مجلة حكمة
حقوق النساء و الدين

الدين وحقوق النساء الإنسانية – مارثا نوسبوم / ترجمة: هالة الدوسري

مارثا نوسباوم عن حقوق النساء و الدين
د. مارثا نوسبوم، فيلسوفة أمريكية، ومحاضرة في جامعة شيكاغو، ونسوية مدافعة عن حقوق النساء

قال الملالي “رجال الدين”: “عندما تتوفى النساء فلن ندفنهن”. قال القرويون: “إنهن يتنقّلن كما يرغبن، ولا يغطين شعورهن، يتحدثت إلى الرجال، سيكنّ بالتالي مذنبات”. قلت أنا: “إن لم يرانا الله عندما نعيش جائعات فأن الله أذنب”.

زوجة من بنجلادش، مشاركة في برنامج لمحو الأمية و بناء المهارات برعاية لجنة التنمية القروية البنجلاديشية (مأخوذة من م. أ. تشن، “ثورة صامتة”)

المعضلة الليبرالية

يدافع الليبراليون السياسيون عن حجتين يبدو ظاهريا أنهما مرتبطتان بشدة. أولا، يؤمن الليبراليون أن الحرية الدينية أو بشكل عام حرية الاعتقاد، هي إحدى أهم حريات الإنسان، و بالتالي يجب أن تمنح أولوية بارزة في التركيب الأساسي لنظام الحكم الليبرالي. وهذا يفهم غالبا على أنه يتطلب أن حرية ممارسات المعتقد يمكن التطاول عليها فقط في حين وجود خطر وشيك على النظام العام.1 ثانيا، يؤمن الليبراليون أن للناس حقوق متعددة أخرى، بما فيها حق التنقل و حق التجمع و المساواة في المشاركة السياسية و المساواة أمام القوانين، الجنائية و المدنية منها، و أخيرا حقوق متعددة تخص سلامة و عدم انتهاك الشخص.

بشكل ما، يبدو أن الحجتين الليبراليتين الأولى و الثانية تتكاملان بقوة. لأننا نعلم جيدا أن الحقوق المطروحة في قائمة الحجة الثانية قد تم حجبها غالبا من أفراد بسبب تعارضها مع الانتماء الديني؛ إحدى العلامات الواضحة على فشل النظام السياسي في احترام المبدأ خلف الحجة الأولى هو تمييز النظام ضد الجماعات الدينية المختلفة في مجموعة واسعة من الحقوق الإنسانية. و لذلك فأن النظام الألماني النازي، على العكس من أسبانيا في العصور الوسطى، لم ينشغل كثيرا بمهمة تعويق ممارسات اليهود لديانتهم بشكل خاص. و لكن النظام النازي شنّ حملته على على اليهود عبر إنكار مجموعة أخرى من الحقوق، مثل الحق المتساوي في إمضاء عقد الزواج، حق التنقل، التجمع، اختيار المهنة، و بالطبع الحق في الحياة. إن حرية الاعتقاد الحقيقية تتطلب أن لا تكون تلك الحقوق الأخرى متعثرة بناء على أساس تمييزي.

IMG_5557 حقوق النساء و الدين
غلاف الكتاب

من ناحية أخرى، فإن الحجتين من الممكن أن ينتج عنهما قلق، يمكن أن يثير أسئلة صعبة في القانون المعاصر و التفكير السياسي. حيث أن الأديان الكبرى في العالم، في صورتها الإنسانية الحقيقية، لم تكن دوما شديدة الاحترام لحقوق الإنسان الأساسية أو للكرامة المتساوية و عدم انتهاك الناس. وبالتأكيد فإن بعض الأديان قد ذهبت إلى إنشاء منظومة من القوانين لإنكار الحقوق المتساوية بين الأفراد و تبرير انتهاك كرامتهم و إنسانيتهم. و بعيدا عن القانون، فإن الخطاب الديني النافذ في أنحاء كثيرة بالعالم يهدّد السلامة الشخصية و الكرامة المتساوية للأشخاص- و في بعض الأحيان، يهدد حتى حرياتهم المتساوية في التعبّد. فلنأخذ الأمثلة الستّة التالية:

(1) في قرية بنجلاديشية في بواكير عقد الثمانينات الميلادية، غادرت مجموعة من النساء الفقيرات بيوتهن ليتجمعن في مجموعة نظّمتها لجنة التنمية القروية في بنجلاديش. في هذه المجموعة، تتعلم الفقيرات القراءة، و المحاسبة، و التدرب على مجموعة من الأعمال خارج المنزل- و كلها عناصر هامّة لتحسين التغذية و الصحة للنساء و لأطفالهن. قام الملالي من الأئمة في تلك المنطقة (وهم القادة المحليون الإسلاميون) بإلقاء خطب توضّح أن النساء اللاتي يعملن خارج منازلهن و يتحدثن مع الرجال من غير أزواجهن هن عاهرات. و قام الأئمة بتهديد النساء باستخدام التخويف الديني و التهديد بعزل النساء عن بقية المجتمع ( حيث رفض الأئمة العمل في أي نشاط اجتماعي أو رسمي يخص النساء) و وصل التهديد إلى العنف الجسدي. (“إن خرجتن إلى الحقول فإن أرجلكن ستكسر”). وعلى الرغم من أن معظم النساء استمرين في تلقي التدريب على القراءة و العمل في مجموعتهن، فإنهن كن خائفات من فقدان مكانتهن في مجتمعهن، و على أمنهن (والذي يعتمد حتى تلك اللحظة على علاقتهن بالرجال)،  و على سلامتهن الجسدية.

(2) في باكستان، و أيضا في بدايات الثمانينات الميلادية، اشتكت فتاة شابة عمياء تدعى بيبي من تعرضها للاغتصاب. و لأنها كانت قاصرا و لم تبلغ السن القانونية فقد قدّم والدها الشكوى للسلطات نيابة عنها. و بموجب المرسوم المستحدث مؤخرا للحدود، فإن إيقاع عقوبة على جريمة الاغتصاب تتطلب شهادة من أربعة رجال على حدوثه، و الشكاوي التي يعجز فيها الضحايا عن إحضار الشهادات الضرورية يتم معالجتها قضائيا على أنها قضية زنا.  وجدت المحكمة المنعقدة بيبي متهمة بالزنا، و حكمت عليها بالسجن ثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة بالرغم من إصابتها بالعمى. و بعد مواجهة عواصف من المظاهرات الدولية و المحلية، صرفت المحكمة الدينية الفدرالية النظر عن القضية بناء على أساس فني و لم تقبل بمقاضاة المغتصب.

(3) في ماديا برادش في الهند في العام 1975، طردت امرأة مسلمة تدعى شاه بانو من منزلها بواسطة زوجها المحامي المتمكن بعد زواج استمر 43 عاما و بعد خمسة أطفال. و بموجب قانون الأحوال الشخصية الإسلامي، أعاد الزوج لها 3000 روبية  (ما يعادل 300 دولار) وهي قيمة ما تسلّمه من عائلة زوجته قبل الزواج في عام 1932. و بدلا من القبول بهذه التسوية التي لا تفي بالمعيشة، قامت بمقاضاة زوجها طلبا للنفقة بموجب الفقرة 125 من قانون العقوبات، و الذي يتطلب من كل شخص يملك كفايته من الأموال أن يحمي أقاربه من الفقر المدقع و التشرّد. (تعمّم الهند على كل مواطنيها قانون العقوبات ولا تضع قانونا موحّدا للأحوال المدنية، حيث يتم البتّ في الأحوال المدنية عبر عدة منظومات دينية قانونية). و بالتالي تم منحها 180 روبية أو ما يعادل 18 دولارا في الشهر، و هو مبلغ بعيد عن الرفاهية، و لكنه أفضل مما حصلت عليه مقطوعا من قبل. و لكن زوجها في المقابل قام باستئناف الحكم في المحكمة الهندية العليا، على أساس أنه كمسلم لا يمكن أن يخضع إلا للقانون الإسلامي. وفي العام 1985، حكمت المحكمة العليا أن فقرات قانون العقوبات فيما يخص النفقة على الأقارب لحمايتهم من الفقر المدقع و التشرد تنطبق على كل أتباع الديانات و أنه لا يمكن أن يخسر شخص هذا الحق في النفقة فقط لكونه مسلما. و في توضيح رأيه، ألمح القاضي الرئيسي تشاندراتشد إلى فقرة في دستور الهند ألزمت السلطات بالسعي إلى تطبيق قانون مدني موحّد على جميع المواطنين؛ واستنكر فشل السلطات في تحقيق ذلك. انتقد مجلس قانون الأحوال الشخصية الهندي و قيادات إسلامية أخرى بشدة هذا الحكم، مستخدمين خطابات شعبية لإقناع أتباعهم أن دينهم في خطر عظيم إن لم تتدخل الحكومة لاستثناء النساء المسلمات من بقية النساء الهنديات في تطبيق الفقرة 125 من قانون العقوبات الهندي. و في استجابة لهذه الحملة، قامت حكومة الرئيس الهندي راجيف غاندي بتمرير مشروع قانون النساء المسلمات (حماية الحقوق عند الطلاق) في العام 1986، و التي حرمت المسلمات من حقوقهن في النفقة في حال الطلاق بموجب قانون العقوبات –و مطالبا في الوقت نفسه الشعب بأن يتبنى قانونا موحدا للأحوال المدنية بحلول العام 2000. و قد اعترض النشطاء الهندوس السياسيون بعد ذلك لأن القانون الجديد يميّز ضد الهندوس بإعطاء المسلمين “مزايا خاصة”.

(4) في العام 1955، مرّر البرلمان الهندي تشريع قانون الزواج الهندوسي، و الذي أعطى الهندوسيات للمرة الأولى الحق في الطلاق و الزواج من جديد، و هو الحق الذي تمتع به الرجال الهندوس على الدوام. (بالتأكيد، في السابق كان باستطاعة الرجال الزواج بلا تحديد لأي عدد  و بلا تطليق أي زوجة، على أن الإصلاح الذي حدث في عام 1955 و 1956 منع تعدد الزوجات للرجال الهندوس). و زعم أعضاء البرلمان الهندي من الهندوس المحافظين أن تمرير هذا التشريع إنما كان يهدف إلى “جرح مشاعر الهندوس الدينية” و أنه كان ضد المباديء الأساسية للديانة الهندوسية.”

(5) في إيران المعاصرة، تفرض عقوبة للمرأة التي لا تلزم بالزي المفروض ما بين 34-74 جلدة بواسطة السوط. أما العقوبات الحقيقية فهي أكثر اختلافا. بعض النساء يستطعن الإفلات من العقوبة بدفع غرامة مالية. “ولكن، يشيع أيضا، أن تعاقب النساء اللاتي لا يلتزمن بالزي الرسمي بعقوبات تتّسم بالقسوة الشديدة: ربما توضع أقدامهن في كيس من الخيش ممتليء بالفئران و الصراصير، ربما يلقى على وجوههن الأسيد الحارق أو تقطع وجوهن بآلات حادّة.” أما العقوبات التي نالت فتاة في العام 1991 فقد كانت مرعبة بشدة، حيث وجدت فتاة في الثالثة عشرة منتحرة بعد أن ألقت بنفسها من نافذة الدور الخامس بعد أن خالفت الزي الرسمي. في 15 أغسطس من العام 1991، أبولفزل موسوي، وهو المدّع العام، تحدّث عن المفارقات في قضية وفاة الفتاة و أعلن أن “أي شخص يرفض مبدأ الحجاب (الزي الرسمي) هو كافر و أن عقوبة الكفر في الإسلام هي القتل”.

(6) في 1993, حاولت مجموعتان من النساء أن تنظمن صلاة عند الحائط الغربي (حائط المبكى) في القدس. و رغم أنهن لم يعارضن التقليد المتّبع في فصل أماكن الصلاة الخاصة بالنساء عن تلك الخاصة بالرجال – و بالتالي لم يخالفن أي تقنين صريح في الدين- إلا أنهن ارتدين أوشحة الصلاة و قمن بالتلاوة من مخطوطة التوراة، وهو غير مقبول في التقاليد اليهودية المعتادة. منعهم المسؤول الديني الممثّل لوزارة الشؤون الدينية من الاستمرار في صلواتهن، على اساس أن فعلهن سيؤثر سلبا على العرف و ينتهك المشاعر الدينية للمتعبّدين من اليهود التقليديين. كما تمّ وصم النساء بأنهن “مثيرات للشغب” بسبب تلاوتهن و إنشادهن الجماعي. و رفضت المحكمة الإسرائيلية العليا تظلما رفعته النساء لضمان حريتهن الدينية، و أوصت بأن تقوم الحكمة بتشكيل لجنة للنظر في هذا الموضوع.

في كل هذه الحالات نرى معضلة واضحة للنظام الليبرالي الحديث في الحكم. لأنه إن كان الأشخاص الذين يتحدثون باسم التقاليد الدينية يمكن اعتبارهم ممثلين عن الناس و يمكن قبول حججهم عن الحريات الدينية (و سوف نرى كيف أن هذا ليس أمرا بسيطا) فإن هناك بالفعل قلق فيما بين احترام الحرية الدينية و احترام حقوق الإنسان الأساسية للعديد من المواطنين. يجد هذا القلق واحدة من أوضح أشكاله أينما انحازت التقاليد الدينية لنفسها و سمح لها بأن تصنع القوانين، و لكنه ينشأ أيضا بوسائل غير رسمية، عندما يشكّل الخطاب المؤثر بشدة للقادة الدينيين مشكلات حول القيمة المتساوية للحريات الأساسية – في العادة تكون هذه الحريات مضمونة في الدساتير (او التقاليد القانونية) لأي شعب، و كذلك التزامهم بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، و في معظم الأحيان باتفاقية إلغاء كافة أشكال التمييز ضد النساء (سيداو)، و هي اتفاقية بين مجموعة أطراف مررتها 131 دولة. إن انحازت الحكومة إلى رغبات مجموعة دينية، فإن مجموعة ما ستصبح عرضة للتهميش و ستفقد حرياتها الأساسية؛ إن ألزمت الحكومة نفسها باحترام حقوق متساوية لكل الأفراد، سوف تقف متهمة بعدم الاهتمام لحرية الاعتقاد. و في الغالب يقوم ممثلين للحكومة، مثل راجيف غاندي، بمجرد الادعاء بالتعامل الجدي مع المشكلة- ليرضوا الجماعات الدينية، و يرون أن ذلك أقوى سياسيا من الانحياز النساء، و لكنهم يقولون في الوقت نفسه، أن شيئا ما ينبغي أن يتم حول ذلك بواسطة شخص ما في المستقبل.

و هذه المعضلة لا تثير القلق فقط للدولة الليبرالية: لكنها مزعجة أيضا للأديان نفسها. و يمكن إيجاد عبارة لاذعة بشكل خاص في خطاب البابا لتجمّع الأمم المتحدة العامّ في أكتوبر 1995. فمن ناحية، احتوى هذا الخطاب على توصية قوية لاحترام أديان العالم الكبرى و دفاع رنّان عن “محورية الحق في حرية الدين و الاعتقاد، كلبنات أساسية من تركيب حقوق الإنسان و كأساس لكل مجتمع حر بحقّ”. و هذه المشاعر هي ما حملها جون راولز تماما، و الذي كتب “إن سؤال الحرية المتساوية قد تمّ حسمه. إنه أحد النقاط الثابتة في اعتبارنا لما يمثل العدالة.” و في الوقت نفسه، على أي حال، فإن البابا يروّج للإعلان العالمي لحقوق الإنسان بقوّة على “إنه أحد أعلى أدوات التعبير عن ضمير الإنسان في زماننا”، و قد تحدّث عن الحراك العالمي باتجاه إيجاد احترام عالمي لكرامة الإنسان و عدم انتهاكه، و صدر عنه مؤخرا “خطاب إلى النساء” مباشرة قبل مؤتمر بكين للنساء، مما يوحي بوضوح أنه يعتبر أن الكثير من الحقوق محل الأمثلة التي أوردتها هي حقوق إنسانية محورية: يذكر الحرية من العنف الجنسي (بما فيها الاغتصاب الزوجي، كما يبدو)، و المساواة في الحقوق الأسرية، و المساواة في الواجبات السياسية و المسؤوليات، و المساواة أمام القانون، و المساواة في أماكن العمل. و على الرغم من أن قائمة الحقوق التي أوردها البابا لا تحتوي كل الحقوق التي يروّجها و يسعى لها كل المدافعين عن حقوق النساء ، إلا أنها تحتوي ما يكفي من الحقوق لإنتاج المعضلة، فقط بمجرد مجاورة القائمة مع التوصية الضرورية باحترام الأجوبة التي يقدّمها كل تقليد ديني.

المعضلة المدروسة هنا نشأت أيضا في الولايات المتحدة الأمريكية؛ و أثناء متابعتي للأمور الدولية فسوف أشير إلى هذه النقاشات. و لكن مع الأخذ في الاعتبار بأن الولايات المتحدة تملك قائمة مفعّلة من الحقوق، و ليس فقط طامحة لها (كما هو وضع العديد من البنود المعنية بالحقوق في دساتير شعوب أخرى)، و باعتبار أن معظم الأديان الرئيسية في الولايات المتحدة قد قبلت الآن بعض المشتركات الأساسية الفكرية حول الكرامة المتساوية للأفراد و حرية الفرد، فإن هذا التركيز لا يمكن له أن يعالج النواحي الأكثر تأزما في العلاقة بين الليبرالية السياسية و الدين. فنحن ببساطة لا نستمع إلى أي صوت ديني مؤثر في الولايات المتحدة مقترحا، في هذا الوقت، أن شهادات النساء القانونية يجب أن تحاكم بشكل غير مساوي لشهادات الرجال، أو أن النساء يجب معاقبتهن بشدة لو ارتدين ملابسهن بشكل معين، أو أن يتم تكسير أرجلهن لو عملن خارج المنزل، أو أن يحرمن من الحق في الطلاق المساوي لحق التطليق الممنوح للرجل. ليست أي من هذه الحالات منقطعة تماما عن ماضينا و حتى عن حاضرنا؛ الصعوبات العملية لعمل شكوى ضد الاغتصاب، على سبيل المثال، و العقوبة التي تتحملها النساء اللاتي يقمن بالتبليغ بالفعل، هي حقيقية و حديثة (انظر للفصل الخامس).  و بالنظر لتاريخنا السابق يمكن الاستشهاد بكل أشكال عدم المساواة في قانون الأسرة و غالبا ما يتم الالتفاف حولها بالاستناد إلى الدين. و بالتأكيد فلا يمكن الابتعاد عن لوم كل من اليهودية و المسيحية بالنظر إلى التاريخ العالمي لعدم مساواة النساء، و كما تشهد الحالة الإسرائيلية التي ذكرتها،  على الرغم من أنهم قد تبنّوا في أوروبا و أمريكا الشمالية صيغة أكثر ليبرالية مؤخرا، كنتيجة لكل من النقد الداخلي و القيود القانونية. و كما أعتقد فإن المثال الدولي الذي قدمته يظهر ماذا ستحاول بعض التقاليد الدينية الأكثر شيوعا (و كذلك العديد من التقاليد الغير دينية) أن تفعل عندما لا تكون مشكّلة بالتقاليد الليبرالية. و لذلك أؤمن أن تركيزا ما على الشؤون الدولية الحالية هو امر قيّم ليمنحنا شعورا أوضح عن حقيقة موضوعنا. و لربما نفشل بدون هذا التركيز في الاعتراف بأن الأديان (كالعديد من اللاعبين السياسيين اللا دينيين) بإمكانها أن تقدّم أمورا وحشية؛ و ربما نفشل لذلك في أن نسأل عن ماذا ينبغي على الليبراليين المهتمين بالأديان فعله؟.

و من المفيد أن نركّز على هذا الموضوع لسبب آخر أيضا: لأن هذه الانتهاكات لا تستقبل نفس الاهتمام الشعبي المركّز و لا الشجب الذي تستقبله الأعمال الوحشية الممنهجة ضد جماعات ما- و هنا سبب للاعتقاد بأن الاحترام الليبرالي للاختلاف الديني متورط في هذا الإهمال. الحراك العالمي ضد نظام الفصل العنصري الممارس سابقا في جنوب أفريقيا لم يصاحبه أي حراك مماثل لسحب الاستثمارات المادية من الشعوب التي تعامل النساء بلا مساواة أمام القانون. و بالتأكيد، فإن هذه اللامساواة غالبا ما يتم التعايش معها بنشوة كجزء من الاختلافات المشروعة –كما حدث عندما تم الطلب لقواتنا العسكرية بمراعاة الأعراف السعودية الخاصة بملابس النساء أثناء خدمتهم في الخليج. و أحد أسباب تردّد الليبراليين الغربيين في مواجهة هذه الإساءات و اتّخاذ مواقف سياسية مناسبة هو بالتأكيد التأمّل السياسي في كل هذا- إذ كيف يمكن لنا أن نأمل في أن نقنع شعبنا باتّخاذ إجراءات اقتصادية ضد عد كبير من الشعوب الثرية بالنفط؟ و ربما يكون هناك أيضا عدد من الأسباب الأخرى. و من بينها، على أي حال، دور الدين المؤكد في هذا النقاش: الليبراليون الذين لا يترددون في انتقاد حكومة علمانية تروّج للأعمال الوحشية هم في المقابل قلقون و صامتون عندما يتعلق الأمر بتبرئة مزاعم العدالة ضد الزعماء و الجماعات الدينية الرئيسية. وهم مترددون، بزعمي، لأنهم يؤمنون بأن حرية المعتقد هي ضمن النقاط الثابتة في حكمنا المعتبر على العدالة، ويقعون في الحيرة عندما يطلبون بحسن نية من الأشخاص المتدينين الموافقة على حكم ما حول المساواة بين الجنسين في الوقت الذي يعتبر هذا الحكم فيه غريبا على التقاليد الدينية. و يشير هذا إلى أن حلّ المعضلة الليبرالية ربما يسهم في زيادة الوضوح السياسي في موضع نحتاج إليه فيه بشدة.

سوف أقوم بالتركيز على حالات يهدّد فيها الدين الحقوق الإنسانية الأساسية. وهذا لأن هذه الحالات هي التي تنتج المعضلة التي تشغلني، و ليس لأنني أؤمن أن هذه هي العلاقة الأهم التي يمثّلها الدين على حقوق الإنسان. فمن الواضح أن الخطاب الديني كان من بين أهم مصادر الدعم لحقوق الإنسان حول العالم، و قد ركّزت على تصريح البابا جزئيا للاحتفاظ بهذه المعلومة في عقولنا.

ينبغي علينا أيضا أن نذكر أنفسنا دوما بأن الثقافات معقّدة. و من الصعب بشكل عام تحديد إلى أي مدى يعكس الدين في أي شعب تأثيرات أخرى نابعة من الثقافة و كيف يؤثر الدين نفسه في الثقافة. في شعب مثل إيران، يمكننا مقارنة الوضع قبل سلطة الأصوليين المتدينين مع الوضع الحالي؛ مثل هذه التقييمات في العادة أكثر مراوغة و علينا أن نمارس الحذر في استخلاص النتائج. المشكلة مركّبة في الشعب الهندي بالنظر إلى الختلاف المناطقي الحادّ الذي يعكس عوامل ثقافية و سياسية مختلفة؛ الاختلافات بين الأديان أقلّ حدّة من هذه الاختلافات الإقليمية، على الرغم من أن الدين يبدو أنه يشكّل ثقلا مستقلا ما لتفسير هذه الفروق.

و تقييمنا أكثر تعقيدا نتيجة لحقيقة أنه عندما توظّف الأديان سياسيا فإن خطابها الديني يصبح متلوّنا بالمواضيع الأقوى سياسيا. و هكذا، فإن الديانة الهندوسية الممثّلة حاليا في الهند بحزب باراتيا جنتا (الحزب الهندي القومي القيادي) لا تشبه كثيرا الهندوسية الممارسة في تقاليدها القديمة بتعدديتها الروحانية واحتوائها للاختلاف و هويتها الفضفاضة؛ فمن المحتمل أن العوامل السياسية و الثقافية قد شكّلت اختيار حزب بارتيا جنتا للمباديء الدينية و أولوياتها. و قدّ شكّلت أهداف سياسية مختلفة للغاية توصيف المهاتما غاندي لجوهر الهندوسية عندما قال “لو سألني أحدهم عن تعريف الديانة الهندوسية، سأقول ببساطة: ابحث عن الحقيقة عبر وسائل غير عنيفة”. و فيما يتعلّق بالنساء, فالأمر نفسه كان حقيقيا عبر السنين. فالتقاليد الهندوسية عرضت لصور متعددة مختلفة و متناقضة لإرادة النساء الجنسية.  البحث في البيئة الثقافية من المحتمل هنا أيضا أن يكشف لنا تأثير السياسة في تشكيل و إعادة تشكيل التقاليد الدينية؛ و الأهم لأجل أهدافنا، الخيار المعاصر في التركيز على ناحية معينة من التعاليم الدينية عوضا عن غيرها يعبّر في ذاته عن أهداف سياسية.

و بشكل مشابه، فالهوية الأصولية الإسلامية للنظام الإيراني الحاكم لا تشبه كثيرا الإسلام بسماته التعددية و المتسامحة و التي ظهرت في كتابات الكاتب الإيراني البيروني، و الذي سافر بدوره إلى الهند في القرن الحادي عشر، فهل تمت صياغة الإسلام بهذا الشكل سياسيا بواسطة الإمبراطور المغولي المتسامح أكبر في القرن السادس عشر. يحتوي الإسلام على أصوليين لا يتسامحون مع الأديان الأخرى، و لكنه يحتوي أيضا على بعض التعبيرات الأكثر قدما في التسامح و تجاوز الحواجز الدينية- مثلا في شعر الشاعر القديم الديني كبير”كبير هو ابن الله و ابن رام: إنه معلمي الروحي، وهو معلمي الديني.” و في الهند اليوم، يوجد مسلمون ليبراليون و محافظون، نسويات و تقليديون. و بشكل مشابه، فإن النظام الإيراني المعاصر يفسّر الإسلام بوسائل لا تعكس شمولية هذا الدين، بما يخدم أهدافه السياسية. و الكثير من المسلمين الملتزمين اليوم يدعمون وجهات النظر و السياسات اللليبرالية. و في شعوب مثل أندونيسيا و تونس، أصبحت لليبرالية تأثيرات سياسية كبيرة. و معظمنا يعي بأن اليهودية و المسيحية يحملان مثل هذا التعقيد؛ ولا ينبغي أن نرفض هذا الاعتراف نفسه بأديان لا نعلمها بشكل جيد.

و هكذا فإن الانتقادات التي يمكننا توجيهها “للممارسات الدينية” و “الخطاب الديني” ستكون انتقادات للبشر، و المتطلعين غالبا للقوة السياسية؛ فهذه الانتقادات لا تحمل افتراضات مسبقة بأن الأديان تحمل جوهرا لا يمكن تعديله أو تغييره من كراهية النساء، أو حتى أن العناصر التي تتضمن كراهية للنساء في الأديان هي مركزية فيها أكثر منها سياسية في الأصل. و بغض النظر، و لأننا مهتمون بحقوق الأفراد، فعلينا أن نتعامل مع الأديان كلما هدّدت بذاتها أو عبر من يمثلها من الأفراد هذه الحقوق.

و فيما يلي، لن أتجاهل، على أني لن أتحدث مباشرة عنها، الصعوبات المشمولة في مفهوم “حق إنساني” أو أعرّف الظروف التي يصبح وفقها الإنسان جديرا بأي حق خاص في المعاملة. و بشكل أوضح، بما أني سأناشد تغيير القانون لتحقيق العدالة لـ حقوق النساء الإنسانية، فلا أقبل التحليل الوضعي “Positivist”، و الذي يعني أن المرأة لها الحق فقط في حالة أن القانون في بلدها اعترف لها بهذا الحق. و أتفهم أن الحق الإنساني هو مطلب مهم و قوي بشكل خاص، يمكن تبريره وفق حجة أخلاقية تتطلب توافق عابر للثقافات، و حجة لا تتوقف عن البروز أخلاقيا عندما تجعل الظروف الاعتراف بها غير فعّال. الحق الإنساني، على عكس حقوق أخرى ربما يملكها الناس، لا يشتق من ظرف معين لقوة أو ميزة يملكها الإنسان و لكن لكونه إنسانا. و في فهمي الذي قمت بصياغته في الفصل الأول، هناك علاقة وثيقة للغاية بين قائمة الحقوق الإنسانية الأساسية و قائمة القدرات الإنسانية المطلوبة لمختلف الأنشطة و أيضا لقائمة راولز “للحاجيات الأساسية”، وهي الأشياء التي يفترض أن يحتاجها كل الأشخاص ليستطيعوا أن يعيشوا حياتهم وفق ما يريدون، بغض النظر عن طبيعة الحياة التي يختارونها. فالحقوق الإنسانية هي بالتالي مطالب مبرّرة للحصول على هذه القدرات و الفرص الأساسية.

حقوق النساء الإنسانية: مواضع المشكلات      

تعرّف اتفاقية إلغاء كافة أشكال التمييز ضد النساء “سيداو” التمييز ضد النساء كما يلي:

أي تمييز أو إقصاء أو تحديد مبني على أساس الجنس، و الذي يهدف أو ينتج عنه تعطيل أو إلغاء الاعتراف أو تمتع أو ممارسة النساء، بغض النظر عن حالتهن الزوجية، و بناء على المساواة بين النساء و الرجال، بحقوقهن الإنسانية و حرياتهن الأساسية في المجالات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، المدنية أو أي مجال آخر.”

بالمصادقة على سيداو- كما قامت بذلك معظم الشعوب التي ناقشناها- فإن الدول تتعهد (1) بأن تجسّد مباديء المساواة بين الرجال و النساء” في الدساتير أو التشريعات الملائمة الأخرى، (2) بأن تشرّع عقوبات ملائمة لممارسات التمييز ضد النساء، (3) بأن تضع حماية قانونية لـ حقوق النساء وفق أساس المساواة مع حقوق الرجال” و أن تضمن هذه الحماية من خلال محاكمات وطنية متمكّنة و غيرها من المؤسسات العامة، (4) أن تضمن عدم تمييز السلطات العامة ضد النساء، (5) و أن تتخذ كافة الإجراءات الملائمة لإلغاء أي تمييز موجود بواسطة أي شخص، مؤسسة أو جهة ما، (6) أن تقوم بإلغاء أو تغيير أي قوانين أو تشريعات أو أعراف أو ممارسات تمييزية، (7) أن تنقض أي نصوص تمييزية في قوانين العقوبات. و تفسّر الفقرة الخامسة في وثيقة سيداو هذه الواجبات بتوضيح أنه على الجهات في الدولة الاتفاق لمواجهة و تعديل كل “الممارسات المتعارف عليها” المبنية على فكرة تدني أو تفوق أحد الجنسين على الآخر، أو فكرة نمطية أدوار الرجال أو النساء. دعونا نضع هذه المعايير في اعتبارنا بينما نفحص باختصار إحدى عشر منطقة مسببة للمشكلات في حقوق النساء الإنسانية (وهو مرتبط بشكل وثيق بما ناقشناه في الفصل الأول عن القدرات الأساسية) و التي أثّر فيها الخطاب الديني، و ممارساته في الغالب، تأثيرا كبيرا.

  1. الحياة و الصحة

إن حياة النساء اليوم في خطر غير متكافيء في أماكن متعددة من العالم. تظهر لنا الإحصائيات باستمرار أن النساء يعانين بشكل غير متساو من الجوع و سوء التغذية و من عدم الوصول بمساواة إلى الرعاية الصحية الأساسية. و على أنه من الصعب تحديد الأصل في ممارسات التغذية و الرعاية الغير متكافئة بدقة، فإن الأنظمة الثقافية التي تظهر حياة النساء و كأنها لا تساوي حياة الرجال لابد أن تتحمل بعض اللوم في هذا الموقف الفاضح. لعب الخطاب الديني دورا هاما هنا: و على أنه من الصعب التفريق بين الدين و التقاليد الثقافية المحيطة به، فإن الديانات الهندوسية، الإسلامية، و الكونفوشيوسية متهمة جميعها -مع الأخذ في الاعتبار ارتباطها بالظروف التي نشأت فيها- بالإساءة إلى حياة الأنثى بوسائل قللت من مطالبات النساء بالأمور الأساسية اللازمة للبقاء.

و بمقدار متساو أو أعلى قدرا في الأهمية، فإن الخطاب الديني لعب دورا رئيسيا و غير خفي في حصر النساء بالمنزل في أنحاء كثيرة بالعالم، و في استنكار فرصهن في الكسب المادي خارج المنزل. أعادت الأفكار الإسلامية عن الأدوار اللائقة بالنساء آلاف النساء إلى المنازل في إيران و مؤخرا في أفغانستان؛ و هي تحصر النساء في المنازل في بنجلادش و الهند و في بلدان أخرى عديدة. التقاليد الطبقية الهندية، و بشكل مشابه، غالبا ما يتم استحضارها لمقاومة محاولات النساء للبحث عن أعمال خارج المنازل. و من الشائع خاصة أن الطبقات الوسطى المتحركة للأعلى من العائلات ستستحضر تقاليد من التعاليم البراهيمينة عن أدوار النساء لمنع النساء من السعي للعمل، و بالتالي يمكن تمييز العائلة بأنها عائلة “براهمينة”. و كما رأينا في الفصل الأول فإن القيم الكونفوشيوسية، تستحضر أيضا بشكل علني لإعادة النساء للمنزل من الفضاء العام. و لكن حقيقة أن أجور العمل خارج المنزل مرتبطة بقوة بقدرة النساء على الحصول على الطعام و على الأساسيات الأخرى المرتبطة بالأجر. تبدو العلاقة مباشرة في بعض الأحيان: في راجشتان، ميثا بي، امرأة هندوسية أرملة، كانت تتضور جوعا لأن أقارب زوجها البراهمانيين رفضوا السماح لها بكسب المال لإطعام نفسها و أطفالها، و هددوا بضربها لو رفضت الانصياع لهم. و في أحيان أخرى العلاقة غير مباشرة، عبر إدراك أهمية المرأة لمستقبل العائلة. لأن العمل في المنزل في العادة لا يتم اعتباره إسهاما هاما لسلامة الأسرة، بينما المعاشات المادية يتم اعتبارها كذلك، فالنساء العاملات خارج المنزل يستطعن تأمين الطعام في أوقات الحاجة و بالتالي تصبح قيمة الفتيات مرتبطة بشكل مشابه بفرص عملها و كسبها مستقبلا. و بالتالي فإن الخطاب الديني متورط بعمق في وفيات العديد من النساء.

و في بعض الأوقات يتسبب الدين مباشرة في وفاة النساء.  كما في الممارسة الهندية الدينية “ساتي”، أو تقديم انساء كقرابين بعد وفاة أزواجهن، المبنية بالتأكيد على تعاليم دينية. وقد خفتت هذه الممارسة و لم تختفي تماما. و في الرابع من سبتمبر في العام 1987، في ديرالا، راجشتان، أحرقت طالبة جامعية في الثامنة عشرة من عمرها تدعى روب كانوار وهي حية في أثناء جنازة زوجها و حرقه. (و كان زوجها عند وفاته طالبا جامعيا أيضا لا يعمل). البعض يقول أنها ماتت برضاها، و البعض يزعم أنها أحرقت بعد ضغط من أهلها. 38 توافد الحجاج إلى ديرالا مقدسين روب كإلهة و مؤمنين بأن تقديم الهدايا على معبدها يمكن أن تشفي السرطان. انطلق جدل عام عظيم كنتيجة للحادثة. و بعد ثلاثة شهور، أطلق البرلمان الهندي قانونا جديدا لإشمال ممارسة الساتي في المسؤولية الجنائية، على الرغم من أن قانونا سابقا قد منع تلك الممارسة. يمنع القانون الجديد تمجيد ممارسة “الساتي”، معرّفا التمجيد بأنه يشمل التبرير أو دعم الممارسة، و بذل المديح للنساء الضحايا، و إقامة أي احتفالات أو اجتماعات مرتبطة بهذه الممارسة، أو جمع الأموال لإقامة معبد أو مكان للعبادة مرتبط بها. و أعلن راجيف غاندي وبتصميم بعد الحادثة، أن الممارسة “عدائية و وحشية”. و هاجم الهندوس التقليديون الحكومة على أي حال. وجهت صحيفة هنوسية رائجة إصبع الاتهام إلى المثقفين العلمانيين المتعلمين بالغرب، محتجة بأنه فقط الأشخاص الملحدون الغير مؤمنون باستنساخ الأرواح سيقومون بالإساءة و الانتقاص مما قامت به روب”.

ومن الاستهانة القول بأن معظم النساء الهنديات الأرامل لا يمارسن الساتي. و الأكثر شيوعا هي الجرائم المرتبطة بالمهور: قتل النساء للحصول على مهورهن أو ضربهن و تهديدهن بالقتل للحصول على دفعات أكبر من عائلات النساء. و القوانين الموجّهة خصيصا لمثل هذه الممارسات العنيفة، في الهند و بنجلادش شاهدة على حجم هذه المشكلات. و بالفعل فقد حرمت الهند كل ممارسات المهور منذ العام 1961 لمعالجة هذه الإساءات، و التي بالرغم من ذلك استمرت في الحدوث. أوضحت حادثة في بنجلادش في العام 1986 الطبيعة القذرة الشائعة  لهذه الممارسات. قدّمت فردوسي بيجوم مهرا متواضعا عند زواجها من جهانجير علم تشمل تلفازا أبيض و أسود بحجم أربعة عشر بوصة، بعض المجوهرات الشخصية، ساعة يد، مروحة طاولة، طقم كنب، و عدد من المفروشات الخشبية. و علمت أسرة زوجها بأن والدها و إخوانها يملكون دخلا جيدا و بإمكانهم أن يدفعوا أكثر. و بدؤول لذلك في توجيه حملة من التخويف النفسي و المعنوي لزيادة المهر. و كما أوضح القاضي ” وجدنا المتهم، جهانجير علم، بعد الزواج شخصا قاسيا طماعا و عنيفا… كل المتهمين تعاونوا معا في تعذيب المشتكية فردوسي بيجوم عقليا و نفسيا مباشرة بعد الزواج للحصول على المزيد من الأموال (كمهر) من أولياء بيجوم” و في أحد صباحات العام 1985، سأل الزوج زوجته فردوسي بيجوم أن تحضر تلفازا ملونا بحجم 20 بوصة، راديو، ساعة يد، و مبلغا ماليا بقدر 25000 تكا من إخوانها كمهر للزواج، و عندما أخبرته أن إخوانها لا يمكنهم إعطاءه هذه الأمور، غضب و قامت كل عائلته معه بضربها بالعصيان و غيرها”. حاول بعدها زوجها أن يقتلها بخنقها و رفسها و إبقاءها على الأرض و سحبها خارج المنزل من شعرها. و في هذا الموقف سحب الأقارب المجوهرات من جسد فردوسي بيجوم و قاموا بضربها مجددا حتى فقدت وعيها. بعد نقلها لمنزل والدها، أوضح الفحص الطبي أنها أصيبت إصابات خطيرة في رجليها، “إصابة مؤدية لسقوط في العمود الفقري، وفقدان دائم لحاسة السمع في أحد الآذان. تمت محاكمة الزوج و أقرباءه بموجب قانون القسوة ضد النساء الصادر عام 1983، الذي يحرّم القتل، أو محاولة القتل أو الأذى الجسدي الشديد، المرتبط بممارسات المهور. صرف قاض محلي الشكوى على أساس أنها كيدية تهدف لإخفاء ذنب بيجوم، و لكن القاضي لم يذكر ماهو الذنب الذي كانت بيجوم تحاول إخفاءه. أعاد القاضي ف. ه. م. حبيب الرحمن من قضاء تشيتاجونج الشكوى للمحاكمة.

تظهر هذه القضية الحزينة كم هو صعب على النساء حماية أنفسهن من العنف، حتى مع وجود قوانين خاصة لمواجهة هذه الممارسات السيئة. لاحظ أن حياة النساء تعدّ أقل، في تفكير جهانجير علم و عائلته، من الفرق بين قيمة تلفاز أبيض و أسود من 14 بوصة و آخر ملون من 20 بوصة. قد لا يرتبط الدين مباشرة بمثل هذه الوفيات المتعلقة بالمهور، و لكنه مكوّن أساسي من نظام ثقافي يدعم تقاليد المهور، و يعرّض النساء لهذا الخطر.

و لكن حتى مثل هذه الجرائم المتعلقة بالمهور و المننتشرة بشكل عام قليلة العدد و موجودة بشكل أكثر في الطبقات الوسطى. القضايا الكبرى المتعلقة بنساء الطبقات العليا أو الوسطى تجذب تغطية إعلامية أكبر و احتجاجا شعبيا أكثر من القضايا المنتشرة بصمت في جماعات بعينها. وهناك تجد النسب الأكبر من الأرامل خصوصا في المناطق القروية. و النسبة الأكبر بلا أمن و لا يملكن سوى القليل من حقوق الملكية؛ لأنهن يبقين في مقار إقامة أزواجهن بعد رحيلهم، فلا يحصلن إلا على أقل دعم و رعاية من عائلاتهن الأصلية أو عائلات أزواجهن، كما يتعرضن للإساءة من عائلات أزواجهن غالبا، حتى لو أصبن بسوء التغذية أو تضورن جوعا. كما قالت ميثا بي لمارثا تشن “ربما أموت، لكن لا يمكنني الخروج بالرغم من ذلك. إن كان هناك شيء بالمنزل أكلنا، و إلا خلدنا إلى النوم”. و هناك عوامل متعددة متورطة في مثل هذا الموقف، بما في ذلك بما فيها الفصل التقليدي بين الجنسين في العمل و في عادات الإقامة مع العائلات من جهة الأب و الميراث المبني على النسب للآباء. الخطاب الديني المتعلق بالتّرمّل (الذي يفترض بموجبه انتهاء حياة الأرملة بمجرد وفاة الزوج) ليس هو إذن السبب الوحيد لكل هذه الأخطاء، و لكنه على أي حال أحد هذه الأسباب.

  1. الحق في سلامة الجسد

تعاني النساء الكثير من أشكال الإيذاء التي تنتهك سلامة أجسادهن. تشمل الاغتصاب، الاغتصاب الزوجي، أشكال الإيذاء الجنسي الأخرى، العنف المنزلي، و تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية.

الاغتصاب جريمة لا يتم التبليغ عنها ولا العقاب عليها قانونيا دائما في كل العالم؛ و من الأكثر احتمالا ألا يتم التبليغ عنها عندما يشكّل الدين النمط العام الذي يعتبر الاغتصاب علامة على عدم النّقاء. اغتصاب شخص غريب لامرأة يحمل أحيانا تبريرات دينية، كما في حالات الاغتصاب و الاختطاف الكثيرة التي صاحبت أعمال الشغب بين الهندوس و المسلمين في الهند/ الباكستان في العام 1947.  اعتبر الاغتصاب نوعا من التحويل القسري للديانة و تم استنكاره بهذا الشكل في النص الذي عبّر عن موقف اللجنة البرلمانية الممثلة لكل الهند التي اجتمعت لمناقشة المشكلة. كان عدد النساء اللواتي تم اغتصابهن من الجانبين الإسلامي و الهندوسي عاليا بما يصل إلى 100000. و بشكل أكثر شيوعا، يشرّع الدين، ولو أنه لا يشجّع مباشرة اغتصاب الغريب للمرأة، أنماطا من نقاء المرأة و خضوعها تستخدم لتبرير اغتصاب المرأة التي تتحدى هذه الأنماط. الخطاب الديني متورط بعمق في خلق صورة تضادية للنساء إما كنساء نقيات أو ساقطات مما يجعل التقاضي أمرا صعبا للغاية. يؤمن المدّع العام الإيراني أن أي امرأة تخالف الزي الرسمي تستحق الموت؛ و بالتالي فمن غير المحتمل بالنسبة له أن يوقف اغتصاب رجال الشرطة الشائع للنساء الموقوفات لمثل هذه المخالفات في الزي. وهناك دلائل منتشرة بشكل كبير لإساءة الشرطة للنساء في باكستان؛ تمّت إعادة كتابة قانون الاغتصاب في الهند للحالات التي تحدث أثناء توقيفها في مقار الشرطة، لإزاحة العبء في إثبات الدليل على المدّع (لمنع فحص النساء بلا وجود امرأة شاهدة)، و تم إنشاء محاكم خاصة بالنساء لسماع تهم الاغتصاب. و بشكل عام أكثر، فإن مستلزمات إثبات حالات الاغتصاب تحت القوانين الإسلامية التي تشيع في الكثير من الشعوب (تواجد أربعة شهداء رجال) يجعل من اتّهام امرأة لرجل باغتصابها أمر في غاية الصعوبة (كما تظهر قضية صفية بيبي) و خاضعة لنوايا أفراد أسرة الضحية الطيبة. في باكستان، و وفق قاعدة “الإمساك 22″، و التي يتم بموجبها اعتبار أي قضية اغتصاب تفشل المرأة في إثباتها إلى قضية اعتراف بالزنا، تتحول دعوى الاغتصاب إلى جريمة توجب الجلد، و القليل من الرجال سيرتدعون عن الاغتصاب بالنتيجة.

العنف المنزلي هي واحدة من أخطر المشكلات التي تواجهها النساء في العالم ككل. تدعو الأديان أحيانا بشكل مباشر للعقوبة الجسدية بحق الزوجة العاصية: يؤيد القانون الإسلامي بشكل واضح هذا الحل، و يسمح للزوجة بطلب الطلاق قضائيا فقط في حال استمرار أمد الضرب أو شدته. و حتى بشكل أكثر شيوعا، يشرّع الخطاب الديني أنماط السلطة الذكورية- و أيضا صورة المرأة الخليعة و المرأة الطفلة- التي تدعم هذه الممارسات التسلطية من الذكور بحق النساء. (وهذا صحيح بشكل مماثل في حالة الأديان الغربية و غير الغربية.) الشعوب التي تسمح للأديان بأن تتولّى صياغة قانون الأسرة تتحرّك غالبا بشكل بطيء للغاية لمواجهة هذه المشكلة. في الهند، سعت النساء مطوّلا إلى قانون مدني يجرّم العنف المنزلي؛ و كانت حقيقة غياب قانون مدني موحّد، أهم عائق لذلك حيث تصاغ القوانين بشكل منفصل وفق الديانات الهندوسية، الإسلامية و ديانة البارسيس الهندية. و في كلا من المجتمعات الإسلامية و الهندوسية، كانت صعوبة الحصول على الطلاق بشكل متساو بين الرجل و المرأة و وجود قانون “إعادة المرأة لمنزل الزوجية للقيام بالوجبات الزوجية” تحصر النساء غالبا في مشهد من العنف المنزلي و التطفل الجنسي.

     مفهوم الاغتصاب الزوجي ذاته غريبا في العديد من التقاليد الدينية، مما يمنح الزوج حقا جنسيا غير مشروط بالاتّصال مع زوجته. و المفهوم حديث نوعا ما في الثقافة الأوروبية و ثقافة شمال أمريكا و الدين و لا يتم الاعتراف به بعد في أنظمة قضائية متعددة (انظر الفصل الخامس). و بالتأكيد فإن مفهوم “إعادة الحقوق الزوجية: بيت الطاعة” الذي يتم استحضاره بشكل متكرر في المحاكم الهندية و البنجلاديشية له أصل بريطاني و تم الإبقاء عليه في قانون الزواج الهندوسي و قانون الزواج الخاص للعام 1954. و بغض النظر فإنه في هذه النقطة فإن القوانين و الخطابات الدينية، بما فيها الهندوسية و الإسلامية، متورطة بعمق في الإبقاء على الاغتصاب الزوجي كخيار متاح للرجال.

و قد كانت هناك معارضة. ناقشت مقدمة الكتاب قضية ت. سريثا ضد فينكاتا سوبايا (1983)، و التي اتّخذ فيها القاضي تشوداري من محكمة أندرا براديش العليا موقفا بليغا باعتبار “مطالبة الزوج لزوجته بالعودة لواجباتها الزوجية رغما عنها إجراء ينتهك الحق في الخصوصية و الكرامة الإنسانية المضمونة و المشمولة بموجب المادة 21 من الدستور الهندي”، و تنزع عن المرأة كلا من الحق في اختيار إقامة اتصال جنسي و التحكّم في وظائفها الإنجابية. و على الرغم من أن الأمور الدينية لم تكن متعلقة بشكل مباشر بحجّته الدستورية، و التي بنيت على أمور الحق في الخصوصية و الحماية المتساوية، إلا أن القاضي تشوداري لفت النظر إلى السؤال الديني، محتجا بأن “إعادة الزوجة لرباط الزوجية” كحل لم تكن ملزمة بموجب نظام الزواج الهندوسي القديم”. و بذلك التقليد، فإن على الزوجة واجب “الاستسلام لزوجها”، و لكنه “واجب غير مثالي و لا يمكن فرضه رغما عن إرادتها”. و قام بتتبّع هذا التقليد في معالجة نشوز الزوجة حتى قانون الكنيسة البريطاني في العصور الوسطى، منبّها أن البريطانيون أنهوا العمل به كقانون فقط في العام 1970.

و هكذا، فإن اتفقنا مع القاضي تشودراي، فليس هناك قانون ديني ملزم بشكل مطلق هنا، على الرغم من أن القانون يدعم الدين، و يلزم الناس بما يعتبره الدين واجبا. و لكن حقيقة وجود محاكم دينية منفصلة، و الأهمية التي يولونها لفرض هوية دينية، تقود إلى المطالبة بالإلزام، حتى رغما عن الحقوق التي يقرّها الدستور للمرأة. و ليس هناك شك بأن قيمة الحقوق الدستورية محط السؤال في قضية سريثا محدودة بشكل كبير نتيجة لإصرار المحاكم الدينية على إبقاء سلطة القضاء منفصلة عن الدستور. و بالتأكيد و بسبب هذه المطالب، فقد خسرت سريثا بالنهاية قضيتها: حيث عكست محكمة التمييز حكم القاضي تشودراي، و أثنت على حل إعادة الحقوق الزوجية باعتباره “يخدم هدفا اجتماعيا كوسيلة تساعد في منع تفكك و انتهاء مؤسسة الزواج”. و المحكمة (ربما متأثرة بقدرة سريثا الواضحة على التصرف بشكل مستقل) لم تأخذ في الاعتبار موقف المرأة المالي في مثل هذه الحالات، حيث تتم إعادة الكثيرات منهن إلى بيوت زوجية هربن منها، غالبا بسبب العنف؛ ولم تستجب محكمة التمييز بشكل فعال إلى أسئلة الدستور. و في قرارات أخرى مرتبطة بهذا القرار، ارتأت المحكمة أن واجب المرأة الهندوسية هو أن تعيش مع زوجها في منزل الزوجية.

   و يمكن العثور على قضايا مشابهة في الجانب الإسلامي. في بنجلادش، تركت امرأة عانت من العنف المنزلي بيت الزوجية و قدّمت طلبا للمحكمة للطلاق؛ و رفع زوجها قضية لإعادة حقه في عودتها لمنزل الزوجية. و ارتأت المحكمة الابتدائية أن المرأة “ليس لها حق في الطلاق بمقتضى إرادتها الحرة وبلا سبب مقنع”. و في هذه الحالة، على أي حال، قامت المحكمة العليا بتبرير حقوق المرأة في طلب الطلاق، معلّقة على التضارب بين إعادة المرأة لمنزل الزوجية و بين النصوص الملزمة بالمساواة في الدستور البنجلاديشي:

إن المفهوم الخاص بحق الزوج في فرض عودة الزوجة لمنزل الزوجية بالقوة بحد ذاته أصبح خارج العصر و … لا يتواءم مع مباديء الدولة و سياسات المساواة بين كل النساء و الرجال كمواطنين لهم حق متساو أمام القانون و يحق لكل منهم أن يتم التعامل معه فقط وفق القانون كما تضمنه الموادّ 27 و 31 من الدستور… مرجع إلى المادة 28 (2) من الدستور البنجلاديشي تضمن حقوق متساوية لكل من الرجال و النساء في كل مجالات الدولة و الحياة العامة يظهر بوضوح أن أي ترافع من طرف الزوج منفردا بإعادة الزوجة بالقوة لمنزل الزوجية ضد رغبة الزوجة في الحياة معه يمثل انتهاك لمباديء الدولة و سياستها العامة.

   في كل من القضيتين نرى معضلتنا الليبرالية. حيث سعت كلا من الهند و بنجلادش لجمع دستور علماني ليبرالي، بما في ذلك ضمانات المساواة بين الجنسين، مع المحاكم الدينية الخاصة بقانون الأسرة. يبقى غامضا في كل من القضيتين إلى أي مدى تنطبق نصوص الدستور الخاصة بالمساواة في مجال الأسرة المحمي. في مثل هذا الظرف، يتحتم أن تكون حقوق النساء الدستورية هشّة و مختلفا حولها، في بعض الأحيان تستقيم الأمور بشكل ما و في بعض الأحيان تسير الأمور في شكل مختلف.

يتم الدفاع عن تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية “الختان” غالبا بخطاب مستمد من الإسلام. و يبدو في الظاهر أن هذه الحجج المستمدة من الإسلام مغرضة، باعتبار أنه لا توجد حجة دينية حقيقية لدعم هذه الممارسة الإلزامية (راجع الفصل 4). و بالرغم من هذا، فإن هذا النوع من الخطاب الديني كان قويا بما يكفي لدعم هذه الممارسة و وصم محاولات مكافحتها بأنها تغريبية.

الحق في السلامة البدنية مهدّد أيضا عبر فرض العقوبات المهينة. و تتحدث مجموعة من آليات حقوق الإنسان العالمية حول الحق في السلامة من “المعاملة أو العقوبة القاسية، الغير إنسانية، أو المهينة”.و اعتبرت مجموعة من العقوبات المفروضة في القرآن و الشريعة إشكالية بموجب هذا الوصف، بما في ذلك فرض مائة جلدة كعقوبة على الزنا أو الممارسة الجنسية. وهذه العقوبات في جوهرها دينية، مبرّرة في أساسها بوجود نص ديني يبررها. وحتى المسلمون الذين يرون في هذه العقوبات قسوة أو لا إنسانية بشكل شخصي لا يستطيعون المخاطرة بعواقب نقد إرادة الله بشكل علني؛ و بالتأكيد فإن نقد السلطة الملزمة للقرآن يعرّض الشخص للموت كعقوبة على الكفر. و من ناحية أخرى، يتفق المفكرون الليبراليون المسلمون أن هناك الكثير مما يمكن عمله، حتى بداخل الأصولية الدينية، لتقييد تطبيق هذه العقوبات في الممارسات، بالتأكيد على العناصر الموجودة في النصوص التي تدعو إلى عدم تطبيق أي عقوبة في حالة وجود أي شك؛ حيث يمكن تطوير مفهوم شامل للشك بحيث يمنع التطبيق في العديد من الحالات.

لا يمكن أن يوجد شك أن التحكم في أجساد النساء مثّل انشغالا محوريا للعديد، إن لم يكن الغالبية، من الأديان في العالم.  و كانت أشكال التحكّم هذه متباينة و من وجهة نظر العدالة، تمييزية. و في القطاع الأكبر من الحالات انتهكت أشكال التحكم هذه الحقوق الأساسية الأهم للإنسان، و التي بدونها، كما قال القاضي تشودري، فإن حياة الإنسان الجسدية تنحطّ إلى مكانة لا تتعدّى الوجود الحيواني.

  1. حقوق التوظيف

ينبغي أن تستطيع النساء السعي للحصول على وظائف خارج منازلهن بلا تخويف ولا تمييز. تنصّ اتفاقية مكافحة التمييز ضد النساء “سيداو” أن الحق في السعي للعمل، و الحق في عدم التمييز في التوظيف، و الحق في الخيار الحرّ في اختيار المهنة، و في الأجر المتساوي لنفس العمل كلها حقوق أساسية تتمتع بها النساء بمساواة مع الرجال. و كما أشرت من قبل، فإن الخطاب الديني يستخدم بشكل رئيسي لمعارضة جهود النساء للسعي و البقاء في العمل خارج منازلهن. في راجشتان التي تعيش فيها ميثابي، في القرية البنجلاديشية التي وصفتها مارثا تشن، و في إيران الإسلامية، وفي مقارّ العمل في الصين المعاصرة- في كل تلك الأماكن، تعمل الأنماط الدينية حول الأماكن الملائمة للنساء لإنكار وصولهن للعمل. وفي وقت الثورة الإسلامية في إيران، فصل النظام الحاكم أكثر من أربعين ألف امرأة يعملن كمدرسات في المدارس الابتدائية و الثانوية، كما فصل غيرهن؛ و انخفضت معدلات توظيف النساء في خلال خمسة سنوات بمعدل 50% و وصلت إلى الحد المنخفض 6.2%. أعطى تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة 19% كمعدل النشاط الاقتصادي الخاص بالنساء، و لكن هذا المعدّل يشمل العمل غير المدفوع في الزراعة و الرعي و لذلك من الصعب مقارنته بالمعدلات السابقة. كتب آية الله متهاري، أحد مخططي السياسات الإسلامية، أن “مهمة النساء الخاصة في هذا المجتمع هي أن يتزوجن و أن ينجبن الأطفال. و لم يتم تشجيعهن على الاتخراط في المهن التشريعية و القضائية أو أي مهن تتطلب صناعة قرار، حيث تفتقد النساء إلى القدرات الفكرية و الحكم الصحيح اللازم لمثل هذه المهن.” و مؤخرا، منعت طالبان في أفغانستان النساء من العمل خارج منازلهن، مستثنين عددا صغيرا فقط من الطبيبات و الممرضات من هذا القرار.

هذه الآراء عن النساء شبيهة بما أيّدته الأعراف المسيحية في القضايا الأقدم في أمريكا- مثلا قضية برادويل الشهيرة في العام 1873، حيث منعت امرأة من الحق في ممارسة المحاماة، بموجب رأي أورد “الأمر الإلهي” كمصدر لوجهة النظر أن النساء غير ملاءمات من الناحية الفطرية لهذه المهن. حقوق العمل و التوظيف مصدر أساسي للمساواة الحقيقية للنساء في نظام حكم ليبرالي. وهي ضروية غالبا للسلامة و أيضا للبقاء.

  1. الحركة و الحق في التجمّع

من الواضح أن النساء المحصورات في البيوت و المهدّدات بالعار من زعماء الدين في حال خروجهن من منازلهن يتم حرمانهن من حق أساسي. و من الصعب استيعاب معنى و مدى هذا الحرمان. كورنيليا سورابجي، أول امرأة تحصل على شهادة في الحقوق من جامعة أكسفورد و أول سيدة تحصل على ترخيص المجلس القانوني في الهند، سخّرت حياتها العملية للدفاع عن النساء الغر مسموح لهن برؤية أي رجل غير أزواجهن. (كامرأة فارسية، كانت سواربجي في مكان ملائم للغاية حيث كانت الآراء الليبرالية أكثر شيوعا فيما يخص تنقل المرأة و حركتها في الدولة الفارسية في ذلك الوقت). ذكرت أنها حين أحضرت معها وردة إلى زوجة شابة و اخبرتها بأنها التقطتها من شجرة بالخارج، اندهشت الزوجة. كانت الزوجة تزوجت من عمر صغير و لم تقف وجها لوجه مع أي شيء ينمو من أي نوع؛ كانت تعتقد أن الورود موجودة على الأرض و يمكن التقاطها كالأحجار. و النساء البنجلاديشيات الذين ذكرتهم مارثا تشن لم يكن تماما في ذلك الموقف- أحد الأسباب أنهن كن فقيرات للغاية بحيث لم يمكن ألا يخرجن لسبب أو لآخر. لكن حياتهن كانت مقيّدة تماما بالتهديدات الدينية بالإقصاء و العنف الجسدي إن تجوّلن في الشوارع أو تحدثن للرجال. الزي المفترض في إيران للنساء و كذلك في الحالات الأكثر تطرفا في أفغانستان تحت حكم طالبان، يفرض قيودا على تحرّك النساء، كما تفرض القيود الأخرى تحت هذه الأنظمة، كما في فرض أن تجلس النساء في إيران في مؤخرة الباص و منع تنقل النساء على الدراجات الهوائية في طهران مؤخرا، إلا بداخل منطقة مسيّجة لركوب الدراجات. في العام 1990، برّرت الحكومة السعودية الحظر على منع قيادة النساء للسيارات بأنه ناشيء من المباديء و الأخلاق الإسلامية.

في كل البلاد التي تحكمها إما جزئيا أو بشكل تام القوانين الإسلامية، تصبح النساء تحت شكل من أشكال الوصاية الذكورية (نظام ولي الأمر)، و هذا بدوره يفرض قيودا متعددة على الحركة. النساء الراغبات في التنقل في رحلات متعددة، خصوصا رحلات إلى الخارج، عليهن الحصول على موافقة مكتوبة من رجل، في السعودية مثلا، لا يمكن للنساء مغادرة البلاد بلا موافقة من الأب أو الزوج – و النساء الزائرات للبلاد لا يسمح لهن بالدخول إلا بمرافقة رجل من أسرهن. ينصّ القانون الخاص بالمسلمين في السودان على الزوج أن يمنح موافقته المكتوبة “في الحدود المعقولة” لزوجته حتى تزور والديها و أقاربها لفترات قصيرة، لكن لا يمكن لها أن تسافر وحدها. إن كانت الزوجة أقل من خمسين عاما، فلابد أن يرافقها قريب رجل محرم (لا يمكن لها الزواج منه)؛ و إن كانت أكبر من خمسين عاما فشخص آخر جدير بالثقة يمكن أن يرافقها بموافقة ولي أمرها. و تأشيرات الخروج من البلاد تتطلب موافقة خطّية من ولي الأمر.

و فيما يخص حقوق التجمّع، فإنه بالطبع صحيحا أنه في الأنظمة الغير ليبرالية و غير ديمقراطية لا يحصل أي أحد على حقوق التجمع بشكل آمن، و خصوصا فيما يتعلق بالمظاهرات السياسية، و لكن حقوق التجمّع ممنوعة أيضا على النساء، بشكل أكثر تمييزا. عندما قامت السعوديات بالتظاهر ضد حظر القيادة، استجابت الحكومة بمنع كل أشكال التظاهر المستقبلية على النساء. في مصر، تمّ قمع تجمّع تضامن النساء العربيات البارز في العام 1992، بالاستناد إلى أعراف دينية: “هدّدت المنظمة السّلم و النظام السياسي الاجتماعي للبلد بنشر أفكار و اعتقادات مسيئة إلى حكم الشريعة الإسلامية و إلى الإسلام”.و خصّص الحكم انتقادات المجموعة للقوانين الحالية الخاصة بالزواج و الطلاق كأساس له. في الصين، من المستحيل و بشكل مماثل لأي منظمة مستقلّة للنساء أن تتواجد، و لكن ليس من الواضح لي إن كان الخطاب الديني مستخدم لتبرير هذا القمع هناك.

وحتى في الأنظمة الديمقراطية الدستورية، مثل هذا التمييز في حقوق التجمع معلوم جيدا. جلبت النساء اللاتي وصفتهن تشن معارضة الملالي لهن بشكل رئيسي على أساس أنهن كن سيجتمعن في مجموعة منظمة لحشد الحراك لأجل عمل مشترك. وحتى لو اشتكت النساء من انتهاك لحقوقهن التي نص عليها الدستور، فليس من المحتمل أن يكون اعتراضهن فعالا بالنظر إلى سيادة القوى الدينية على المشهد المحلي.

  1. الحقوق في المشاركة السياسية و التعبير

مرة أخرى، هذه الحقوق مقيّدة بشدة لكل المواطنين في عدد كبير من الشعوب التي ناقشناها. فهل هي مقيّدة بشكل غير معتاد للنساء بوسائل تظهر تأثير الأعراف الدينية؟ القضية المصرية أظهرت قمع حرية التعبير بالإضافة إلى حق التجمع. كل الدول التي تعيق خروج النساء خارج منازلهن تضع عراقيل في مشاركتهن و تعبيرهن السياسي، كما تلك الدول التي تخلق عوائق أمام تعليم النساء. الشعوب التي تعّزز بشكل فعّال الضمانات الدستورية لممارسة حق التعبير و الخطاب السياسي الحر، على سبيل المثال الهند، لا تقمع غالبا حق النساء في التعبير أو الخطاب عن الأمور الخاصة بالنساء بشكل تمييزي. و من الناحية الأخرى، الخوف من الإساءة إلى السلطات الدينية يمثّل في بعض الأوقات تهديدا حادا للتعبير – ضع في الاعتبار تقبّل عدد من الحكومات الديمقراطية لحجب كتاب “آيات شيطانية”، و الغياب النسبي لأي اعتراضات رسمية ضد الفتاوي الموجهة لكاتبه سلمان رشدي و تسليمة نسرين، وكلاهما ناقدان للتقاليد الإسلامية بخصوص النساء. و لكن العوائق الأكثر شيوعا لحرية النساء في التعبير في الشعوب الديمقراطية هي، على أي حال، العوائق الغير مباشرة و الغير مرئية التي يفرضها الفقر و سوء التغذية و تقييد التحرك خارج المنزل و الأمّية و سيل الواجبات المرهقة المفروضة على النساء. و في الشعوب الغير ديمقراطية، لا يصبح التعبير حقا للجميع، و لكنه غير حر بشكل خاص للنساء، و اللاتي ربما يملن لنقد وجهات النظر السائدة عن أدوار النساء- تذكر الحظر السعودي على تظاهر النساء.

و فيما يخص المشاركة السياسية: في إيران، كانت النساء ممنوعات بشكل مطلق من العمل في الحكومة و يتم ثنيهن بشكل عميق عن دخول السياسة. 3% فقط من مقاعد البرلمان تحتلها نساء (بالمقارنة مع 12% في جامايكا، 16% في نيكارجوا، 18% في ترينيداد و توباجو، 24% في جنوب أفريقيا، 20% في جويانا، 33% في الدنمارك، 39% في فنلندا و النرويج، 34% في السويد، 29% في هولندا، و 20% في ألمانيا) ، و ليس هناك أي وزيرات نساء. و على الرغم من أن النساء و بشكل عابث يلعبن دورا قيديا في حكومات الهند و باكستان و بنجلادش، إلا أن أوضاع النساء القيادية بعيدة للغاية عن تمثيل النساء العاديات في شعوبهن: في باكستان تحتل النساء 2% من مقاعد البرلمان، في الهند 7%، و في بنجلادش 10%. و من الصعب بشدة أن يتم تشجيع المشاركة الحقيقية في الانتخاب، لكن يمكننا استنتاج أن الفقر و الأمّية و انعدام القدرة على التنقل تمثّل عوائق مؤسفة لمشاركة النساء الحقيقية. تعمل التعاليم الدينية على زرع فكرة أن النساء غير ملائمات للنشاط السياسي في العديد من الشعوب و تلعب على الأقل دورا ما في خلق هذا التهميش السياسي.

  1. الحق في الممارسة الحرّة للدين

من جديد، لا يوجد اعتراف بهذا الحق في العديد من الشعوب التي ناقشناها، و من باب أولى غير موجود للنساء. و في الهند على أي حال، فإن هذا الحق تم الاعتراف به بشكل بارز في الدستور، مما أظهر العديد من المعضلات، كما ذكرنا. فيمكن اعتبار نظام القانون المدني الهندي كله كقانون ينتهك الحق في حرية ممارسة الدين. يجب على الأشخاص أن يصنّفوا عند ولادتهم تحت إحدى الأنظمة الدينية، و من الصعب للغاية إخراج الشخص لنفسه من أي نظام ديني ولد و تم تصنيفه فيه، خصوصا أن الممتلكات الخاصة بأسلافه لا يمكن نقلها. و يصبح التحوّل إلى ديانه من اختيار الشخص لذلك متعثّرا بسبب هيكلة القانون. و الأديان التي لا تقع ضمن الأديان التقليدية في الهند، و التي ليس لها لذلك قانون موجود، تخضع لإعاقة قوية. و الاختيار أن يكون الشخص لا دينيا متعثر بشكل أكبر، لأنه، على الرغم من وجود زواج و طلاق علماني، لا يوجد قانون علماني لانتقال الملكية وراثيا، و لهذا فإن الأفراد مضطرون للتعامل مع الدين، سواء رغبوا بذلك أم لا. كل هذه النصوص ستكون غير دستورية تحت بند حريتنا الذاتية في الممارسة و القضاء الغير تشريعي.

تواجه إسرائيل مشكلة مماثلة. كما هو معلوم بشكل جيد، فإن حقوق المحافظين و اليهود المصلحين هي مقيّدة بشدة تحت القانون و ربما تصبح مقيدة بشكل أسوأ. و لا يوجد زواج أو طلاق علماني (مدني) على الإطلاق، و هو اعتداء أكثر خطورة على حرية العلمانيين في الممارسة أكثر مما نشاهده في الهند. و فكرة الدولة اليهودية نفسها تنتهك مبدأ عدم الانحياز ولا يصبح التعدّي على الممارسة الحرّة للدين بعيدا. في مثالي الذي افتتحت به الحديث، حرية النساء في ممارسة الدين تم التعدّي عليها بالتأكيد، بالنظر إلى التقاليد الدينية الأكثر شيوعا؛ و يبدو أنه من المحتمل للغاية أن تصرّف الحارس سيكون غير دستوري تحت القانون الأمريكي. و حقيقة أن إسرائيل في ذلك الوقت لم يكن لديها دستور مكتوب جعل وضع حقوق الإنسان الأساسية بما في ذلك الحقوق الدينية غامضا. و هذا يوضّح أنه مهما كانت الضغوط و الخلط بين مزاعم الممارسة الدينية الحرّة و بين مزاعم عدم الانحياز في تشريعاتنا، فقد اخترنا مسارا حكيما في منح كل من هاتين القيمتين حماية قوية، لأنهما يدعمان بعضهما البعض. فمن الصعب للغاية الحفاظ على ممارسة دينية حرّة بين الأقليات عندما تقرّ تشريعات بناء على دين واحد فقط لمنحه القوة القانونية و السياسية.

  1. حقوق الملكية و التمكين المدني

يؤكّد البند 15 من اتفاقية النساء “سيداو” على مساواة النساء بالرجال أمام القانون، في أهليتهم القانونية الكاملة، و في الفرص المتساوية أمامهن لممارسة هذه القدرات. للنساء الحق المتساوي في عمل العقود، و معاملة متساوية أمام المحاكم و جهات التقاضي، و حقوق متساوية في التملك و في إدارة هذه الممتلكات. و هذا ليس هو الحال ببساطة للعديد من نساء العالم، غالبا بسبب التشريعات و المبررات الدينية.  فالنساء تحت القانون الإسلامي التقليدي هن بشكل واضح غير متساويات. فعلي المرأة أن يكون لها وصيّ ذكر لعمل العديد من العقود، كعقد الزواج الخاص بها. و تعتبر شهادة المرأة في المحاكم بنصف قيمة شهادة الرجل؛ في حالة الاغتصاب أو الزنا، يمنع على النساء تقديم أدلّة. الشهود على العقود و الوثائق الأخرى يمكن أن يكونوا رجلين أو رجل واحد و امرأتين. تختلف الدول في مدى تفعيلها للتشريعات المبنية على التبريرات الدينية: بعض الدول مثل إيران و باكستان و السودان، متأسلمة بشكل عميق – على الرغم من أن بينها فروقات في الدرجة؛ في دول أخرى مثل مصر، هناك عناصر غير متوقعة مختلطة في القوانين، في الهند و بنجلادش يوجد تمييز غامض ووهمي بين الحق الخاص الذي تحكمه التقاليد الدينية و الأمور الأخرى و التي تتحكم بها الدولة العلمانية. و لا تحترم حقوق النساء الإنسانية القانونية بشكل كامل في أي منها.

مرة أخرى، يقدّم الواقع الهندي أمثلة إرشادية على التعارض بين الضمانات الدستورية للمساواة بين الجنسين و الأنظمة الدينية القانونية. و لأننا ركّزنا حتى الآن على القوانين الهندوسية و الإسلامية، دعونا نلتفت من باب التغيير إلى وضع النساء المسيحيات في الهند. المسيحيون في النهد (يمثلون 2.4% من السكّان) محكومون بقوانين مناطقية مختلفة متنوعة و مثيرة للتعجب. المسيحيون الكاثوليك في مقاطعة جوا، لا يزالوا محكومين بالقانون البرازيلي المدني. و حتى مؤخرا، كان المسيحيون من مقاطعة كيرالا محكومون بقانون كوتشين المسيحي للعام  1921 و قانون ترافنكور السميحي للعام 1916. و في العام 1983، اعترضت امرأة سورية مسيحية تدعى ماري روي على قانون ترافنكور   في المحكمة العليا على أساس أنه ينتهك ضمانات المساواة بين الجنسين بكون القانون يحرم المساواة في الميراث بين البنات و الأبناء. لم تعلن المحكمة العليا أن القانون غير دستوري، و لكن ألغته بناء على أمور فنية، و حكمت بأن المسيحيين في كيرالا ينبغي أن يخضعوا للقانون الهندي للوراثة لعام 1925، و الذي يضمن حقا متساويا في الإرث بين الأبناء و البنات. استمرت الجالية السميحية في كيرالا بالاعتراض و التظاهر على هذا الحكم كونه تدخل غير لائق في خصوصياتهم الدينية، و أضافوا بأن الحكم “يفتح بوابة أمام فيضان من التقاضي أمام المحاكم و يدمّر الانسجام و النية الطيبة الموجودين في العائلات المسيحية”. أوقف المجمع الكنسي هذه التظاهرات عبر عمل تنظيم لاستشارات قانونية   للمساعدة في صياغة الوصية للمسيحيين بحيث يتم حجب النساء عن الإرث. و مثل هذا التصادم بين الحقوق الدستورية و القانون الديني شائع في معظم أوجه القانون الهندي.

  1. الجنسية

تصرّ اتفاقية النساء “سيداو” في بندها التاسع على المساواة التامة بين النساء و الرجال في جنسياتهما و في جنسيات أطفالهم. كل الدول المعتمدة على القانون الإسلامي، و التي تتطلب من النساء الحصول على موافقة من ولي أمر رجل للتنقل خارج البلاد تخالف هذا الحق الأساسي. و بالإضافة لذلك فإن عددا آخر من الدول تضع قوانين تحرّم على النساء منح جنسياتهن لأطفالهن. و على الرغم من أن هناك قضية استدلالية اختبرت هذا القانون و مشتقة من بنسوانا لا تتعلق بأي مواد دينية، إلا أن التبرير الديني في القضية متورط بشدة، في الاستمرار في هذا الشكل من أشكال التمييز تجاه النساء.

  1. قانون الأسرة

هذه على وجه الخصوص منطقة كبرى و معقّدة من عدم مساواة النساء؛ تلعب القوانين و الأعراف الدينية دورا مباشرا فيها. الأنظمة الدينية لقوانين الأسرة، الإسلامية و الهندوسية و اليهودية و غيرها ربما تقيّد بشدة مدى حرية النساء في الاختيار و موافقتهن على الزواج، و حقوقهن في التحكم بحياة أطفالهن خلال الزواج و حضانة الأطفال بعد نهاية الزواج، و و حصولهن على الطلاق و نوع الأدلّة المطلوبة منهن ليحصلن على الطلاق، و حقوقهن في الإعاشة بعد الطلاق. و يمثّل تعدد الزوجات في استمراره في الحدوث شكلا من أشكال الممارسة الغير متساوية: حيث لا يسمح للنساء بتعدد الزيجات.

و القليل من الأمثلة على هذه الممارسات تكفي لتوضيح الصورة الكلّية. في السودان (حيث قانون الأحوال الشخصية مبنيا على الشريعة) يملك ولي أمر المرأة سلطة مطلقة في تقرير شريكها الزوجي – حتى أجبرت موجة من حالات الانتحار بين فتيات شابات على تغيير ذلك. و أصبحت موافقة المرأة الآن مطلوبة. و في السودان أيضا يمكن للرجل أن يطلق زوجته فقط بقول “أنت طالق”. لكن على المرأة ان تذهب للمحكمة و تثبت أساسا لطلبها للطلاق مثل عجز الزوج الجنسي، قسوته، أو عدم قدرته على تلبية متطلبات المعيشة. و معظم قوانين الأحوال الشخصية المبنية على الدين غير متساوية في تعاملها مع الجنسين بنفس الطريقة. في الهند، الزواج المدني متاح كخيار، و لكن الطلاق المدني غير متاح: على الزوجين أن يقدّما طلبا للطلاق وفق الدين الذي ولدوا فيه. و فيما يخص قضية الإعاشة الهامة، و التي كشفتها بشكل واضح قضية شاهبانو، فإن قانون الأحوال المدنية الموحّد في الهند الذي يمكنه تخفيف أزمة مثل هؤلاء النساء بعيدا جدا عنهن، حتى مع اقتراب العام 2000 بشكل متسارع.

في الدول المحكومة بقوانين إسلامية، فإن الانحراف عن السلفية الدينية قد يفرض الطلاق. في القاهرة في العام 1996، رفضت محكمة النقض، وهي أعلى محكمة استئناف في مصر، استئناف نصر أبو زيد، أستاذ اللغة العربية في حكم صادر من محكمة أدنى يقضي بانفصاله عن زوجته ابتهال يونس و هي أيضا أستاذة.  زعم الإسلاميون السلفيون أن كتابات أبو زيد تجعله غير مؤمن؛ أنكر أبوزيد ذلك و زعم أن رجال الدين اقتبسوا نصوصا من كتاباته خارج سياقها و خرجوا بأخطاء فعلية. (انتقل الزوجان الآن إلى هولندا، حيث قبلا وظائفا للتدريس هناك). وصف السكرتير العام للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان الحكم الصادر بتفريق الزوجين بأنه “صفعة في وجه المجتمع المدني في مصر”.

في معظم أنظمة القانون الإسلامي، تكون المرأة وصيّة على الطفل الذكر فقط حتى يبلغ السابعة من عمره. في قضية بنجلاديشية حديثة، على كل حال، قضت المحكمة العليا بان للأم أن تحتفظ بالوصاية على ابنها البالغ الثامنة من عمره، لإصابته بمرض نادر. (الأم وهي طبيبة كانت قادرة على منحه عناية متخصصة و تمويل علاجه الطبي). لاحظ القاضي “أن مباديء القانون الإسلامي ينبغي احترامها، لكن الابتعاد عنها يبدو مسموحا به إن ما تطلبت ذلك مصلحة الطفل”.85 لكن القاضي و في موقف متساهل نسبيا: أوضح أن مسألة الحضانة لم يرد فيها حكم  في القرآن أو في السنّة النبوية؛ لكن الحكم أنتجه التفسير الحنفي ولم يتم الاتفاق عليه مع المذاهب الأخرى في التفسيرات القانونية للإسلام. و بهذا استطاع أن يقول بأن الحكم “لا يحتمل ان يجلب أي مزاعم بالجمود”. ولم يقم بعمل أي استنتاج عامّ عن حقوق الأم: وبنى تحليله على الحقائق الغير مألوفة في تلك القضية. أما فيما يتعلق بالقانون الهندي الهندوسي، يعتبر الب هو الوصيّ الطبيعي على الطفل، فيما عدا الأطفال الأقل من خمسة سنوات، أو عندما يعيش الب في مكان بعيد. فقط الطفل الغير شرعي (من علاقة خارج الزواج) يمكن ان يبقى تحت وصاية الأم.

الحق في تبنّي طفل، وهو حق مهم للعديد من النساء، هو أمر آخر متأثر بشكل حاسم بهيمنة الدين في قوانين الأحوال الشخصية. ظلّ قانون التبني و الرعاية الهندوسي الذي تمّ إقراره في العام 1956، القانون الوحيد للتبني في الهند. و بناء عليه و لسنوات طويلة لم يكن التبني متاحا إلا للهندوسيين، و كان الأطفال الهندوسيين هم الوحيدون الذين يمكن تبنيهم. وقوبلت محاولات صيغة قوانين موحّدة للتبني في الأعوام 1972 و 1980 بمقاومة عنيدة من القيادات الإسلامية، و الذين اعتبروا التبني محرّما من القرآن. (وهذا ليس رأيا موحّدا: حيث أقرّت تونس في العام 1958 قانونا للتبني تشابهت ينوده مع وثيقة التبني الهندية للعام 1972). و تم تمرير وثيقة التبني في العام 1980- و بذلك منحت اليهود و المسيحيين و الفرس و الآخرين حقوق التبني- و لكن فقط بعد استثناء المسلمين. لخّص الأستاذ طارق محمود من كلية الحقوق في دلهي الموضوع جيدا في خطاب عام إلى المجلس الهندي لرعاية الطفل:

حتى لو قبلنا بأن القانون الإسلامي يحرّم التبني، كيف يمنع المسلون تمرير قانون علماني للتبني لن يطبّق إلا على الأشخاص الراغبين بتبني طفل؟ إن لم يسمح القانون الإسلامي بتبني الأطفال، لا يحتاج المسلمون إلى استخدام قانون التبني الهندي. هذا القانون لن يلزم بالتأكيد أي شخص بأن يتبنى طفل كواجب… إن لم يعترف الإسلام بمفاهيم الاجتماع و الاقتصاد، فلن تلزم الدولة أي مسلم باتباعه. إن كان ذلك ممكنا، فإن قوانينا البنكية لا يجب أن تكون متاحة لأي مسلم، حيث لا يسمح الإسلام بالفوائد على الأموال… و مطلب أن يكون هناك بند قانوني خاص بالودائع موجود في القانون و يستثني أي مسلم من كل الجالية المسلمة من تطبيق القانون لا يمكن قبوله. هناك مسلمون لا يتشاركون في الاعتقاد بأن قوانينهم الخاصة تمنع التبني؛ و هناك العديدون ممن لا يعتبرون أن القوانين الشخصية جزئا من دينهم على الإطلاق. و بالنسبة لهم، فإن منافع قانون التبني لا يمكن إنكارها عليهم.

يبدو هذا الاستنتاج العقلاني صحيحا في كل ما يتعلق بقوانين الأسرة: ينبغي أن يبقى الأعضاء المخلصون لطائفة دينية ما في حرية لاتباع تعاليم الديانة في مثل تلك الأوضاع، و لكن لا يبرر ذلك فرض هذه التعاليم على الناس الذين لم يختاروها، خصوصا عندما يكون فرض هذه القوانين غير متساوي و عندما تنتهك حقا أساسيا في الاختيار.

  1. الحق في التعليم

لا يوجد شيء أهم لفرض المرأة في الحياة أكثر من التعليم. بالعلم، يمكن للمرأة أن تفكر في خياراتها و أن تشكّل مستقبلها إلى حدّ ما. ربما تستطيع التساؤل حول التقاليد و اكتشاف كيف تتصرّف النساء في أماكن أخرى في العالم في حياتهن. ور بما تكتشف أن النساء في الحقيقة قادرات على النجاح بشكل جيد جدا في العديد من أنشطة الحياة؛ أن جسد الأنثى ليس بالضعف الذي يروّج له. مع العلم، ربما تقوم بحساباتها الخاصة، تقرأ فاتورة ما، أو تقرأ إشعارا هاما وصلها في البريد، و تعمل في المجالات التي تتطلب تعليما.

فرص و نجاحات المرأة التعليمية محدودة بشكل هائل في العديد من الدول حول العالم. تتراوح معدلات تعليم النساء الراشدات في الدول النامية ما بين 96.7% (في جويانا) و ما بين 94.2% (كوبا) مرورا بكل المعدلات حتى أدناها 5.8% (النيجر) و 8.0% (بزركينا فاسو). و من بين الدول التي نناقشها هنا، نجد أن معدل التعليم في باكستان 22.3%، و في الهند 35.2%، و في بنجلادش 24.2%، و في أفغانستان 12% و في السودان 30% و بينما يرتفع المعدّل بشكل أفضل في الصين إلى 69% و ينخفض بشكل كبير في المملكة العربية السعودية مقارنة بالدول المماصلة في التطور الاقتصادي إلى 40%، و كذلك في إيران إلى 55%. في كل هذه الحالات، أوضاع النساء أسوأ بكثير من الرجال. في باكستان تصل معدلات تعليم النساء إلى 56% من معدلات تعليم الرجال، في الهند 55%، في بنجلادش 51%، في أفغانستان 29%، في السودان 56%، في الصين 79%، و في السعودية 66%، و في إيران 74%.

السبب في تحصيل النساء المنخفض بشكل غير متكافيء ليس دائما دينيا، على أنه في العديد من الحالات يمكن للشخص أن يرى بوضوح كيف يلعب الخطاب الديني دورا رئيسيا في ذلك. عزم الملالي في القرية التي وصفتها تشن على معارضة تعليم النساء­­­ –بتوجيه الإهانات إلى شخصيات النساء المتعلمات و في حال الضرورة، بتهديدات ضد سلامتهن الجسدية. كما تشهد مذكرات كورنيليا سورابجي، إنكار التعليم يحمل روابط قوية تقليدية بالبردة (لباس الحجاب) و إلى المعنى العام المرتبط بطهارة المرأة و هي فكرة دينية بشكل جزئي على الأقل. في أفغانستان، أدّت الأصولية الإسلامية لطالبان إلى حظر النساء من الذهاب إلى المدارس.  في الهند، يتمّ معارضة أو إهمال تعليم النساء لمختلف الأسباب، بعضها اقتصادي، و بعضها مرتبط بالتقاليد، و لكن الأديان الرئيسية في الهند تلعب بالتأكيد دورا ما في خلق تصوّر عن دور المرأة. و على الرغم من أن الاختلافات المناطقية في السياسات و الثقافة مهمة لتوضيح هذه الاختلافات، إلا أن الدين له دورا مسبّبا لذلك و بشكل مستقل. في إيران، أدّت الأفكار المرتبطة بالدور اللائق بالمرأة إلى تحديد و تقييد فرص التعليم بشدّة في المراحل العليا. تم إقاصء النساء من 79 مادة من مجموع الموادّ 157 المتوفرة بالجامعة، بما في ذلك حرمانهن من 55 مادّة من أصل 84 مادّة في الرياضيات و التقنية؛ وهن ممنوعات من دراسة مقررات أخرى كالآثار و السينما و التصميم المعماري. 93 في الولايات المتحدة، أنتجت المحاولات الناجحة لمجتمع الآميش لإبقاء أطفالهم خارج مقاعد الدراسة في المراحل العليا إلى اختلاف نوعي بين الأولاد و البنات: يتعلّم الأطفال حرفا كالنّجارة مما يمكن تسويقها خارج مجتمعهم؛ و البنات المحصورات في المنازل سيصبح من الصعب عليهن الرحيل في حال رغبن في ذلك.

و من المفترض أن يسأل الشخص كذلك ما الذي يدرّس للفتيات في حال السماح لهن بالتعليم. في مجتمعات القدس اليهودي المتشدّد، يسمح لكل الأطفال في المدارس التي تدعمها الحكومة باتّباع منهج تعليمي لا يحتوي على أي معلومات مطلقا عن تاريخ العالم أو عن الحياة في العالم بالخارج (كما يحرّم التلفاز و الراديو داخل المناول بشكل مطلق). يتعلّم الأطفال الرياضيات و العلوم الحديثة، لكن النساء محجوبات بحرص عن معرفة أي دور ملائم للمرأة خارج تعليمات المجتمع المتشدّد. لن يستطيعوا هؤلاء الأطفال اختيار أسلوبهم الخاص في الحياة كنتيجة لفهمهم الذاتي لما حولهم.

  1. الحقوق الإنجابية

هذه منطقة من المتعارف عليه الاختلاف فيها بحيث لا يبدو الحديث مطوّلا عنها ضروريا. يتّفق نشطاء حقوق الإنسان العالمية، مع بعض الاستثناءات، أن حصول النساء على موانع الحمل هو عنصر مهم للغاية لسلامتهن. و ذلك حماية لحقهن في التحكّم بالإنجاب و لحمايتهن من انتقال مرض نقص المناعة المكتسب “الإيدز”. و يتفقون بالإضافة لذلك أن الترويج لتحكّم النساء في قدرتهن على الإنجاب (بما في ذلك قدرتهن على التعلّم بشكل عام) هي أفضل طريقة فعالة للتحكم في سكّان الأرض بلا التعدّي الغير مقبول على الحرّيات.

تورّط كلا من الخطاب الإسلامي و المسيحي في معارضة هذه السياسات، كما أوضح مؤتمر القاهرة، على أن الموقف الكاثوليكي ركّز كثيرا على حرية الحصول على الإجهاض. ولا أعلم عن وجود خطاب مماثل من التعاليم الهندوسية أو اليهودية، على أنه من الواضح أن مجتمع اليهود الأصوليين المتشدّدين (الأرثوذكس) في إسرائيل و إلى حدّ ما في أماكن أخرى، لديه تفضيل قوي لسياسات التشجيع على الإنجاب و يعارض أن يستخدم أفراده وسائل منع الحمل. و يبدو معقولا أن وصول النساء الغير مقيّد إلى وسائل منع الحمل هو حق إنساني أساسي لهن. و من الهامّ بشكل خاص حماية هذا الحق للنساء اللاتي لا يتمتعن ببدائل اقتصادية أو اجتماعية للزواج و بلا ملجأ من الممارسة الجنسية القسرية في الزواج.

و بالنسبة للإجهاض، فإن الموضوع يتقاطع بكلا الاتجاهين فيما يتعلق بـ حقوق النساء .  فمن ناحية، يؤمن الكثير من المدافعين عن مثل هذه الحقوق بأن الحق في الإجهاض، على الأقل في خلال الشهور الثلاثة الأولى من الحمل، أساسية لمساواة النساء؛ وقد أدافع بنفسي عن هذا الحق في الولايات المتحدة بناء على هذا الأساس. و من ناحية أخرى، استخدم الإجهاض غالبا لاختيار جنس الجنين، لتدمير الأجنة الإناث؛ و في هذا المعنى يمكن اعتباره أداة خطيرة للتمييز ضد النساء. و من الممكن حاليا منع الإساءة بلا تقييد حق الإجهاض، بمنع الوصول إلى سحب السائل الأمنيوسي (المحيط بالجنين) و بمنع الإجهاض في المراحل المتأخرة للحمل، كما فعلت بعض الحكومات، و لكن فعل التوازن هذا لن يستمر طويلا مستقبلا، مع توفر المزيد من المعلومات و في وقت مبكر من الحمل. و لذلك تفضل بعض النسويات الهنديات إلغاء الحق في الإجهاض- بالتأكيد، البعض يرغب في سجن النساء الباحثات عن الإجهاض. الموضوع شديد الصعوبة و أثار نقاشات حادّة، بارعة و مطوّلة بحيث سيكون من الحماقة بالنسبة لي أن أحاول هنا، تحديد ما ينبغي أن تقوله أي مدافعة عن حقوق النساء بخصوصه.

مواجهة المعضلة

بدأت بنقطة نقاش بسيطة: أنه لا ينبغي انتهاك البشر، و أن حماية حقوق الإنسان الأساسية ينبغي أن يكون لها درجة عالية من الأولوية، حتى لو تداخل ذلك مع بعض عناصر الخطاب التقليدي الديني و ممارساته. و إلى هؤلاء المعترضين أن انتهاك الآخرين يمثّل جزءا من ممارساتهم الحرّة لدينهم، علينا أن نردّ كما نفعل حين يزعم قاتل ما أن الإله هو من أخبره بأن يقتل (و ربما يصدّق هذا القاتل بإخلاص بأن ذلك صحيحا): نقول له بغض النظر عن زعمه بأن هناك أمورا لا نسمح للناس أن يقوموا بها تجاه غيرهم. أو كما قالت الزوجة البنجلاديشية في مقدمتي، لو قال الله فعلا ذلك، فهو إذن مخطيء بشكل كبير. (و ما نعنيه بقول هذه الأشياء أن أي إله عادل لا يمكن بأي شكل أن يقول هذه الأمور).

بعيدا عن هذا الأمر يمكننا أن نتحدث أكثر عن قائمة الحقوق الأساسية التي تم تعدادها. هذه الحقوق، مثل (و مرتبطة بشكل وثيق) قائمة جون راولز للاحتياجات الأساسيّة، قد تبدو ضرورية لكل الناس لو كانوا سيسيروزن وفق خططهم في الحياة، أينما كانوا. و لذلك لها حجّة قوية للاعتراف يها سياسيا كأساس للمجتمع المتعدّد، بغض النظر عن التزامات مكوّنات هذا المجتمع الدينية. بسبب دورها الأساسي، علة المجتمع الليبرالي أن يلزم نفسه بحماية هذه الحقوق لكل الأشخاص، بغض النظر عما إن كان هناك أفرادا لا يرغبون ( سواء بداخل مجتمعهم الخاص أو داخل فئات أخرى في المجتمع) بامتلاك هذه الحقوق. قائمة الحقوق هي أشمل من قائمة راولز و مرتبطة بشكل وثيق بالقدرات الإنسانية الأساسية التي دافعت عنها في الفصل الأول.

في وجهة النظر التي دافعت عنها في الفصل الأول و الثاني، الحامل الأساسي للحقوق هو الفرد الإنساني. ويبدو هذا صحيحا: فلا يكون انتهاك شخص ما أفضل إن ارتكبته مجموعة ما ينتمي لها الشخص من انتهاكه بواسطة الدولة. الجوع الذي يعانيه الشخص أ ليس أقل ولكن أكثر عدائية أخلاقيا عندما نعلم أن أ هي طفلة محبوبة في عائلة لديها ما يكفي من الطعام ليشبع جميع أفرادها. اغتصاب الشخص ب لا يبدو أقل ولكن أكثر عدائي بشكل أكثر احتمالا لو اكتشفنا أن المغتصب هو زوجها و بالتالي ينتمي إلى وحدة عضوية مع ب يفترض أن تسعى لمصلحتها. ولا تندمج سلامة ب البدنية مع الجسد الكلي لجماعتها: فجسد ب هو جسدها، ولن يكن لديها جسد غيره.

و بشكل اكثر وضوحا، لا يجب أن نعتبر الحقوق كذرّات منفصلة، يمكن منحها أو منعها بشكل مستقل عن بعضها. لأن الحقوق تتداخل معا و يدعم بعضها البعض بوسائل متعددة، فعلينا ان نفكر بنظام متكامل للحرّيات و الفرص و نرفض التفاوض حول أي من العناصر ليس فقط لقيمته الخاصّة ولكن أيضا بسبب تأثيره على العناصر الخرى في القائمة. التعليم مرتبط بشكل وثيق بالفرص الهادفة للتوظيف، و كلا من التعليم و التوظيف مرتبط بالتغذية و الصحة. يرتبط الحق في حماية السلامة البدنية لشخص ما و يستمد قوّته من السماواة في قوانين الأسرة و الحق في التنقل و الحركة و التجمّع. يرتبط الحق في الحصول على موانع الحمل بالقدرة الأكبر على متابعة التعليم و العمل، و المشاركة في السياسة و الصحة و هكذا. نريد غذن أن نضمن لكل الأفراد ليس فقط حريّة واحدة أو اثنين و لكن نظاما كاملا من الحرّيات و ليس فقط الحرية بالاسم فقط (كمجرد كلمات في الدستور) و لكن قيمتهم المتساوية الكاملة تعني القدرة على أن يحصل عليهم الفرد.

سأقوم الآن بعمل بعض الاقتراحات المعيارية؛ و في قسم مخصص للخلاصة سوف أسأل عن ماهية الأفعال العملية المتاحة.

الدين و تركيب النظام القانوني

أساسا، لا ينبغي السماح لأي نظام مبني على الدين أن يتدخل في الحقوق الإنسانية للمواطنين. و من الوضاح بشكل خاص، أن الأنظمة الطائفية الغير متسامحة، كتلك المعمول بها في إيران و السودان و باكستان و بعض قوانين إسرائيل غير مقبولة. لا تقوم مثل هذه الأنظمة بإثارة معضلتنا الليبرالية لأان انتهاكها لحقوق الإنسان الآخر يصاحبها انتهاكات متساوية في الخطورة لحرية الضمير –إما لأعضاء الأقليات الدينية (يشهد على ذلك كمثال فاضح الملاحقة القانونية في إيران للبهائيين) أو للأفراد الغير متشددين من أتباع الديانة السائدة.

في أوقات، كان للنظام الليبرالي المتسامح دين معترف به للدولة و لكنه يحمي الحقوق و الحريات لكل المواطنين- كما هو الحال بشكل عام في بريطانيا اليوم و الدول الاسكندنافية. مثل هذه الترتيبات، كما أراها ليست بالضرورة غير مقبولة، و لكنها دوما تثير أسئلة أخلاقية خطيرة. في الحالة البريطانية، تاريخ التمييز البغيض ضد المنشقّين و اليهود و المنتمين على طائفة الرومان الكاثوليك تلوّن المعنى الاجتماعي المسالم و الرقيق للكنيسة الأنجيلية؛ و مكانتها المعتمدة حتى لو لم تفعل شيئا خطأ، لكن من المتوقّع أن تؤثر على الاحترام الذاتي للأفراد المنتمين إلى هذه الأقليات و للمجموعات الغير دينية كذلك بالرغم من السياسات الليبرالية. و يدلّ ذلك على أن التأسيس بحد ذاته (لدين ما) يثير مشكلات للفهم السياسي الليبرالي، 100 على الرغم من أن الحالة الاسكندنافية ربما تظهر شكلا مقبولا من التأسيس، مسخرة لحماية أديان الأقليات. (معارضة النرويج الحالية للمدارس الإسلامية تدلّ على أي حال أنه حتى المؤسسات الغير ضارة تمثل سياسة خطيرة). و من ناحية اخرى، فإن المشكلات مختلفة في نوعها عن تلك التي تنتج عندما لا يكون الاعتراف بالحماية المساوية لكل المواطنين تحت القانون التزاما سياسيا رئيسيا. يوجد بالطبع في إسرائيل صراع حادّ حول هذا الأمر المتعلق بالمواطنة المتساوية، و طبيعة الدولة الدينية يجعل من حل هذا الإشكال أمر في منتهى الصعوبة.

بالنسبة لأسئلتنا حول حقوق المرأة، على أي حال، الظروف الأكثر تعقيدا و إثارة للتفكير موجودة في بلدان مثل بنجلادش و الهند، حيث سمح نظام سياسي ليبرالي (علمانيا بالاسم في حالة الهند) للدين ان يتحكم بجزء من النظام القانوني، مما نتج عنه أنظمة أخرى من القوانين الدينية.  و نرى هنا المعضلة الليبرالية في أكثر أشكالها حدّية. مثل هذه الأنظمة منتجة للمشكلات بعدد من الوسائل. أولا، هي غير عملية ببساطة، و تخلق بالتالي أعباء إدارية ضخمة و تناقضات. ثانيا، تعامل المواطنين اللا دينيين بشكل غير عادل، مجبرة لهم على التعامل مع الدين في مناطق ضرورية من حياتهم بغض النظر عن قبولهم لذلك من عدمه. ثالثا، تعامل المواطنين بشكل غير متساوي بناء على احتماليات ولادتهم بداخل طائفة دينية معينة. وضع شاه بانو كان أسوأ لأانها كانت مسلمة بدلا عن أن تكون هندوسية، ولم يكن لديها خيار الذهاب إلى محكمة مختلفة إن لم يعجبها الطريقة التي تعاملت بها المحكمة الإسلامية مع الأمور. رابعا، تشجع هذه الأنظمة الحفاظ على ممارسات تنتهك بشكل مباشر بنود المساواة المعترف بها في العديد من الدساتير و مفهومة من الأنظمة القانونية لبعض الدول التي لا تملك دساتير مكتوبة. و من غير المثالي للهند أن تضمن للنساء كل أنواع الحقوق في الدستور و من ثمّ تسلّم النواحي الأكثر أهمية في قانون الأسرة إلى نصوص تنكر بشكل واضح على النساء الحماية المتساوية في القوانين. يجب تعديل كل مثل تلك العناصر في قوانين الأسرة الدينية لتتّسق مع قائمة حقوق المواطنين في الدستور. أخيرا، مثل هذه الأنظمة تنتج التنازع السياسي بشكل كبير، كما نرى من المفاوضات التي لا تنتهي و التي اضطرت الحكومة الهندية إلى الدخول فيها.

مثال الهند يوضّح الطريقة التي قادتنا بها حساسيتنا الحماسية لمعضلتنا الليبرالية، بعد سنوات، إلى وضع مؤسف. ألغى الدستور الهندي “الذين لا يمكن مسّهم”، وهو عنصر من عناصر الهندوسية، بشكل جريء و حاسم، في الفقرة 17 من الدستور نفسه، و في الوقت نفسه خلق حماية دستورية لفعل إيجابي تجاه جماعات الطبقات المقموعة سابقا. قادت هذه الخطوات الحاسمة، بعد أربعين عاما، إلى وضع ناشدت فيه قيادات دينية إعادة النظام الهرمي للطبقات؛ فهو بالتالي منطقة خارج التفاوض كممارسة دينية حرة و شرعية.

فيما يخص المساواة بين الجنسين و تشكيل محاكم منفصلة للقانون الديني، على أي حال، قرّر واضعي الدستور ترك الأمور الضرورية لحلول مستقبلية. اعتقد القياديون المسلمون بشكل متكرر أن الحفاظ على قانون شخصي إسلامي هو “جزء من حق أساسي للحرية الدينية”. و لهذا، فإن “الاتّجاه الذي ينبغي أن تسعى إليه الدولة لتأمينه” كقانون مدني موحّد قد وضع في المادّة 44 في الدستور، ضمن السياسات الغير ملزمة للدولة. الكلمات “تسعى لتأمينه”، و أساسا الفكرة من المادة 44 كانت أن الدولة عليها أن تقوم بتجهيز السكّان تدريجيا لقبول قانون موحّد في تاريخ مستقبلي ما. و من ناحية أخرى، فمن الواضح تماما أن قائمة الحقوق الأساسية تشمل حق كل الأشخاص في حماية قانونية متساوية و كذلك الحق في عدم التمييز بناء على الدين، الطبقة، الجنس، أو مكان الولادة، و ألغت المادة 13 كل “القوانين المعمول بها” و الغير متّسقة مع قائمة الحقوق الإنسانية الأساسية؛ وفي نفس الوقت، حرّمت المادة 13 في فقرتها الثانية على الدولة تشريع أي قانون جديد مخالف للحقوق الأساسية.

و بذلك تم خلق تناقض، لأن قوانين الأحوال الشخصية الموجودة (و كذلك تلك التي تمّ تشريعها فيما بعد أو تعديلها) لكل من الهندوس و المسلمين تخالف الضمانات الدستورية بالمساواة بين الجنسين، و في بعض الأمور ضمانات المساواة الدينية أيضا. و بذلك يبدو أن واضعي الدستور تركوا تعمّدا طريقا تصبح بموجبه مثل هذه القوانين للأحوال الشخصية غير دستورية –على أنه في قرار المحكمة في العام 1952 في قضية ولاية بومباي ضد ناراسو أبا ملي، اعتقد قاضيان بارزان بشكل خاص أن الوصف “القوانين المعمول بها” لا يشمل قوانين الأحوال الشخصية، و أعتبرها منفصلة عن الأشكال الأخرى” للقوانين المعمول بها” في انها ليست فقط نتيجة لتشريعات مدنية و لكن في أنها مؤسّسة في النصوص الدينية. يبدو ذلك تماما خارج الموضوع، في نظام دستوري ليبرالي لا يكون فيه للدولة دين محدّد. ومن الواضح انه على الدولة أن تعجّل بقوّة في التعديل الداخلي لقوانين الأحوال الشخصية حتى تصبح متّسقة مع قائمة الحقوق الأساسية.

فهل يبطل ذلك المشروع الكامل لأنظمة قوانين أحوال شخصية منفصلة؟ يصرّ المدافعون المعاصرون عن العلمانية أن العلمانية المثلى تتطلّب فقط المعاملة المماثلة لكل الأديان، و يمكن لذلك نظريا ان يتمّ بعدد من الطرق المختلفة. 104 لكن علينا أن نتذكر، على أي حال، أن من يحمل الحقوق الأساسية هو المواطن الفرد، و أن أي نظام للقوانين الشخصية يصنّف الأفراد في مجموعات بحسب نشأتهم الدينية يخاطر بشكل كبير بحرمان هؤلاء الأشخاص الذين لا يسعدون بمثل هذا التصنيف، إما لكونهم لا دينيون أو أنهم لا يتفقون مع غالبية الآراء في جماعتهم الدينية، أو أنهم يفضّلون أن تكون انتماءاتهم الأساسية متّصلة بجماعة مبنية على الجنس أو الحرفة. ولا يتطلب التصنيف الديني في الهند أي تصريح بالانتماء أو بالاعتقاد الديني، أو أو حتى الحماس: يوضع الشخص بحسب نشأته و الكل يصنّف إمّا تحت خانة معينة أو أخرى. و بشكل مماثل لا يملك الشخص خيار الانخراط في محاكم تنتصر لقوانين النسوية، على الرغم من أن انتمائ الشخص لهذا التيار النسوي ربما يكون الأكثر أهمية في حياة أحدهم. توجد قوانين للزواج و الطلاق المدني و تداول الملكيّات، و لكن الأشخاص التابعين لأحد الأنظمة الدينية و المرتبطة ملكياتهم بقوانينها نادرا ما يملكون خيارات أخرى كالقانون العلماني أو المدني. يبدو إصلاح هذه الأجزاء من القوانين الدينية المنفصلة و التي تعامل المواطنين بشكل غير متساو على أساس خلفياتهم الدينية و عضويتهم في جماعات معينة أنه أبسط القليل للاتّساق مع العدالة.

و الأكثر أهمية لأهدافنا، ضمان عدم التمييز بناء على الجنس، مثل النص المدرج تشريعيا في دستور الهند تحت قائمة الحقوق الأساسية، و الذي يضمن إصلاح الكثير من النصوص الموجودة في قوانين متفرقة، فيما يتعلّق بالزواج، الطلاق، و النفقة. و في كل النقاشات الحادّة عن قوانين الهند للزواج و الطلاق، فإن حساب مصلحة النساء الأساسي في المساواة أمام القانون تمّ إهماله – يزعم المسلمون أن ذلك يمثل انتهاكا لحرياتهم الدينية إن تمّ إخضاعهم لقوانين موحّدة للنفقة تحت نظام العقوبات: و يزعم الهندوس أن استثناء المسلمين من هذه النصوص يخالف مساواتهم مع الهندوس أمام القانون. و بالنتيجة، كانوا يساومون حول كيفية تجنّب دفع مبلغ 18 دولارا شهريا لأمرأة معدمة. حقوق النساء الأساسية في الدستور لم يتم اعتبارها لتمثيل المصالح الأساسية لأي من الجماعتين الدينيتين. لكن مثل هذا النقاش يمكن و يجب اختصاره بالإشارة إلى الدور الأساسي للضمانات الدستورية في المساواة بين الجنسين. فلو اتّفقت النصوص القانونية على تجاهل الاختلافات في المكانة بين الطبقات و الجنسين و الأعراق و ما إلى ذلك، فإن قضية السماح بوجود اختلافات في النصوص تعكس التقاليد المجتمعية المختلفة ستصبح أكثر قوة.

آمن المؤسّسون بوضوح أن هذا التوحيد للنصوص لن يتمّ في ليلة واحدة في الشعوب التي تشمل مجموعات متنافرة تاريخيا. في كل خطوة من النقاش المتجدد حول قوانين الأحوال الشخصية، كانت المعارضة لقانون مدني موحّد عنيفة من بعض مناطق المجتمعات الإسلامية و الهندوسية. و من ناحية اخرى، و في كل مرحلة، كان المدافعون عن توحيد النصوص مع الدستور من الأعضاء البارزين في تلك الجماعات الدينية. دافع المحامي المسلم تشودري حيدر حسين بقوة عن قانون مدني موحّد منذ العام 1949، محتجّا بأن وجود قوانين منفصلة هي من بقايا الحكم البريطاني للهند و أنها “فكرة عائدة تماما للقرون الوسطى” و ليس لها مكان في العالم الحديث. و بعد عشرين عاما، حكم قاض مسلم بارز آخر، م. س. تشاجلا، بأن النظام القانوني المقبول هو ما يمكن تطبيقه على كل شخص بغض النظر عن دينه أو مجتمعه… و أن الدستور تمّت صياغته للدولة كلها، و ملزم للدولة كلها، و كل قسم و مجتمع ينبغي أن يقبل بنصوص الدستور و تعاليمه. 106 مثل هذه الأصوات المؤثرة، و التي أصغى إليها الناس تكرارا في فترة ما بعد الاستقلال، تظهر بأن الدستورية المتحيّزة للحقوق لا يعارضها بشكل عام المسلمون بشكل أكبر من الهندوس. و ليس من الواضح، حتى بالصيغ الاستراتيجية، أن القرار الصحيح قدّ تمّ اتخاذه. الردّ الحاسم على تقليد “عدم اللمس” خلق اتفاق اجتماعي صلب في الجيل القادم؛ بينما كان عدم الحسم في قانون مدني جعل من سؤال توحيد النصوص كرة قدم سياسية للجماعات و الشخصيات الباحثة عن مصالح ذاتية. عند هذه النقطة، فمن الصعب عمليا لليبراليين و النسويات دعم قانون مدني موحّد، بالنظر إلى أن حملة القانون المدني يتزعمها الآن حزب (بي جيب بي) كجزء من اعتدائهم المخطّط على تحقيق المساواة مع المواطنين المسلمين.

الزعم بأن حماية حقوق الأفراد بشكل موحّد يتطاول على الحقوق الشرعيّة لحرّية ممارسات الدين هو بذاته مجرّد جدل للإثارة و  مسيّس بشدّة. الحرية الدينية هي حقّ للشخص، كبقيّة الحقوق. كيف إذن يمكن المساس بالحرّية الدينية للشخص بالتصميم على حماية حقوق كل الأفراد في جماعة دينية بشكل متساو؟ الحرية في أن تعامل قرناءك المتديّنين بشكل غير متساو هي ببساطة ليست حقا شرعيا للحرية الدينية. الأمر بدفع النفقة إلى شاه بانو لم يقيّد من حرّية زوجها في التعبّد؛ و بالتأكيد، يمكن للشخص أن يجادل ببساطة أكثر بأن حرّيتها في التعبّد في خطر بعدم حصولها على ما تنفقه و بالتالي في حالة تشرّد و فقر مدقع.” حقيقة أن أحفاد ماري روي من الإناث سيرثن بشكل متساو مع الأولاد لا يعرّض التعبّد المسيحي لأي خطر؛ أفعال الكنيسة المسيحية المتناقضة مع حكم الدستور تبدو مرتبطة بشكل أكبر بالقوة أكثر من حرّية الضمير. و بشكل مشابه، إنكار حق إجبار سريثا من العودة إلى منزله لا يبدو معيقا لقدرة فينكاتا سوبايا على التعبّد بما يتّفق مع ضميره. إن ذلك ببساطة يقلّل من قوة المحكمة الهندوسية، وهو أمر مختلف تماما. الحق في الطلاق لا يجبر أحدا على أن يطلّق، الحق في استخدام موانع الحمل لا يجبر أحدا على استخدام موانع الحمل، الحقّ في التبنّي لا يجبر أحدا على أن يتبنى طفلا ضد مبادئه أو مبادئها الدينية. حقيقة أن المتحدثين البارزين في الأديان الرئيسية متفقون على هذا المبدأ الليبرالي يجب التأكيد عليه، عندما يناقش الشخص هذه المسألة. على الليبراليين أن يوضّحوا هذا المفهوم الفردي للحقوق الأساسية و للحرية الدينية، و يصرون على نص موحّد للقانون يمنح الأفراد مجالا واسعا لاختيار شكل الحياة بما يناسب معتقدهم الديني. لا ينبغي أن نقبل فكرة أن إنكار أي حق أساسي لأي فرد هو حق شرعي لمجموعة دينية. كما علّقت زويا حسن، الدّاعية إلى لجنة حماية حقوق النساء المسلمات، على قضية شاه بانو، “تحت غطاء حرية الدين، يتم حرمان النساء المسلمات حقوق دستورية و إنسانية…. الأمر ليس أ) سؤالا عن قانون الأحوال الشخصية للمجتمع، و لكنه عن حصول المحرومين على العدالة الاجتماعية.”ذهب دانيال لاتيفي إلى أبعد من ذلك، مطلقا على قانون 1986 “أنه بغيض بالنسبة للمباديء الإسلامية” و “إهانة إلى تقاليد الحضارة الإسلامية” . في بيان حديث بعد وقت قصير من وفاة المسنّة شاه بانو، كتب أن الباحثين القانونيين المسلمين الذين دعموا هذا القانون “قد نسوا تعليمات الرسول محمد الذي تحدث بما يلي: اتّقوا دعوة المظلوم، لأنها تهزّ عرش الرحمن” .

و بالتأكيد، فلا يجب أن نسلّم بأن مثل هذه القضايا تثير معضلاتنا الليبرالية: تتعارض الحجج القانونية للمحاكم الدينية مع حق الفرد في الضمير كما تتعارض مع بقية الحقوق. النظام نفسه الذي ينكر حق شاه بانو المساوي كمواطنة ينكر عليها أيضا، بالنتيجة، الخيار في أن تعرّف نفسها كمواطنة مسيحية أو لا دينية، لو أرادت الاختيار، و أكثر من ذلك، يميز النظام ضدّها على اساس انتماءها لجماعة دينية. لو تمّ تعديل نظام الأحوال الشخصية للسماح بمجال للتحرّك بما يتماشى مع حرية الضمير التي يبدو أن حرية الدين نفسها تتطلّبها، فلربما امكننا الحصول على النتيجة المرغوبة  أن الأديان ربما ستتنافس فيما بينها لجذب الإناث بالتأسيس للمساواة بين الجنسين، وهو موقف تروّج له بشدّة الآن النسويات الباحثات في القانون.

و بشكل عام إذن، عندما تتّخذ أي حكومة ديمقراطية أو لاعبا حكوميا موقفا أو يشرّع قانونا ينتهك الحقوق المتساوية بين الجنسين كنتيجة لضغط من حزب أو مجموعة دينية، فينبغي اعتبار هذا الفعل غير متّسق مع الحقوق الأساسية للمواطنين في نظام حكم ليبرالي ديمقراطي، و ينبغي اتخاذ خطوات لتغيير مثل هذه الممارسة. وهذا ما حدث في قضية شاه بانو- قبل تدخّل راجيف غاندي. إنها الطريقة التي ناقش فيها القاضي تشودري في أندرا براديش، مدافعا عن حق سريثا في المساواة و الخصوصية- حتى تدخلت المحكمة العليا، للدفاع عن قانون الزواج الهندوسي. إنه ماحدث في المحكمة العليا في بنجلادش، في قضية مماثلة. إنه ماحدث في بنجلادش مرة أخرى في قضية حضانة طفل، حيث تجرّأ القاضي على التعبير عن رأيه بأن الحياد عن التقاليد الدينية الإسلامية “من الممكن أن يكون متاحا” من أجل سلامة الطفل. إنه ما حدث في المحكمة العليا في الهند في قضية ماري روي، عندما شرّع قانون ترافانكور المسيحي الحقوق الغير متساوية في الميراث و تم إعلانه بالمحكمة غير قابل للتطبيق.   إنه ماحدث في قضية ينتي داو في بتسوانا، ليست دينية و لكن سابقة للكثير من القضايا المتعلقة بالدين لأن ميثاق إلغاء التمييز ضد النساء كان ملزما لجهات الدولة.

و بشكل مرتبط، فإن تنظيم المدارس الحكومية الإسرائيلية ينبغي أن يعتبر غير قانوني ويفترض أنه غير دستوري لو شرّعت إسرائيل دستورا لسرد قائمة الحقوق الأساسية بما يتّسق مع اتفاقية إلغاء التمييز ضد النساء. هناك الكثير من الأمور هنا، بما في ذلك المعاملة المنفصلة بشكل فاضح و الغير متساوية للأطفال العرب. لكن دعوني أركّز الآن على قضية مجتمع القدس المتشدّد بشدة “الأرثوذكسي”، المسموح له بالحصول على دعم مالي من الدولة لمدارس تنتج جهلا فادحا بالعالم الحديث. هذا غير ملائم لمختلف الأسباب، لكن للاستمرار في نوعية نقاشي هنا دعوني أركّز ببساطة على أن مثل هذا النظام يمنع النساء من الحصول على المعلومات عن دورهن في العالم و عن عادات المساواة بين الجنسين في الدساتير الديمقراطية الحديثة. وهن بذلك مخفيات و معزولات، وهذا ينبغي أن يعتبر انتهاكا لحقوق التعليم. لو قامت مدرسة دينية بالعمل بهذا الشكل في الولايات المتحدة الأمريكية، فلن تحصل على أي تصديق من أي هيئة محلية أو إقليمية، فضلا عن استلامها لأي معونات مادية حكومية.

تنشأ حالات خاصّة عندما تحوي دولة  بداخل حدودها أقلية وطنية مختلفة تمّت هزيمتها و تحييدها و تطالب الآن بنظام قانوني منفصل. قدّم ويل كمليكا تحليلا مفصّلا عن وضع المجتمعات القبلية في كندا، مناشدا بأنه في مثل حالتهم ينبغي أن يمنح مجالا أوسع لتشكيل مجتمعات سياسية منفصلة. اعتقد ويل بأنه لو حكمت هذه المجموعات بشكل غير ليبرالي، بحيث تنتهك حقوق الأفراد فيها، سيصبح من المشروع للترتيبات الدستورية تحصينهم من المراجعة القضائية على مستوى فدرالي (الحكم العام لكل الولايات). ينبغي أن يعتقد الليبراليون بأن قوانين الأقليات الغير عادلة ينبغي أن يتاح لهم الحديث عنها و أن يتمّ الترويج لتطوير سياسات حقوق الإنسان الدولية بحيث تصبح قادرة في النهاية على منح المحاكم الدولية الصلاحية لمعالجة الشكاوي المتعلقة بانتهاك الحقوق من مجتمعات الأقليات.

لكن تدخّل الحكومة الفدرالية في الشؤون الداخلية للأقليات يمكن تبريره كما يناقش ويل، فقط في حالات “الانتهاكات الفظيعة و الممنهجة لحقوق الإنسان، كما في الاسترقاق، أو الإبادة العرقية، أو التعذيب الجماعي، أو الطّرد من البلاد، كما أن هذه الأمور هي مسوّغات للتدخّل في الدول الأجنبية”. تظهر الملاحظات الموجودة في أماكن أخرى في الفصل أن كمليكا لا يعتبر أن إنكار الحقوق السياسية و القانونية للنساء كنوع من “الانتهاكات الفظيعة و الممنهجة” التي تسوّغ التدخّل.

هذا الموقف يبدو لي غير ملائم إطلاقا. فبالتأكيد أنه من المفضّل أن تصبح المحاكم الدولية في النهاية مدافعة عن حقوق الأفراد. لكن ماذا سيحدث في الوقت الحالي مع النّساء الذين لا يعانون فقط مما ينبغي تسميته انتهاكات فظيعة و ممنهجة في حقوقهن و لكن، أيضا و تحديدا باعتبار حرمانهن من الحقوق (من الصوت السياسي، التنقّل، التجمّع، التعليم، و غالبا التغذية المتساوية و الرعاية الصحية)، أنهن أيضا غير قادرات على تحريك مجتمعاتهن في اتجاه التغيير؟ هل يجب على فئة النساء داخل الدولة  أن يتم اعتبارها حتى “جزءا مجتمع الدولة” فقط لأنهم فيها و لا يمكنهم مغادرتها؟ نعتقد أن العائلة هي نوع من المجتمعات. و بالرغم من ذلك، فلو ضرب الزوج زوجته أو حاول منعها من التصويت أو الخروج من المنزل، فلا نتردد في التدخّل – ولو تردّدنا، فلا يجب أن نفعل ذلك. لا أرى سببا يمنح أي قبيلة أو مجموعة دينية مجالا أكبر من العائلة في الحدّ من الحقوق الأساسية للمواطنين البالغين.

إنه بالطبع أمرا آخرا أن نقرّر كيفية تفعيل هذا الموضوع سياسيا. يبدو كمليكا محقّا أن هذه الحالات أيسر تعاملا من الحالة الهندية، و التي تداخلت فيها المجموعتين الدينيتين الأكبر لسنوات و لكل منها نفوذ سياسي مهم على السمتوى الفدرالي. يبدو معقولا في الهند للمدافعين عن قانون مدني موحّد القول، مع القاضي المسلم م. س. تشاجلا، بأن المسلمين الراغبين في التأثير على القانون يملكون القوة لفعل ذلك: “فبعد كل شيء، يملك كل الخمسين مليونا من المسلمين صوتا في انتخاب البرلمان عبر امتلاك البالغين لحق الاقتراع”.  أظهرت انتخابات 1996 للعالم بدقّة كم يمكن لهذه القوة أن تكون حازمة: شكّلت الأحزاب الإسلامية جزءا رئيسيا من التحالف الذي استطاع أخيرا تشكيل الحكومة، بعد أن فشل حزب بي جي بي في أن يقوم بذلك. (و اليوم، هذه القوة السياسية في خطر؛ و ينبغي للمحاكم الإسلامية لذلك أن تكون محميّة، على أنها أيضا مطالبة بالإصلاح.) في حالة كمليكا، وعلى العكس، كانت المنتمين للقبائل قليلي العدد، بلا تأثير، و معارضين بشكل مرير للتعاون مع من استبدّ بهم من قبل “الحكومة”. و لكنه من الصعب أن نفهم كيف يمكن للتاريخ الحزين لمجموعة أن يمنحنا تبريرا فلسفيا للإنكار الفاضح لحقوق الأشخاص و حريات أعضاء المجموعة. ماهي “المجموعة” على أي حال؟ كما قال جويس ليوبولد بلوم عن المفهوم المشابه و المبالغ في تقديره “الشعب”، إنه ليس أكثر أو أقل من نفس الأشخاص الذين يعيشون في نفس المكان”. “المجموعة” إذن ليست عضوا مندمجا، و لكن مجموع الأفراد، مرتبطين معا بأشكال ما و مختلفين في الكثير غيرها. الأصات المسموعة عندما تتكلم “المجموعة” ليست بشكل سحري أصوات وحدة مندمجة معا، لكنها أصوات الأكثر قوة من أفرادها، و هذه لا يحتمل بشكل خاص أن تكون للنساء. فلماذا نمنح إذن مجموعة خاصة من الرجال رخصة لإخضاع النساء، فقط لأنهم استطاعوا الوصول إلى القوة في مجموعة ما تهمّش النساء، إن استطعنا أن نستنتج أنه ينبغي أن يكون للنساء ضمانات في حماية متساوية في شعبنا بشكل عام؟ القيام بذك يهين هذه المجموعة- حيث لا نضعهم في نفس المعيار الأخلاقي المرتفع الذي نضع فيه أنفسنا- وهو أمر غير عادل بشكل فاضح للنساء، و الذين يقال لهن أنه لمجرد كونهن نساء قبليات، أو ما إلى ذلك، فإنهن لا يتمتعن بنفس ضمانات الحرية التي تتمتع بها غيرهن من النساء. (و ماذا عن “مجموعة” النساء؟ هل يمثّلن مجموعة كنفس “مجموعة” القبيلة؟ وهل لا يملكن قصتهن الحزينة الخاصة ليخبرونا بها؟)

لا ينبغي إذن لأي مجموعة دينية أن يكون لها نظامها القضائي الخاص الذي إما يخالف الحقوق الأساسية لأي فرد، كماهو موضّح في الأعلى، أو يتضمن عدم مساواة بين الأديان في مقابل بعضها البعض. إن كان كل ذلك مضمونا بقوة، فإن منح الأديان مجالا ما في مجالات مثل عقود الزواج و الطلاق يمكن على الأقل مناقشتها. على سبيل المثال، من المفترض أن يكون ممكنا، كما هو في كل مكان، أن يدخل الشخص في عقد زواج ديني- بشرط ان تضمن الدولة السماواة في المعاملة لكل المواطنين بغض النظر عن الدين في مجالات الموافقة على العقد، الطلاق، و النفقة، في الوقت الذي يتاح فيه أيضا الزواج العلماني و يكون منظّما من الدولة بشكل متساو، و على اشتراط أن يمكن للأفراد من خلفية دينية اختيار حرية الدخول في زواج ديني من عدمه. في مثل هذه الحالات، يمكن لأن يكون المعنى الروحاني و الديني للزواج أن يبقى عظيما؛ ولكن المهم هو أن لا تفرض هذه القوانين التزاما على المواطنين يخالف حرياتهم و حقوقهم الفردية. (و هكذا فإن متدينا من طائفة الكاثوليك الرومان يمكن أن يقرر أن إتاحة الطلاق العلماني غير معتبر روحانيا و ربما يركّز على فسخ الزواج كوسيلة وحيدة يمكن بها أن ينتهي الزواج بشكل معتبر؛ وماهو مهم هو أن لا تفرض الدولة هذه الآراء الخاصة بالطوائف المسيحية الكاثوليكية الرومانية على الأفراد من خلفية كاثوليكية و لكن أن توفّر الدولة نظاما علمانيا للطلاق متاحا لكل المواطنين.

الجهات الدينية الفاعلة تحت نظام قانوني         

الجهات الدينية الفاعلة ينبغي أن يحكمها نفس النظام القانوني الذي يحكم الجميع. وهذه ليست هي الحال دائما. في تايلاند، لا يمكن محاكمة و إدانه الرهبان البوذيين إلا في محاكم مشكّلة منهم؛ ولا يمكن إدانتهم تحت نظام قضائي عام. وهم يميلون، عموما للعيش معا. في قضية حدثت مؤخرا، اتّهم راهب بالتحرّش الجنسي و رفض النفقة على طفل غير شرعي (يزعم أنه أخبر نساء عديدات بأن وضعهن الروحاني في خطر كبير إن لم يمارسن معه الجنس) و لم يمكن محاكمته في العلن، و رفض بقية الرهبان محاكمته. و فقط بعد فضيحة مطوّلة أمرت وزارة التعليم الراهب بعمل فحص المادة الوراثية لإثبات الأبوة أو أن يخاطر بعزله، وحتى في ذلك الأمر كانت صلاحية الوزارة مشكوكا فيها.وغني عن القول، أن ذلك لم يكن ينبغي السماح له بالحدوث.

هل ينبغي على المنظمات الدينية و أعضاءها أن يعاملوا بشكل غير متساو لأغراض مرتبطة بالنوع الاجتماعي (الجنس)؟ منح قانون الدستور الأمريكي استثناءات خاصّة للدين، بعكس أشكالا أخرى للالتزامات و الانتماءات. الأسباب الدينية للاستثناء من الخدمة العسكرية، أو لرفض العمل في يوم معين، منحت استثناء خاصا لم يمنح لأشكال أخرى من التزامات الضمير، مثل المرتبطة بالأسرة، أو بالفنون أو حتى الالتزامات الأخلاقية. و يبقى ذلك مختلفا حوله بسبب الطريقة التي منح فيها الدين أفضلية على غيره من الانتماءات اللادينية و بذلك، ربما يبدو مخالفا لنص التأسيس. مستقبل هذا الموضوع يبقى غير محسوم، وهذا ليس المكان لعمل نقاش معياري على أمر بهذا التعقيد و الوعورة. و يكفي القول بأن هذه الامتيازات الممنوحة للدين، رغم الإمكانية الكبيرة لنقضها، يمكن دعمها بقوة بالإشارة إلى الأهمية الخاصة لحرية الضمير كحق أساسي و الحاجة بالتالي لمنح حرية الدين حماية خاصة من التوغّلات، و التي هدّدته عبر التاريخ.

زعمت الهيئات الدينية أيضا استثناء من قوانين معينة تطبّق على العموم، بما في ذلك قوانين عدم التمييز. يمكن للكنيسة الكاثوليكية أن ترفض عضوا يهوديا فقط لأنه يهودي؛ مثل هذا الفعل، الغير دستوري في العادة، يبدو شرعيا تماما هنا. السؤال الضروري هنا هو كم عدد الوظائف بداخل منظمة دينية ينبغي استثناءها لهذا السبب.  حاليا، يسمح النص السابع بالتمييز بناء على الدين  عندما “تكون الشهادة الأصلية المطلوبة للمهنة ضرورية بشكل مقبول لتسيير العمل” الخاص بالجهة، و يستثني النص بشكل خاص المؤسسات الدينية التعليمية، و يسمح لهم بالتمييز بناء على الدين في تعيين موظفيهم. و يبدو ذلك الاستثناء متّسعا بشكل مبالغ فيه. ففي الوقت الذي يبدو فيه مقبولا (على الرغم من الاختلاف حوله) أن تسعى نوتردام إلى عدد أكبر من الكاثوليك في طاقمها التعليمي، فإن اختيار العاملين بالنظافة و البناء من الكاثوليك يصعب قبوله. والوضع بحاجة إلى تفصيل أوضح للاستثناء في التعيين.

و بشكل أكثر صعوبة- و أكثر أهمية لأغراضنا- المطالب الخاصة بالمجموعات الدينية لاستثناءها من النصوص الأخرى الخاصة بعدم التمييز، مثلا، النصوص المتعلقة بالتمييز المبني على النوع الاجتماعي و التوجّه الجنسي. لا تتطلّب الدولة  من الكنيسة الكاثوليكية الرومانية أن تدخل النساء إلى سلك الرهبنة بشكل متساو مع الرجال، على الرغم من أنه في كل المهن الأخرى يعتبر رفض التعيين بناء على الجنس غير قانوني. لكن هذا يؤثر على تعيينات أخرى، كما في حالة أن يتطلب النص من رئيس الجامعة الرومانية الكاثوليكية أن يكون عضوا في جماعة معينة من الرهبان. يمكن أن يناقش الشخص بأن الرهبنة تقع في جوهر العبادة و يجب حمايتها على هذا الاعتبار؛ ولكن رئاسة الجامعة يصعب الدفاع عنها بهذه الحجّة، خصوصا عندما يتم الاعتراف بكون النساء من أعضاء هيئة التدريس و الإدارة يمثلن جزئا ثمينا من المؤسسة.

أما فيما يخص التوجّه الجنسي، فقد استثنت بعض قوانين عدم التمييز بناء على التوجّه الجنسي، على سبيل المثال، الخاصة بمدينة دنفر، المؤسسات الدينية من تطبيقها. هذه الحالات هي على الحدود، يصعب تمييزها عن تلك الحالات الخاصة بالنوادي الخاصة و المؤسسات التعليمية، و التي تآكلت حرياتها في التمييز بناء على الدين أو النوع الاجتماعي بشكل منتظم. مرة اخرى، الأسئلة القانونية معقدة؛ يمكننا فقط أن نشير في اتجاه توصية ما. ولكن يمكننا أن نصرّ بطريقة واعدة على أن أي شكل من أشكال التمييز على أساس النوع الاجتماعي، العرق، أو التوجّه الجنسي عليه أن يواجه تمحيصا دقيقا وفق نصّ الحماية المتساوية- أو ما يشابهه في النظام القانوني المعني بالنقاش: فقط مصلحة ملحّة للدولة ينبغي أن تبرّر مثل هذا التمييز. و من ناحية أخرى، ينبغي أن يكون متاحا في بعض الحالات لحماية الحرية الدينية توفّر هذه الحاجة الملحة،  طالما أن القانون المناقش تمت صياغته بشكل ضيق لحماية هذه المصلحة الخاصة. وجهة نظري الخاصة أن مثل هذا التفصيل الضيق ينبغي أن يتضمّن تحديد أي أنشطة تدخل ضمن جوهر التعبّد و أي الأنشطة الأخرى تعارف على أن يقوم بها جهة دينية.

منطقة أخرى للاختلاف هو دور منافع الدولة و دعمها: هل ينبغي السماح للدولة أن تمنح استثناء من دفع الضرائب لمؤسسة تمارس أنشطة تمييزية؟ في قضية نوروود ضد هاريسون، حكمت المحكمة بأن برنامجا مدعوما من الدولة للمناهج الدراسية غير دستوري فيما يخص تطبيقه على مدارس لديها سياسات تمييز عنصري. في قضية جامعة بوب جونز ضد الولايات المتحدة، أيّدت المحكمة رفض مصلحة الضرائب الأمريكية منح استثناء ضريبي لمؤسسة مبنية على الدين، لديها سياسة تمييز عنصري في قبول الطلبة لبرامجها. احتجّت المحكمة بأنه “بأن مصالح الحكومة الأساسية الأكثر أهمية في إلغاء التمييز العنصري في التعليم ترجّح بشكل كبير أي عبء تفرضه إنكار منح الاستثناء الضريبي على حق ممارسة المدّعين لمعتقداتهم الدينية. مصالح المدّعين المؤكّدة لا يمكن استيعابها مع مصالح الحكومة الملحّة، ولا تتوفّر وسائل أقلّ تقييدا لتحقيق المصالح الحكومية” (2020-2021). المؤسسة الدينية التي رفضت قبول النساء، أو عاملتهن بشكل تمييزي، يحتمل أن يحكم عليها بنفس الشكل، و الدعم المالي الحكومي لمثل هذه المؤسسات ربما يختزل، على أن ذلك غير واضح. السؤال هو، على أي حال، أي الممارسات الأخرى للمؤسسات الدينية يمكن اعتبارها تمييزية لهذه الأغراض؟ لا تكاد تجد دينا يفشل في السماح للنساء بأن يكن أعضاء فيه؛ السؤال هو، كيف يعاملهن بعد عضويتهن؟ هل ينبغي أن تفقد الكنيسة الكاثوليكية الرومانية استثنائها الضريبي لأن النساء لا يسمح لهن بالانخراط في سلك الرهبنة؟ هل ينبغي أن تفقد جامعة نوتردام الموارد الفدرالية لأن رجلا فقط يمكن له أن يعيّن رئيسا لها؟ يمكن الإجابة بشكل جيد على مثل هذه الأسئلة بتفضيل مساحة أوسع للمجموعة الدينية، ولكن يجب أن تواجه بصراحة و يتداول النقاش حولها. لو ألغينا هذه الأسئلة من طاولة النقاش، فنحن نقترح بأن مثل أشكال التمييز هذه، على العكس من التمييز العنصري أو الديني، هي مسموحة تمثل تعبيرا غير ضارا عن التنوّع الثقافي- وهذا، برأيي، هو افتراض عانت بسببه النساء بشكل مطول للغاية. لو ناقشنا هذه الأسئلة علنا، فسنصل إلى فهم مشترك أفضل لحدود الحرية الدينية حتى في المؤسسات التطوعية، بداخل نظام حكم ليبرالي ملتزم بحماية الحقوق الأساسية.

هناك أمور أخرى مختلف حولها فيما يخص حرية الممارسة الدينية مبنية على التمييز الجنسي: هذه الأمور، خصوصا فيما يتعلق بحقوق الوالدين في التحكم بتعليم أطفالهم بما يتناسب مع معتقداتهم و ممارساتهم الدينية. هذا الموضوع المعقّد يحتاج إلى معالجة كاملة و منفصلة؛ يكفي القول بأن أمرا واحدا هاما، لا يركّز عليه دوما في مثل هذه الحالات، سيكون نوع التعليم الممنوح للفتيات، و علاقته بحقهن المتساوي في التعليم الذي يؤهلهن للتوظيف و المواطنة.

هل هناك، و هل ينبغي أن يكون هنا، أي قيود قانونية على خطاب الفاعلين الدينيين؟ أي صيغة للخطاب الديني تشكّل تهديدا بالعنف ضد فرد أو مجموعة ينبغي أن، و ربما هي بالفعل، غير قانونية تحت نظام الدولة الخاص بالجرائم. و من الواضح أن اقتراح فتوى ينبغي ان يكون غير قانونيا، و أن كل من لهم يدا فيها هم مجرمون دوليا و أشرارا، و لكن لأنهم أيضا من يصنع القوانين في دولهم، فلا يمكننا استخدام حالتهم للحديث عن كيفية إدارة دولة ديموقراطية دستورية لنظامها القانوني.

دعونا لهذا السبب نلتفت لحالات داخل الديمقراطية. الملالي الذين هدّدوا بكسر رجال النساء كان ينبغي اعتقالهم. و حقيقة كونهم ملالي لا تمنحهم حقوق خاصة؛ فيما يخص دعوتهم لكسر الأرجل، فلا يختلفون عن جرائم زعماء المافيا الذين يطلقون تهديدات مشابهة. ماهي جريمتهم؟ يفترض أن تكون الاعتداء: خذ مثلا تعريف نظام العقوبات النموذجي، و الذي بموجبه يصبح شرطا كافيا للاعتداء أن يحاول الشخص “بواسطة العنف الجسدي أن يضع آخرا في خوف من إحداث ضرر جسدي بالغ حقيقي” (21101.س). و بالنظر إلى أن أفعال الملالي قيّدت النساء من الذهاب للخارج لتحصيل العلم، فيمكننا أيضا أن نركّز على جريمة “التقييد الإجرامي” التي تحدث إن قام الشخص ب أ) تقييد أخر بشكل غير طوعي في ظروف تعرّضه إلى خطر جسدي شديد، أو ب) يحبس آخرا في حالة خدمة جبرية” (21202). يمكن أن يتضمن حلا قانونيا آخر مفاهيم الملاحقة، المضايقة، و ما إلى ذلك من المصطلحات و المفاهيم و التي تم تطويرها مؤخرا. و ربما ينبغي أن يحصل تهديدهم بإقضاء السيدات اجتماعيا على تعامل مماثل، لأنهن في هذه الحالة يتعرضن لما يشبه تهديدا بالموت.

و في منطقة رمادية يقع الخطاب الذي يحرّض آخرين على ارتكاب أفعال عنف ضد النساء. و هذه طبقة كبيرة و متنوعة. و حالة الساتي مرشدة لهذا المعنى. التحريض المباشر على ارتكاب الساتي (شكلا غير قانونيا للانتحار) كان غير قانونيا تحت القانون الهندي لبعض الوقت، و أفعالا مشابهة يمكن أن تكون مجرّمة في الولايات المتحدة. لكن القانون الجديد الذي تمّت الموافقة عليه بعد وفاة روب كانوار جرّم مناطق أكثر اتّساعا بكثير من الخطاب التحريضي: “التعظيم”، “الرثاء” و إقامة الاحتفالات و التجمّعات المرتبطة بممارسات الساتي. بعض هذا الخطاب، على الأقل، يقع بين جوهر الخطاب السياسي المحمي بواسطة النص الأول للدستور الخاص بنا؛ يسمح الدستور الهندي بشكل واضح للدولة أن “تفرض قيودا معقولة على الحق في حرية التعبير بما يحفظ سيادة و أمن الدولة و علاقاتها الصديقة بالدول الأخرى، و بما يحفظ النظام العام، التهذيب و الأخلاق، أو ما يتعلق.. بالتحريض على ارتكاب إيذاء”. و هذا المنع بالتالي دفاعي باحتمال كبير بداخل هذا النظام الدستوري. و على الرغم أننا ربما نجد القيود الهندية عامّة بشكل متزايد، فينبغي أن يتم تفسيرها ضمن تاريخ من العنف الديني المهول و العنف ضد النساء؛ كان الحكم أن تقييدا كهذا فقط يمكنه أن يمنع انتشارا واسعا لممارسة كانت من الممكن أن تضع حياة العديد من النساء في خطر.

و بشكل مشابه و في منطقة رمادية تقع الخطابات التي تقول أن النساء اللاتي يفعلن ذلك و ذاك (مثلا، يرتدين ملابسا بشكل معين، أو يمشين بشكل غير محتشم) يستحقون الموت؛ الخطابات التي تقول أن هؤلاء النساء عاهرات و مستباحات لاغتصابهن؛ الخطابات التي تقول ببساطة أن مثل هؤلاء النساء هن عاهرات؛ الخطابات التي تقول أن النساء الأرامل هن ميّتات فعليا و أن أمنياتهن لا تحسب؛ الاخطابات التي تقول أن النساء كالأطفال و لا أخلاق لهن و بحاجة لتأديب منزلي على مؤخراتهن،  ضمن غيرها من الخطابات. مثل هذا التحريض هو سبب رئيسي للاعتداء و الاغتصاب و حتى موت النساء: أين تمّ اعتبار المتحدّث الديني مسؤولا عن ارتكاب جريمة اعتداء؟ و يبدو واضحا، هنا أيضا، أن الحجة الأقوى للتجريم توجد عندما يستهدف التحريض مباشرة شخصا معينا و تكون تحريضا على فعل مباشر. مثلا، أخ ذهبت أخته للعمل في مدينة كبرى و عادت بتنورة قصيرة للمنزل يتم إخباره بأن امرأة مثلها تستحق الموت بلا أي ضجة، أو إخبار رجل بواسطة قائد ديني أن عليه أن يحسم سلطته المنزلية بشكل أكبر و أن القليل من الهزيمة عند عودته للمنزل الليلة لن تضرّ، أو مناشدة رجل قروي بواسطة الملالي أن يضرب كما يشاء النساء الذاهبات للمدرسة. وبمثل هذه الطريقة، جرّمت قوانين القسوة مع النساء في كل من الهند و بنجلاديش العنف العقلي و الجسدي المرتبط بالحصول على المهور. حتى عندما لا يكون هناك تهديدات، فإن التعبير عن الكراهية الموجّه بشكل ضيق إلى شخص بعينه يمكن تجريمه بشكل شرعي.

عندما يكون الخطاب التهديد أو خطاب الكراهية أكثر عمومية ينبغي أن نكون حذرين. أكثر الحديث عن مساواة النساء هو خطاب سياسي، و هو تعبير عام عن تعاطف سياسي، مهما كان كريها، ينبغي أن يحصل على درجة عالية من الحماية. و بالرغم من ذلك، يمكن لدولة أن تقوم بشكل شرعي، و بالنظر إلى تاريخها، بالحكم بأن أنواعا ما من الخطابات التي تعبّر عن الكراهية أو تثير العداء هي خطيرة للغاية حتى تترك بلا تجريم. أغلب الشعوب الأوروبية بما فيها بريطانيا بقانونها الذي ينظم العلاقات بين الأعراق، وضعت حدودا أضيق لخطاب الكراهية من الولايات المتحدة. في ألمانيا، الخطاب المناهض للساميّة غير قانوني، بالنظر إلى تاريخ ألمانيا الخاص. في دولة “تفقد” فيها ملايين النساء يمكن و بشكل شرعي أن تحكم أن بعض أنواع الخطابات المسيئة لقيمة حياة النساء ينبغي أن تحرّم، حتى لو كان الخطاب دينيا، و كذلك بالتأكيد التعبير عن تقليد ديني راسخ. و بمصطلحات عملية، مثل هذه القوانين من المرجّح أن تثير مشاكلا أكثر مما تحلّها- للجماعات الدينية المعنيّة بها، لأنهم بعكس النازيين، لم يهزموا أو يموتوا عموما و لذلك لن يضعوا نهاية للمشكلات باستخدام أذكى للأفكار المتعلقة بحرية التعبير. و رغما عن ذلك، يبدو مهما أن نشير إلى أن هناك قضية أخلاقية لتوضيحها في هذه القوانين. ربما ذهبت الهند بعيدا بتضييقها الخطاب في بعض المجالات، مع القوانين المتّسعة ضد التّكفير و التي سمحت بحجب رواية سلمان رشدي. و لكنه من الوضاح أن رسم هذا الخط يجب أن يتم بفهم عميق للأخطار على النظام العام التي تواجهها كل أمّة، و لذلك فليس من الحكمة الاسترسال في الحديث هنا أكثر. يستحق هذا الموضوع الكبير و الخلافي معالجة منفصلة.

القيود الأخلاقية على الخطاب الديني في الفضاء العام

حتى عندما لا يكون الخطاب الديني ممكن التنظيم قانونا، يمكن أن يحكم عليه بكونه غير أخلاقيا في بعض الحالات. هنا، و أخيرا، نصل إلى الموضوع الذي يحتل أغلب النقاشات في الولايات المتحدة الأمريكية. في نظام دستوري أو ديمقراطي تبنّى ضمان المساواة بين الجنسين أو أقرّ اتفاقية النساء لإلغاء التمييز، ينبغي أن يكون غير أخلاقي و بشكل مباشر و غير لائق، الحديث بطرق تتناقض أو تهمّش من هذه الحقوق الأساسية. و هكذا، أي خطاب ينكر إنسانية النساء المتساوية (أو، بالتأكيد، الإنسانية المتساوية لكل المواطنين)؛ أي خطاب يعكس النساء كعاهرات بالطبيعة أو أطفال أو غير ملائمات للمواطنة؛ أي دفاع عن ممارسات تنتهك حقوق النساء الإنسانية كما ضمنها الدستور، كالاغتصاب الزوجي، أو تشوية الأعضاء الأنثوية بختانها- كلها ينبغي أن تعتبر غير لائقة بشكل كبير. (و أتعمّد هنا أن أشمل أي خطاب ديني كسبب لاستهداف وسائل منع الحمل في المحافل الدولية، لأنني كما ذكرت سابقا، أعتبر وسائل منع الحمل حق أساسي للنساء). و يمكننا بمشروعية أن نطّلع على تاريخ  مثل هذا الخطابات كسبب ضد الموافقة على تعيين قاض في منصبه؛ قائد ديني يستخدم مثل هذه الخطابات في الفضاء العام ينبغي انتقاده بقوة كونه يحطّ من شأن الدستور.

أما فيما يتعلق بالأشكال الأخرى للخطابات الدينية، فإن وجهة نظري هي مثل تلك التي طرحها جون كورتني موراي ( و قريبة من وجهة النظر المناقشة في نشخة جديدة من ورقة جون راولز الليبرالية السياسية): أن مثل هذا الخطاب ملائم، حتى في النقاشات حول الأمور الدستورية الأساسية، إن كان يمكن متاحا للعموم و جليّ للمواطنين الذين لا يتشاركون مع المتحدث في انطلاقته الدينية في النقاش، و إن كانت تراعي توضيح انسجامها مع المباديء الأساسية للدستور (أو المباديء المستقاة من البيئة السياسية الديمقراطية، في حال لم يتوفر دستور مكتوب). و هكذا، فإن حديث الباب للأمم المتحدة ، يبدو لي ملائما بشكل تام، لأنه دائما ما يتعب لتوضيح حجته الأخلاقية للآخرين ممن لا يتفقون معه في انطلاقه في النقاش من غيبيات، و لأانه حريص على أن تكون حجّته متّسقة مع المباديء الأساسية، في هذه الحالة، القانون الدولي و الأخلاق.

لكن ينبغي أن تكون هناك عناية خاصة لتجنب عمل أي إيذاء للأقليات: هكذا، فإن قاضيا في الهند يستعين بكتاب ديني (رامايانا) في حكمه، مهما كان متّسقا مع المباديء التي وضعتها سابقا، ربما يرسل رسالة سياسية ربما تحلّل للكثيرين، في جو الآراء الحالي، الحطّ من المسلمين و التعاطف مع الشعور بأن الهند هي في الأساس مجتمع هندوسي؛ القاضي الذي يستقي حكمه من (قوانين مانو)، حتى لو كانت مخزنا للحكمة لكل العصور، يمكن أن يشكّ فيه من النسويات بأنه يحمل نفس أفكار الكتب القديمة فيما يخص النساء، حتى لو كان الجزء الذي استقاه القاضي لا علاقة له بأمور النساء؛ القاضي الهندوسي الذي ينتقد جزءا من النصوص الإسلامية يوحي بشكل غير حكيم أنه يمارس سلطة على أقلية في منطقة حميمة من التعبير الديني الذاتي.

هل هذه قيود مقبولة؟ بالتأكيد لن تكون مقبولة للعديد من المنتمين للكثير من الأديان لأنها تتضمن التقييد من السلطات التقليدية للدين. لكن علينا أن نصرّ، على أي حال، أن هناك جوهرا أساسيا للأخلاق العالمية تقيّد من كل الفاعلين دينيا في الفضاء العام، و أن التمسّك بالأخلاق بالطرق التي أسلفتها لن يشكل انتهاكا أكثر لحريات الممارسة الدينية من متطلبات احترام قانون الجرائم.

إن كان استقبال أيا من هذه المقترحات بتهم “التغريب”، فإن على الليبراليين أن يصرّوا، مرة اخرى، أن الصوت الأعلى في تقليد ديني لا يعرّف عن كل الاحتمالات الممكنة في هذا الدين؛ و أن الفاعلين دينيا يستخدمون المناشدات الدينية كوسيلة لزيادة قوتهم، و ليس دائما كمحاولات مشروعة للوصول إلى جوهر الدين؛ و أن كل الأديان لها قراءات متعددة و تحوي نقاشات و معارضات؛ و أخيرا، أن كل الأديان تحوي أصوات النساء، والتي لم يكن متاحا دائما سماعها في النصوص التي اعتمدت لتعريف الدين و متطلباته. إنه، و بشكل إضافي، كذبا محضا، و شوفينية (تحيز للفكر أو الذات أو الجماعة)، الاعتقاد بأن فكرة التعامل العادل للمجموعات المتنوعة و التي تشكّل الشعب هي غربية في الأصل. و قد كانت هذه الفكرة على جدول الأعمال الهندي منذ تعاليم أشوكا في القرن الرابع قبل ميلاد المسيح،  و تم تطوير أفكار التعايش بشكل مفصل في النظام القانوني تحت حكم امبراطورات المغول، قبل عصور التنوير الأوروبية بكثير. و القاضي الهندي الذي يستلهم تلك الأفكار في تعامله مع النساء لا يستقيها من مفهوم غربي و لكنه يستقيها من جذور تاريخية عميقة في الهند.

ماذا يمكن عمله

أحد أشكال التعامل التي يمكن لليبراليين المهمومين بالدين أن يتعاطوها هو تشجيع الخطابات الدينية المتعددة و المقارنة في هذه المواضيع، الخطاب الذي يجلب للضوء و ينشر تعدد الآراء في كل هذه الأمور داخل التقاليد الدينية و أيضا جمع الأفراد من التقاليد الدينية المختلفة معا للتشاور و النقاش المقارن. و خلال هذا العمل، العديد ممن يستقون تعاليما دينيا تنتهك حقوق النساء سيكونوا مكشوفين في بنائهم على اعتبارات التقاليد الضيقة و المتحيزة، و غالبا في سوء تمثيلهم للمعاني- كما كان يحدث في علاقة الإسلام بختان الأعضاء الأنثوية. هذه منطقة واحدة يصح فيها القول المأثور بأنه من الأفضل أن نزيل خطابا سيئا بخطابات أخرى. الخطاب الديني، إن كان شريرا كما في العديد من الأمثلة التي ذكرتها، هو أيضا، مصدرا رئيسيا للأمل لمستقبل النساء. و لذلك لا ينبغي أن نقبل بأي حل للمعضلة الليبرالية تهمّش على نحو غير ملائم الخطاب الديني أو تطلب من الناس أن يفصلوا أنفسهم عن الدوافع الإنسانية التي ربما تحفّزهم في شكل ديني معين. أعتقد أن مقترحي لا يقوم بذلك.

و إنه، بشكل إضافي، نشاط مشروع للدولة الليبرالية أن تشجع العناصر الليبرالية في التقاليد الدينية. و هنا أتفق مع جون كورتني موراي و مع راولز: بإبراز نوع الخطاب الديني المتّسق مع الأساسيات الدستورية و إبراز المتحدثين به، فإن الدولة تقوم بشكل شرعي بتثبيت التوافق السياسي حول هذه الأساسيات و تضخّم للمواطنين حقيقة أن الحجج الدينية في الأديان الرئيسية تدعمها. و هكذا، في الهند، سيكون من المستحسن بشكل كبير للاعبين الرئيسيين في الدولة أن يقضوا أوقاتهم مصرين (كما أكّد على ذلك مطولا المثقفين كطارق محمود و أمارتيا سن) أن كلا من التقاليد الهندوسية و الإسلامية متعددة و متنوعة و تحوي عناصر ليبرالية بارزة. مثل هذا التوضيح العام يضعف حجج الأحزاب و الأفراد الغير ليبراليين للحديث بالنيابة عن كل المنتمين لتقليد ديني معين.

و بعيدا عن ذلك، يبدو ضروريا لكل المهتمين بهذه الحقائق أن ينشروا و يدعموا الأشكال المحلية للأفعال الجماعية و التي تشكل أكثر السبل الواعدة لإحداث التغيير. يعني ذلك دعم المنظمات الغير حكومية مثل اللجنة البنجلاديشية لتنمية القرى (التي نظمت مشروع تعليم النساء)، التي تعمل بعيدا عن ضغوط الحكومة و قادرة على السعي في جدول أعمال فعّال يبني من الجذور. و في نفس الوقت، فإن معرفة أن الحكومات مسؤولة بشكل كامل عن الناس أكثر من المنظمات الغير حكومية، و خصوصا المنظمات الدولية، فإنه على النساء و من يدعمهن أن يحاولن أيضا عمل ضغط على الحكومات و على الشركات المتعدّدة الجنسيات لتغيّر الأوضاع السمببة للمشكلات في أوضاع النساء، كما حدث بنجاح في حالة جنوب أفريقيا. و يمكن للنساء من دول أخرى ان تنضمّ للكفاحات المحلية إن قاموا بذلك باحترام و حساسية ملائمة. و تحتاج النساء الذين لا يحاربن هذه المظالم في مكانها إلى تعزيز لقواهن. و بشكل متكرر أيضا، فإن حقيقة أن منظمة دولية او حكومة أجنبية قد قد التزمت ببعض ممارسات حقوق الإنسان تشكّل نوعا من التعاون الاقتصادي أو الدبلوماسي و تمنح النساء وسيلة لدعم مثل هذه الممارسات بلا خوف.

و في هذه الأثناء، في الحالات الحادّة، فإن الأشخاص الذين يعانون من انتهاكات لحقوقهن الإنسانية لكونهن نساء يجب أن يمنحن اللجوء السياسي، كما في حالة فوزية كسيندجا، التي هربت إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتتجنب ختان أعضاءها الأنثوية (انظر الفصل 4). و من الواضح على أي حال، أننا لا يجب أن نعتمد على هذا الحل في منافعه (لأنه يساعد فقط الأشخاص الذين يتمكنون من ركوب طائرة و الرحيل عن بلادهم)، و الذي لا يمكن إطلاقا أن يعالج مشكلات تؤثر على ملايين الأشخاص.

الوسيلة الأخيرة لترويج الحلول للخطاب الديني التي دافعت عنها في هذا الفصل هو في إنتاج مواطنين فاعلين، لا يمكن ترهيبهم، متعلمون و ديمقراطيون. مثل هؤلاء المواطنين سيكون من المرجّح أن يطالبوا بأن يلعب الخطاب الديني دورا متّسقا مع الضمانات الدستورية للمساواة بين الناس. و هذا يعني أن دورهم تجاه تقاليدهم الدينية سيكون ايضا فاعلا و متأملا، و ليس فقط تابعا للمفسّرين الأكثر نفوذا في هذه اللحظة. في مناطق متعددة من العالم، لم يتم تشجيع النساء لأن يصبحن هؤلاء المواطنات. لكن هذا الموقف يتغير. في نهاية مشروع التعليم للنساء، قالت بعض النساء أنهن لا يأخذن بعد الآن نصيحة من القيادات المحلية الدينيةز واحدة من النساء قالت أنها لا زالت تذهب لتلقى نصائحهم. و بسؤالها عمّا لو كانت تجد نصائحهم مفيدة لها، أجابت “سأفكّر بنفسي فيما لو كانت نصيحته جيّدة أو سيّئة. إن أعطاني اقتراحا جيّدا، سأحاول فهم إلى أي مدى هو جيد بالنسبة لي. أو إن كان اقتراحا سيئا”. هذا و بشكل واضح يعني أن المتحدّثة لم تفقد قناعاتها الدينية؛ لقد كانت الوحيدة في المجموعة التي لا تزال مهتمة بالنصيحة الدينية. و لكن ذلك عنى أنها توقفت عن افتراض أن القيادات الرجالية الدينية لا يقعون في الأخطاء، و أنها تبنّت سلوكا تأمليا لممارساتها الدينية الذاتية. وهذا بالضبط هو الجواب الذي ينبغي أن يشجعه المجتمع الملتزم بصدق بالحرية الدينية.

المصدر