مجلة حكمة
الحلم

الرغبة في حوّاء (2): تأويل المنام الآدمي .. الحلم كأول تجليّ للكيان الأنثوي – يوسف عدنان


عندما نعود بالذاكرة الإنسانية إلى الوراء، مستحضرين هذا المعطى -الأثر- القابع في سحيق الزمن النشوئي الإنسي، وهو كون حوّاء خلقت من جسد آدم، وتحديدا من ضلع أعوج يقع على مقربة من الجانب الخلفي للقلب، فإن هذه العودة قد تقتضي علينا قبل المسارعة في إصدار أي رأي يعوزه البرهان وإقامة الحجة على صلاحيّته، الوقوف مليّا عند التاريخ النشوئي « L’histoire Primordiale » وهو تاريخ إطلاقي عصي عن  الضبط ، يشكل آدم وحوّاء أقانيمه الرئيسية (23)، والذي نرنو من خلال إعادة طرحه، الإحاطة بحقيقة التّكون الروحي و النفسي لآدم وحوّاء. وتحت وطأة هذا المنظور السالف ذكره، كون حوّاء سلخت من آدم، ربما قد يسأل سائل: ما الجدوى من إعادة التفكير في هذه النازلة ؟ ولماذا ينبغي أن نوسع من زوايا التأمل والتفكير في هذا الموضوع ؟ فسواء خلقت حوّاء بشكل مستقل عن آدم، أو استلّت من ضلعه، الحاصل أنهم خلقو من طين وتراب. لكن المسألة لها آفاق أرحب بكثير من ذلك، بل وأشدّ التباسا مما يتبادر للذهن لأول وهلة. ذلك، أن طريق الوصول إلى كينونة الكائن الأنثوي ورغبته، يكمن أولا في فك طلاسم العلاقة المعقدة التي تجمعه بالجسد الذكوري. وهذا الدّرب المنسي، هو ما لم يخض فيه الكثير من السائلين، إذ غالبا ما انكبوا على افتحاص قضية الضلع بينما تم إهمال سؤال الرغبة.

تتعذر المعرفة الخالصة بقصة الخلق البدئي بما هي معرفة ترتحل إلى ما قبل التاريخ . وفي هذه الأصول الضائعة ذات الطابع الأسطوري يقيم الفكر الايديولوجي خطابه السلطوي. ويعرّف الأسطوري هنا: باللامعقول، ما لا يمكن إدراك ماهيته الداخلية، وجهلنا بماهيته الداخلية “المفترضة” نابع من غياب أي إمكانية لإخضاعه للتناول التاريخي، أي من غياب أصله الزماني الممكن، ولا يكون الفكر أسطوريا إلا بالنظر إلى غياب هذا الأصل الممكن، لا إلى غياب محتواه الذي هو نتيجة لغياب الأصل ذاته (24). إنّ قلق السؤال ليدعونا للمزيد من تعميق التّفكير في حدث الخلق الأنثوي، بما يفيد استنهاض إشكالات أخرى غير مهادنة للخطاب المتوارث حول حقيقة النشأة، كأن نتساءل: كيف حظرت حواء في الوجود؟ ما غاية الحلم والمنام في قصة الخلق، وما موقع اللاشعور من الغيب؟ وهل من الممكن أن يكون قد جسّد الحلم الآدمي أول تجليّ للكيان الأنثوي؟

لقد ورد في مضمون مجموعة من الكتب الدينية والمصنفات الإسلامية مرويات مختلفة يمكن إيجازها في الحديث التالي: لما خلق الله آدم ألقى عليه النوم، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه وخلق منه حوّاء، جلست بجنبه. فلمّا انتبه لها رآها جالسة بقربه، خاطبها وسماها حوّاء نسبة للحياة والشيء الحيّ. وقيل أنه لم يؤذه أخذ الضلع شيئا ولو أداه لما عطف رجل على امرأة أبدا، فلم يكن بهذا المعنى لآدم أن يحبّ شيئا ألمه *. ونقرأ في تفسير الطبري عن السدّي، قوله: أسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحشا ليس له زوجة يسكن إليها، فنام نومة، فاستيقظ، فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الرّب من ضلعه، فسألها: ما أنت؟ أجابته: امرأة. قال ولم خلقت؟ قالت لتسكن إلي (25). إذ لم يقنع الخالق ببقاء آدم – الإنسان وحيدا بينما تجد كلّ خليقة أخرى شريكها المقابل، فأوقع على آدم سباتا عميقا وأخذ أحد أضلاعه وبرا منه المرأة وجاء بها الإنسان الذي دعاها امرأة لأنّها من امرئ أخذت (26).

بما أن الطرح السائد يعتقد في خلق حوّاء الداخلي من آدم، هناك العديد من الأصوات تعتقد أن غاية النوم، كانت بمثابة الحجاب الواقي من  »صدمة الانفصال « التي كان سيتلقّاها آدم، لو أنه أحسّ أو شاهد كيف انسلّت حوّاء من صلبه. ومفاد هذا الرأي المتداول، هو أن لو خلقت حوّاء من آدم وهو مستيقظ، لشعر بألم خروجها من ضلعه وكرهها. لكنها خلقت منه وهو نائم، حتى لا يشعر بالألم، فيميل إليها. وهذا  قول  زمرة  من علماء اللاهوت كما اجتهد على تثبيته المشرّعون والمفسرون، إلاّ أنه ليس هناك أبعد عن الصواب من هذا القول، الذي كرّس فهما شائعا ومسلمات {doxa} يتلبّسها الحس المشترك « sens commun » ، تم تصديقها والجزم فيها بصورة متعجلة دون أدنى درجة من الحيطة والوعي النقدي .*

وفي نفس السياق ، نعرّج على تفسير آخر متناقض في موقفه نوعا ما، لا يبتعد هو الآخر عن المألوف ويصبّ في تكليس نفس التصور حول واقعة الانشطار النشوئي للكائن. فهو يقرّ من جهة، أن آدم قد حلم بحوّاء وتجلّت له في منامه اللاواعي، وهو ما بات يعرف عند عامة الناس بتحقّق الحلم. غير أن هذا التفسير يضيف من جهة أخرى، واقعة انسلال حوّاء من صلب آدم أثناء نومه. فنحن نتّفق مع الواقعة المتعلقة بالحلم وتحقّقه في الواقع، كمنطلق للتفكير في سؤال الرغبة ومكانتها في قصة الخلق الأنسي. وينظر ذلك لما يمكن أن يحققه هذا السند من مرامي نتغيّا إيضاحها من خلال هذا التأويل الذي نقدمه لحلم آدم. موضحين إثره، أنه مادام هناك منام في قصة البدء، إلاّ وكانت هناك رغبة شكّلت مضمون الحلم اللاشعوري في المنام. بينما نعرض في المقابل على التفسير الضّلعي للخلق الأنثوي الذي نراه يسقط مطرح تناقض حادّ، عندما يرّد خلق حوّاء من داخل آدم، حيث يحضر الحلم وتغيب الرغبة، وهو غير الممكن في نظرنا، مدلّلين في ما تقدم من البحث لماذا ؟

لنتوقف عند هذا التصوير الأجوف لتشكّل الكائن الأنثوي في قصّة الخلق الإنسي، ونتساءل معا: هل خلق حوّاء كان حقّا بهذه الطريقة المؤلمة والعنيفة؟ فمن حيث هو ملاحظ إلى حدّ الآن، كيف يقنت التفكير الإنساني في محراب التفسير الأسطوري البدئي، ويمحور حدث خلق حواء برمّته، بل ويختزله في الدّور الوقائي للنوم، الذي يرون فيه تحصينا لآدم من الشعور بالألم، وكذلك من حيث هو – النوم-  انفلات أو تعطيل مؤقت للعقل -الشعور- لكي لا يعي صدمة الانفصال والاستلال. وعلى ذكر الانفصال، يفطن القارئ لمتون ابن عربي إلى أن هذا المفهوم مرتبط بما يسميه الوجود الانبعاثي أو الإضافي، فوجود المرأة في فلسفته هو وجود ظليّ انفصالي و انبعاثي متفرع من الأصل (27). وهو يفسر خلق حواء من آدم عبر تفكيره بالظّل، ويري أن وجودها ظلّي انفصالي. على أية حال، هذا يعود إلى التقسيم السالف للوجود والانفصال عنده، حيث تبدو حوّاء في وجودها الانفصالي في تراتبية تقابل النفس الكلية التي هي وجود منفصل عن العقل الأول، الذي يقابله من جهة ثانية آدم*. فالغائب الكبير في التفسير الأكبري (ابن عربي) هي لحظة التجلّي الكشفي للكائن الأنثوي في منام آدم. إن حدث الخلق الأنثوي المتكتّم حوله التاريخ النشوئي، ليس في رأينا مبنيّا على الألم، ولا على الانفصال الصّدمي، بل على الرغبة، وكيف ترجمها الحلم في لاشعور آدم. فالنوم، لم يكن مكانا لرقود النفس، وإنما هو بدا كفسحة لتتكلم الرغبة عن نفسها.

تدعونا الإشارة السابقة إلى التفكير في الحلم كمعبر وجسر نحو مجاهيل النفس وما وراء الشعور. فحدث النوم الذي يهمله الكثيرون في تفسير هذا الحدث، تظلّ له قيمة أنطولوجية أصيلة تتجلّى في وظيفتي الاستباق و الإنباء » الحلم الإنبائي « . فحّواء لم تكن موجود وإنما معدوم، والعدم في العلم الإلهي هو القابل للوجود، بما هو موجود في الأعيان الثابتة. يقول ابن عربي: ما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك (28). لذلك نلقي على الطاولة فرضية أخرى تفيد في إمكان لقاء روح آدم بروح حوّاء في العالم الغيبي قبل أن يريان بعضهما في العالم العيني {تجلي الغيبي في الوجودي}، وقذف الرّب صورة حوّاء التي اتّخذت شكل هوام – صورة تلقائية الانبثاق بالتخيل الباطني-  في حلم آدم، كاستجابة لنداء الرغبة المسكوت عنها في دواخله، والتي لم يكن من الممكن أن يعرب عنها بشكل مباشر، مادام موضوعها مفقود في الواقع. يقول أفلوطين: إذا انبثقت الرغبة، جاءت المخيّلة فصورت لنا ما يشبه موضوع هذه الرغبة *.

ولكي أدلّكم توّا على هذه الصيغة التي اتّخذتها الرغبة في مسالك النفس، أذكّركم بالغاية من ذكر منام آدم في النصوص الدينية – التوراتية منها والمسيحية والإسلامية وأيضا بعض الأساطير التي تؤمن بنظرية التراكم الملحمي*، رغم اختلاف التأويلات والرموز المنوطة بكل من آدم “Adam” وحوّاء “Eve” من سياق ثقافي لآخر. هذا الحضور البارز للحلم لم يكن مجرد أمرا عارضا، أو إخبارا إلهيا للبشر بخصّيصة أو ضرورة بيولوجية تتمثل في حاجت بنى آدم  للنوم وإراحة البدن. بل المقصد قد يبدو أعظم من ذلك بكثير، ويتجلّى الهدف منه إحالة الإنسان منذ سليقته على بعده اللاشعوري والحياة الكامنة وراء الوعي، والتي يشكّل قطاع الأحلام حيزا وفيرا منها *.

استخلاصا لما سبق ذكره، نرى أن الإحاطة بهذه الكيفيّة المجهولة لنا فيما يخصّ خلق المرأة قد تقتضي لزوما العودة إلى الحلم الذي راود آدم في منامه. كما قد نختلف في معرض تأوليه مع بعض التوجيهات الفرويدية المفسرة للحلم كظاهرة نفسية **. فصورة حوّاء تبدّت لأول مرة في المنام، كموضوع موجود تخيّليا وغير موجود ماديا، حاضر وغائب في نفس الوقت. إنّ الحلم هنا يحجب قسطا من الوهم المضمر في الرغبة. لذا فمسألة النوم وتحقق الحلم في الواقع، هي من ضمن الالتباسات المحيّرة في قصة الخلق الإنسي، قد تستدعي منا المزيد من الكشف والتعرية بدءا وانتهاء بسؤال الرغبة.

للمزيد من الكشف عن الكيفية التي نفّسر من خلالها هذه اللحظة الحلمية العابرة في منام آدم والتي تجلّت إثرها حوّاء – كما ذكرنا سابقا – في الخيال قبل أن توجد في العالم الحسي المادي ككائن مجسم. نتوقف عند حادثة طريفة لا تخلو من دلالات ومعاني، وردت في كتاب “طوق الحمامة في الألفة والآلاف” (49)، في معرض الحديث عن أصول الحب وأسبابه { في باب من أحب في النوم}. نسرد بلسان الراوي هذه الأعجوبة على حدّ قوله: “دخلت يوما على أبي السبري عمار بن زياد فوجدته مهتمّا، فسألته عما بها، فيتمنع ساعة ثم قال: لي أعجوبة ما سمعت قط؟ فسألته و ما ذلك؟ قال: رأيت –في نومي- الليلة جارية فاستيقظت، وقد ذهب عقلي فيها، وهمت بها، وإني لفي أصعب حال من حبها؟ ولقد بقي أياما كثيرة تزيد على الشهر مغموما مهموما لا يهنأ له شيء إلى أن عذلته وقلت له: وما الخطأ العظيم أن تشغل نفسك بغير حقيقة، وتعلق وهمك بمعدوم لا يوجد، هل تعلم من هي ؟ فقلت له إنك لقليل الرأي، مصاب البصيرة، أن تحب من لم تره قط، ولا خلق. فلا هو في الدنيا، وعشقت صورة من صور الحمّام لكنت عندي أعذر. فأجاب صاحب المنام بالقول، هذا عندي عن حديث النفس وأضغاثها، وداخل في باب التّمني وتخيل الفكر، وفي ذلك أقول شعرا منه:

ياليت شعري من كانت؟ وكيف سرت؟                  أطلعت الشمس كانت أم هي القمر؟!

أظنها العقل أبداه تدبّره                                  أم صورة الروح أبدتها لي الفكر

أو صورة مثلث في النفس من أملي                     فقد تحير في إدراكها البصر

أو لم يكن كل هذا فهي حادثة                            أتى بها سببا في حتفي القدر؟  (50).

نتبيّن من خلال هذا المروي السريالي أو الأبيات الشعرية المتأبّية التي صاحبته، لهيب لحظة عشقّية وما يرافقها من أحاسيس مباغتة متدفقة تهزّ الكيان الراغب، يودّ الحالم حين يقظته لو استطال به هذا الشعور عديم الوصف. فهي رغبة نمّت بوضوح عن حالة من الاستشراف الروحي وكأن الكيان المحتجب والغائب أمامك يراك وينظر إليك ويتحدث معك. أما هذا الأثر المنفلت للحضور الأنثوي الهلامي، فقد لا يكفّ عن التّسرب إلى إنتاجات الفنانين والشعراء والأدباء (…) الخ. إذ تراهم يبحثون من خلال مجازات لغوية ولمسات فنية ومقاطع شعرية على تجسيد المرأة كمعنى منفلت، أو كسراب عابر لا يمكن    التقاطه *. لربما لغز الإنوجاد الأنثوي هذا إذا لم يخب بنا الظن، ما دفع المحلل النفسي لاكان حدّ القول في عبارته الشهيرة   »المرأة لا توجد « كما لو أنه يريد أن يدلّل على هذا التمرئي الهلامي للكائن الأنثوي الذي نحن بصدد كشف تجلّياته، من أجل تعقيل ممكن لهذا الطابع الفلتان للرغبة، لهذا الحضور الأنثوي الذي يبدو كما لو أنه معنى خارج التاريخ الإنسي. مضيفا أنه ليس عبثا أن ملاحظة أن انكشاف الدال الأكثر خفاء، والذي هو دال الأسرار كان مقصورا على النساء.

فما يضفي بعدا أنطولوجيا على قصة الخلق تلك الطريقة الملتوية التي اكتشف بها آدم وجوده الثاني، والتي تبعث بالدهشة والتّعجب، مع وضع أكثر من علامة استفهام حيال الأمر. خاصة من حيث هو إدراك للموضوع – حوّاء- لم يمكن بالمستطاع التّعبير عنه بلغة مباشرة أو جعل فهمه خارج عن نطاق الخيال والرمز. لأنها تمظهرت في الأصل كرغبة صامتة غير منطوقة منفلتة حتى من أسر اللغة وسلطان الكلام *. إن المضي في مسارات هذه القراءة التفكيكية المنفلتة من أنساق الانطولوجيا، يبين بقلق وتعجب؟! كيف هي المرأة من طبيعة طيفية- حلمية، أي أنها وجدت في المتخّيل – نعني حلم آدم-  قبل أن تحضر في واقعه ككائن مجسم، أو بالأحرى قبل أن تصير من معدوم إلى موجود.