مجلة حكمة
الدين والأيديولوجيا - محمد الرحموني

الدين والأيديولوجيا – محمد الرحموني / مراجعة: إبراهيم الكلثم


downloadfile-2إن الأيديولوجيا من المفاهيم الفضفاضة والغير ثابتة، والتي من الممكن أن تُعرف بأكثر من تعريف مختلف، فمن “الوعي الزائف” حتى “حاجة ملازمة للإنسان” هناك طيف واسع من التعريفات؛ فما هي الأيديولوجيا التي يعنيها الباحث؟ يضع الرحموني العديد من التعريفات، ويبدو لي، بعد قراءتي للكتاب، بأن أقربها لما يقصده هو تعريف فرناند ديمونت: “الأيديولوجيا هي منظومة من الآراء تحدد من جراء اعتمادها على منظومة من القيم المقبولة اتجاهات الناس وسلوكهم إزاء أهداف التطور المتوخاة وأهداف المجتمع والفئات الاجتماعية والأفراد”.

 

المبحث الأول

انطلاقًا من قوله بأن الدين في مرحلته التأسيسية مع جماعة الرسول الكريم هو أيديولوجيا، يقيم بحوث هذا الكتاب التي تدور حول عدة مواضيع متفرقة يجمعها ثنائية الدين والأيدولوجيا. أطروحة المبحث الأول -والأطول- هي أن الجهاد في الإسلام هو أبرز تجلي لأيديولوجيا جماعة الرسول؛ فهدفها الأساسي هو تكوين جماعة وتعزيز الروابط بينها عبر تشجيع تميزها عن الآخر، وإخراج العرب من البداوة إلى الحضارة، وهذا ما استخلصه من قراءته لباب فضيلة الرباط من كتاب ” السير الكبير” للشيباني وشرح السرخسي له، ففي هذا الكتاب نرى عدة أمور مختلفة عما قرره الفقهاء بأن الجهاد هو في النهاية مجرد قتال ( يعزو ذلك إلى ما رسخ في الضمير الجمعي من أن كل ما طرأ على العرب من تحول إيجابي في فترة وجيزة إنما هو بفعل الحرب القتالية فقط، وكان تأثير هذا على الفقهاء أكبر من تأثير النص القرآني نفسه)، بل نرى على سبيل المثال حث ونهي على أنواع معينة من اللباس والزينة (نهي عن لبس المعصفر) والنهي عن بعض المأكولات والتصرفات وغيرها، ويذكر في تأييد رأيه هذا الجاحظ الذي خاض في تفسير نهي الرسول عن اتخاذ الدجاج في الدور بقوله” ولكنه (أي الرسول) كره للفرسان ورجال الحرب اتخاذ ما يتخذه الفلاح وأصحاب التعيّش مع حاجته يومئذ إلى تفرغهم لحروب العجم” أو ابن تيمية، صاحب “اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم” أن علة هذه الأحكام هي لمجرد مخالفة الآخرين لا غير. وفي هذه الرؤية التمديّنية يعلل كذلك الحث في تلك الفترة على ترك البوادي والاستقرار في المدن. هذه الرؤية لا تتناقض مع رؤى أخرى بالضرورة حول الجهاد (إدخال الناس في التوحيد أو لأسباب اقتصادية إلخ) بل تحاول تجنّب هذا التبسيط حول “رهبانية الإسلام” الذي يراه الباحث غير كافٍ، وذلك من خلال البحث عن بعض الهوامش المُغفلة لوضع الصورة في إطارٍ أوسع.

 

المبحث الثاني 

كل الحضارات التقليدية -خصوصًا في فترة هيمنتها وقوتها- أنتجت صورًا تبخيسية وغرائبية للآخر، والحضارة العربية الإسلامية لم تشذ عن هذه القاعدة. لكن الملفت للنظر، هو وجود استثناء وحيد في نظرة العرب والمسلمين في سردية “الأنا والآخر” يتمثّل في الحضارة الهندية، حيث كانت الصورة -في مجملها- بعيدة عن التحامل والتشويه. فما علة هذا الاستثناء؟ يحاول الرحموني إيجاد تعليلات لهذا الاستثناء بإرجاعه إلى أمور تاريخية وجغرافية بالإضافة إلى ما أسماه الفيلسوف الإيراني داريوش شاياغان “التجانس البنيوي في التجربة الميتافيزيقية” والمقصود به في هذا السياق هو وجود تشابه في النظرة للوجود بين الهندوسية والإسلام (الصوفية تحديدًا) وهو الخيط الرابط لكل المسوغات التي سيعرضها والتي من دونه لم تكن ممكنة. ويعرض في هذا البحث بعض المرويات الإسلامية المبكرة التي مهّدت لهذا (نزول آدم بالهند – الفيل الهندي وفيل أبرهة – الشيخ بيرزطن الهندي) مع المسوغ التجاري، ثم ينتقل بشيء من التفصيل لعرض كتاب البيروني المعروف (ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) حيث نرى موضوعية مدهشة فعلًا للبيروني في عرضه المقارن لديانة الهند والإسلام؛ ففي هذا الكتاب نرى مقارنة تختلف عن المقارنات المعهودة في تلك الفترة التي كانت غايتها بيان تفوق عقيدة على أخرى، بل سنرى مع البيروني أن غايته هي بيان أوجه التقارب إن جزئيًا أو كليًا بين الديانتين، هذه المقارنة التي انتهت به إلى الوصول إلى تشابهات وتطابقات مُلفتة بينهما. ثم ينتقل إلى محاولات سلاطين الهند (آل تغلق والخلجيين) في محاولتهم التي باءت بالفشل في توحيد الديانتين والتقارب بينهما، هذه المحاولة التي كان أهم دعاتها الأمير دارا شيكوه والسيخ كتجسّد لها. وبعد عرضه لأسباب فشل هذه المحاولة ينتقل إلى الدهلوي الذي غير المسار من التوحيد الديني إلى التوحيد الاجتماعي، ومن ثم إلى أحد ورثة هذه التركة، أي محمد إقبال، منتهيًا بمالك بن نبي الذي اقترح محور طنجة جاكارتا كمقابل لمحور واشنطن موسكو، وما يهمنا في دعوة ابن نبي هنا هو ما رآه من تشابه بين مكونات هذا المحور (البعد الروحي بين الإسلام والهندوسية وصراع التحرر ضد الاستعمار).

 

المبحث الثالث

في هذا البحث الطريف حول الغريب والعجيب في رحلة ابن جبير نرى البعد الأيديولوجي لأدب الرحلات، هذه الرحلة التي نتجت عن تصور أيديولوجي للتاريخ يؤدي وظيفة سياسية محددة هي الدعوة إلى الموحدين. في هذه الرحلة نرى “تدهور أوضاع المسلمين” كما عاينها ابن جبير ورآها في عدة أرضِ عربية وإسلامية، والأهم في مهبط الوحي، إلى درجة جعلته يدعو صلاح الدين إلى العدول عن جهاد الإفرنج في سبيل جهاد أهل الحجاز، أما الإسلام فإنه لا يوجد إلا عند الموحدين، كما يصرح بذلك: “والمتحقق يعتقد الاعتقاد الصحيح أن لا إسلام إلا ببلاد المغرب لأنهم على جادة واضحة لا بنيّات لها”. ورغم أن دعوته إلى الموحدين لا تعدم مسوغات واقعية (أوضاع الخلافة العباسية المتدهورة وتخبط أحوال المسلمين) إلا أن هذا الرحّالة يؤرخ للعجيب (الذي أتى ذكره في 254 صفحة من أصل 320 صفحة) في سبيل دعوته الأيديولوجية لأنه “إذا كان هذا التاريخ عجيبًا فلأن التواريخ التأسيسية لا تكون إلا تواريخ عجيبة”.

 

المبحثان الرابع والخامس

يبحث في المبحث الرابع عن الشيوعية التي هي “أفيون الأقليات” كما يقول، وبشكل محدد عن السبب الذي جعل الأقليات هي المؤسس والأساس للحركات والأحزاب الشيوعية في العالم العربي، وينتهي إلى تعليل تعلق الأقليات بالشيوعية والاتحاد السوفياتي على اعتبار أنهما يمثلان على التوالي ديانة جديدة وإمبراطورية جديدة قامت على أنقاض الإمبراطوريتين النمساوية-المجرية والإمبراطورية العثمانية، وعلى أنقاض ديانتين هما المسيحية والإسلام. من أجل التخلص من خطر الدولة القومية وأيديولوجيتها التصفوية. أما المبحث الخامس والأخير كان ملاحظات سريعة ومهمة على كتاب مثير للجدل لأحد شيوعي العرب في القرن العشرين صادق جلال العظم: نقد الفكر الديني.

يبدو من الوهلة الأولى بأنه لا توجد روابط تجمع بين مباحث الكتاب المختلفة، خصوصًا في حالة المبحثين الأخيرين – كما يلاحظ مقدّم الكتاب رضوان السيد -، وهي مشكلة قد تكوت مشتركة مع الكتب التي تجمع مقالات أو بحوث كتبت في أوقات متفرقة، إلا أنه مع ذلك، يُمكن القول بأن الكتاب  محاولة في مقاربة الدين والأيديولوجيا ، وما هي خطوط التماس والاختلاف بينهما من خلال بحوث تاريخية-تحليلية شيّقة.