مجلة حكمة
الدولة والسلطة - هنري لوفيفر

الدولة والسلطة – هنري لوفيفر

هنري لوفيفر الدولة والسلطة
هنري لوفيفر ، فيلسوف فرنسي الدولة والسلطة

الدولة والسلطة

أثار وجود الدولة والسلطة السياسية، الذي يتميز بالوضوح والغموض في آن واحد، عديدا من التساؤلات التي أصبحت تشكل مركز التفكير والمعرفة في العالم الحديث. إن هناك طلبا عاما بهذا الصدد؛ إذ لا يمكن لأية فلسفة ولأي تفكير نظري حول المجتمع والواقع البشري أن يتجنب هذه التساؤلات. فحياة كل فرد منا ترتبط بـهذا المجهول الذي عُـرِف بما فيه الكفاية والذي مازال يجهله الكثيرون أيضا ؛ وكذا يشعر كل فرد منا بأن هذا المجهول يعنيه مباشرة؛ أضف إلى ذلك أن مزيجا من الفضول والقلق يحيط بـهذه التساؤلات. كيف يمكن للمرء ألا يتساءل اليوم عن السبل والوسائل التي انتهجها كل من هتلر وستالين للتوصل إلى الهيمنـة على شعوب كبيرة ولإقحام عصرهما في هذا المسار الأكثر دموية في التـاريخ البشري ؟ ويصدر التساؤل عن شروط المعرفة أيضا : ألم تصبح المعرفة منذئذ مرتبطة عضويا أو مؤسسيا بالسلطة السياسية ؟ أيمكن للمرء أن يلغي هذا الرابط الذي لا يختلف اثنان في سمته الواقعية، أيمكنه أن يخترق هامشا من الحرية أو يحافظ عليه ؟ هل يمكن للمعرفة أن تصبح مستقلة بذاتـها، أن ترتد عن السلطات وأن تدرسها دراسة نقدية ؟ فإذا كان الجواب بالإيجاب، ما هي أهمية هذه المعرفة وما هي فعاليتها ؟ إن التساؤلات تتضاعف وتنصب على الأسئلة نفسها، على المعنى الذي تحمله والـهدف الذي تصبو إليه.

إن الفلسفات والبحوث العلمية التي تتجنب هذه الأسئلة المسماة “سياسية” تظل محط ريبة. إذ أنـها لا تجيب على مشاكل عصرنا الذي يتميز بتزايد قوة الدولة وتصاعد العنف وبارتباط الدولة بالمعرفي والاقتصادي واليومي والإعلامي…

لا تجرى هذه البحوث في هذا الميدان بدون التعرض لبعض المخاطر ؛ فهذه البؤرة المركزية في الحياة الاجتماعية وفي الفكر تحتوي بالفعل علـى مناطق معتمة وعمياء؛ وتلتقي فيها كل من المعرفة و اللا معرفة، النفوذ الصارخ والسرية. تتموضع هذه البؤرة المركزية خارج مقولات الفلسفة التقليدية ومفاهيمها (كالذات والموضوع أو الجوهر والعلاقة، مثلا)، مع أن هذه المفاهيم تظل ضرورية لصياغة التساؤلات. فالفلسفة بمعناها التقليدي تمر بمحاذاة هذه البؤرة، على الرغم من أن هيغل Hegel أولا، ثم نيتشه Nietzsche، مرورا بماركس طرحوا مجموعة من الأسئلة القوية والواضحة حول هذه البؤرة وبينوا مظاهرها المتعددة التي مازال البعض منها مقبولا إلى اليوم وتم تجاوز بعضها الآخر.

1 ـ أساطير السلطة
إن كل سلطة سياسية، مرتبطة بـهذا الشكل التاريخي من الدولة أو ذاك، قد ولدت مجموعة من التمثلات بكل ما تحمله الكلمة من معنى : احتفالات، أعياد، إخراج ومسرحية، صور، أفكار وإيديولوجيا، تصـورات للعالم وللمجتمع، إلخ. لقد كان البعض من هذه التمثلات يستعمل استعمالا شعبيا من أجل الإبقاء على المسودين تحت الهيمنة؛ وكان بعضها يستعمل استعمالا أكثر ضيقا: إذ أنه كان مخصصا للمهيمنين، يمجدهم باعتبارهم مرتبطين بالسلطة وأدواتها. وأخيرا، لم يكن يستعمل الجزء المتبقي منها إلا بشكل داخلي خاص بالأسياد، باعتباره إجراءات ضرورية للحفاظ على وعيهم بالسيادة وتمريره إلى خلفهم.

وسيحدث أن تتطور هذه التمثلات وتتحول إلى منظومات رمزية واسعة وإلى مجموعة من الأساطير وإلى عمليات أسطرة كبرى. يتعين على التحليل النقدي للسلطة (السياسية) أن يعترف بـهذا المفعول المفارق : لقد كانت الأنظمة الاستبدادية أنظمة شعبية، وكان المستبدون الذين كانوا يظهرون أكثر قساوة محط تملق وقبول ومحبة بفعل العودة الضرورية إلى التاريخ. ولا يتم الاعتراف بسماتـهم المكروهة إلا بعد سقوطهم أو موتـهم؛ طبعا، كان يوجد أفراد يكنون كراهية للمستبدين خلال حياتـهم وفترة مجدهم ؛ لكن مفعول المحبة (الذي يرتبط ارتباطا غريبا بالهيمنة، وبالتالي يبدو أنه ملازم لعملية استلاب المهيمن عليهم بالتسلط واستلاب المشاركين في العنف الاستبدادي) كان يهيمن نفسه على الكراهية. هكذا كان الأمر بالنسبة لستالين (انظر الأناشيد الجنائزية الـهذيانية وعبادة موميائه خلال سنوات عديدة، إلخ). وهكذا الشأن بالنسبة لـهتلر إلى حدود هزيمته. ففي العالم الحديث، حلت صورة الإنسان العبقري وصنميته (صورة الأمة، العرق، الطبقـة) محل الصورة الدينية للنـبي أو صورة التجسيد الإلهي على الأرض.

يمكن للتحليل أن يساعدنا على إجراء تمييز بين الأساطير العفوية للسلطة والميثولوجيات القائمة القريبة من الإيديولوجيا، لكنها تفوق التجريدات الإيديولوجية قوة. ومع ذلك يصعب التفريق بين هذين البعدين للصنمية السياسية. هل تتمثل الميثولوجيا العفوية في صورة الأمير صاحب الحق الإلهي ؟ نعم، لكنها صورة مهذبة بمهارة. إن صورة الشخص المفضل من قبل الآلهة أو صورة رسول الله إلى الأرض تنبثق تلقائيا من مثل ذلك الإيمان الديني ؛ لكنها تـهيئ نفسها وتنظمها. لم تدع الملكية في فرنسا “الحق الإلهي” إلا أثناء عملية بناء جهاز عسكري وإداري وقانوني متين، وخصوصا بعد إرساء البيروقراطية المتمركزة في شكلها الجيد والمستحق. فعندما كان ملك فرنسا يدافع بضراوة على سلطته ضد الفيوداليين الكبار وضـد المدن الكبرى (ومن بينها باريس) في آن واحد، فإنه كان يبدو بوجه قانوني دنيوي وليس بوجه سماوي.

إن السلطة التي تريد أن تكون سلطة مطلقة وكذا السلطة المطلقة نفسها (ظاهريا أكثر منه واقعيا) تميلان إلى أن تقدما عن ذاتيهما صورة فوق طبيعة. والحال أن التمثل الأسطوري ل “السلطة”* (بلا زيادة ولا نقصان)يوسع من هذه الصورة الأسطورية. فهذه الأخيرة لم تنقرض. إنـها تنجح حتى في أن تقدم نفسها بمظهر علمي بالاعتماد على مثل هذا المفهـوم الكاذب (الذي يقترب في الحقيقة من الاستعارة ومن نوعية مستترة أكثر مـما يقترب من فكرة واضحة) المتمثل في الكاريزم و”الظواهر الكاريزمية” المزعومة (ماكس فيبر M. Weber). تنطلق هذه الإيديولوجيا من جهل بالعنصر السياسي، أي بالشروط والظروف التاريخية وبسلسلات الوقائع والقرارات التي مكنت “الزعيم الكاريزمي” من امتلاك السلطة السياسية. وتجهل هذه الإيديولوجيا أيضا الاستعمال المعلقن للعنف ، وللخطاب السياسي وللغة الملائمة. فهذه الأطروحة الشهيرة أكثر مما ينبغي تخلط بين مفعـول السلطة السياسية وكيفية الوصول إليها (النفوذ، “عبادة الشخصية”) من جهة، وأسباب هذا الوصول وأصوله وسيرورته من جهة أخرى.

اكتست الصورة المتجانسة للسلطة مؤخرا أشكالا أصلية. إذ اكتشف “المثقفون” والفلاسفة السلطة السياسية وأهميتها (وغالبا ما تم ذلك بعد 1968). إن احتقارهم ل “السياسي” جعلهم لا يفكرون سوى في السلطة في ذاتـها. إنـها تفتنهم ؛ إنـهم يريدون أن يمسكوا بـها على المستوى المفهومي، سواء من أجل محاربتها أو من أجل خدمتها. يحدث لـهم أن يخدموا السلطة السياسية بالمعرفة، ويقدمون لها هذه الخدمة على شكل أوامر عموما، ونادراً ما يكافئون عليها، وغالبا ما تكون سببا في إذلالهم : تقارير (يذهب معظمها إلى أدراج الوزارات)، تحاليل، دراسات يتأرجح مفكرو السلطة الخالصة بين معرفة خالصة ومعرفة نقدية ومعرفة خاضعة. إنـهم ينتهون بأن يروا السلطة في كل مكان. إنـهم يستخرجون منهـا بعض الاستيهامات. وبالتالي لن يكون للسلطة أي أصل تاريخي محدد، ولا أية علة اقتصادية أو سياسية ولا أي منبع أو مورد إيديولوجي. سيوجد إذن عدد لا يحصى من السلطات المتناثرة حتى في أركان المجتمع وأوكاره، سلطات تجمعها السلطة وتكثفها. ويتم التعرف على علاقات التبعية في الأسرة والجنس والحياة الجنسية واللغة والتعليم والملكية والغنى طبعا… وباختصار، إن تلك العلاقات تلقح الحياة الاجتماعية (وتسجنها بداخلها وتسمم أساسها). ليس للسلطة المنتشرة مناص من أن تجتمع في السلطة، منتقلة على طريقتها الخاصة من النسبي إلى المطلق. كيف يمكن التخلص من السلطة بما أن الخطاب (كلام أو كتابة) لا يكون أبدا إلا خطاب سلطة قائما على سلطة الخطاب ؟ هكذا فإن السلط المتناثرة تؤول إلى السلطة المطلقة، وتؤول هذه الأخيرة إلى السلطات المتناثرة المتعددة.

إنـها أطروحة ساحرة. لماذا ؟ لأن لكل واحد منا حصته من السلطة (ويمكن أن تمارس هذه السلطة على الحيوان، كالكلب أو القـط!)، وبالتالي فهو يضطلع ببعض المسؤوليات داخل السلطة، ويمكن لأي منـا أن يستغني عنها أو أن يقويها ؛ الشيء الذي يقدم تفسيرا تقريظيا للديمقراطية ولبعض الأوهام الديمقراطية (الليبيرالية أو الليبيرالية الجديدة). بالإضافة إلى ذلك، يمكن لهذه الأطروحة أن تقدم نفسها كأطروحة مصادق عليها ومتحقق منها بواسطة التماهي مع السيد، بل ومع الجلاد، وهـو تماهي تـمّ التحقق منـه كثيرا من المرات ؛ هكذا يمتد الجزء الصغير من السلطة ليشمل السلطة المطلقة ! ومع ذلك، مازال هذا الموقف المنتشر جدا اليوم يـجانب السياسة “الواقعية“، بما في ذلك الفعل والإيديولوجيا. لا وجود في الحقيقـة وفي الواقع لسلطـة بالمعنى الميتافيزيقي، وإنما توجد سلط سياسية محددة، وبالتالي محدودة. لكن بماذا تتحدد تلك السلطة ومن يحددها ؟ إنـها الأعراف والقـوانين، والدساتير والمؤسسات. وذلك هو ما يحول دون القفز من النسبي إلى المطلق. لا توجد السلطة السياسية إلا في الدولة وبواسطتهـا، ولا توجد الدولة بدورها إلا بواسطة رجال الدولة الذين يمارسـون جزءا من السلط. فالعلاقة الموجودة بين السلط القائمة والسلطة السياسية هي أكثر دقة مما تتصوره الطروحات الآنفة الذكر. إن الأمر لا يتعلق بمجرد “تجسيد أو تحقيق بعض التجريدات، الدولة أو القانون أو الحق. إن الدولة كيان مجرد بالفعل، لكنها لا تقل واقعية، والكشف عن واقعيتها النوعية يتطلب تحليلا طويلا وصعبا.

هل يتعين علينا إذن أن نكيف ونتبنى بعد ذلك الأطروحة التقليدية التـي لا توجد بمقتضاها سوى سلط محددة جدا ومنفصلة عن بعضها البعض ومحدودة نظرا لأنها تحد بعضها البعض تبادليا ؟ هل يجب علينا أيضـا أن نقبل وجود سلط جديدة كالسلطة النقابية أو تدخل الهيئات التي تـهدف إلى التجديد، كالتخطيط مثلا ؟ إن مثل هذا الموقف يخاطر بأن يقنع بعض الظواهر التي تعتبر البيروقراطية أبسط مثال عنها. وينقطع هذا الموقف إلى تخليد لعب التنافس والتنـاحرات بين السلط، وهـي تناحرات تعوق الفعالية، لكنها تحول دون صعود أية قوة كليانية. وأخيرا، يخفي هـذا التنظير ما يحدث فجأة في هذا الميدان : استبدال الفصل القديم بين السلـط على طريقة مونتسكيو، بتقسيم العمل السياسي بين التكنوقراطيين والجيش ورجال السياسة المحترفين. سنعود إلى هذا الموضوع لاحقا. فهذه البنية السياسية المعاصرة تفترض وجود جماعات نشيطة، مستسلمة لصراع حاد من أجل الـهيمنة، في أحضان سلطة تنـزع نحو الموحد الذي لا يشتمل على التضمينات التي تشتمل عليها كلمة “كلياني”.

2 ـ تاريخ السلطة السياسية وتاريخ الدولة

نعم، كانت توجد مجتمعات بدون دولة، مثلما كانت توجد مجتمعات بدون طبقات ومجتمعات بدون كتابة… كانت توجد مجتمعات ترفض الدولة وتتهرب منها (انظر كتاب ب. كلاستر). ومع ذلك، فإن مجمـل هذه المجتمعات قد انقرضت إن لم نقل كلها. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك عديد من المجتمعات التي تخضع للغزاة حتى وإن لم تكن توجد فيها بنيـة سياسية داخلية : إذ كانت السلطة القائمة على العنف (الجيش) ترسخ نفسهـا بفعل النصر. وليس صدفة أن يقترح أحد العارفين ب “العالم الثالث” (سمير أمين) إكمال أحد المفاهيم الماركسية، “نمط الإنتاج العشائري” (الشيوعية البدائية)، بمفهوم “نمط الإنتاج الخراجي”. إذ كان يتعين على مجمل تلك المجتمعات التي كان يبدو أنـها تتمتع بالحرية أن تقـدم خراجا ثقيـلا إلى هذا الحد أو ذاك، يتم اقتطاعه من منتوج زراعي ضعيف عموما.

إن ملاحظة المرء تاريخيا للانبثاق والدعم العامين للدولة لا يلزمه بتصور مثل هذه الصيرورة كنتيجة لقصور حراري متزايد في المجتمعات البشرية. من المهم والمثمر جدا تبني أطروحة الانفجارات ـ الانبجاسات، أي الأطروحة القائلة بحدوث كوارث تولد الإمكانات، ثم تعقبها فترات تتجمد فيها المجتمعات المدروسة، وتتبلور فيها العلاقات وتتمأسس، ويتحقق فيها واحد من كل تلك الإمكانات وليس أكثر.

إن المسار واسع جدا بين المجتمع بدون دولة الزعيم العسكري الذي يوطد سلطته بواسطة النصر من جهة، والدولة الحديثة من جهة أخرى. يمكن للمرء أن يكتب التاريخ أو يعيد كتابته بوضع هذه المسألة في المستوى الأول. لقد حاول هيغل القيام بذلك، حيث أعاد ربط تاريخ الدولة بتاريخ الفلسفة والحق والمعرفة عموما. فلا أحد في رأي هيغل يجهل كون هـذا التاريخ ليس شيئا آخر غير تاريخ الفكرة الذي يخفي نفسه في الطبيعة والعقلانية والاجتماعية، وبالتالي ينشط الصيرورة لينتهي في الأخير بالتجسيد في الدولة الحديثة، ويستبدل ماركس وإنجلز هذه الأطروحة الفلسفيـة بأطروحة ملموسة أكثر من سابقتها : إن مستوى القوى الإنتاجية يحدد بعض “البنيات الفوقية” (الإيديولوجيات والمؤسسات)، ثم يفجرها عندما تتغير هذه القوى أو تتزايد. إذ تظهر بعض التناقضات في أحضان هذا المجتمع المدروس في شموليته والمحدد بعلاقته مع الطبيعة وبالتقنيات والمعارف وبتنظيم العمل الإنتاجي. والدولة تدخل في عداد هذه “البنيات الفوقية”. إنـها تتغير وتتحول ؛ إنـها ليست جوهر ومصدر وغاية العقلانية الاجتماعية كما نجدها عند هيغل. بل على العكس من ذلك، إنها تتضمن العنف (عنف طبقة معينة على أخرى). إنـها بدأت لكنها ستنتهـي بعد أن تبلغ أوجها، شأنـها شأن كل ما يحدث في سياق الصيرورة التاريخية.

لقد تم اليوم التعرف على ثغرات هذا التصور. فماركس وإنجلز يكتفيان بتقييم شمولي للدولة : إنها بدأت وسوف تنتهي. إنـها تتغير، لكنها تفرض انخراطها مؤقتا (“إجماعا” يبدو كإجماع دائم) في مجتمع تفترسه التناقضات. وذلك ما لا يعتبر نظرية عن هذه الدولة المحددة أو تلك، وإنما نظرية عن شروط نـهاية (ذبول) الدولة. إن مماثلة الملكية الخاصة (للأرض) بسيادة الدولة على تراب وطني معين تذهب بعيدا جدا، لكنها لا تقدم أية نظرية. وأخيرا، لم يأخذ ماركس وإنجلز في اعتبارهما شكلا من أشكال نشاط ليس له أية سمة أصلية ولا طبيعية، وإنـما ظهر بالضبط مع الدولـة: إنه إرادة الهيمنة (أو إرادة القوة). فهذا النشاط يقتضي دوافع وموارد اقتصادية ؛ إنه يتضمنها في أحضانه، لكن لا يمكن اختزاله في هذه “القاعدة”، شأنه شأن أية “بنية فوقية” أخرى.

إن تاريخ الدولة، بلحظاته الحاسمة ومراحله وحلقاته وتحولاته، يتطابق تقريبا مع “أنماط الإنتاج” التي صنفها ماركس : المدينة ـ الدولة (العصر القديم)، الدولة الأسيوية (نمط الإنتاج الأسيوي)، الدولة الفيودالية والعـسكرية (التي عرفها العصر الوسيط والتي امتدت إلى يومنا هذا)، الدولة الوطنية، وأخيرا الدولة التي تتعهد بتسيير الاقتصاد وتطويره والتي سنطلق عليها في مكان لاحق عبارة “نمط الإنتاج الدولاتي”. فهذا المفهوم الأخير لا يوجد ولا يمكن أن يوجد لدى الماركسيين الكلاسيكيين، بما أنه يتعلق بتشكيلة حديثة العهد مازالت حبلى بالمفاجآت.

3 ـ شروط السلطة السياسية وحدودها

إن الشروط تشتمل على الحدود. إن محافظة السلطة السياسية على نفسها رهين بما يلي :
أ ـ وجود موارد من البشر والسلاح والمنتوجات المتنوعة والمال (من الخراج إلى الضريبة)؛
ب ـ وجود مجتمع منظم يعيد إنتاج العلاقات التي تكونه (من الأعراف إلى القانون) ؛
ج ـ وبالتالي وجود ضوابط وقيم وإيديولوجيا (أو إيديولوجيات).

مازال من الممكن ممارسة العنف “الخالص” بواسطة النهب وباستخدام المرتزقة. لكن هذا العنف لا يستمر طويلا. إذ أن السلطة تنهار. فمحافظة هذه السلطة على استمرارها رهين بوجود “قاعدة معينة (وهذا ما يعنيه بالضبط هذا المفهوم الذي تكاثرت حوله النقاشات والسجالات العقيمة).

ومع ذلك، يمكن للسلطة السياسية دوما أن تخرق الحدود التي وضعتها “قاعدتـها” نفسها. لكن لـهذا الخرق مخاطره وتبعاته. فالسلطة السياسية تحاول خرق تلك الحدود بواسطة الحرب التي تدخل في عداد الإمكانات المحددة والمحددة بواسطة الشروط.

يكفي المرء أن يتفحص للحظة قصيرة هذه اللوحة التي تلخص تاريخ الدولة والسلطة السياسية حتى يدرك التفاوت الموجـود بين الأشكال السياسية والشروط الاقتصادية ـ الاجتماعية. نفهم جيدا كيف سمحت العلاقات الاجتماعية في النظام الفيودالي والأرستقراطي بتكون نـوع من الدولة، ننعته هنا بالدولة “الفيودالية ـ العسكرية”. لكن من الصعب جدا أن نفهـم كيف ولماذا استمرت هذه الدولة إلى الآن وتركـت بصمات واضحة. هكذا الشأن بالنسبة للدولة المجرية والدولة القيصرية، بينما أنهت ثـورة 1789 النظام القديم (الفيودالي ـ العسكري) في فرنسا منذ مائتي سنة. إن التفاوت يحدد حقل التاريخ والفكر التاريخي بالنسبة للعنصر الاقتصـادي. إن كل سلطة سياسية تحاول تنصيب نفسها كسلطة مطلقة بما أنـها معرضة للموت بفعل الحروب. لكنها لا تفلح في تنصيب نفسها كذلك على الدوام. فالجانب المأساوي للدولة وللسلطة يشكل أيضا جزءا من التاريخ.

4 ـ الدولة الحديثة

لا يتمكن التاريخ ولا الفلسفة ولا أي علم متفرد من تحديد النمط الذي توجد عليه الدولة فعندما ينطلق الباحث من هذا الميدان المعرفي أو ذاك، فإنه يظل يتأرجح بين الملاحظة التجريبية والتشييد الاعتباطي. إن النظرية العامة الموجودة في أعمال ماركس هي الوحيدة التي تمكننا من إدراك هذا الوجود المفارق والمألوف معا، غير أن أعمال ماركس لا تحتوي على نظـرية للدولة. فضلا عن ذلك، إن الدولة الحديثة (الحالية) هي التي تكشف عن ماضي الدولة. سبق وأن وضحه ماركس جيدا.

إن الدولة كائن مجرد، لكنه ملموس وموجود اجتماعيا، شأنه شأن السلعة والقيمة التبادلية والمال والنقد. وهذا هو ما يشكل السر واللغز شبه اللاهوتي لأشكال الممارسة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. إنها بمثابة روابـط (العلاقات)، وليست جواهر أو أشكال “خالصة” (ذهنية، فكرية أو روحية). ولكي توجد بالفعل، يجب أن يكون لها محتوى من الأشياء والكائنات الاجتماعية (البشرية)، لكنها تعمل بشكل مفارق على إقصاء هذا المحتوى وتميل إلى تحقيق وجود مستقل، لكنها لا تنجح أبدا في تحقيق ذلك تحقيقا كليا، إن هذا المظهر المزدوج يفلت من بين أيدي مجمل المحللين والمنظرين. فبعضهم لا يرى سوى التجريد (ويتعلق الأمر هنا بالدولة، بالقانـون، بالحق، بالدستور، الخ) ؛ ولا يرى البعض الآخر سوى الممارسة: الوظائف، البيروقراطية، فعل القمع، التراب الوطني الخ ؛ بينما يظل إدراك النمـط الذي توجد عليه هذه “الوقائع” رهينا بالإمساك بمظهرين : المجرد ـ الملموس، الوهمي ـ الواقعي ؛ الشبحى ـ القوي !

يتعين علينا أيضا ألا نخلط المجرد ـ الملموس بالمتخيل والرمزي والتمثلات المختلفة. بل يجب علينا أن نذهب إلى حد إدراك هذين البعدين (المجرد والملموس) ضمن وحدة وكلية تجمع بينهما وتتجاوزهما : هذا المجتمع أو ذاك، هذا النمط أو ذلك من إنتاج وإعادة إنتاج العلاقات. إن كل علاقة تتضمن اختلافا بين الحدود التي تربط بينها، لكن عندما تميل العلاقة نحو الاستقلال، فإنـها تميل في نفس الوقت إلى محو الاختلافات التي تحتوي عليها. إن هذا المفعول العام لا يخص الدولة وحدها. إذ ينتج عن ذلك أن تدمر هذه العلاقة شروط وجودها الخاصة بعد أن تحقق استقلاليتها وتعلن أنـها علاقة واقعية وحقيقية. عندما يتوفر أفراد واعون على هذه العلاقة، فإنـهم يسعون إلى حمايتها أو إعادة بناء شروطها. لذلك فإن المال والرأسمال يميلان إلى إعادة إنتاج نفسيهما بشكل مستقل وبواسطة قوة خاصة (المضاربة، لعب الكتابة) ؛ لكن إذا نجح المال والرأسمال في إعادة إنتاج نفسيهما دون المرور بالإنتاج وتبادل المنتوجات والسوق وإعادة توزيع الأرباح (فائض القيمة)، فسيكون ذلك حتما بمثابة نـهاية للاقتصاد الرأسمالي ولإعادة الإنتاج الاجتماعي للرأسمال. وينطبق نفس الشيء على الدولة ؛ فهي تميل إلى الحد الذي تصبح فيه تشتغل لذاتـها وبذاتـها، لكن دون جدوى. إذ نجد بعض رجال الدولة البارعين يضعون بعض الإصلاحات، محاولة منهم لمنع الدولة من الاستمرار في هذا الطريق الخطير الذي يؤدي إلى الانفجار الكارثي.

تنـزع الدولة الحديثة إلى احتلال كل أرجاء الكرة الأرضية بوساطة منظومة من الدول وليس بواسطة دولة عالمية واحدة. إنـها تنزع إلى تحقيق الاستقلالية والوجود السياسي المطلق وأخيرا، إنـها تنزع إلى التحكم في تسيير المجتمع برمته، وباختصار، إنـها تنـزع إلى ما أسميه : نمط الإنتاج الدولاتي. ليس كل ذلك إلا نزوعا، يظل غير متكافئ تبعا للبلدان والظروف التاريخية، لكنه حاضر في كل مكان.
سأقدم الآن بعض السمات التي تميز نمط الإنتاج الـدولاتي (ن.إ.د= M.P.E)، ويمكن أن نلخصها فيما يلي :

أ ـ أصبح الفصل بين السلطات وهما سياسيا ترسخه الايديولوجيا وبعض المحاولات “الإصلاحية” التي تنتهي دوما بالفشل. وينطبق نفس الشيء على “الشعب” الذي يقدم كجماعة سياسية.

ب ـ يظهر هذا الشكل السياسي ويرسخ نفسه عندما تتعهد الدولة بمهمة تحقيق التنمية وعندما تسند لها مسئولية “الأزمة” والبطالة ومخلفات الاستراتيجيات التي تنهجها على المستوى الدولي، الخ (وليس لرئيس هذه المقاولة أو تلك).

ج ـ تقتطع هذه الدولة جزءا مهما من فائض المنتوج الاجتماعي بالاعتماد على وسائل مختلفة (ضرائب، مقاولات تسهر على تسييرها بصورة مباشرة، المساهمة في “شركات” مختلطة متنوعة، الخ). ويمكن للدولة في “النظام الاشتراكي” أن تذهب تقريبا إلى حد اقتطاع فائض المنتوج بكامله (فائض القيمة)، ويعاد توزيعه بعد ذلك تحت رعاية البيروقراطية الدولاتية.

د ـ يتطابق تقسيم العمل السياسي مع تقسيمات الأعمال الأخرى. فالتكنوقراطية ورجال الجيش ورؤساء الأجهزة السياسية يقتسمون السلطة، أي يدخلون في صراع من أجل امتلاكها.

ه ـ تتميز هذه الدولة الحديثة بتعدد أبعادها ومعانيها. إن لها ثلاثة أبعاد أو سفوح : أولا، البعد التسييري للكل الاجتماعي والإداري، وهو بعد أصبح كلي الحضور منذ أن تعهدت الدولة بمهمة التنمية (تاريخ حاسم) ؛ ثانيا، بعد تحقيق الأمن (الضمان الاجتماعي، الأمن الطرقي، تحقيق الأمـن في الحياة العامة، الخ) ؛ وأخيرا، بعد الموت (الشرطة، القمع، الجيش، التسلح، الحرب المحتملة).

و ـ لا تضمن الدولة الحديثة فقط إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية (للإنتاج)، وإنما إعادة إنتاج علاقات الهيمنة أيضا، وذلك على الصعيد العالمي. يعلم كل واحد منا أن منظمة الأمم المتحدة، ككل منظمة ديمقراطية، تجمع بين المساواة الشكلية (القانونية) واللامساواة الواقعية. وتعمـل على هذا المستوى العالمي الخطاطة العامة التي تميز عصرنا : التناسق، التجزؤ، التراتب.

ز ـ وأخيرا، ما هي “قاعدة” الدولة الحديثة ؟ إنـها تتمثل في كون الدولة تقتضي بعض الأشكال المتنوعة التي تنظم سلسلات من التكافؤات : السلعة، العقد، القانون، الخ. إنـها تصرح بأن سلسلات التكافؤات تتميز بالتكافؤ. إنـها المحدد الأسمى للهويات الذي لا يحدد فقط هوية كل عضو فردي (المواطن المحدد بأوراق هويته وحالته المدنية)، وإنما تحدد أيضا هوية الأشكال وتسلسلات الظواهر الاجتماعية. إنـها ترفض الاختلافات ولا تقبلها إلا وهي مقلصة. إنـها ليست “ذاتا” (بالمعنى الفلسفي) ولا “موضوعا”، وإنما هي شكل الأشكال، هوية الهويات، التجريد الملموس المزود بقوة مغرية. إنـها كائن لا شخصي، رغم أنـها تتجسد دوما في شخص أو عدة أشخاص (رئيس الدولة، رئيس الحكومة، زعماء الأحزاب، الخ).

“الدولة هي الدولة” : يبدو أن هذا الحشو لا يعني شيئا. لكنه في الحقيقة يقول الشيء الكثير، شأن مختلف أشكال الحشو الكبرى في الفلسفة : الوجود هو الوجود، الخ. فهذا الحشو يعني أن الدولة تحدد الهوية : إنها الهوية أثناء الفعل، لكن هذه الهوية لا تصبح فعلا acte إلا بواسطة البشر الذين يخدمونـها ويخدمون إرادتـهم في القوة في نفس الوقت:

5 ـ مستقبل الدولة
يرى ماركس أن القطيعة مع الدولة القائمة، التي يعقبها التلف الدولاتي، يشكل جزءا لا يتجزأ من العملية الثورية. لقد أعلن ماركس “ديكتـاتورية البروليتاريا” كأداة متميزة ضرورية للقيام بـهذه المهمة التاريخية أحسن قيام : إنـهاك الدولة بعد القضاء على عملية التصنيم التي بواسطتها تنصب الدولة نفسها فوق المجتمع.

ماذا تبقى من هذا المشروع ؟ تجب الإشارة إلى أن سلسلة الأحداث لم تؤكد رؤى ماركس ؟ هل ستدوم الدولة الحديثة إلى الأبد ؟ توضح الأحداث أنـها ستتعرض لكوارث عديدة : التعفن البطيء، التفكك السريع والانفجار المفاجيء. إنـها حركة جدلية تتميز بسمة التجزؤ، وتحمل بعدين مثيرين للقلق : فمن جهة، هناك تقوي الدولة، ومن جهة أخرى، هنـاك أفولـها ـ لكن هذا الأفول لا يتطابق مع التلف كما يتصوره ماركس وإنجلز ولينين.

مجلة الجابري – العدد الثاني / ترجمة: حسن أحجيج