ملخّص للبحث متضمنا إشكالاته:
نتغيا من خلال هذا المنجز محاولة الكشف عن خبايا الكينونة الأنثوية المحتجبة وراء السرد النشوئي البدئي؛ وذلك من خلال إعادة التفكير والانشغال الفلسفي بسؤال الأصل المرتبط هنا بـ قصة الخلق الإنسي مع الوقوف على استيضاح صحّة أسطورة الانفصال الآدمي من عدمها، بلفت الانتباه إلى مفهوم الرغبة «désir»الذي ظلّ غائبا عن مسار التفكير الكوني في إشكالية الخلق الإنسي إلى حدود زماننا المعاصر. لربما هي عودة ملحاحة إلى الوراء، إلى ذلك الوجود الأصيل و المنسيّ كما اتّسم به قلق السؤال الفلسفي عند وورثة الفلسفات الأنطولوجية. فالاجتثاث الفينومينولوجي للأنطولوجيا معناه في المقام الأول إماطة اللّثام عن تاريخية مفاهيمها وتصوراتها للوجود. ومن أجل تحقيق ذا مبتغى، كان لزاما عليّنا التوسيع من حقل التفكير، والبحث عن المبادئ الموجهة للأشياء، ضمن آفاق ترتدي المجهول واللامنطوق والغوري، منطلقا في رحلة استكناه للتاريخ النشوئي، يسكنني فيها التّيه والشغف، باحثا عن موقع للاشعور و عن أثر للرغبة، في معرض الاسترجاع النقدي التحليلي لـ قصة الخلق البدئي، وإحياء السؤال المتفلسف القاضي بنا إلى تجديد فهمنا للغزية الوجود الإنسي.
تبعا لهذا الأفق الذي نخوض في رسم قسماته، أجد نفسي وبدون نيّة مسبقة، أخطّ نقدا راديكاليا يساءل زخما تاريخيا من التأويلات الأسطورية – الدينية، بل حتى الفلسفية منها، والتي أسرفت في مجملها التركيز على مسألة خلق المرأة من ضلع الرجل، لدعم أسطورة كمال الذكر عن الأنثى، بينما تمّ إهمال في مقابل ذلك جانب من الخيال تتحقق ضمنه قوة التأويل- المتعلق هنا بالحلم وفعالية التجربة الصوفية- باعتباره الأسبق، والأهم في نظرنا عند الحديث عن سرّ ازدواجية الجسد الإنساني، ومحاولة كشف حقيقة الرغبة المتوارية خلف جدار الوعي. حيث يترجم هذا المنجز بين يدي القارئ، جهدا تأمليّا قلّ نضيره في زمن النزعة الآلية واتساع مناخات الكسوف الفلسفي، أصبوا من خلاله وضع ملامح أنطولوجيا كينونية، تتصوّر قصة الخلق الإنسي كوجود راغب، وتقوم بتقويض جذري للأفهام، للبنى، للأنساق، للنصوص المبلوعة في جوفها ذاتية الموجود الأنثوي. كما تسمح هذه القراءة من جوانب متشعّبة أخرى بتفجير إشكاليات ميتافيزيقية كافية حول الكيان النفسي للإنسان.
ممّا لا جدال فيه اختلاف الفكر الكوني منذ الأزمنة الغابرة إلى الحقبة المعاصرة حول كيفية خلق حوّاء. ولا نعلم علم اليقين إن كان الرّب جلّ ذكره قد خلق حوّاء في نفس وقت خلق آدم أم بعده، ومزمع ما أمكننا معرفته هو ما تذكره الكتب السماوية التي لا تخوض في التفاصيل، و كذا الأحاديث المنسوبة إلى نبي الإسلام، إلى جانب روايات متضاربة تصلنا من زمن أساطير الأوّلين. بمعنى ليس فقط ذكر واقعة خلق حوّاء من ضلع آدم {مع تعليق الحكم هنا حول قضية الضلع} هو كفيل بمعرفة خبايا الوجود الإنسي والنفس والجسد. فالخطاب الإلهي في مضمونه الذكوري موجّه إلى كائن ذكر معلوم باسمه، ألا وهو آدم، بينما المرأة ملحقة مضافة كانتماء فرعي، نوعي. ومع كل الأسف نجد هذا التفسير الأجوف لايزال يجثم على سيرورة الفكر الإنساني عبر أزمنة التخلّقات الفكرية. هذا على الرغم من كونه مبني على الرأي والظنّ والاعتقاد غير المشفوع ببراهين وأدلّة سواء أتت من نبع عقلاني برهاني أو ذوقي عرفاني. ولا نخفي ميلنا إلى السبيل الثاني.
تجدر الإشارة إلى أن قصّة الخلق غير متوازنة في السّرد بين النوعين. فحينما نعود إلى مجريات قصّة البدء الإنسي، نجد آدم هو وحده المخاطب من طرف الرّب في كافة أطوار خلقه : بدءا بخلقه وإشهاده على ذرّيته في الملأ الأعلى، ثم تعليمه اللغة وسيادته على الملائكة، ثم تعرّفه على الموجودات في الكون وتسميتها بمسمياتها، إلى وقوعه في الخطيئة وطلبه الغفران والثوبة من الرّب متحدثا باسم حوّاء، حتّى عودته إلى أديم الأرض.
أمّا قصّة خلق حوّاء فلا يأتي ذكر لاسمها إذا استثنينا الإشارة إليها بالزوج أو الأنثى، بل حتىّ أن الرّب لم يبلغ الأنثى بخطاب مباشر عن منع الأكل من الشجرة المحظورة وإنما وصلها النهي عنها عن طريق آدم. لذا لا بد من إعادة قراءة قصة خلق حوّاء ما دام يلفّها كل هذا السواد والغموض وفيها الكثير من الفراغات والمغيوبات، كما لها – وهو ما سنأتي على توضيحه في تفاصيل البحث – جانب باطني أوسع من أن يحدّد بدقة أو يفسر تفسيرا تامّا أو يأمل المرء بكشفه تماما. مما يترك حقيقة خلق المرأة معلّقة بالعلم الإلهي وغامضة على مرّ التاريخ الإنساني، الذي اكتفى فيه الفكر الكوني بالتّركيز على كيفية وهب المرأة للحياة، ولم يتساءل في الكثير من الأحيان كيف جاءت المرأة إلى الوجود. هل فعلا ثم خلق حوّاء من ضلع آدم بهذه الطريقة المؤلمة والعنيفة والمعدوم فيها أي ذكر أو إشارة لمفهوم الرغبة، لكأن آدم وحوّاء كائنين مجردين من الرغبة التي هي مفتاح كيان الإنسان ومشتلّ نزوعاته المتدفقة باستمرار. إذن فهذ اللّبس تحديدا، الذي اقترن بمفهوم الضّلع الأعوج ومعناه الترميزي، هو ما سنحاوله استكناه مغالقه، وسبر أغواره في سياق معالجتنا لمسألة خلق الأنثى. حيث يأتي مفهوم الرغبة ليعوض الضلع، ويردم الثغرة القائمة على مستوى العلاقة المبهمة لآدم بحّواء. وهذا الجانب المهمل {اللامفكر فيه} نجده الخيط الناظم لبحثنا.
تندرج هذه الورقة ذات النّفس النقدي – التأسيسي، والتي تحاول في طياتها جاهدة تفتيق معالم رؤيا اختلافية، تعيد تقويض الأنطولوجيا النشوئية منذ فجرها، بغية تكسير »التقليد الإنتسابي « الذي بموجبه لا يمكن للمرأة أن توجد سوى في، ومن، داخل جنس الذكر {جسده/ ضلعه}، والحرص في المقابل على إعادة تشييد معنى مخالف يسمح بإرباك نمطية الفهم السطحي، والانزياح به عن المسالك المألوفة التي يمتطيها عادة التّفكير في الموضوع، من خلال تطوين مفهوم الرغبة بدلا من الضلع كمبدأ يقوم عليه تفسير وتأويل واقعة الخلق الإنسي. فبدل الاكتفاء بالنقد والتفكيك نرسم في هذا البحث منعطفا جديدا لعله يتجاوز ويهدي في ذات الوقت لتأويل مغاير من المرجى الأخذ بناصيته كل ما تعلق الأمر بسؤال الرغبة في التكوين البدئي للإنسان.
تقديم هامشي:
تعدّ أسطورة البدء المقدس أو “النشأة التكونية للإنسان” من بين أهم الأحداث التي تستوجب من الحس الفلسفي وقفات تأملية، ليعيد التفكير في أبعادها من منظور استعادي «rétrospective » ، ويتساءل على نحو يدفع بإرادة المعرفة خارج ثنايا المألوف، والجاهز من الخطابات المحنّطة لعقود من الدّهر في تلافيف المعتقد والموروث والمؤسطر وطبقات العقل الباطن. فالدعوة إلى إعادة القراءة المتجددة للتراث الفكري –خاصة بعده الإناسي منه- حاجة معرفية لضبط منشئه وحركة مفاهيمه في نواميس أنساقنا الثقافية والفكرية والمعتقدية والأخلاقية.
إذ علينا أن نقيم تمييزا جوهريا بين المظهر الأنطولوجيّ، والمظهر الذي يقدمه لنا التاريخ الرسميّ بخصوص الخلق الأنثوي. فعلاقة آدم وحوّاء النشوئية قد تمت بعجلة شديدة لم تمهل الفكر ليقول كلمته. لذا، فإننا نطمح من وراء المساهمة بهذا الموجز، القبض على المعنى قبل أن يحشر في نظم الخطاب التي تسيّج مساحات التّفكير ضمن جغرافيا المقدس، وتوابته السّكونية المؤبّدة. وليس الغرض من تناول هذا الموضوع الموغل في عمق القدم – ما قبل التاريخ- إعادة التّفكير في المفكّر فيه، وإنما تأتي هذه الورقة بلمحات مركّزة حول حلقات مفقودة في الانشغال الفكري بـ قصة الخلق الإنسي، ليتسنّى لنا إثرها تخصيب آفاق أخرى مغايرة، تنأى بقدر كافي عن تفسيرات غافلة/ قاصرة/ متناقضة/ فارغة (…) الخ. ويبقى دائما السؤال يستلحق معناه المؤجل، ومفتوحا على أجوبة ليست حاضرة، مما يستدعي المزيد من الحفر والتنقيب والتدّارس إيمانا منا بنسبانية كلّ معرفة تتّخذ الإنسان موضوعا لها.
كثيرة هي الاختلافات بين أصحاب الرؤى والمذاهب الفقهية الاجتهادية حول قضايا مقدسة داخل أو خارج النص الديني، غير أن باب الاجتهاد والتأويل يظل مشروعا، ولا يحقّ لأي كان أن يصادر حق الرأي والتفكير والحوار والمساءلة النقدية. ولست أزعم أنني أجبت على جميع التساؤلات التي تولّد وجهاتها المجهولة عبر مسارات هذا البحث المحّمل بثقل التاريخ الإنساني بتأويلاته. و لا أدّعي كذلك أن هذا التفسير الذي قدّمته للرغبة والحلم الآدمي هو الأصح والخالي من الهفوات، لكنني على قدر من الإيمان بأن هذا البحث يستبطن جوانب خفيّة لم تكتشف بعد، ويثري بحثنا المتعلق بأصل المعتقد الأسطوري والديني عند الإنسان وبدايته النشوئية.
ما أكبره من خطأ وخسارة أن نصّور تاريخ النزوع الإنساني بهذه الطريقة الجوفاء التي لا نجد فيها أيّ أثر للرغبة – رغبة آدم وحوّاء في بعضهما البعض- ويلفت النظر شيء، أنهم حرصوا على تصوير واقعة الخلق الأول بالعدمية والخشونة ومجانبة الرغبة الإنسانية. وما أكثر التّفاهات التي تحاك في هذا المجال، والحقيقة أنني أعجب وآسف في نفس الوقت حين أقرأ بعض ما كتب حول هذا
الموضوع. فالخطابات الفقهية والعقل الذكوري المتعالي والأساطير المؤسسّة جميعهم يتحاملون على إجهاض المعنى المراد به من قصة الخلق الإنسي ملجمين بذلك صوت الرغبة التي لا يأتون على ذكرها سواء عن قصد أو غير قصد. بل ونصطدم بجدار الكبت أكثر تصلّبا عند الرجال من النساء، حين يعتبرون خلق حوّاء شيئا ثانويا وجد تعريفه عند آدم كسائر المخلوقات، متشبّثين بهذا الموقف الاستنساخي الذي ينسب وجود الأنثى إلى علّة ما ذكورية.
كما لم يفتني في هذه القراءة إضعاف مفعول مقولات العقل النقلي {الوسائلي}؛ واستخراج نقائص دالة من النصوص الميثولوجية والدينية مع تسليط الضوء على تاريخ الرغبة المهدور والمحجوب وراء جدار الوعي. ففي هذا الطرح تأصيل لمسعى فكري يراد منه إعادة تقويض وتفكيك ثنائية أصل / فرع، إلى جانب تأزيم فكرة مركزية المعنى المحصورة عند الطرّف الذكوري. لذلك، فإذا استطعنا أن نفسر على ضوء هذا النموذج أساس قانون الخلقة السليم بشكل لا يصوّغ ممارسة الخصاء على الكائن الأنثوي، آنها يمكن أن نسمع نداء الرغبة الحقيقية في المرأة كذات وكيان مكتفي بذاته، لا كموجود غير مرغوب فيه أو كموضوع بدون رغبة. وقصارى القول أن النزوع الإنساني لا يمكن إلاّ أن يكون نزوعا راغبا، وإذا سبق وكان العكس، فسنكون قد سلّمنا سلفا – منذ الخطاب الإلهي للأرواح – أن نعيش في هذه الحياة بدون رغبة، تاركين قوى الطبيعة تفعل فينا على نحو ميكانيكي، تطبعه الاستجابات الغريزية أكثر من النزوعات العرفانية والجمالية.
إنّ أهم ركيزة يقف عليها بنيان البحث هو مفهوم الرغبة. فنحن نحثّ من خلال إعادة التفكير في قصة الخلق الإنسي، على استحضار الرغبة كحلقة مفقودة في تفسير علاقة آدم وحوّاء النشوئية. وعلى ضوء هذا المستجد المفهومي نهدف معالجة القضايا الإشكالية التالية :
-العمل على فكّ طلاسم العلاقة المعقدة بين الجسد الذكوري والجسد الأنثوي، والمقصود بالتحديد مساءلة قضية الضّلع وانتساب حوّاء من حيث الخلق لآدم.
-تأصيل مفهوم الرغبة في تجربة النزوع الإنسي، بعد أن غاب هذا الأخير على التّفكير الكوني في مسألة خلق آدم وحوّاء على مرّ الزمن الأنطولوجي.
-إدراج الحلم كسجل خيالي باطني ينضاف إلى تفسير حدث الخلق الأنثوي، باعتبار المنام الذي راود آدم قد تضمن كشفا عن صورة حوّاء قبل أن توجد ككائن مجسم في واقع آدم.
– إعادة الاعتبار للاشعور في تجربة الخلق الانسي، على أساس كونه مسرح الصراع النفسي لآدم وحوّاء مع ذواتهم ومجال الرغبة أيضا. الشيء المفضي إلى إعادة مساءلة مفهوم الخطيئة الأصلية ومجمل النزوعات المخبوءة في النفس الآدمية والتي وجدت تعبيرها في خرق الأمر الإلهي، بدل أن تتم مقاربتها من زاويا أخرى.
التساؤلات الإشكالية للبحث:
ملحوظة: المرجو الإبقاء على تساؤلات البحث مع أهدافه عند النشر.
-
كيف حظرت حوّاء كموجود في الوجود؟ وهل من الممكن أن يكون قد جسّد الحلم أول تجلي للكيان الأنثوي؟
-
لماذا كان هناك منام في قصة الخلق الأنثوي، ولم يكن هناك تجليّ مباشر؟
-
ما غاية الحلم في قصة الخلق الإنسي، وما موقع اللاشعور من الغيب؟
-
هل رغب آدم في حوّاء قبل خلقها ؟ أيمكن أن ننتهي إلى القول أن خلق حوّاء هو جواب عن رغبة ؟
-
ما علاقة الرغبة بكل من المعرفة والجنس والموت ؟
-
هل خلق حوّاء كان حقّا بهذه الطريقة المؤلمة والعنيفة، والقصد هنا أسطورة الضلع ؟
-
عندما نتساءل عن الرغبة الأصيلة في نزوع الكائن الإنساني، هل نكون أمام موضوع بدون رغبة، أو رغبة بدون موضوع؟
-
لماذا يبدو الحضور الأنثوي كما لو أنه معنى خارج التاريخ الإنسي ؟
-
كيف أمكن آدم إدراك حوّاء؟ هل من خلال ملكة العقل، أم عن طريق الحس، أم هو حدس باطني ترآى في حضرة الخيال ؟
-
لماذا لم يخلق الرّب آدم وحوّاء في وقت واحد ؟
-
هل يمكن للإنسان أن يسعد بشيء لم يرغب فيه قبلا ؟ أو بعبارة أخرى: هل يمكن لآدم أن يسعد مع حوّاء دون رغبة مسبقة فيها، وأن تبادله هي كذلك نفس الشعور ؟
الموجود الأنثوي كجرح أنطولوجي
“إن تاريخ الفلسفة يكشف لنا عن فشل الفلسفة في فهم طبيعة المرأة” نيتشه، ما وراء الخير والشر