن تبعدنا بما فيه الكفاية عن التّصور المألوف الذي أنفق جهدا في تظليل الفهم على مر تاريخ الفكر الكوني، بتأكيده على أن خلق حوّاء قد تم بشكل فجائي، واستجابت آدم العفوية مع الحضور الأنثوي غير المرغوب فيه. هذا التفسير القاصر، الذي لم ينظر إلى حوّاء كذات أو ككيان، مموقعا بذلك إياها كموضوع هامشي لا ينبغي النظر إليه كغاية في ذاته وإنما مجرد وسيلة أتت لتأنس آدم وتخرجه من وحدته.

من هنا يعود الجدل ليقودنا الى نقطة انطلاقه، لماذا لم يخلق الرّب آدم وحوّاء في وقت واحد؟ فبعد أن خلق الربّ آدم “أب البشرية” وأسكنه في الجنة، أوصاه أن يأكل من جميع شجرها ما عدا شجرة معرفة الخير والشر، وهدّده بالموت إن هو أكل من هذه الشجرة الملعونة. يعيش آدم في النعيم سعيدا سعادة مملّة، ذلك لأنه وحيد فيخلق الرّب جميع حيوانات الأرض وجميع طيور السماء ويقدّمها له، لكن هذا لا يجدي نفعا، بعد أن انتابه الإحساس بالوحدة والفراغ العاطفي، و من حيث شعوره كذلك بعدم الكفاية و نقص في كينونته يصبو للتحقّق. ففي الرغبة كما هو معلوم حرمان واعتراف في نفس الوقت بالافتقار لموضوع الرغبة، إذ هي لا يكمن أن توجد دون افتقارها إلى الموضوع المرغوب فيه. وهي المعادلة التي لم يستثنيها الوجد من كيان آدم. وحيث قال الرّب: ليس مستحسنا أن يبقى آدم وحيدا، سأصنع له معينا مشابها له (31). ووفقا لهذا البعد الرغبوي الذي لا ينكفّ عن التّجلي في قصة الخلق، يوقع الرّب آدم في نوم عميق استجابة لرغبته. لكن خلافا للرأي السائد، لم يأخذ الرّب واحدا من أضلاعه، ويصنع منها أنثى يقدّمها له، كما لو أن آدم كائن مجرد من الإحساس والرغبة والإرادة. فالنوم وكما وضّحنا سابقا قد بدا كفسحة تتكلم فيها الرغبة عن نفسها، طالما أن إمكانية التعرّف القبلي على حوّاء من قبل آدم لم يكن ممكنا بل مستحيلا إلاّ وفقا لهذا البعد الخيالي المائز في قصة الخلق الإنسي. فالمرأة وبما أنها تتقاسم الجذر نفسه مع المرآة، فإنها تظل متعلقة بما هو مرآوي. فهي “بصرية” بعمق لأنها مقيمة لغويا في الموقع الذي تسكنه الرؤية والرؤيا (32).

لذا، نرى أنه ينبغي القطع من هنا فصاعدا مع هذا الموقف الميكانيكي الذي ساد دحرا من الزمن ولازال، لأنه تفسير يجرّد آدم من رغبته المسبقة في حوّاء. حيث لا يهمنا في هذه الواقعة معرفة من السابق عن خلق الآخر { الذكر قبل الأنثى أو الأنثى من الذكر}، إذا ما أردنا الخروج من هذه الدائرة المغلقة، لأن الجواب يكمن حسب رأينا في موضوع الرغبة ذاته.  لقد خلق الرب آدم وحواء كلّ على حدة، ليس لتكون أسبقية للذكر على الأنثى، أو لتخلق الأنثى من الذكر، ولكن لأنه لابد وأن يجري الإحساس بناء على» الرغبة «. فحوّاء هي جواب عن رغبة، ذات شحنة عاطفية إنسية مكثّفة لها ما يبررها وجوديا ونفسيا. لذا لا بدّ من وجود علاقة تبادلية سابقة بين المرسل والمرسل إليه قد شكلت بنية الرغبة، تتوق فيها الذات لتكون موضوع رغبة الآخر. لذلك فلو خلق الرّب آدم وحوّاء في وقت واحد، ما كان الأول رغب في الآخر – غياب موضوع الرغبة – وكان الإحساس سيجري بينها ككيان واحد لا يدرك أنه منفصل عن بعضه ومنفرد ذات الوقت بخصوصياته. بمعنى لن يعي كل منهما طبيعة نوعه، ولا نقصد بكلمة نوعه هنا الفارق الجنسي الفيزيولوجي فحسب، بل طبيعة الاختلاف الوجداني والعاطفي بين الرجل والأنثى، خاصة و أن الوعي بالفارق التشريحي لم يكن في حقل مدركات أي منهما حتىّ تذوّقان من الشجرة المحرمة، لتتحدّد معها ماهيتهم الجنسية. وصفوة القول أن وجود حوّاء وخلقها لم يكن ليكون له معنى دون رغبة مسبقة من آدم في هذا الموجود *.

وفقا لما تم ذكره، نرى أن رغبة آدم، هي رغبة في حوّاء – النظير الآخر للذات- أما رغبة حوّاء فهي رغبة في رغبة آدم “رغبة الرغبة” فالمرأة ترغب داخل مجال رغبة الرجل. ومن هنا يأتي تفاوت مشاعر الرجل والمرأة تجاه بعضهما: الرجل مظهرا للطرف المحب العاشق الطالب، والمرأة مظهرا للطرف المحبوب المعشوق المطلوب. إحساسات الرجل تمثل الحاجة وإحساسات المرأة تمثل الدلال، وإحساسات الرجل طالبة وإحساسات المرأة مطلوبة. فالمرأة هي جواب عن رغبة وعليها أن لا تخجل أو تشمئز من ذلك.  ولكي لا يعتقد القارئ انني أعطي معنى أحادي هنا للرغبة – أي بردها إلى طرف واحد – بينما الأمر ليس كذلك. فمن مستعصيات التحليل هذا الإشكال بالذات. أي كيف يمكن لحوّاء أن تكون كذلك ذاتا راغبة في آدم ؟ إن السبيل الوحيد للجواب عن هذا اللّغز المستغلق كما بينت سابقا، هو العودة إلى مضمون الحلم اللاشعوري.

فالمرأة لم ترغب في آدم وهذا مما يعمّم على باقي بنات حوّاء، ولكن تجاوبت مع رغبته. لذلك قلت أن رغبة المرأة هي رغبة في رغبة الرجل. وإن كان العكس صحيحا، فلماذا يتنافس الذكور دائما من أجل الفوز بصحبة الأنثى وتقع بينهم الحروب والمنازعات لذلك، أما في الإناث فلا يحدث أبدا الحرص والولع لاصطحاب الذكر ؟ السبب هو أن دور الذكر غير دور الأنثى. فجنس الذكر اقترن بدور الطالب/ الراغب، وجنس الأنثى لم يطلب جنس الذكر بحرص وولع مطلقا، بل يظهر نوعا من الاستغناء وعدم الحاجة رغم تعطشه. فقانون الخلقة قد منح المرأة الجمال والغرور والاستغناء، ومنح الرجل الاحتياج والطلب والعشق والتغّزل وهكذا نجد الرجل هو الذي يذهب لخطبة المرأة ويبادر لطلب يدها، وقد لا يخلو الواقع من أمثلة أخرى.