مجلة حكمة
غوته

الحياة في قوالب مختلفة: ما سر عظمة غوته ؟ – آدم كيرستش / ترجمة: أحمد زيد

A new selection of Goethe’s work reveals both his vast range and his unity of purpose.
مجموعة جديدة من أعمال غوته

اعتدنا في العالم الذي يتحدث الانجليزية على النظر إلى أديبنا العظيم  شكسبير  كأنه لغز، أو كحقبة غير مفهومة من الزمن. وبيد أن هناك دلائلٌ تاريخية كافية عن وقت ولادة ووفاة شيكسبير، وأخرى دامغة تثبت أنه كتب المسرحيات التي تحمل اسمه، إلا أن سجله مازال صغيراً. ويأتي استمرار ظهور نظريات المؤامرة التي تعزو كتابات شكسبير إلى إيرل أكسفورد أو لمرشحين آخرين نتيجة لقلة معرفتنا بحياته. فقد بقيت أراء شكسبير الدينية، وعلاقاته الغرامية، وعلاقاته مع الكتّاب الآخرين، وروتينه اليومي في عداد المجهول الأبدي، ومعظم التراجم التي كتبت عن شكسبير مبنية على التكهنات.

وإذا أردنا أن نفهم سبب هيمنة يوهان فولفغانغ فون غوته على الأدب الألماني، فعلينا أن نتصور شخصية مثل شخصية شكسبير، لكن مع معرفة بأدق تفاصيل حياته؛ أو لربما ضعف أو ثلاثة أضعاف تفاصيل حياته.

تتجلى أهمية غوته فقط بالنظر إلى نطاق أعماله التي تصل إلى 143 مجلد. فهذا الكاتب لم يؤلف أعظم المسرحيات في اللغة الألمانية فقط، بل زاد عليها مئات القصائد التي تناولت مواضيع مختلفة، والتي تكفي أجيالاً من المؤلفين الموسيقيين في إنتاج أغانيهم. ولا تنسى ضمن هذه الأعمال ثلاثة روايات ضمن أكثر الروايات تأثيراً على ساحة الأدب الأوروبي، وسلسلة من المذكرات الكلاسيكية التي توثق طفولته وأسفاره، ومقالات حول مواضيع علمية مثل نظرية الألوان أو أشكال النباتات.

أضف إلى ذلك العديد من المجلدات التي سجلت حواراته، وأكثر من 20 ألف رسالة، وذكريات العديد من الناس الذين التقوا به خلال مسيرة عمله التي امتدت 60 عاماً بصفته أحد أشهر رجال أوروبا.

وأخيراً، يجب التذكير بأن غوته قدم كل هذا أثناء خدمته في منصب حكومي في دوقية فايمر، حيث كان مسؤولاً عن أمورٍ شتى منها إدارة عمليات التنقيب في المناجم واختبار الممثلين في مسرح البلاط.

ولو أن غوته لم يعش بين 1749 و1832 في عصر الطباعة الحديث، وانتشر سيطه بدلاً من ذلك في نفس الوقت الذي ظهر فيه شكسبير، فلك أن تتصور عدد النظريات التي سيضعها الباحثين اليوم التي ترجح أن أعمال غوته ما هي إلا سِيَرِ حياة ومجموع أعمال إثنا عشر رجلاً وضعت أعمالهم تحت اسم غوته. ويقول نيكولاس بول كاتب ترجمته الانجليزية الرائد:”هناك المزيد مما يمكن معرفته عن غوته، أو لربما يجوز القول أن هناك المزيد لنعرفه عنه أكثر من أي إنسان آخر”

بدء الألمان نقاشاتهم حول أهمية غوته وهو ما يزال في عشريناته، ولم يتوقفوا عن ذلك حتى الآن. ويشار إلى حياته التي شهد فيها أهم انعطافات العصر الحديث “بالغوثيزايت” (Goethezeit)، أو عصر غوته.

وبيد أنه كان معبوداً بصفته أعظم عبقري في تاريخ ألمانيا، ومثالاً على الشاعر والإنسان في أبهى صورهما، فقد تعرض للنقد بسبب تحفظه وخموله السياسييّن، الأمر الذي كان يعد تركة مشؤومة في القرن العشرين. فقد كان غوته معادياً للثورة الفرنسية وللحركة القومية الألمانية التي نشأت بسببها. وازدرت الشخصيات الراديكالية والرومانسية هذا العملاق الذي رضي بأن يكون في خدمة الأمراء – ودوق فايمر الأكبر كارل أوغوست، الذي يعد أميراً صغيراً بصرف النظر عن لقبه – في عصر الثورة.

هناك قصة مشهورة عن غوته وبيتهوفن حينما كانا معاً في منتجع، وشاءت الصدفة أن يلتقيا بأفراد من الطبقة الملكية الألمانية، فتنحى غوته ووقف باحترام رافعاً قبعته، أما بيتهوفن فأبقى قبعته على رأسه وشق طريقه بين المجموعة الملكية مجبراً إياهم أن يفسحوا له الطريق – وقد فعلوا ذلك وهم يحيّونه بود. كانت هذه الحادثة بمثابة مقارنة بين طبيعة الرجلين، وجيلين مختلفين.

ينتمي غوته إلى الجيل اللبق الذي يمثل الماضي، حيث كان الفنانين زبائنَ الأمراء، بينما يمثل بيتهون المستقبل الرومنسي الذي كان يتزاحم فيه الأمراء على مصاحبة الفنّانين. هناك خلاف بين المؤرخين على صحة هذه الحادثة، لكن وإن لم تكن القصة واقعية فإنها تكشف لنا عن شيء مهم؛ لقد انتشرت القصة لأنها تعكس الصورة التي كانت تعرفها الناس عن غوته والقيم التي كان يتحلى بها.

لقد بقي غوته، مع كل هذه الشهرة، مهملاً بين الشعوب التي تتحدث الإنجليزية. فقرّاء الانجليزية لا يعيرون ذرة اهتمام لشعراء الثقافات الأخرى، ولذلك فإنه من النادر أن تترجم قصائد غوته. ويمكننا أن نعزوا ذلك جزئياً إلى تغليف غوته لأفكاره العميقة بألفاظ سهلة تخدّع القراء.

“هايدنغوسلاين” أو (وردة المرج الصغيرة) هي إحدى أولى القصائد العظيمة التي كتبها غوته بأسلوب الأغاني الفولكلورية، وقد تألفت في معظمها من كلمات مركبة من مقطع واحد أو مقطعين:“Sah ein Knab” “ein Röslein stehn”  (“رأى الفتى” “وردة صغيرة مُطلة”).. يسعى كتاب المختارات “ذا إسينشيل غوته” الثري الذي صدر حديثاً عن دار نشر جامعة برينستون في ألف صفحة، وحرره ماثيو بيل إلى إظهار جميع مزايا عبقرية غوته، وترد فيه قصيدة من ترجمة جون فريدريك نيمز، يقول فيها غوته:

يقول الفتى الشقي: سوف أقطفك يا وردة المرج!

فترد الزهرة: إذا سوف أنخزك بشوكي حتى لا تنسى أبداً!

نقل نيمز الإيقاع الشعري للقصيدة الأصلية بكل دقة، لكنه أضاف كلمات لم تكن موجودة في النص الأصلي مثل “though”  وتبنّى أسلوباً جميلاً بشكل مشتت (“urchin”، “I’ll not” مما ينتج نصاً غير متقن ويفتقر إلى الجمال. إن البساطة التي تتسم بها نصوص غوته الشعرية تجعلها عصية على الترجمة.

يميل متحدثي اللغة الانجليزية إلى قراءة الترجمات التي تنتمي إلى الفئة الخيالية، لكن متى كانت آخر مرة سمعت أحدهم يأتي على ذكر روايتيّ غوته الخياليتين الطويلتين “سنوات تعلّم ويلهيلم مايستر” و”علاقات اختيارية”؟، ويمكن القول بأن هذه الأعمال وضعت حجر الأساس لفئتين أدبيتين جديدتين في فن كتابة الرواية الحديثة وهما “Bildungsroman”  الرواية التي تبني على تقدم الشخصية في العمر والخبرة والتجربة الفكرية والنفسية  وفئة روايات الخيانات الزوجية على التوالي.

حظيت رواية غوته الأولى ” آلام فرتر” بشهرة أكثر من غيرها لأنها كانت بمثابة نقلة نوعية في تاريخ الأدب؛ فقد كانت أول رواية ألمانية ضمن قائمة الأكثر مبيعاً عالمياً، ويقال أنها بعثت نوعاً من سعار الانتحار بين الشباب الذين حاولوا تقليد شخصية البطل. إلا أن النسخة الإنجليزية حققت شهرتها لكنها لم تقرأ كثيراً.

لم يكن رد الفعل  في العالم الانجليزي  على أعمال غوته بارداً على الدوام، فقد رسم مثقفي العصر الفكتوري هالة القداسة حول غوته، ووصفوه بالمبجل حكيم فايمر. وقد توجه  الفيلسوف  توماس كارلايل إلى عامة القراء قائلاً:” أغلقوا  كتب الشاعر الإنجليزي  بايرون وافتحوا  كتب  غوته” – ويعني بذلك أن “عليكم أن ترتقوا بذائقتكم!”. رأى  الشاعر الإنجليزي  ماثيو أرنولد أن غوته بمثابة الطبيب الشافي والمحرر، واصفاً إياه “بطبيب العصر الحديدي” الذي”يفهم لكل جرح، ويعرف مواطن الضعف” الذي يعاني منه “الجنس البشري”. لقد رأى هؤلاء الكتاب في غوته شيئاً افتقدوه في العالم الحديث: ألا وهو الحكمة، والقدرة على فهم الحياة وكيف يجب أن تعاش.

كان هذا بالتحديد ما أدى إلى خفوت نجم غوته بعد العصر الفكتوري؛ فقد كان عليك أن تكون مريضاً روحياً حتى تكسب الاحترام الفكري من الحداثيين. وقد كتب توماس ستيرنز إليوت:” هناك شيءٌ من التصنع والمثالية في صحة غوته  الروحية “

عندما نقرأ أعمال غوته اليوم، حتى المترجمة منها، نجد أنفسنا في حضرة طريقة تفكيرٍ ومشاعر غريبةً عنا. لم تكن “الصحة” الروحية التي تمتع بها غوته، والتي ازدراها إليوت، ناتجة عن تمتع الرجل بالكمال، بل كانت نتيجة لتعافيه من نقائصه. فقد عرف  إليوت  “ضعف”  غوته  الذي أتقن  ماثيو  أرنولد وصفه. فقد عاش غوته حياة مرفهة في صغره – فقد كان الابن الوحيد  في عائلة برجوازية ثرية في فرانكفورت – وكانت له فلتاته أثناء فترة مراهقته.

وبيد أنه درس القانون بسبب إصرار والده، ومارس مهنته لفترة قصيرة، فلم يكن العمل في القانون إلا غطاءً لاهتماماته الحقيقية؛ وهي كتابة الشعر وعلاقاته الغرامية. فقد كانت إحدى علاقاته الغرامية الأولى السبب في بؤسه الذي كان موضوع أول نجاحاته الأدبية في رواية “آلام فرتر”.

تدور أحداث هذه الرواية حول علاقة حب تعيسة، حيث نتعرف من خلال الرسائل التي يكتبها “فرتر” إلى صديقه ليخبره عن تفاصيل حبه المستحيل لفتات رقيقة وفاضلة تدعى شارلوت، المخطوبة لرجل شريف يدعى ألبرت.

فبعد أن تقرر شارلوت وألبرت أن يتزوجا، يشعر فرتر بأنه لم يبقى له شيء ليحيى من أجله ويقرر أن ينتحر- ومن ثم يخبرها عن قراره بعبارات ملحمية سوداوية:” أتعلمين يا شارلوت، أنا لا أخاف أن أتجرع تلك الكأس الباردة القاتلة التي ستسقيني الموت، يداك أعطتني الكأس، وأخذتها يداي دون تردد. لقد تحققت كل أمنياتي وأمالي، ها أنا أقرع أبواب الموت المقيتة يتغشاني البرد والجمود.”

استطاع هذا الكتاب أن يصوّر حساسية هذا الجيل الذي وصفه توماس مان بأنه:”يركض في الأرض كالمصاب بالحمى والسُعار، ويعمل عمل الشرارة في مخزن البارود، مطلقاً بذلك كل الطاقة الكامنة”. بعض القرّاء اعتبروا أن غوته يوافق ويجمّل انتحار فرتر.

وقد أقدمت سيدة صغيرة تدعى كريستال فون لاسبيرغ كانت تعمل في بلاط فايمر على إغراق نفسها في نهر إلم مع نسخة من الرواية في جيبها. لابد أن غوته قد أحس بنفس الذنب الذي أحس به جيروم ديفيد سالنجر بعد ما ارتكبه مارك ديفيد شابمان بدافع ٍ من قراءته لروايته “الحارس في حقل الشوفان”، ولابد أيضاً أنه أصيب بالهلع لهذا التأويل الخاطئ لكتاباته.

لا يسعى هذا العمل الأدبي لتمجيد البطل “فرتر”، بل إنه يحذّر من ما يعتقد غوته بأنه مرض يقتل الروحانية لدى الإنسان. إن السبب الحقيقي لموت فرتر ليس قصة حبه التعيسة، بل أنانيته القاتلة التي أفلت لها العنان. فسواء كان فرتر مستمعاً بجمال المكان، أم بصحبة شارلوت، نجد أن تفكيره كان دائماً منصبّاً على نفسه، وعلى أفكاره ومشاعره الخاصة.

ويقول:”إن ذلك الشعور الغني المفعم الذي ملأ قلبي بحب الطبيعة وغمرني بالسعادة ووضع الجنة بين يدي، كان هو أيضاَ سبب عذابي الذي لا يطاق – هو الشيطان الذي يلاحقي الآن.” إن العامل القاتل في مرضه   فرتر  هو الكِبر. فلم يكن فرتر تعيساً فقط، بل كان فخوراً بتعاسته، والتي رأى فيها دليلاً على حساسيته المفرطة – أكثر حساسية من هذا العالم الذي خيب أمله. فبعد أن عرّف نفسه كجزء من هذا العالم، بات يرى أن هذا العالم يتحول إلى سجن عندما يشعر بالحزن.

حتى الآن ، نرى أن فرتر يمثل، إلى حدٍ كبير، شخصية هاملت؛ الذي يصف الدنمارك والعالم أجمع بالسجن.”فليس هناك ما هو جيد أو سيء، إنما منظور الإنسان هو الذي يحدد ذلك”. إلا أن معضلة الإرادة أدت بهامليت في المشهد الرابع للالتزام بالقيام بالعمل. حيث يقول:”الاستعداد هو مدار الأمر” ثم يشرع بالانتقام من كلاوديوس. في المقابل، لم يكن فرتر مستعداً للقيام بأي عمل، فلم يكن هناك أي عمل ذو أهمية بانتظار أن ينفذه. ويمثل   فرتر  في هذه الجزئية شخصية أحدث من هامليت التي استثاره الشبح. ففرتر مثلنا تماماً، لا يجد أي مساعدة من العالم الآخر فيما يفعله في هذا العالم.

لقد عرف غوته البؤس الذي يعاني منه بطله تماماً مثل ما عرفه كل من قرأ الرواية. وقد افتضح أمر الكتاب بسبب تصويره لشخصيات ووقائع حقيقية. فقد كانت علاقة فرتر المتوترة مع شارلوت التي أغرم بها، ومع ألبرت الذي يحترمه كصديق، صورة لعلاقة غوته بامرأة كان يحبها تدعى شارلوت باف، وخطيبها يوهان كيستنر. وجَدَلَ غوته هذه القصة بقصة شابٍ بالكاد عرفه يدعى كارل جيروسالم. وقد انتحر الأخير بمسدس استعاره من كريستنر، تماما مثل ما استعار فرتر مسدس ألبرت لنفس الغرض. عكست أحداث هذه الرواية القصص الحقيقية بشكل دقيق، وقد حظيت بنجاح باهر بعد نشرها، مما أفسد علاقة غوته بكيستنر، الذي كتب معترضاَ على”استغلال صفات الشخصيات الحقيقية التي استخدمها المؤلف”.

الفرق الوحيد بين شاعرنا وبين الشخصية التي أودعها روايته، أن الأول وجد مخرجاً من متاهته. ففي عام 1775، أي بعد أن حقق “فرتر” الشهرة لغوته بعام واحد، دعا دوق دوقية فايمر الأكبر كارل أوغست غوته للانتقال إلى بلاطه، وقد كانت دوقية صغيرة مستقلة يسكنها مئة ألف شخص حينئذ.

وتحت رعاية وإدارة غوته، بات البلاط الصغير يتمتع بشهرة عالمية لاستقطابه ألمع العقول الألمانية في ذلك العصر؛ أجدرهم بالذكر الشاعر والكاتب المسرحي فريدريك شيلر، الذي كان صديقاً ومعاوناً لغوته، ومعلمه الأول وفيلسوف اللغة الرائد يوهان جوتفرايد هيردر. لم يكن وجود غوته للمباهاة فقط، فقد ارتقى سريعاً، لسوء حظ الأرستقراطية هناك، إلى أعلى المراتب الحكومية وأصبح أكثر المسشارين حظوة وثقة لدى الدوق. لم ينجز غوته خلال السنوات العشر الأولى أياً من الأعمال الأدبية الرئيسة التي كانت بين يديه، فقد كان مشغولاً بأعمال منصبه.

قد يرى البعض أن هذا العمل مضيعة لعبقرية غوته، تماما كأن تربط  الحصان الأسطوري  بيجاسوس إلى عربة، إلا أن غريزة غوته التي لا تخطئ، والتي رسمت مجرى حياته كلها دفعته لأن يعيش حياةً مختلفة بأكبر قدر عن حياة فرتر.

نأى غوته بطاقته عن هواياته واهتماماته الشخصية، ووجه جهده نحو عمله ومسؤولياته  في الفضاء العام. ومن ضمن ما ركز عليه غوته في الفضاء العام دراسته للعلوم. فقد نشر خلال حياته بعض النظريات و”الاكتشافات”، كانت في معظمها خاطئة ولا يعيرها علماء اليوم أي اهتمام. وبيد أنه لم ينجح في إبطال شرح نيوتن للبصريات، إلا أنه وجد في العلوم ملجأً من نفسه.

وضع غوته في الوقت نفسه مفهوما مغايراً عن الطبيعة لتلك الآلية الحسابية الخالية من الروح التي قدمها العصر التنويري. يضم كتاب المختارات “ذا إسينشيل غوته” عدداً كبيراً من كتاباته العلمية التي تظهر أن جُلّ اهتمامته العلمية كانت موجهة نحو فكرة الفلسفة الشمولية، والاعتقاد بأن الكون عبارة عن كائن حي يتطور ويكبر – بشكل أقرب إلى الحدس منه إلى النظرية.

وكتب في إحدى مقالاته:”نحن نحس بأقصى درجات السعادة عندما نجهل أجزاء وجودنا، ونعي الكل فقط. فالحياة بكافة أبعادها عبارة عن طاقة لا تنتمي لأي جزء بعينه من هذا الكائن”.

في عام 1786، ترك غوته فايمر دون أن يخبر أحداً من أصدقائه بوجهته في فورة حماسة يمكن توقعها من شاعر صغيرٍ بدلاً من موظفٍ حكومي في منتصف عمره. ونفض عنه بذلك آثار اشتغاله بالعمل المكتبي لمدة 10 أعوام، وانشغاله خلالها عن مشاريعه الأدبية غير المكتملة. سافر غوته إلى إيطاليا مخفياً هويته، وقضى هناك عامين درس فيهما الفن، واستمتع بالبلد التي قال فيها:”آخر أرض يتفتح فيها زهر شجر الليمون، وتنمو فيها حبات البرتقال الذهبية بين أوراق الشجر الداكنة”.

شكل الوقت الذي قضاه غوته في إيطاليا مرحلة مفصلية في حياته، فقد كان يبلغ من العمر 37 عاماً. وبحكم هوسه بالعالم الكلاسيكي، ورسومات عصر النهضة، وجد غوته في إيطاليا – وفي روما على وجه الخصوص – مكانا ً ملهٍماً، وشعر أنه ولد من جديد. وقد كتب:” لو لم أُجري قراري الذي اتخذه كما أفعل الآن، لكنت هلكت! فقد تقت لرؤية هذه الأماكن بنفسي، ووصلت الرغبة بقلبي مداها”.

لكن الكتاب الذي جاء ثمرة لرحلته إلى إيطالياً بعنوان “الرحلة الإيطالية” أفضى بالقليل فقط عن ما في قلب غوته. وبدلاً من ذلك، يركز غوته على المعالم- الملامح الجغرافية للبلد، وأساليب التخلص من النفايات في المدن، ومجريات إحدى المحاكمات، وأداء إحدى العروض المسرحية. لقد قضى غوته معظم فترة إقامته في إيطالياً وهو يحاول أن يصبح رسّاماً، لكنه لم ينجح في ذلك. وكان الكتاب الذي نتج عن رحلته تسجيلاً لما رآه لا ما أحس به. لكن هذا لا ينفي أن الوقت الذي قضاه أسهم في صحوة جديدة للشاعر- على المستويين الروحي والحسي. كان لغوته في شبابه علاقات غرامية باستمرار؛ ويقسّم المؤرخين فترات حياته بحسب النساء اللاتي هيمنّ على تلك الفترات، واللاتي ألهمنه في أعماله الأدبية.

 لكن معظم علاقات غوتة الغرامية الأولى حملت الطابع العذري المثالي، تماماً مثل عشق فرتر لشارلوت، وذلك لحرص غوته لنّأي بنفسه عن أية علاقة قد تؤدي إلى الزواج؛ الأمر الذي تفاداه أطول قدر ممكن.

انتهت إحدى علاقاته الأولى مع ابنة القسيس فريدريكا برايون التي تودد إليها عندما كان يدرس القانون في ستراسبورج بانسحابه بشكل مفاجئ من العلاقة، والتي اعتقدت فريدريكا أنها فترة خطوبة من نوعٍ ما.

وقد جاءت قصيدة “وردة المرج” التي تصور طفلاً يقطف وردة تنخزه بشوك الندم نتيجة لشعور غوته بالندم على ما اقترفه من تودده وهجره  لمحبوباته . وقد دخل غوته بعد ذلك في علاقة حميمة جداً امتدت لعشرة سنوات مع امرأة متزوجة تدعى شارلوت فون شتاين في البلاط ، إلا أنها لم تكن كما يبدو علاقة جنسية.

كان الأمر مختلفاً في روما، فقد أخبر غوته صراحة هذه المرة عن علاقة جنسية مع أرملة رومية لم يسمها. وقد دفعته هذه الرغبة الجنسية التي أطلق لها العنان للعودة إلى فايمر، والتقى بعد عودته بقليل بكريستيان فولبيوس وانتقل للعيش معها. كان مستوى كريستيان التعليمي ومكانتها الإجتماعية أقل بكثير من غوته، لدرجة أن فكرة الزواج كانت مستحيلة.

إلا أنه تزوجها في نهاية المطاف عام 1806، وذلك بعد مرور عشرين عاماً  على العلاقة وبعد أن حملت بولده. لقد صعق الناس في فايمر لهذه العلاقة الصريحة، ولاختيار غوته  لشريكة حياته، وخصوصاً شارلوت فون شتاين التي غضبت غضباً شديداً على عشيقها القديم.

دفعت المتعة والتحرر التي أحس بهما غوته نتيجة لعلاقاته الجنسية إلى كتابة نوع شعري جديد؛ كما في قصيدته المشهورة “المرثية الرومية” التي يصف فيها عده لدقات الوزن السداسي على ظهر معشوقته العاري. وقد أصر الشاعر أن هذه كانت بمثابة تجربة تعليمية، حيث يقول في قصيدته: ألم أتعلم أيضاً من النظر إلى انحناءات صدرها الجميلة؟ ومن تمرير يدي بخفة على وركيها؟. أدى تحرر غوته من التزاماته في البلاط للتفرغ لمشاريع كان يفكر فيها منذ سنوات وحتى عقود من الزمن؛ فقد امتدت فترة كتابة المسرحية الشعرية “فاوست” لأكثر من ثلاثين عاماً، ورواية (سنوات تعلم ويلهلم مايستر) لما يقارب 20 عاماً.

أدى امتداد كتابة هذه الأعمال على فترات طويلة إلى الخروج بنصوص ذات حبكة متراخية، إلا أن إصرار غوته على إنجاز هذه الأعمال يشهد له باستمرارية اهتماماته والمواضيع التي أراد أن يبني عليها هذه الأعمال طوال فترة حياته.

عالجت الأعمال الرئيسية التي جائت في منتصف حياة غوته المسائل التي كوّنت ملامح شخصية “فرتر” في سبعينات القرن الثامن عشر بنضوج وتعقيد أكبر. ومن ضمن هذه المسائل صعوبة تقبل الحياة والعيش في هذا العالم، والاحتمالات الخطيرة والخلاصية المترتبة على الحب.

كان مهفوم “بيلدونج” – وهي كلمة تعني عملية التعلم والتعليم وتحمل في طيّاتها دلالة على النمو والنضوج – محوراً أساسياً في فكر غوته، وقد جعله غوته محوراً أساسياً في الثقافة الألمانية.

وقد رأى توماس مان، الذي أخذه إعجابه بغوته إلى تقليده في مسيرته الروحية، أن غوته كان معلماً قبل أي شيءٍ آخر. لكن كان على هذا المعلّم أن يكتسب حكمته من خلال تجربته في الحياة قبل أن يعلمّها للآخرين.  وقد كتب توماس مان :”إن القدرة على التعليم لا تنبع من الاستقرار الداخلي للإنسان، بل عن نفس غير مستقرة تواجه المصاعب – تلك الصعوبة التي تواجه الإنسان في التعرف على ذاته.

هذا هي التجربة التي حوّلها غوته إلى دراما في رواية “سنوات تعلم ويلهلم مايستر” التي يمكننا أن نفهم عنوانها بطريقتين. إذا أخذنا المعنى الحرفي للعنوان، فإننا نتعرف على شاب يدعى ويلهلم من الطبقة البرجوازية وله ميولاً فنية، يذهب للتدرب في شركة تمتلك مسرحاً متنقلاً ليتعلم كيف يمثّل ويخرج الأفلام.

يكتب غوته بشغف عن عالم الممثلين الكبير، الذي يصفه بأنه مليئ بالمغامرات والعلاقات الغرامية والحيل الجنسية وتقمص الشخصيات. فالرواية مليئة بالأحداث المشينة مثل الزنا واشعال الحرائق المتعمدة وزنا المحارم والانتحار، لدرجة أنك تحس بأنها قصة مرعبة أكثر منها رواية تطورية “Bildungsroman” جريئة.

إلا أن إعجاب ويلهلم بعالم المسرح يقل أكثر فأكثر كلما زادت معرفته بهذا الوسط، ويدرك بأنه لا يناسبه. ما يحتاج إليه هو تعليم من نوع أعمق – تدريب في الحياة والمجتمع ليتمكن من معرفة نفسه حقاً، وكيف يجب أن يعيش حياته.

أراد غوتة الذي ينتمي إلى برجوازية فرانكفورت، وحصل على لقب النبالة “فون” من الأمير الذي عمل في خدمته أن يثبت على وجه الخصوص أن رجلاً مثل ويلهلم الذي ينتمي إلى الطبقة الوسطى، يمكنه أن يثبت قيمته وكرامته في مجتمع تحدد معالمه الطبقة الأرستقراطية.

وفي هذا السياق، يكون لفكرة التمثيل معنىً أعمق، حيث كتب غوته:”الرجل النبيل يخبرنا بكل ما يريد من خلال الشخصية التي يظهرها، أما البرجوازي فلا يفعل ذلك، ولا يجب أن يفعل ذلك. يحق للنبيل، ويجب عليه، أن يَبرز بشخصية معينة، إلا أن البرجوازي لا يمكنه تقمص شخصية أخرى، وإن فعل فسيظهر بمظهر سيء.

وباختصار، فإن غوته الفنان، ورجل البلاط، ينبذ الحياة الفنية وحياة البلاط، على الأقل فيما يخص شخصية ويلهلم. ويمكن القول بأن ويلهلم مثل فرتر، عبقرية فاشلة؛ أي لديه من سمات الفنان ما يجعله مرهفا وطموحاً، إلا أنه غير قادر على أن يكون فناناً له إنتاجٌ إبداعي.

وقد بوأته هذه السمات مكانة مهمة كنوع جديد من الشخصيات التي سيكون لها أشباه كثيرة في الأدب الحديث (إيما بوفاري هي إحدى هذه الشخصيات). وقد قضي لفرتر بأن لا يجد حلاً لمعضلته سوى الانتحار، بينما قدّر لويلهلم أن ينهي الرواية كأب وزوج جاهزٍ لتحمل مسؤوليات البالغين.

ومع ذلك، فإن الخير ليس له الجاذبية والبريق التي تشع من الشر؛ فشخصية ويلهلم مايستر تتسم بنوع من الملل والشرف بالمقارنة مع بطل “فاوست”؛ أكثر أعمال غوته شهرة وتأثيراً على الإطلاق.

تختلف شخصية وليلهلم عن فاوست في أن الأول يعلم كيف يقبل بدوره في هذه الحياة، بينما يشكل رفض فاوست الاستكفاء بأي شيء تقدمه له الحياة السمة الأساسية في شخصيته. وكما في القصص الفلكلورية التقليدية، مثل مسرحية كريستيفور مارلوي، فإن فاوست يبيع روحه للشيطان، إلا أنه لا يطلب قوىً سحرية أو معرفة خارقة بالمقابل، بل يطلب فرصة التجربة؛ حياةً من النشوة “فورة من السعادة تصل حد الوجع، فورة من الحب والكراهية، أو عدم رضاً يبعث على الحماس. وقضت الصفقة بأن يحق للشيطان أن يأخذ روح فاوست متى أصبح الأخير راضياً عن الحياة:”إذا أردت أن أستبقي هذه اللحظة المارقة، أو أحاول أن أمسك بهذا الجمال العابر، يمكنك حينئذ أن تكبلني بالأغلال وتأخذني بعيداً.

هذا هي المسألة الأساسية في حياة غوته وأعماله: ما هي الطريقة المثلى للعيش في هذه الحياة؟ رأى فاوست، وكذا فرتر من قبله، أن العيش الطبيعي لا طعم له وأنه لا يطاق؛ تماماً مثل مدمن الكحول الذي يطلب جرعات أقوى من السكر العاطفي. إلا أن ما يطلبه هو السكر بالحب، الذي يجده عند جغيتشين، الفتاة البريئة الفاضلة التي يتودد إليها ثم يهجرها.

عند نهاية المسرحية، يعود فاوست ويكتشف أن جغيتشين في السجن لوئدها للطفل الذي حملت به، وعندها يدرك فاوست حجم أنانيته ويكاد يجن.

يصدع صوتٌ سماويٌ معلناً أن جغيتشين سيُغفر لها ذنبها.غوته ليس من دعاة الفضيلة، ولذلك فإنه يسامحها على اندفاعها خلف عشقها. أما فاوست فلا خلاص له من الخطيئة الوحيدة الذي لا يمكن لغوته أن يغفرها، ألا وهي الأنانية، وعدم الاعتراف بالوجود الكلي للآخر.

يمكن القول بأن كتابيّ فاوست وويلهلم مايستر ينتميان إلى فئة كتب الحكمة، لأنهما يقدمان دروساً أخلاقية مهمة. لكنهما ليسا عملين رزينين، فغوته يستمتع بسخرية  الشيطان  ميفيتوفيليس، ودائماً ما يسخر ويتندر كما فعل في الصدف العجيبة والأحداث غير المتوقعة التي تطرأ في مسيرة عمل ويلهلم.

هذا الخليط من الجدية والجذالة في التجرد هو ما يميز غوته الناضج وما يجعله مميزاً؛ فلا نستشف القدرة في أي كاتب آخر على معاقرته للحياة وسبره لغورها في آن واحد.

يطرح غوته في العقود الأخيرة من حياته هذا المنظور العظيم في عدد من أعماله الرئيسة، فيعالج العشق المحرم في “التجاذب الاختياري” و “فاوست، الجزء الثاني”؛ الفنتاسيا الفواقعية  السريالية  التي تتناول التاريخ والخرافة. وما يجدر ذكره أن كلا هذين العملين بالإضافة إلى “فرتر” لم يضما إلى مختارات “ذا إيسينشل غوته”. وإن هذا لدليل على إفاضة غوته في أعماله، حيث يمكن أن تجمع مجلداً آخر يتكون من آلاف الصفحات من أعمال أخرى على نفس القدر من الأهمية.

لم يثني تقدم غوته في العمر عن إكمال مسيرته الغرامية. فقد أغرم غوته الأرمل في عام 1821 بفتاة تبلغ من العمر 17 عاما، وكان عمره حينئذ 72 سنة، حتى أنه طلب منها الزواج لكنها رفضت بأدب. كان غوته يؤمن بأن الحب والتعلم والكتابة دورة لا تتوقف إلا على سرير الموت – ولربما لم تتوقف هناك أيضاً. كان غوته في الثانية والثمانين عندما وضعته وعكة قلبية مؤلمة على فراش الموت، وكانت آخر كلماته: “مزيداً من الضوء!” ربما كان نظره ضعيفاً وكل ما كان يريده هوأن يفتح أحدهم النافذة، إلا أنها أيضاً آخر صورة مجازية وضعها غوته: كأن هذه الكلمات شكلت آخر استجداء للتنوير الفكري من كاتب أفنى حياته بحثاً عن هذا التنوير.

 

 

المصدر