مجلة حكمة
الحياة الاجتماعية للحمض النووي: العرق والتعويضات، والتسوية بعد الجينوم - الوندرا نيلسون / ترجمة: وافي الثقفي

الحياة الاجتماعية للحمض النووي: العرق والتعويضات، والتسوية بعد الجينوم

الكاتبالوندرا نيلسون
ترجمةوافي الثقفي

تمهيد

استهوتني وعائلتي – شأن كثيرٍ من الأميركيين – سلسلةُ حلقات الجذور(*) Roots حينما بُثت عبر الأثير في شهر يناير/كانون الثاني عام 1977. أَتَذكّر جيدًا جلوسنا أمام التلفاز مع أمي وأبي وأختي وأَخَوَيّ، ونحن نشاهد قصة أسرة ألكس هيلي وقد عُرضت بتقنية تكنيْكَلر الملونة.

اتّـكأ والدي على كرسي ذي ذراعين ناصبًا قدميه بعد قضاء رحلة في البحر. وكانت والدتي على أريكة، حولها واحد أو اثنين من أبنائها، أمّـا الاثنان الباقيان فعلى الأرض، نتلقّى عتابَ أبوينا واحدًا بعد الآخر ألّا نستلقي قريبًا من شاشة التلفاز، أو يطلب منهما أحدُ الإخوة تلطفًا أن يتنحيا عن طريقه. وفي مساء يوم الأحد، لمّا تبيّن أننا سنشاهد الحلقة الأولى كاملةً – وقد جاوز وقتُ الحلقة وقتَ نومنا – علمنا أننا في أرض لم تتضح معالمها بعد.[1]

لقد طالعتنا أحداث مسلسل الجذور بواحدة من تلك اللحظات التي لا تُنسى، حين يرى الطفل أبويه من زاوية أخرى. وحين كنت أشاهد الجذور، كنت أشاهد أيضًا أبويّ اللذين أثّرت فيهما قصة هيلي. فكم مرة فاضت عينا أمي بالدموع في تلك الليالي الثماني. وكم مرة هزت رأسها متمتمةً «اممم امممهم»، كما كنت أسمع ذلك من أُمّها ماري Mary، ابنةِ مدينة فيلاديلفيا. ولعل ذلك كان تعبيرًا متوارثًا لمشاعرَ عجز عنها اللسان. أمّا والدِي الذي قَدِمَ من نيو اورلينز، فتُميّزه برودة أعصابه، غير أنه يُبيح لنفسه السبَّ والشتمَ أحيانًا، إِمّا في موقف صراحة بالغة أو مأساة. أدركتُ الآن أنه حين كنا ننظر إلى الجذور، كان أبَويّ ينظران إلينا، نحن أطفالهم. كانا قلقين ومتحفظين، وكانا ينثران تعليقاتهما بين مشهد وآخر، عسى أن يُخفّـف ذلك من وطأة هذا التاريخ الأليم.

لقد تعدّى أثرُ الجذور منزل أسرتنا، ليجثم على حافة وادي سان ديقو الوَعِر، ثم إلى مدرستي الابتدائية، ليعشش في أحد الأودية. كان معظم زملاء فصلي الشُّقْر يلقبونني بكيزي(*) وكُنتا كِنتَيه(**) أثناء المرحلة الأولى في مدرستي الخاصة جنوب كاليفورينا. أمّا ما كان من مضايقات وقت الغداء فقد أفسحتْ المجال لحوارات جادة رغم بلاهتها. وكنا نسعى، ونحن في فناء المدرسة، أن ندرك ما تعنيه الجذور في صداقاتنا ذات الأعراق المتعددة، وما تعنيه في مناقشاتنا في حصة سيستر نورا عن التاريخ الأميركي، وما تعنيه لأمتنا عقب الذكرى المئوية الثانية. كلٌّ تساءل بطريقته الخاصة، من نحن بالنسبة إلى التاريخ؟ أحقًا حدث هذا؟ ولو كان كذلك، فكيف انتقلنا من ذلك الوقت إلى الوقت الحاضر – وإلى أين نحن سائرون؟ [2][3]

ترك هيلي بصمةً بتعاونه في كتاب السيرة الذاتية لمالكوم إكس، القصة المؤثرة للناشط الراحل حول تحوله السياسي الذي نُشِر عام 1965. وقد ظهر هذا العمل في بداية عهد «القوة السوداء»(*). إن رواية الجذور التي نُشرت عام 1976، وسلسلة الحلقات المُستمدّة منها، التي عرضت أول مرة  بعدها بعام، كانتا رمزين توّجا ذلك العهد. وكان هذا عهد الأفارقة والداشيكي(**) – عهد الروح الجماعية: «الأسود جميل». وما بين عامي 1965 – 1977 رجع الأميركيون السود إلى أصولهم الأفريقية رجوعًا قويًا.

وقد أُثير هذا الاهتمام بأصول الأفارقة، ومن ثمَّ علم الأنساب، عام 1977. وكان في عام الحسم هذا كذلك إصدارُ كتابِ (علم أنساب السودBlack Genealogy) لمؤلفه شارلز بلاكسون Charles L. Blockson، وهو كتاب يبحث في الأصولِ، يناسبُ حاجات الأميركيين الأفارقة، اعترضتْ مؤلفهُ عقباتٌ جِسامٌ وهو يتتبع السلالة. وكذلك أُسست جمعيةُ الأنساب والتاريخ للأميركيين الأفارقة (AAHGS) عام 1977، وهي أول منظمة وطنية للسود متخصصة في علم النسب وتاريخ الأسرة. وما تخلل هذه المدة من عقود، نما فيها علم الأنساب تلبيةً لمطامع الأميركيين الأفارقة دون غيرهم. وفي العقد الماضي، مع حل شفرات الجينوم البشري (human genome)، اجْتُلبت أدواتٌ جديدة زادت علم الأنساب اتساعًا متسارعًا، وأكسبته أيضًا منافعَ في نواحٍ شتى.[4][5]

بدأت البحث في هذا الكتاب عام 2003 بعدما استرعى انتباهي ما ورد في الصحف من خدمة الفحص بالحمض النووي (DNA) التي كانت تعِدُ بمؤازرة السود في تتبع أصولهم، فـفُـتِـنـتُ بذلك. وكان الكشف عن السلالة الوراثية آنذاك في بدايته، وكانت التجمعات الشعبية للنسّابة موجودةً حيث وُجِد مُتَبَنُّو الطرق الجديدة لتتبع الأصول. وقد حضرتُ عددًا من هذه الاجتماعات، منها الصغير ومنها الكبير، في جميع أرجاء البلاد، من أوكلاند في كاليفورنيا إلى بيدفورد بولاية مساشوستس، وعدةِ أماكنَ أخرى بينهما. وحملتني الأسفار كذلك إلى المملكة المتحدة. وفي هذه الأماكن، التقيت علماءَ أنسابٍ كانوا يستعينون بالأرشيف والتاريخ المتوارث بالمشافهة كي ينسجوا قصصَ أسرهم من جديد، ولديهم الاستعداد لتجرِبة خدمات الكشف عن الأنساب التي كان لها رواج آنذاك.

وشاركت كذلك في فعالياتٍ ومؤتمراتٍ نُوقش فيها اختبار علم الأنساب الوراثي، بما في ذلك لقاءات في الكنائس والمكتبات والجامعات، وقمت بأعمالٍ ميدانية ولقاءات في أوساط افتراضية وواقعية. وكنت على تواصل مع متخصصين في علم الأنساب الوراثي، فأصبحت، آخر الأمر باحثةً عن الجذور، بفضل ذلك الموروث الشعبي المؤصّل في مجال بحوث العلوم الاجتماعية المسمى «ملاحظة المشارك». بدأت إجراء بحث في تاريخ أسرتي، في بنسلفانيا ولويزيانا وأجزاء من جنوب الولايات المتحدة وكذلك دولة جامايكا، وأصبحت أحمل بطاقة عضويةٍ في جمعية أنساب الأميركيين الأفارقة وتاريخهم.

إنّ بناء جسر يوصل إلى أفريقيا أمرٌ ألهَمَ فنون الأميركيين السود وآدابهم وسياساتهم أجيالًا عديدة. ولو لم يثبت ما قرأتُ عنه من «الجذور» الافتراضية، فهنا إجابة عصرية اقْـتُـرحت لحل المعضلة الأساسية لأميركا الأفريقية – إنها إجابة شُقّت من صفحات رواية للخيال العلمي. ولم يلبث هذا الخيال أن فسح المجال لخبر إطلاق شركة أفريكان إنسيستري، وهي شركته لعالِم الوراثة الأسود المدعو ريك كيتلز Rick A. Kittles، مع شريكته في التجارة، جينا بيج Gina Paige. وكانت هذه الشركة من أقدم شركات الكشف عن السلالة الموجهة للمستهلك في الولايات المتحدة، وهي أول من وجد السلالة الأفريقية أرضًا خصبة له. وأيقنتُ أنه يتعيّن عليّ أن أصحب كيتلز في رحلته هذه لإلمامي بوصف الأعراق البشرية(*)، ولأني مؤرخة للأميركان الأفارقة، ولاهتمامي الخاص بالعلوم والتقنية، ولتحدري من أصلٍ جمعَ بين عالمِ تشفيرٍ وتقنيٍّ ميكانيكي.[6]

استخدمتُ ما يسميه علماء الاجتماع «العينة التراكمية» عند إجراء لقاءات مع الباحثين عن أصولهم. بعبارة أخرى، أُجري لقاءات مع المتخصصين في الأنساب فيما يتعلق بقرارهم في استخدام الكشف الوراثي عن السلالة وتأثير النتائج في حياتهم، ومن ثم يُحِيلونني إلى آخرين. واكتشفت بعد ذلك أن تراكمَ العينات لم يكن هو عدد الأشخاص في تلك الشبكة من اللقاءات فحسب، بل الطرائق المدهشة التي كانت تُستخدم فيها نتائج الفحص. أي أنني أُوتيتُ تصوّرًا لم يخطر لي على بال لكيفية استغلال الأفراد والجماعات والمؤسسات للمعلومات الوراثية. نعم، جُـمِعت المعلوماتُ الشخصية والأسرية، إلا أنه في هذه المباحثات ازداد التنويه إلى كيفية استغلال الفحص الوراثي للسلالة مع تطور هذه الصناعة. ولأكثر من عقد من الزمان، فقد تبعتُ أثرَ كيتلز وشركته أفريكان إنسيستري، وفي هذا الوقت، قررت أخذ فكرة مستفيضة عن فحص السلالة الوراثي – رغم تعدد جوانبها وقلة التنبؤ فيها – وعن مشاهد الإعلان والدهشة ذات الطقوس التي ألِفْنا مشاهدتها في برامج علم الأنساب التلفزيونية.

ومع أنني كنت مشدوهة وأنا أشاهد الجذور، وكنت أفكر في نفسي، لم أحلم قط بمستقبل يأتي فيه يوم أخوض فيها تجربةً غريبةً جدًا تتجلى فيها أمامي نتائج سلالتي أمام ثُلّة من شخصيات الشتات الأفريقي الهامّة وزعماء الحقوق المدنية، وبصحبة الممثل الشهير ايزيا واشنطن رئيسًا للاحتفال. وهذه التجربة، وإنْ أثارت في نفسي مشاعر مختلطة، فإني أُقِرّ أن هذه الفروع الجديدة لشجرة الأنساب إضافةٌ لعلم الأنساب الوراثي لا سبيل إلى إنكارها.

إن كتاب الحياة الاجتماعية للحمض النووي (DNA)، يكشف ما نريد تحقيقه أيضًا بهذه الفحوصات، بما في ذلك من استعمالات سياسية وقانونية. ووجدت أن ذلك ربما شَمِل إنشاء علاقات بمواطن الأسلاف الأفارقة، ونقل المواطنة، وإعادة سبك التاريخ، أو المطالبة بتعويضات تُــعــدُّ، كما نعلم، جزءًا من حوارنا الوطني. وأنا أُسمّي استخدامات فحص السلالة الوراثي هذه «مشاريعَ تسوية»، على قلة شهرتها وأهميتها البالغة، وهي مساعٍ تضع التحليل الوراثي وسط جهود الوحدة الاجتماعية. ولعلها مساعٍ شرعية للتسوية المالية بين الأحزاب التي كانت متعارضة كسُلالة الأرِقّاء وشركات اليوم التي تكسبت بالاستعباد، مثل: اتنا Aetna، وجي بي مورغان شيس JP Morgan Chase، وواتشوفيا Wachovia. وكذلك فمشاريع التسوية جهودٌ لجمْعِ شمل الأحزاب التي كانت متحدة من قبل، مثل السود في الولايات المتحدة مَن يسعى منهم للتواصل ثانية مع قراباتهم المتـقطعة وجماعتهم في أفريقيا. وربما اسْتُعين بها كذلك في استعادة معلومات تاريخية أو سيرة شخص فُقدت – وما تزال تفقد – مع مرور الزمن، أو في حسم قضايا متنازع فيها. وخلاصة القول، فإن هذه الطرق القائمة على الحمض النووي (DNA) تقدم أدوات جديدة للتحقق من قضايا طال أمدُها، ومشاريع التسوية هذه تُبدي إمكانات تحويلية ومتنوعة.

يَحكي كتابُ الحياة الاجتماعية للحمض النووي (DNA) قصةً آسِرةً وغير متوقعة لم تُطوى صفحاتُها بعد؛ كيف أن علم الوراثة استقر في حواراتنا الجماعية عن التاريخ المضطرب للعرق في أميركا. آملُ أن تصحبوني في هذه الرحلة إلى ساحة استثنائية غير واضحة المعالم: ساحةِ القرن الحادي والعشرين للسياسات العرقية(*). [7]

مقدمة

ارتفعت درجة الحرارة إلى ثمانين فهرنهايت أثناء النهار في شهر يوليو/تموز عام 2006، حين أُزيحت تربةُ نيو انكلترا الباردة والمبتلة من على تابوت فنتشر سميث ومن على جانبيه (1729 – 1805)، وهو أحد الرجال الذين استُعبدوا، تحت الأضواء المتوهجة لآلات تصوير هيئة الإذاعة البريطانية. كانت الـبي. بي. سي. تصور فلمًا وثائقيًا عن سميث، عنوانه: (قصةُ رقيق A Slave Story)، في مقبرة تَحُفّها الأشجار، بالقرب من كنيسة فيرست شيرش أوف كرايست في مدينة إيست هدام في ولاية كونيتيكيت. ولحق بفريق العمل خبراءُ آثارٍ ومتخصصون في علم الجينات وعلماء في الأنتروبولوجيا(*) ومؤرخون. وكثيرٌ من هؤلاء الباحثين – من لهم خبرات متنوعة، من تاريخ الأفارقة وأميركا المستعمِرة إلى علم الجينات البشرية والطب الشرعي – انضموا إلى المؤسستين اللتين قامتا بالمبادرة: جامعة كنيتيكيت الواقعة في ستورز، ومعهد ويلبرفورس لدراسة الرق والتحرير في مدينة هول بإنكلترا. ومن بين الحاضرين أيضًا مواطنان كبيران في السن: كورالين هنري جاكسون Coralynne Henry Jackson وفلورنس وورمسلي Florence Warmsley، وهما من أكبر أحفاد سميث الأحياء. وكان فحص رفات سميث بإذنٍ منهما ومن غيرهما من ذويه[8].

فتح الباحثون قبر سميث، بعد قرنين من الزمان، أملًا أن يُبيّن التحليلُ كيف كانت حياته وموته. وكان ثَمَّ فريقٌ لعمل التنقيب يقوده الدكتور نيكولاس بيلانتوني Nicholas Bellantoni، عالم الآثار بولاية كونيتيكيت. وكانت العينات الوراثية، التي استطاع الفريق استخلاصها، تُؤخـذ إلى مختبر وارين بيري Warren Perry، عالم الأنتروبولوجيا الطبيعية(*) بجامعة كونيتيكيت ستيت المركزية، الذي يدير مختبر الآثار للدراسات الأفريقية والشتات الأفريقي. بعد هذه الخطوة قام فريقُ بحثٍ بقيادة ليندا ستراسبو Linda Strausbaugh – مديرة مركز علم الوراثة التطبيقي والتقنية في جامعة كونيتيكيت والخبيرة في «الجينومات التاريخية» – بتحليل وراثي للحمض النووي داخل الميتوكندريا (mtDNA) لـ سميث، إذ إنه ينتقل من الأمهات إلى الأبناء دون تغيّر يُذكر، لتكون دلائل على سلالة سميث.[9]

وفي تلك المرحلة التي صار فيها تسلل الحمض النووي إلى الماضي أمرًا شائعًا وأصبح فحص السلالة يشغل برامج التلفاز وقت ذروتها، فقد بدا أن إجراء هذا البحث ليس أمرًا استثنائيًا. ومع ذلك فإن سميث هو أكثر من أثار الفضول في هذا العمل وفي التحليل الوراثي، ذلك أن ما يُعرف عن تفاصيل حياته يضاهي ما يُعرف عن شخصياتنا التاريخية الأشهر والأكثر توثيقًا. لقد دوّن سميث «قصة رقيق»، وهي الرواية التي تحدث فيها بنفسه عن حياته. وهي جزء من الكتابة الأميركية لفن مأساوي تكتنفه البطولة، وهو فنّ فتح نافذة صغيرة لاستبصار تاريخي في معاناة المستعبَدين من الرجال والنساء. وما يميز قصة سميث في هذا الفن هو اكتمالها، وأكثر ما تنفرد به هذه القصة أنها ترجع للوراء إلى حياته قبل مرحلة العبور عبر المتوسط Middle Passage، تلك المرحلة المحفوفة بالمخاطر عبر المحيط الأطلسي، حين نُقل الأفارقة لحياة الاستعباد في أوروبا والأميركيتين. وكما بيّن (جيمس برور ستيوارت James Brewer Stewart) فإن قصة سميث هي «الدليل الوحيد القائم عند أميركي أفريقي يصِل ما بين ذكرياتِ غرب أفريقيا وحياةٍ اكتملت في الولايات المتحدة»[10]

روى سميث رحلته الاستثنائية من العبودية إلى الحرية لـ (إليشا نايلزElisha Niles)، وهي معلمة في المنطقة التي يسكنها، عام 1798، قبل وفاته بسبعة أعوام حين بلغ السادسة والسبعين. نُشِرت القصة فيما بعد على أنها «قصة حياة فينتشر ومغامراته، ابن أفريقيا، ومقيم لأكثر من ستين عامًا في الولايات المتحدة الأميركية، يرويها بنفسه»[11]. تطرق سميث في هذه القصة إلى أدق تفاصيل حياته في أفريقيا: فذكر مسقطَ رأسه (دوكاندرا، في غينيا)، واسمَ والده (سونْقم فيورو)، واسمَه يومَ وُلد (بروتير فيورو)، ومعاناته حين وقع في قبضة جيشٍ أجنبي بقيادته رجل يدعى (بوكور Baukurre).

يتذكر سميث أن الكابتن (كولنغْوود Collingwood) كان يُدير دَفّـة سفينةِ الرقّ التي نُقل عليها[12]. فرَوَى قصة عبوديته مُـذْ كان صبيًا حتى بلغ سن الرشد، وزيادة قوته وقدراته، وهو يكبر يومًا بعد يوم ليكون رجلًا تجاوزت قامته ستة أقدام. وذكر سميث كذلك كيف أنه نال حريته بِيَده هو. ذلك أنه، إلى جانب أشغال العبودية، قام بغير ذلك من الأعمال المُنهكة لكسب المال، فأعتق نفسه عام 1765. ومضى رجلًا حرًا يعمل ويلتمس كسبه. وما بين عامي 1769 و1775، دفع الثمن ليعتق زوجته، مارغاريت Margaret (Meg)، وابنيه، سولومون Solomon وكف Cuff، وابنته هناه Hannah. ومع ما قد يحصل من تهذيب نايلز للقصة، التي دَوّنتْ وحررتْ قصة سميث مستعينةً بالطرائق العُرفية لهذا الفن من الكتابة، فإن هذا الرجل الذي كان رقيقًا من قبل، خَلّف وراءه قصة مشحونة بالتفاصيل والمشاعر الشخصية. وعلى حد قول ستيورت فإن «معظم المؤرخين يَعُدّون هذه القصة مصدرًا كافيًا عن غيره يُـبَـيّـن من هو فينتشر سميث، ومن أين جاء، وما الحالات التي مرّ بها، وبمَ كان يؤمن، وكيف ترجم معتقادته لتكون مشاريعَ للحياة»[13].

وبفضل وفرة ما حوته سيرة سميث الذاتية، أصبح لأقاربه اليوم معرفة واسعة عن أسلافهم. لقد تعاون أحفاد سميث مع كارل ستوفكو Karl Stofko، مؤرّخ مدينة إيست هدام، حيث دُفن سميث، لتوثيق عشرة أجيال من ذرية فنتشر وزوجِهِ مارغاريت[14]. وقد أحاط أحفادهم بأسرتهم إحاطةً عميقةً واسعة، بزواجاتهم، وشراكاتهم وما كان من تبنٍّ رسميّ أو غير رسميّ (أشخاص قام على تربيتهم أناس تجمعهم «صلة الدم»)[15].ووَضعتْ ذريةُ سميث شجرةً عائليّـةً طويلةً ومتفرعة، بدأت من القارة الأفريقية وامتدّتْ فروعُها حتى اليوم. والواقع أن أفراد ذرية سميث بلغوا مكانةً يُغْبَطون عليها؛ فلديهم علمٌ عن أسلافهم أكثر مما يأمل كثير منا أن يعرف عن أسلافه. 

وإذا ما نظرنا إلى ما تركه سميث من قصة رواها بنفسه عن أصوله، وقد بلغنا الكثير عنه من طريق البحث التاريخي وعلم الأنساب، فما بال العلماء والاجتماعيين ومنتجي الأفلام الوثائقية قد اجتمعوا طلبًا لدليلٍ علمي يؤكد قصته الشخصية؟ ولمَ نحتاج دليلًا علميًا على قصة حياة سميث وقد أعلن المؤرخون أن قصته مصدر كافٍ بذاتها. ولِمَ يُظن أن تحليل الحمض النووي سيقدم علمًا قـيّـمًا وموثوقًا به عن تاريخ عائلة الرجل أكثر من كلام الرجل نفسه؟

القوة الاجتماعية للحمض النووي

ثمة إجابتان لهذه التساؤلات. إحداهما معنيّةٌ بـ«القوة الاجتماعية للحمض النووي». والأخرى لها علاقة بالأولى وهي معنيّة بـ«الحياة الاجتماعية للحمض النووي». وحالة سميث توضح جانب القوة الاجتماعية للحمض النووي. فالتماس دليل وراثيٍ، يُشعِر أن الأصول الحقيقية لهذا الرقيق لا تظهر في كلماته أو في تفاصيلَ قدّمها صوتُه الروائي المميز، بل هي كامنة كمونًا جوهريًا في رفاته البيولوجي. إن المكانةَ الرفيعةَ التي حظِي بها الحمض النووي بوصفه الحَكَم الفصل لحقيقة الهوية، مكانةٌ واضحة كل الوضوح في اللغة التي نتكلم بها عنه[16]. وكما أن للحمض النووي قدرة استيعابية حين تتحد عناصره الأساسية – الأدنين، والسايتوسين، والجوانين، والثايمين – وحين تتحد تلك العناصر مرة أخرى كي تخلق مادة حيوية، كذلك فإن لغة الحمض النووي لها قدرة تشبه تلك القدرة تتغلغل في تصوراتنا الثقافية. أما العبارات المبالغ فيها مثل «شفرة الشفرات»، و«الحلقة المقدسة»، و«الطبعة الزرقاء»، و«كتاب التعليمات» للإنسان، و«سر الحياة»، كل ذلك يضع افتراضًا محوريًا للقدرة الخارقة الملموسة لعلم الوراثة.

وقد تطرقتْ عالمة الاجتماع (دوروثي نيلكين Dorothy Nelkin)، والمؤرخة (سوزان ليندي M. Susan Lindee)، في كتاب قوي لهما أُصدر عام 1994، إلى هذه العبارات المجازية بوصفها جزءًا مما أسموه «غموض الحمض النووي DNA mystique». وقد كشفت المؤلفتان – استنادًا إلى تحليل شامل لأدلة علمية متداولة – كيف أن عناصر الثقافة المعاصرة تحمل رسالة مفادها أن أعظم مصدر للقوة والمعرفة يكمن في «جيناتنا». فلاحظوا أن الحمض النووي رمزٌ مطواع على نحو مدهش، ومشحون – فيما يبدو – بقوى سحرية توصل إلى الحقيقة.

 وأن الجين – بزعمهم – ما هو إلا رمزٌ أُشْرِبَ «معنىً ثقافيًا لا يعتمد على خصائصه البيولوجية الدقيقة»[17]. ومع أن الادّعاءات التي تقول إن الجينات تُعرّفنا أنفُسَنا وكيف سيكون سلوكنا، ليست بأكثر مصداقية مما كانت عليه قبل عقدين من الزمان، إلا أن انتشار تحليل الحمض النووي ضخّم من شأنها. وفي السنوات العشرين الماضية منذ أن لفت انتباهنا كل من نيلكين وليندي إلى تسلط الحمض النووي على العقل العام، ضاقت الفجوة بين المعنى الثقافي للجين وخصائصه البيولوجية. وهذا – من ناحيةٍ – ناشئٌ من أدوات فحص السلالة الموجه للمستهلك (DTC) التي جعلت مطامع البشر اليوم تتخذ طابعًا علميًا.

لقد ظهرت صناعة فحص السلالة الموجهة للمستهلك مع مطلع القرن الحادي والعشرين، ونمت هذه الصناعة من بضع شركات إلى عدد كبير منها في العقد المنصرم. ومن العسير أن نحصل على أرقام موثوق بها، إلا أنه بحلول عام 2015 قُدّر عدد المستهلكين، الذين قُدّمت لهم هذه الخدمة، نحو مليوني مستهلك. وكان نِصْفُ هذا العدد من شركة واحدة فقط وهي شركة (23 and Me)[18]. ونتج هذا الاهتمام المُتفجّر بتتبع الأصول عن طريق الحمض النووي في الولايات المتحدة من تاريخنا بوصفنا أمةً مهاجرةً قدِمت من كل مكان، سواء من تلقاء أنفسنا أو جرًا بالسلاسل، وبذلك تُركت صِلاتنا الأسرية تتلاشى جراء ذلك. ولذا أضحى تتبعُ أحدِنا لأصوله نوعًا من التسلية الوطنية.

إن علمَ الأنساب صَنعةٌ يعود تاريخها إلى عهد الكتاب المقدس، حينما كانوا يتتبعون سلالةً كهنوتية أو قرابة ملكية. ومع بداية القرن العشرين حظي تتبع السلالة بقبول واسع في الولايات المتحدة. وأصبح ما سماه عالم الاجتماع (هيربيرت غانز Herbert Gans) «الانتماء العرقي الرمزي» واحدًا من أهم عناصر الهوية الأميركية؛ فهذا الانتماء يجعلك قادرًا على أن تعود بالذكرى إلى كاونتي كورك في إيرلندا في الوقت الذي تبتهج فيه وأنت في يوم ذكرى القديس باتريك في بوستن، وأن تعود بمخيلتك إلى أسلافك في صقلية في الوقت الذي تسير فيه في موكب احتفال ذكرى سان غينارو في حارة الإيطاليين في مانهاتن، أو أن يجعلك تُـعـلّق شعار النّبَالة(*) وأنت في بيتك[19].

إن هذا البحث، عند الأميركيين الأفارقة، بحث أكثر حيرة وله دلالات كثيرة. فالضياع الكبير للروابط الاجتماعية كان نتيجة مباشرة للعبور عبر المتوسط والاستعباد العنصري. وتسبب التخريب أثناء الحرب الأهلية في إتلاف سجلات مهمة ووثائق مكتوبة أو التقليل من أهميتها. وفُقدت معلومات عن أُسَرٍ من السود فيما بين أجيالها – وهو أمر بديهي لنسيان جرح مضى. لكن الأميركيين الأفارقة اليوم يستخدمون فحص السلالة الوراثي أملًا في إلقاء الضوء تحديدًا على نوع المعلومات الأسرية والتاريخية التي قدمتها قصة استعباد فينتشر سميث وشجرة عائلته.

ولذا فإن اللجوء إلى دليل وراثي في قضية سميث، ومحاولة التنقيب عن رفاته على أن ما يُعرف عنه أكثر مما نعرفه عن معظم الأميركيين اليوم، سيجلّي لنا أشياء كثيرة. وإن فحصَ السلالة الوراثي، كما يقول أحفاد سميث، أكثرُ من مجرد كشف للحقائق؛ فلديهم، كما أن لدينا، مآرب أخرى أكثر معنوية في الحمض النووي.

فمنذ عام 1997، يحتفل مجتمع إيست هدام بيوم فينتشر سميث، تلك المناسبة التي يوجد فيها عادةً علماء مثل المؤرخَين (جون وود سويت John Wood Sweet)، الخبير في حياة هذا الرجل الذي كان رقيقًا؛ و(روبرت هول Robert Hall)، وكلاهما يدرس حياة سميث، ويلبسان كما كان يلبس. و(شاندلر سينت Chandler Saint)، رئيس مركز بيتشر هاوس لدراسة حقوق المساواة، وسياسيون محليون كممثلة ولاية كونيتيكيت: (ميليسا زيوبرون Melissa Ziobron). ويوافق هذا اليوم كذلك اجتماع أسرة سميث السنوي، اليوم الذي يتوافد فيه أحفاده إلى ولاية كونيتيكيت، ليضعوا إكليلًا على قبر والدهم، ويلتقطوا صورًا جماعية، ويتجاذبوا أطراف الحديث.

عندما لقيتُ فلورنس وورمسلي، وهي حفيدة من الجيل الثامن، في الذكرى السنوية العاشرة لـ فينتشر سميث في شهر سبتمبر عام 2006، حدثتني عن أملها أن يساعد الفحص الوراثي لجدها في «تثقيف الشعب الأميركي». أمّا أكبر بنات عمها سِنًّا، (كورولين هنري جاكسون Coralynne Henry Jackson)، من الجيل الثامن كذلك، فكان لها إحساس كإحساس فلورنس بالأهمية التثقيفية لتحليل الحمض النووي لبقايا سميث. وفي قصة الرقيق – التي عُرضت أول مرة في ربيع عام 2007 في الذكرى المئوية الثانية لإلغاء تجارة العبيد البريطانية – أعربت السيدة جاكسون عن أملها في أن نتائج التحقيق في بقايا سميث ستُسْهم في «مساعدة الأطفال في المدارس… [و] أن تعلمنا من أيّ مكان من أفريقيا أتى»[20]. وأراد كل من جاكسون وورمسلي الكشفَ عن تفاصيل ماضي أسلافهم ليطمئننا، لكن ما لفت انتباهنا أن كلًا منهما أعربا عن الرغبة في تثقيف الآخرين (طلاب المدارس، والشعب الأميركي، وغيرهم). إنهما يأملان أن عملية التنقيب هذه – لاستخلاص بيانات علمية قد تُعرّفنا الكثيرَ عن تاريخ سميث الشخصي – ستعود علينا بعلمٍ عن تاريخ الرق والعنصرية في الولايات المتحدة.

وفي ختام  قصة الرقيق، توقفت آلة التصوير على وورمْسلي وهي تعبر تعبيرًا مِلؤه الحزن عن أملها أن الكشف عن جينات أسلافها سوف «تمنح الشفاء»[21]. إن هذا الأمل، الذي باحت به امرأة من نسل رجل وامرأة كانا يومًا أرقاء، على طول العهد بينهم، هو الأمل ذاته الذي يحمله الأميركيون الأفارقة ويَـودّون تحقيقه بفحص السلالة الوراثي: أي التسوية العنصرية.

يُستخدم تحليل الجينات استخدامًا متزايدًا باعتباره وسيطًا للتسوية – لاستعادة السلالة، والأسر، وعلوم الماضي، والمطالبة بحقوق سياسيّة في الحاضر. فنحن الآن نلجأ على نحو منتظم إلى فحص السلالة كشفًا لأشياء غامضة أو فصلًا في قضايا معيّنة. وكما أوردتُ في هذا الكتاب، فإن القوة الاجتماعية للحمض النووي استُغلت على نحو قريب من ذلك لرفع الوعي بمعاناة السود في الماضي، ومن ثمّ الإسهام في السياسات العرقية في العصر الحاضر، التي تتميز بنسيان الأحداث التاريخية.

وقد وصلتُ إلى هذه النتيجة مع تحفظي عليها. أعتقد أن قصة أصل فينتشر سميث كاملة ليست في جيناته، وذلك هو المفهوم الأساسي والأجوف اجتماعيًا للهوية الإنسانية. وأخشى أن تُمنح الاستنتاجات الوراثية قوةً تفوق قوة المحفوظات التاريخية والسير الذاتية. كذلك فإن فتح قبر سميث لتحليل الحمض النووي يُبين لنا أكثر كيف أن ما نحمله من أفكار عن أجناسنا موجود في عصر علم الجينومات أكثر مما نعرفه عن ذات سميث كما هي. وفي الوقت نفسه، فإن حالة سميث قيمة جدًا، ذلك أنها توضح أن جزءًا من افتتاننا بفحص السلالة الوراثي يكمن في رغبتنا في الإتيان بمفردات تجعلنا نواصل الحديث عن تجارة الرق التي لم تنته بعد وعن ظِلالها الممتدة: التمييز العنصري واللامساواة الاقتصادية. إن الطرق المعتمدة على الحمض النووي تجعلنا نحاول – أو نعيد المحاولة في – التفكّر في جراحنا الاجتماعية المستمرة وأن نتفاعل معها وأن نحسم أمرها. واليوم، كما يقول نيلكن ووليندي، يُمكن لعلم الجينات أن «يؤدي دورًا في كثير من القصص المختلفة»، عندما تتجاوز المستشفى والمختبر الإكلينيكي وصالة المحكمة لتصل إلى عملية التسوية، وهي في ذلك تتأرجحُ تأرجُحَ البندول بين ما نأمله وما نخشاه[22].

الحياة الاجتماعية للحمض النووي (DNA)

وافق صيف عام 2010 الذكرى العاشرة لفك شفرة «المسودة الأولى» من الجينوم البشري. ورحبتْ بهذا الحدث التاريخي – على حذرٍ – جهاتٌ عادةً ما تكون مندفعة. وقد عبر الصحفي العلمي الرائد (نيكولاس ويد Nicholas Wade) عن استيائه في صحيفة نيويورك تايمز من أنه «بعد عشر سنوات من الجهود» ما تزال الوعود التي قدمها علم الجينوم «محيرة إلى حد كبير». أما (جي. كريغ فنتر J. Craig Venter)، عالم الجينات المبتكر الذي يُعَدُّ قوةً عظمية وراء مشروع الجينوم البشري(*)، فقد صرح في صحيفة دير شبيفل تصريحًا مؤكدًا فيه أننا «لم نتعلم شيئًا من الجينوم». وهذه التقديرات الحكيمة عجيبة بالنظر إلى التغير العظيم لعالمنا الاجتماعي بسبب علم الوراثة وتطبيقاته في العقد الأخير[23].

وعلى أن الفوائد الصحية الملموسة الناتجة عن مشروع الجينوم البشري قد تكون بالفعل «محيّرة»، إلا أن أثرَها الأكثرَ اتساعًا أثرٌ واضح. لقد انتشر علم الوراثة انتشارًا واسعًا، ولا ريب أنّ البحث الوراثي استحوذ على الطب الحيوي، بل إن قدرته على التنبؤ بالأمراض وعلاجها باتت واضحة كل الوضوح. ففي أوساط العدالة الجنائية، أصبح أمرًا مشاعًا، وسلاحًا ذا حدين، يؤدي دورًا في كل من الإدانة والتبرئة. ومن بين المعالم الأكثر جلاءً في عصرنا، عصرِ الجينوم، تلك الفحوصات الوراثية المتاحة تجاريًا التي تدّعي تحديد النسب والانتماء السلالي والهوية العرقية والانتماء العرقي. وفي شتى هذه الأوساط المؤسسية، فقد هرعنا (دون تمحيص في الغالب) إلى الحمض النووي بوصفه المفتاح الرئيس الذي يكشف كثيرًا من الأسرار.

وبيانات الحمض النووي هي البيانات الجوهرية على الإطلاق. فالبيانات الوراثية تحمل معانٍ شتى وتحوي معلومات يمكن استخدامها في نواحٍ متعددة في المجتمع أيًا كان مصدرها أو الغرض الأساسي من استخدامها. وكذلك فالجينات جامعة لأشياء كثيرة؛ فهي تنقل أصنافًا عديدة من المعلومات في الوقت نفسه. إذن فتحليل الحمض النووي متنقّل بين ميادين الطب العام والطب الشرعي وعلم الأنساب، وما وراء هذه العلوم، ليصل إلى مجموعة أوسع من ساحات المعرفة، حتى يصل إلى غرض أبعد. ويُتوصل الآن إلى أغراض وطموحات شتى بالاستعانة بعلم الوراثة أو عن طريقه. وهذا الانتشار يشكل الحياة الاجتماعية للحمض النووي.

وتسير منهجيةُ الحياة الاجتماعية للتعامل مع الجينات على خطى منهجيةِ عالم الأنتروبولوجيا (ارجون ابادوري Arjun Appadurai)، الذي ادعى في كتابة (الحياة الاجتماعية للأشياء The Social Life of Things)، أنه حتى نفهم ماذا تعني الأشياء ولماذا هي مهمة، لا بد أن نتتبع سيرها في المجتمع «الأشياء أثناء سيرها»، وأن نلقي الضوء على «سياقها الإنساني والاجتماعي»، وأن نُبيّن «تعامل البشر وحساباتهم التي تجعل من الأشياء أشياءَ حيةً»[24]. وإذا ما تتبعنا تحليل الحمض النووي بهذه الطريقة، فسنعرف لأيَّ موضع ولأيِّ علة نستدعي علم الجينات ليجيب عن الأسئلة الجوهرية للوجود الإنساني، وغالبًا يكون ذلك بزيادة استعمالاته الشائعة في علم الأنساب. وعلم الجينات اليوم يُستخدم في تكوين الهوية، ومشاريع التنمية الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية، بوصفه دليلًا مساندًا في المحاكمات المدنية والحوارات التاريخية، وفي كل مكان. فبالرغم من أنّ المنفعة العلاجية للجينوم قابلة للنقاش، إلا أن الحياة الاجتماعية للحمض النووي بيّنة واضحة: فاللولب الثنائي(*) اليوم يقع في صميم بعض القضايا العصرية الأكثر أهمية[25].

التسوية باعتبارها ممارسة اجتماعية

إن مشاريعَ التسوية التي تستعين بعلم الوراثة، مثالٌ بـيّـنٌ على فائدة الحمض النووي الاجتماعية[26]؛ ففي هذه المحاولات، كان التحليل الوراثي يُستخدم ليُسهم في ترابط المجتمع، أو العقل الجماعي، أو التحول الاجتماعي. وهذا هو «العلاج» نفسه الذي يريده أحفاد سميث لأنفسهم وللمجتمع الأميركي. ففي مشاريع التسوية، يُستعان بتحليل الحمض النووي في مساعٍ لتأليف أحزاب كانت يومًا مجتمعة أو متفرقة. (إعادة ما قُطع من روابط في الأسرة أو المجتمع أو الدولة الأممية أو الشتات)، وللكشف عن معلوماتٍ تاريخية أو معلومات متعلقةٍ بسيرة حياة شخص فُقدت مع طول العهد، أو للفصل في قضايا النزاع؛ فمشاريع التسوية شكل من أشكال الممارسات الاجتماعية التي تحدث في كل مكان على وجه الأرض. ففي مرحلة ما بعد الحرب في الأرجنتين، مثلًا في قضية منظمة جدات ميدان مايو(*) المعروفة، استُخدم التحليل الوراثي لأكثر من عقدين لإعادة الأطفال – الذين فقدوا والديهم بسبب العنف السياسي وتبنّـتهم أُسَرٌ تَبَـنٍّ غير شرعي – إلى أجدادهم البيولوجيين. وفي مرحلة ما بعد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، أبارتيد(**)، ساعد تحليل الحمض النووي في الاهتداء إلى جثث أعضاء الكونغرس الوطني الأفريقي السابقين الذين «اخـتـفـوا» في الحرب التي أقيمت على التمييز العنصري الذي مارستْه الدولة. والذي يجمع هذه الجهود هو استعمالها لأدلة الطب الشرعي لاستخلاص معلومات عن الماضي، غالبًا بعد نزاع أو فاجعة.[27]

إن هذا الكتاب يعطي اعتبارًا كبيرًا لمشروع كهذا: إنها جهود تهدف إلى سد ثلمة اجتماعية ورّثها الاستعباد عبر المحيط الأطلسي. لقد درستُ مجموعة من نشاطاتٍ بادر إليها أميركيون سود وآخرون من السلالة الأفريقية، وهم الذين انبروا لخوض رحلات وراثية لاستكشاف أصولهم السلالية، ليَسيروا بهذا العلم إلى شتى المقاصد الاجتماعية والسياسية. وفي مشاريع التسوية، أُقحم تحليل الحمض النووي في مناقشات عن الانتماء الوطني لم يحسم أمرها وما تزال قائمة. وبدءًا من ظهور «علم الوراثة البشري» في أميركا اللاتينية، وامتدادًا إلى الجدل حول «العائلات المؤسِّسة» في الولايات المتحدة، تجتمع الأحداث بعد كل هذا فاتحة المجال للأحياء الجزيئية – إحدى منظومات التسوية.

لقد شرعتُ في البحث لهذا الكتاب عام 2003، حين كان فحص السلالة في بدايته. ولأني حضرتُ مؤتمراتٍ وفعالياتٍ عن علم الأنساب في أرجاء الولايات المتحدة، فقد لقيت مُـتـبـنّي هذه الطرق الأوائل، وباحثين هواة كانوا هدفًا لشركاتٍ تُمَوّن خدمات فحص السلالة الوراثي لِمَا رأوا فيهم من اهتمامٍ في لَمّ شمل التاريخ العائلي. وجذبتْ هذه اللقاءات جمعًا من علماء الأنساب من الأميركيين الأفارقة.

ينطلق كتاب الحياة الاجتماعية للحمض النووي (DNA) من لقاءاتي مع أناس من سلالة أفريقية يستخدمون فحص السلالة الوراثي. ولأكثر من عقد من الزمان كنت قد لاحظت وشاركت في فعاليات عُرِض فيها فحص السلالة ونُوقِش، بما في ذلك اجتماعاتٍ في الكنائس، والمراكز الاجتماعية، والمكتبات، والمتاحف، والجامعات في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وقمت بأعمال ميدانية ولقاءات في أوساط شتى بما في ذلك اجتماعات علماء الأنساب المحلية أو الوطنية، والمواقع السياحية لتراث الأميركيين الأفارقة، وفي غرف الجلوس وعلى طاولات المطابخ.

تتضمن ممارسة علم الأنساب اليوم العديد من الأدوات التقنية إلى جانب البحوث الأرشيفية التقليدية: فبرامج مثل Family Tree Marker في موقع Ancestry.com وغيرها، تُعِين علماء الأنساب في إنشاء رسوم لشجرة العائلة؛ هناك قوائم بريدية تساهم في نشر الرسائل الإلكترونية مختصة بالجوانب التقنيّة لفحص السلالة؛ وهناك مواقع على الشبكة العنكبوتية تمكن الفاحصين من مقارنة نتائج الحمض النووي بعضها ببعض لإيجاد علاقة من نوع ما. ولأن ممارسة علم الأنساب تقوم على ابتكارات تقنية، فكان لا بد أن يتخلل بحثي وصفٌ عرقي «افتراضي» عبر الشبكة العنكبوتية[28]. وقد لاحظتُ وشاركتُ تحديدًا في جماعات كان يجمعهم اهتمامهم بتتبع سلالاتهم الأفريقية.

لقد استوعبتْ مباحثاتُ الجماعاتِ على الشبكة العنكبوتية موضوعات متنوعة ذات صلة بممارسة علم الأنساب؛ فأحد المنتديات مثلًا مختص بمناقشة فحص الحمض النووي. وفي هذه الأوساط، يتحاور الأعضاء فيما وراء فحص السلالة الوراثي من علمٍ، أو يعرضون خبراتهم من خلال ما يعرفونه من مصطلحات خاصة وبحوث وراثية حديثة، أو يقومون بتطويرها من خبرات سابقة مع واحدة أو أكثر من شركات فحص السلالة؛ ويتداولون أيضًا مقالاتٍ علميةً موضوعيةً ومقالات صحفية: ويتشاركون نتائج الفحص الوراثي ومشاعرهم تجاهها. وفي السنوات الأخيرة، تتبعتُ ظهور فيديوهات لمختصين في علم الأنساب الوراثي أرادوا بها إيصال رغبتهم في معرفة الأصول ونتائج فحص السلالة الوراثي إلى جمهور وسائل التواصل الاجتماعي. وكان عملي في هذه المجتمعات الافتراضية منطويًا على مناقشاتٍ لعلماء الأنساب، سواء على القوائم البريدية العامة أو في الحوارات الخاصة على شبكة الإنترنت. وفي معظم الحالات كان هناك تداخل واتصال بين تلك المجتمعات التي عشت فيها، ما كان منها على الإنترنت أو غيرها. وكما قلت، فقد عرفت أعضاء من هذا المجتمع الافتراضي معرفةً شخصية عبر لقاءات واجتماعات تُعنى بعلم الأنساب.

وكثيرٌ من متتبعي الأصول السود، الذين لقيتهم من خلال استكشافي علم السلالة الوراثي، استخدموا خدمات شركة أفريكان إنسيستري الرائدة (سواء استخدامًا حصريًا أو تعاونًا مع فحوصات لشركاتٍ أُخَـر). ولذلك شرعتُ في تتبع ظهور هذا المشروع خاصة لفحص السلالة الموجه للعميل إضافة إلى تحصيل العلم من علماء الأنساب. وشركة أفريكان إنسيستري شركة أسسها كلٌ من ريك كيتلز، عالم الوراثة الأميركي الأفريقي وهو الآن في جامعة أريزونا، وكذلك جينا بيج، سيدة أعمال سوداء نالت درجة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة ستاندفورد ودرجة الماجسيتر في إدارة الأعمال في جامعة ميتشيغن. وهذه الشركة تتتبع السلالة من جهة الأب أو الأم لتحدد انتماء الفرد إلى دولة أُممية وجماعة عرقية في القارة الأفريقية[29]. (على أن الشركة بالضرورة تحدد انتماءات عبر فحص السلالة الوراثي خارج القارة الأفريقية).

وفي طور إتمامي لهذا البحث، أصبحتُ عضوًا في جمعية الأنساب والتاريخ للأميركان الأفارقة (AAHGS)، وكنت أتردد كثيرًا إلى أحد فروع الجمعية في منطقة هارليم في مدينة نيويورك. وعملتُ كذلك مع علماء أنساب لأصبح الآن واحدةً منهم. واشتريت فحصًا وراثيًا من شركة أفريكان إنسيستري لأخوض تجرِبة حيةً في «الإعلان» عن نتائج فحصي.

لقد صُوّر الدور التحويلي الذي يمكن أن يقوم به فحص كيتيلز وبيج تصويرًا قويًا في أحد المسلسلات التلفزيونية الشهيرة: (العثور على الجذور Finding Your Roots) لـ هنري لويس غيتس، إذْ اعـتُـمِـد في أجزاءٍ منه على ما أنتجته شركة أفريكان إنسيستري، ومشاهدَ حيةٍ مثيرةٍ أثناء «الإعلان» عن النتائج. لقد أزحتُ الستار في هذا الكتاب عن تحولات واسعة النطاق قادمة مع خروج علم الوراثة عن حدود المختبرات البحثية العيادية وقاعات المحاكم الجنائية، وأن علم الأنساب الوراثي أخذ على عاتقه ما هو أكثر من مجرد كونه أهمية شخصية.

وإذا ما عدنا إلى عام 2000، فقد أكدت صحيفة لوس أنجلوس تايمز ما كان يُتداول من أنّ فحص الحمض النووي قد يكون متاحًا لمساعدة الباحثين عن أصولهم من السود. ونُقل عن كيتلز – وكان في ذلك الوقت مساعد مدير الوحدة الوراثية الجزيئية في مركز الجينوم البشري الوطني في جامعة هاوَرْد – أنه قال إنّ «مئات الأميركيين الأفارقة» اجتهدوا في البحث عنه لمجرد إلماحه عن نشر فحصٍ وراثيّ خلال أشهرٍ «ربما يصلهم بنسبهم الذي تقادم عهده حتى ضاع»[30]. ولأنني أخصائية اجتماعية في العلوم وفي العرق البشري، فلقد كانت تلك الأيام أيامًا عسيرة؛ فقد اجتاحني فضولٌ لمعرفة ذلك العالَم الرهيب والجديد الذي ستُبَشّرنا به التقنية، والذي قال عنه مراسل صحيفة التايمز: «كأنه إحدى حلقات مسلسل ستار تريك»(*).

كنتُ بادئ الأمر أتساءل: هل ستُحـدِثُ هذه الابتكاراتُ، كفحص السلالة وما تلاها من تطوير قام به كيتلز، تغييرًا في مفاهيمنا عن الهوية العرقية؟ وكيف يمكن تحويل مفاهيم العرق والانتماء العرقي(*) بعد فك شفرات الجينوم؟ هل ستضع هذه الفحوصات نهايةً لمنظومة الأفكار المنيعة والعنصرية التي تمس مبدأ الاختلاف، ومن ثم بدايةَ احتمالات جديدة للهوية الإنسانية؟

إنسانيتنا المشتركة؟

حين بدأتُ بحثي، كانت الدراسات السابقة عن الوراثة والمجتمع قليلة، لكنْ صاحبَ ذلك تطوراتٌ في تحليل الحمض النووي كما نراه اليوم، لا سيما فحص السلالة الوراثي، مهددًا بتغيير مسار العنصرية العلمية(**) إلى مسار آخر. وفي أواخر التسعينيات من القرن العشرين، حذّر علماء مثل باربرا كاتز روثمان Barbara Katz Rothman وتروي دستر Troy Duster، والسالف ذكرهما: نيلكن ولندي، من أن السير دون تصحيح المسار، سيجعلنا معرضين لخطر مجتمع تحكمه الحتمية الوراثية(***) – وهو مستقبل العالم المرير الذي يُعتقد فيه أن موروثات المرء الحيوية تحدد صحته وسلوكه وسماته الأخرى تحديدًا لا يُغيّره شيء[31].

وقد طُرحتْ عدة تأويلات لهذا التنبؤ. فقد تألمت السيدة روثمان من ابتداع مجتمع «الجين لكل شيء»، الذي يُعتقد فيه أن الحمض النووي هو كل شيء في حياة البشر. وأشارت كذلك إلى علم تحسين النسل في القرن العشرين على أنه قصة فيها عبرة. وأكد دستر أن علمَ تحسين النسل وليدُ أفكار عنصرية مدعومة ومُسوّغٍ لها، لَمْ تذهب بعيدًا، بل دخلت المجتمع الأميركي من «باب خلفي» متنكرةً في لباس الحرص على علمٍ أكثر وصحةٍ أفضل للناس جميعًا. ومع تخطينا العتبة ولوجًا إلى عصر الجينوم، فقد استدعتْ أحداثُ تاريخ العنصرية العلمية تحذيراتِ المحللين الاجتماعيين.

ففي الإعلام وميادين الحياة العامة، وإن نشرت عن ذلك بعض التحفظات، صُوّر «علم الوراثة الحديث» في أكثر الأحيان على أنه عصًا سحرية. وكان هذا التصور في أوج عظمته حين أُعلِن عن حلّ شفرة المسودة الأولية للجينوم البشري في البيت الأبيض في شهر يونيو/حزيران عام 2000. كانت الفكرة الأساسية لمشروع الجينوم البشري إمكانية استخلاص قدرٍ كبيرٍ من المعلومات – وهي حقًا كل معلوماتِ الحياة – عن طريق فكّ شفرة البصمات الوراثية لمجموعةٍ منتخبة متنوعة الثقافة وغير محددة، من خمسة أشخاص، ثلاث نساء ورجلين. (ضمّت هذه المجموعة  فينتر Venter، مؤسس شركة سيليرا جينومكس، زعيم القوة الخاصة لهذا الاجتهاد البحثي الطموح)[32]. ولأن الجينوم البشري مشروعٌ مختلفٌ في أفراده، قصدَ إيجاد التنوّع، فمن المنطق أن يأخذ على عاتقه إنهاء أديولوجيا(*) التفرقة البشرية وهرمِـيّـتها التي سوغت الاستعباد يومًا ومضت تُـذكي النزاعات واللامساواة بين الأعراق[33].

تحت أضواء آلات تصويرٍ لمراسلين وصحفيين عالميين، اجتمع كل من الرئيس بيل كلنتون، ومعه فينتر، ومدير معهد بحوث الجينات البشرية الوطنية: فرانسيس كولنز Francis Collins، ويشاركهم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير عبر اتصال بالفيديو عن بعد، ليعلن الرئيس الأميركي بلهفة أن «إحدى الحقائق العظيمة التي أثمرت عنها رحلة النجاح إلى الجينوم البشري هي أن البشر جميعهم، من الناحية الوراثية، أيًا كان عرقهم، يشبه بعضهم بعضًا إلى نسبة بلغت أكثر من (99.9%)… وأن العلم الحديث أكد ما تعلمناه من مصير من كان قبلنا. إن حقيقة الحياة الأكثر أهمية على وجه الأرض هي إنسانيتنا المشتركة»[34]. في واقع الأمر لقد شَهِدَ العديدُ من الشخصيات السياسية والعلمية الرائدة على مستوى العالم على تشابهنا الإنساني الجوهري. إنها رسالة مفادها أن الجينات المكوَّنة من مزيج من جينات متنوعة تمثلنا جميعًا. إن هذا المؤتمر الصحفي الذي تميّز بحضور الرئيسين كلنتون وبلير، كشف لنا ما هو أكثر من ذلك؛ أن هذا المشروع العلمي كان مشروعًا سياسيًا: لينقلنا من «فرد من مجموعة» إلى «مجموعة من فرد».

إلا أن تقنية الحاسبات العملاقة التي مكنت من الكشف عن الجينوم سرعان ما أُسند إليها تحليل ذلك الفرق الضئيل – العُشر أو أقل من ذلك – بين بني البشر. والفرق الذي كان يُعد مهمًا هو العرق. وبحسب تعبير عالمة الاجتماع دوروثي روبرتس Dorothy Roberts، في أحدِ تحليلات ما بعد الوفاة في مشروع الجينوم البشري: «فإن التقارير المشيرة إلى انتهاء العرق بوصفه تصنيفًا حيويًا يُعد أمرًا سابقًا لأوانه»[35]. كما أنها استعادت ما حذّر منه علماء الاجتماع مثل روثمان وتدستر، فكتبت: إن «البحوث الجينومية الحديثة» سوف تبعث «النظريات البيولوجية للعرق» من جديد، وستضفي على التصنيفات العرقية القديمة طابعًا حديثًا[36]. لقد غير كلٌ من العلم والصناعة اهتمامها لاستكشاف الاختلاف الوراثي الضئيل بين الأفراد والجماعات عقب رسم خارطة الجينوم مباشرة، بطريقة يُحتمل منها إحياء الهرميّة العرقية الخطرة، ليس من «الباب الخلفي» حسب تنبؤ دستر، بل عن طريق خطاب ناشئ من السلالة والأنساب والجغرافيا والسكان.

خلال أشهر من إتمام مسودة الجينوم البشري، أصدر علماء الوراثة الرائدون أبحاثًا مثيرة للجدل خَلُصت إلى إمكانية تقسيم البشر إلى مجموعات تؤكد حقيقة العرق البيولوجية. وأذنتْ هذه الادعاءات بدورها بإحياء التصنيفيات الشنيعة التي وُجدت منذ عهد كارل لينيوس Carl Linnaeus. لقد توسع لينيوس، عالم التصنيف السويدي في القرن الثامن عشر، في تصنيفه للنباتات والحيونات إلى البشر؛ فقد زعم أن مجتمعنا الإنساني (الجنس البشري Homo sapiens)، يتكون من أربعة أقسام فرعية، أو وحدة تصنيفية taxa، لها الترتيب التالي: الأوروبيون، الأميركيون، الآسيويون، والأفارقة[37]. وعلى خلاف ما كان يصنعه لينيوس في تقسيم النباتات والحيوانات، فقد ربط في تصنيفه للبشر ما بين المظهر والسلوك الاجتماعي، ملاحظًا أنّ مَن هم في فئة الأوروبيين مثلًا فإنهم «بِيض… أكثر حدةً، ومبتكرون»، وأن من هم تحت راية «الأميركيين» فيتميزون بأنهم «حُمْر الألوان، سيئو المزاج، محكومون بالقوانين». وتقوم الادعاءات العنصرية في عصر الحمض النووي على طرائق تتيح للباحثين تحديد الاختلافات الوراثية المشتركة بين المجموعات البشرية مع اختلاف انتشارها بينهم. وانطلاقًا من تصنيف لينيوس الذي يربط ما بين لون البشرة والسلوك ويرتبها ترتيبًا هرميًا، منهم مَن عزا الفروق العنصرية والعرقية في ذلك الوقت إلى هذا النطاق الإحصائي. ومن هؤلاء الباحثين مَن ادعى أن حاجة الأمة الملحة إلى الرعاية الصحية اضطرتهم إلى استعمال التصنيفات العنصرية والعرقية بوصفها «نقطة انطلاق» بحثهم[38]. فيما تنصّل آخرون، احتجاجًا بالموضوعية العلمية، من أي عمل يستخدم نتائج أبحاثهم لتعزيز مزاعمهم العنصرية.

أما المراسل العلمي السابق لصحيفة نيويورك تايمز، نيكولاس ويْد، فلم يلتزم بالموضوعية العلمية حينما أصدر كتابه المثير للغضب: الوراثة المُشكلة A Troublesome Inheritance، وكان يشكك في أي احتمالات تحويلية لتحليل الحمض النووي يُحتفى بها دون تمحيص[39]. لقد أساء ويد قراءة أبحاث علم الوراثة  فأساء استعمالها – بما في ذلك البحوث المذكورة آنفًا – ليحتج على وجود ثلاثة أجناس حيوية مميزة حيويًا (الأفارقة، الشرق آسيويين، القوقازيين) والتي تتشابه في سلوكاتٍ اجتماعية مميزة ومقدسة. وهذه الاختلافات المزعومة، وفقًا لما ذكره ويد، تُعلّل ما في المجتمعات الإنسانية من تفاوت. لقد أرجع ويد «نهوض الغرب» إلى الجينات القوقازية الراقية، التي أنتجتْ مجتمعاتٍ جديرةً بالثقة وقادرةً على تنظيم مشروعاتها، في حين أن الجينات الأفريقية ولّدت ثقافة العنف والشك، وأنتجت الجينات الشرق آسيوية طـبـقـيّـةً ونظامًا قاسيًا. وزعم أن الجينات الموروثة للفئتين الأخريتين تركتهم عاجزين عن التلاحم والتقدم الاجتماعي كما هو في «الحضارة الغربية». وانتُقد كتابُ ويد انتقادًا قاسيًا، فهو متطاول على العلم وخطؤه خطأٌ بـيّـنٌ بالنظر إلى نتائجه، وذلك في خطاب قُدِّم إلى صحيفة نيويورك تايمز الذي وقّع عليه نحو أكثر من مائة عالم من ذوي الخبرة في الوراثة، والأحياء البشرية، وعلم الأجناس البشرية الحيوية، ونظرية التطور. إلا أن بعض من رحب به من جهات أقل خبرة بَـيَّـنـوا كيف أنه يمكن أن نبعث حياةً جديدةً في نمطياتٍ عرقيةٍ طالما تبرأنا منها.

السياسة الوراثية

من ناحية أخرى فإن المخاطر الجليّة التي يقدمها العمل الفكري والتخميني – كهذا العمل – لا ينبغي لها أن تعيق الحوارات الضرورية في سياسة العرق بعد الجينوم. ولا بد من مواصلة حوارات العرق والانتماء العرقي في عصر الجينوم من نواحٍ شتى، ويجب أن تراعي هذه الدراساتُ الديناميكيةَ العرقية المحيطة بالجينوم البشري. لقد ظهر الجينوم في مرحلة سياسية معينة، حينما أخَذَ أحَدُ أشكال الأديولوجيا العرقي يكتسب قوةً، وهو ما أطلق عليه عالم الاجتماع إدواردو بونيلاسيلفا Eduardo Bonilla-Silva مصطلح «عمى الأعراق»(*). ولذلك يبدو أن بين أيدينا مفارقة: «بدأ العرق يحظى بأهمية على المستوى الجزيئي» في الوقت نفسه الذي أُعلن أنه «أقل أهمية في المجتمع»[40].

إن السياسة الوراثية ليست كغيرها من السياسات. فثمة خصائص ينفرد بها الحمض النووي تجعله صالحًا للمطالبات السياسية. ويمكن استغلال الحمض النووي لتمثيل الماضي، ولأن الناس يشتركون في الحمض النووي فيمكنه تمثيل الأفراد والمجموعات. ويمكن استخدام الحمض النووي لإظهار اضطهاد تاريخي أُخفي زمنًا. ويستعين الأميركيون السود بتحليل الحمض النووي لتسريع قضايا لها أهميتها عندهم في مناخ سياسي يزداد فيه إهمال العدالة الاجتماعية والعرقية. وبحسب زعم عالمة الاجتماع، ستيفيني غرينليا Stephanie Greenlea، فإن تحركات العدالة العرقية(*) «يتعينُ عليها النهوض بهذه المهام في حالٍ يكون فيه محو أشياء والسكوت عن أشياء فيما يخص العنصرية مهددًا بِحَجْب الأساس ذاته الذي بنيت عليه الشكوى»[41]. وجملة القول، إن محاربة عمى الأعراق يقتضي استرجاع «رؤية» الألوان – أي الرجوع إلى الفروق العنصرية التاريخية القائمة. ويُستخدم الآن فحصُ السلالة الوراثي لهذا القضية.

وفي مرحلة «ما بعد العنصرية» – مرحلةِ «ما بعد الجينوم» – يعرف الحمض النووي إمكانية فريدةً وغامضة إلى حد ما لتضخيم قضايا اللامساواة لإظهارها حقيقة أو مجازًا. وربما وقفنا في وجه التعسفات الاجتماعية متخذين طرائق أُخر كالمحاكم أو الحركات الاجتماعية[42].

لقد بينت غرينليا هذه الظاهرة بتحليلها لمعاناة الفتيان الستة Jena Six  من بلدة جينا بولاية لويزيانا، الذين اتُّهِموا اتهامًا مبالغًا فيه، وحُوكموا على أنهم بالغون، وأُدينوا بالاعتداء على زميلهم الأبيض. في بادئ الأمر، كان التصور العام أنها قضية ستة مراهقين اعتدوا على أحد أقرانهم بلا سبب. إلا أن جهود الناشطين بيّنت ما تعرّض له الفتيان من تحرشات عنصرية: لقد كان فعلهم ردًا على تعليق حبلٍ ذي أُنشوطة(*) في شجرة في فناء المدرسة. وصُعّدت القضية لتكون قضية ناشطين اشتُهرت حينما أظهر مؤيدو قضية الفتيان الستة تاريخ ذلك الرمز في وسائل الإعلام الاجتماعية والعامة. (ولم يكن ذلك يختلف عن المناقشات حول العَـلَـم الكونفيدرالي بعد مأساة شهر يونيو عام 2015 التي قَتَل فيها عنصريٌ أبيضٌ تسعةً من أعضاء الكنيسة السود في مدينة تشارليستون في ولاية ساوث كارولاينا). وقد يكون لفحص السلالة الوراثي تأثير مشابه على التاريخ وما تدركه الجماعات. وليس للجينات معنىً موروث خارج السياق الاجتماعي والسياسي، شأنه شأن حبل المشنقة. إلا أنّ لكلٍ منهما دلالته الكبيرة.[43]

وفي الوقت ذاته، نظرًا لخاصية الحمض النووي الانتقالية، فإن المطالبات السياسية القائمة على علم الوراثة تكون دائمًا عن الفرد والمجموعة على نحو متزامن. فالحمض النووي للفرد الواحد يحتوي على معلومات وراثية عن أجداده البيولوجيين وعائلته البيولوجية الممتدة. وتُدرك المجتمعاتُ الأميركية الأصل أن الحمض النووي لشخص ما يتداخل مع الحمض النووي لكثير من الأشخاص، وأنّ العلم لا يخدم مصالحهم دائمًا. ففي سلسلة حلقات وجوه أميركا Faces of America، مع غيتس، التي بُثّت في ربيع عام 2010، على قناة بي. بي. إس. (PBS) قامت المؤلفه لويز إيردريك Louise Erdrich وهي من السكان الأصليين، باستشارة كبار السن من قبيلتها في شأن دعوتها لتجري اختبار فحص السلالة الوراثي. لكنها رفضت رفضًا قاطعًا أن تشارك في الفحص إذ أدركتْ هي ومجتمعها أن خاصيةَ الحمض النووي خاصيةٌ مشتركة. كما كتبت عالمة الأخلاقيات البيولوجية(*) دينا ديفيز Dena S. Davis، أن الحمض النووي «يتجاوز الموضوعات الفردية، ويمكن أن يؤثر البحث الوراثي كذلك على المجتمعات التي ينتمي إليها الأفراد، وذلك بإعادة سرد قصصٍ وتشكيلِ هوياتٍ تشترك فيها المجتمعات وبها تعيش»[44]. وبناءً على ذلك، فإن مشاريع التسوية التي يبدو أنها تتعامل مع تاريخ عائلة فرد ما تعاملًا عمليًا أو معنويًا تتعلق دائمًا بأمة سياسية أكثر اتساعًا.

يستوعبُ كثيرون المخاطرَ التاريخيةَ لعلم الوراثة وتحويل القضايا الاجتماعية الأوسع إلى قضايا علمية أضيق، كتلك القضايا التي طرحتها إيردريك ومجتمعها. فلِمَ اللجوء إذنْ إلى الحمض النووي للتأثير على السياسة العنصرية إذا ما سلمنا بتاريخ العنصرية العلمية المشحون من عهد لينيوس وحتى الآن؟ فليس بالضرورة أنّ مَن يَستخدم علم الوراثة من السياسيين ذوي النفوذ مُدَانون بخداع أنفسهم. بل بكل دقة لقناعتهم الكبيرة بما في العرق من تعقيد باعتباره تصنيفًا سياسيًا وهم يُحرّكونه بناءً على ذلك.

وعلى أني بادئ الأمر بدأت أفهم إلى أي مدىً أُعيد تشكيل العرق بداية من التصنيف الاجتماعي والسياسي وحتى التصنيف البيولوجي، سرعان ما وجهت بحثي إلى من يبحثون عن أصولهم وإلى استخدامهم لعلم الوراثة استخدامًا عمليًا. لقد وطد هذا التركيز لكل ما يتعلق بتمثيل العنصرية والحتمية الوراثية، ورغم ما حظي به من تسويغ كبير، إلا أنه لم يَشرعْ في التعامل مع الكم الهائل من الأهداف التي وضعت للسلالة الوراثية. إن المطالبة بممارسة حَـذِرة فيما يتعلق بالمطالب السياسية اعتمادًا على الحمض النووي ليس معارضة لاستعمال علم الوراثة لأغراض التسوية. وإني لأعتقد أن علينا أن نكون منفتحين لتقنيات العصر الرقمي والوراثي حينما تستخدم في الجهود السياسية والاجتماعية.

العائلات المؤسِّسة

مع أوائل التسعينيات من القرن العشرين، برزت مشاريع التسوية التي أفادت من الحمض النووي. وأصبحت الجهود في الأرجنتين لجمع شتات الأسر عَقِب النزاعات السياسية أمرًا معروفًا عالميًا[45]. وفي شرق أوروبا، فإن تحليل الكشف عن هوية عددٍ من أفراد أسرة رومانوف من الإمبراطورية الروسية قد عزز من استخدام الحمض النووي في البحث التاريخي[46]. وفي الولايات المتحدة، أثارت بعض الجهود جدلًا نشأ من تاريخ الدولة في سعيها وراء الاستعمار والاستعباد ونزع الملكيات. وافتُتح تحليلُ الحمض النووي برفات رجل من أصل أميركي يعود تاريخه إلى تسعة آلاف سنة ويدعى (العتيق The Ancient One)، وكُشف عنه بالقرب من مدينة كينويك بولاية واشنطن، عام 1996، رغم معارضة كبيرة من جماعاتٍ أصليةِ المنشأ من منطقة باسيفيك نورثويست، الذين طالبوا بإعادة الرفات ودفنه اتّباعًا لقانون حماية المقابر الأميركية وإعادة اللاجئين (NAGPRA)[47]. أما جدوى البحث فقد كانت محل جدل كبير، وهل هو مجرد تعزيز للاستغلال التاريخي. إن كثيرًا من الأميركيين الأصليين، من لم يكن منهم على يقين من أصول الرجل العتيق، باتوا الآن على يقين من ذلك. (في عام 2015، وقفت إحدى الدراسات لجينوم «العتيق» إلى جانب مطالب الجماعات الأصلية، وقد أجريت بإذن وتعاون مع القبائل الكونفيدرالية لحماية مدينة كولفيل)[48].

وفي ذلك الوقت تقريبًا، بدأ البحث عن إجاباتِ أسئلةٍ تحوم حول المؤسسين الأميركيين. هل كان توماس جيفيرسن أبًا لأطفال سالي هيمنغز Sally Hemings، التي كانت مِلْكَ يمينه؟ وقد أشار بحث، لقي استحسانًا كبيرًا – لمؤرخةٍ قانونيةٍ تدعي آنيت غوردن رييد Annette Gordon-Reed – إلى أنّ معاييرَ مجتمع المزارع(*) وترجيح الدليل الأرشيفي – وهي المعايير العلمية الذهبية – أكدت أُبُوّةَ جيفيرسون على أقل تقدير لأحد أبناء هيمنغز[49]. هذا وقد ثار جدل حادٌ بين العلماء في هذا السؤال وما تزال بعض الجماعات معارضةً لنتائج غوردن. وفي أواخر عام 1990، انبرى باحثون لبحث وراثي لحسم القضية. ومن الأهمية بمكان أن تعلم أن تحليل الحمض النووي في قضية هيمنغز وجيفيرسون كان من أقدم الحالات التي استُـخـدمت فيها هذه الطرائق في الولايات المتحدة. ولم تكن تلك الجهود محل جدل وإبداع تقني فحسب، بل فتحت الأبواب لتقنية حديثة من شأنها تقبُّل تاريخ الاستعباد وتأثيراته المعاصرة، وأغلقت الأبواب دون من لا يريد نشر تاريخ العنصرية الأميركية كاملًا.

وفي أثناء الفحص، قُورن بين أحفاد جيفرسن المُعلن عنهم والأحفاد المزعومين. واسـتَـنَـدَ التحليلُ إلى سمات الكروموسوم الذكري المميز للحمض النووي Y – chromosome أو (Y-DNA) لإثبات روابط عائلية؛ فهذا الكروموسوم ينتقل من الآباء إلى الآبناء ولا يكاد يتغير أبدًا – وليس للنساء كروموسوم (Y) – ويمكن استخدامه لتتبع سلالة ذكورية، بما فيه الأعمام وأبناء الأخ. وفي هذه الحالة، قُورِن الكروموسوم (Y) للسلالة الذكورية لأعمام جيفيرسن مع ابنَي هيمنغز، أول أبنائها وآخرهم. وأعلن البحث الناتج عن ذلك، الذي أُصدر عام 1998 في مجلة نيتشر Nature العلمية الرائدة، في عنوانها تحديدًا أن «جيفيرسن والدُ آخر أبناء هيمنغز»[50]. وقد اعتمدتْ هذه النتيجة على المقارنة بين العلامات الوراثية في السلالة الذكرية. وتَـبَـيّـن أن الذكور من نسل الابن الأصغر لهيمنغز، يوستون Euston، يشتركون في النمط الفرداني haplotype للكروموسوم الذّكري مع أقارب جيفيرسن الذكور. (النمط الفرداني هو مجموعة من تنوعات الحمض النووي عادة ما تورث مجتمعة). وأشار التقرير إلى ندرة هذه العلامة الوراثية حتى أنها «لم تلاحَـظْ قطّ خارج عائلة جيفيرسن»[51]. وبالرغم من مزاعم علماء الوراثة – واتفاق المؤرخين معهم – أن جيفيرسن هو أبٌ لأصغر أبناء هيمنغز وأن هذا «هو التأويل الأيسر والأكثر احتمالًا»، فإنّ بعضًا من ذرية الرئيس الراحل، من زعم منهم أن أخا جيفيرسن هو والد ابن هيمنغز الأصغر، ما زالوا ينكرون ذلك إنكارًا عظيمًا[52].

وكانت قضية جيفيرسن وهيمنغز أولَ قضية استُدِلّ فيها بالحمض النووي لإثبات علاقةٍ مشتركةٍ بين سلالة أحد الأرقاء مع أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة. ولم تكن هذه القضيةُ آخرَ قضية؛ فبعد سنوات سعى الذين زعموا أنهم من سلالة الرئيس جيمس ماديسون، الملقبِ بـ«أبي الدستور» وخَلَفِ الرئيس جيفيرسن في رئاسة الولايات المتحدة، لاستخدام طريقة شبيهة بها لإثبات مكانتهم في قبيلة ماديسون وفي تاريخ الأمة. وفي عام 2004، انضمت عالمة الفيزياء الأميركية الأفريقية باتي كيرس Bettye Kearse إلى علماء الوراثة في جامعة ماساشوستس، وهو فريق يقوده عالم الوراثة الأسود بروس جاكسون Bruce A. Jackson، أملًا في إثبات مكان عائلتها في سلالة ماديسون[53].

لم يكن لماديسون أطفال من زوجته دولي Dolley، إلا أن أجيالًا من التاريخ المتناقَل مشافهة في عائلة كيرس تؤكد أن له ولدًا، وهو ما أفاضت فيه إحدى المقالات الصادرة عن صحيفة واشنطن بوست من أن هذا التاريخ «بدأ بأَمَةٍ أفريقية مُختطفة، تدعى ماندي Mandy، وقالت عنها كيرس إنها حمَلت… من والد ماديسون. وأن الطفلة كورين فيما بعدُ ولدت ابنًا لماديسون». وأن ابن ماديسون المُدّعى هو جدها الرابع.

وكما هو الحال في قضية جيفيرسن، كان لا بد من استخدام الكروموسوم Y لمقارنة الحمض النووي لدى أحد أقارب كيرس الذكور مع الحمض النووي لدى أحفاد ماديسون. لكن نظرًا لأن هذا القريب لم يستجبْ لها في طلب عينة من الحمض النووي، لم يُثبتِ العلمُ دعوى قرابة كيرس بعد، حتى مع ترسُّخِ هذه القرابة ترسخًا قويًا فيما نُقل من تاريخ العائلة[54].

وهذه الطريقة المختارة لحل القضية – تحليل الحمض النووي – جعلت هذه الحالات أصلًا ضمن فئة المبادرات الاجتماعية التي تُعْرف بمشاريع التسوية. وتُستخدمُ المعلوماتُ المستمدّةُ من الحمض النووي لتعزيز احتواء أو إقصاء اجتماعي، أو للتوسط بين مطالبات العدالة الاجتماعية، أو لحل نزاعاتٍ اجتماعيةٍ تاريخيةٍ وسياسيةٍ. وكما أن الحقيقة الوراثية للقضية مهمة، كذلك الأحداث التاريخية وما يمكن أن تكشفه من نفاق كان موجودًا وقت تأسيس الدولة. إن الآباء المؤسسين، مَنْ كَـتـبَ منهم بشغف عن الحرية، كان لهم إماءٌ وربما كان لهم أبناءٌ من نساءٍ يُعتقد أنهن أقل مرتبة من الناحية البيولوجية (جيفيرسن) وليس لهم حق في الحرية الشخصية (ماديسون). إنّ تقبّـل هذا التاريخ تقبلًا كاملًا والإقرارَ به إقرارًا تامًا يمكن أن يعيد تشكيل الأساطير التي قام عليها المجتمع الأميركي، وأن يعيد تنظيم ذاكرتنا الجماعية عن عائلاتنا الأولى. وهذه الجهود لتصحيح قصة مؤسسة الأمة بشّرت بتضمين تقنيات الهوية الوراثية في السياسة العنصرية الأميركية، وخاصة فيما يتعلق بتاريخ الرق.

واليوم يُستخدم تحليلُ الحمض النووي كذلك في عدد من الجهود التي ليس لها كبير انتشار، وتسعى إلى توثيق تجارة المحيط الأطلسي للعبيد والتطرق إلى عواقبها الاجتماعية الوخيمة. وعلى نحو أكثر تحديدًا، فإن الفحوصات التي تقدمها شركة السلالة الأميركية، ماتريكلان MatriClan وباتريكلان PatriClan، يُروّج لها على أنها وسيلة لكشف تفاصيل عن معاناة الأرقاء السود، وإعادة هيبة الأُسر الأميركية الأفريقية عن طريق إعادة صلاتها بأسر «أفريقية» مثالية وأصيلة، وتعزيز الانتماء بين أفراد جماعات من السود متعددي الجنسيات، والفصل في الظلم الاجتماعي الذي أوقعه «نظام الامتياز»(*). وفي كل هذه المشاريع، كان دور كيتلز، رائد الأعمال العلمي وأحد مناصري الثقافة، دورًا مهمًا كأهمية فحوصات الوراثة التي طورها. وقد تَبِع كتاب «الحياة الاجتماعية للحمض النووي (DNA)» أثَرَ كيتلز وشركته لفحص الجينات عابرين من تلك المنطقة التي تُدعى مجتمع «ما بعد العنصرية».[55]

الفصول التالية

ناقش الفصل التالي من هذا الكتاب الظهور العالمي لمشاريع التسوية باستخدام تحليل الحمض النووي. وفي كثير من الممارسات، تضمنت مشاريعُ التسوية استخدامَ آلياتِ الطب الشرعي أو تقصي الحقائق – سواء أكانت شهادة بشرية أو بيانات علمية – لسبر أعماق الماضي. وقدّمتُ حَدَثَين بارزين أشارا إلى هذا الاحتمال سلفًا: أولهما ذلك الحدث الكبير حين سَخَّرتْ منظمةُ جدات ميدان مايو «التقنيةَ الوراثية أداةً لحقوق الإنسان»، للعثور على أحفاد أبنائهن وبناتهن الذين «أخفتهم» الحكومة الثورية أثناء الحرب القذرة Dirty War على الأرجنتين الممتدة من أواخر السبعينيات حتى أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، وثانيهما تَطورٌ متعلق بموضوعنا كثيرًا، وهو أولُ عملِ تسويةٍ على الإطلاق للولايات المتحدة، افتُتِح في ولاية ساوث كارولينا عام 1999، في الذكرى العشرينيّة لأحداث القتل العنصرية الوحشية في مدينة غريينسبورو. وفي هذا المشروع كانت شهادة الضحايا ومرتكبي الجريمة قد يسرت الإعلان الجماعي عن التوترات الشديدة. إنّ الطرائق المُـتَّـبعة في فحوصات السلالة الوراثية لشركة أفريكان إنسيستري استعانت بعناصرَ من الجهود الأولى في المعالجة الاجتماعية: فمن جهةٍ أفادتْ من استعمالات تحليل الحمض النووي المبتكرة، ومن جهةٍ أخرى أفادت من تصديها لما كان من اضطهاد في الماضي وأخذ العبرة من ذلك. فاجتماع الظلم الاجتماعي القائم والتقنية الحديثة، بلغا بنا إلى مرحلة تاريخية قد يَـتـبـنّـى فيها فحص السلالة الوراثي أهدافًا أكثر مما وُضع له من قبل.

وسنعرض في الفصل الثاني لإحدى الدراسات البحثية التي بدأت حول المقبرة الأفريقية بمدينة نيويورك في بداية التسعينينات؛ وهنا وُضِع حجر الأساس المهم للتقنية من أجل مساعٍ مستقبلية لعلم الأنساب عبر الجينات. وكان للكشف ثانيةً عن مقبرة عهد الاستعمار هذه معنىً تاريخيٌ عظيمٌ مع شُحّها بعلم عن حياة الأرقاء وموتهم في نيويورك. وربما كانت حَـدثًا استثنائيًا في تطوّر فحص الحمض النووي الموجه للمستهلك، كما سنتناول ذلك في الفصل الثالث. ويُعدّ الحوار السياسي العلمي الذي نشأ حول قضية التصرف في هذه المقبرة الهامة أساسًا لتوسيع دائرة التحليل الوراثي واستخداماته في السياسة الثقافية للسود، وهذه المقبرة الآن إحدى ممتلكات إدارة المنتزهات الوطنية وأعيد تسميتها إلى المَعْلم الأثري للمقبرة الوطنية الأفريقية.

بدأ ريك كيتلز عمله عالمًا مبتدئًا بدراسة هذا الموقع التاريخي الذي نتج عنه تصور لفكرة أفريكان إنسيستري، وهي الشركة التي شارك في تأسيسها بعد بضع سنوات من ذلك الوقت. ولا يقلّ أهميةً عن ذلك ما فعله ناشطو مجتمعات السود من وضعِ أساسٍ معنويٍ لمشاريع التسوية المذكورة هنا. وقد وجّـه جمعٌ من الناشطين، الذين سمَّوا أنفسَهم سلالةَ المقبرةِ الأفريقية، مجريات البحوث الوراثية في المقبرة، توجيهًا من شأنه استرجاع «الانتماء العرقي» الأفريقي للسود المجهولين في المقبرة. وهم بفعلهم هذا يتوقعون كيف يمكن تنظيم تحليل الحمض النووي لحالة جماعية أفضل للنسل الأفريقي، فوق المطالب العاطفية والشخصية وحتى أبعد من ذلك، فنحن الآن مرتبطون ارتباطًا كبيرًا بفحص السلالة الوراثي.

ويدور المحور الرئيس لهذا الكتاب حولَ كيفية نقل البيانات الوراثية الفردية إلى السياسة الثقافية الجماعية. وسنبحث في الفصل الرابع كيف أن علماء الأنساب الوراثيين للسلالة الأفريقية استخدموا نتائج البحث لنقل مساعي أصولهم الفردية إلى مشاريع التسوية. وتطرقتُ إلى اللقاءات المتعلقة بوصف الأعراق البشرية مع كيتلز وشريكته بيج وعملائهما. فيرى كيتلز أن أفريكان إنسيستري ليست مشروعًا تجاريًا بهذه السهولة. ولاحظنا بعدَ تتبُعِنا إياه في أرجاء الولايات المتحدة كيف أنه يربط عمله برؤية العدالة العرقية الأكثر اتساعًا، التي تعطيه تصورًا عن تحرير مجتمعات السود عبر الإلمام بالأنساب. ومع أن كثيرًا من عملاء كيتلز أتـوا إلى أفريكان إنسيستري طلبًا لمعلوماتٍ أساسيةٍ عن النسب، إلا أنهم، أثناء حديثي معهم، عبّروا عن رغبتهم في الشعور بالكمال، وأمنيتهم أن ينتموا إلى الولايات المتحدة والقارة الأفريقية انتماءً أكثر قوة، وأن يُصفّوا حساباتِهم مع تاريخ الاستعباد بطريقتهم الخاصة – كل ذلك إلى جانب الاستنتاجات التي بلغتهم عن الجماعات العرقية التي ينتمون إليها في أفريقيا.

لقد ألهمت رحلةُ أليكس هيلي في البحث عن الجذور منذ عقود مضت، علماءَ الأنساب السود، وكذلك ما عُرض مؤخرًا من تصوير تلفزيوني وَصَفَ رحلةَ البحث هذه، فأمعنوا الطلب في الفحص الوراثي لتعهد شجرة العائلة لكل فرد منهم. وخلافًا لما حصل في دراسة المقبرة الأفريقية، فقد أُجري التحليلُ الوراثي على عيناتِ الحمض النووي لأشخاص على قيد الحياة. ولذا فإن بوسع علماء الأنساب هؤلاء استحداث هويات جديدة مما تقدمه أفريكان إنسيستري من خدمات وراثية. ومن ثم تشكيل نتائج جيناتهم بطريقة استراتيجية لتكون ماضيًا «يُـنـتـفع به» ويفتح طرقًا جديدة من التفاعل الاجتماعي، بما في ذلك التزمات السفر والمدنية. ورغم أن ما يحرك تتبع الجذور هي مطالب السود لهوية ما قبل الاستعباد، مع التسليم دائمًا بالطبيعة المجتمعية للمعلومات الوراثية، إلا أن دائرة هذه النتائج قد تتسع فـتُـستخدم لرفع دعاوى لقريب بالحمض النووي(*) أو من أجله. وفي الفصلين الرابع والخامس سيكون الموضوع عن العدد الكبير من الطرق التي تـنـقّـل فيها فحص السلالة الوراثي.[56]

وفي الفصل الخامس، سنبحث في دور «الإعلان»(**) عن نتائج النسب الوراثي؛ إذ ترى أفريكان إنسيستري أن الإعلان عن نتائج فحص المشاهير السود عام 2003 كان أولَ الأمر استراتيجيةً تسويقيةً، وفي غضون سنوات، أصبحت هذه الممارسة عنصرًا قصصيًا في برامج الواقع المعنيّة بعلم الأنساب الوراثي. وأصبح الإعلان عن النتائج مرحلة مقبولة في رحلة فحص السلالة الوراثي، حتى إن الباحثين عن الجذور هذه الأيام يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعية لإعادة إنتاج هذه اللحظات والكشف عنها في إطار خبراتهم. يُذكرنا هذا الكشف أن عملية التسوية التي يُستخدم علم الأنساب الوراثي من أجلها، وَسِعت جمهورًا أكبر ليكونوا شاهدين عليها. وكذلك يمكن أن يكون الكشف حدثًا سياسيًا يستلزم من شاهده أن يلاحظ المواقف التاريخية التي تجعل فحصَ السلالة الوراثي ذا أهمية للباحثين عن الجذور.[57]

التقينا فريقًا متعدد الجنسيات من سيراليون كان فيهم الممثل ايزيا واشنطن. وقد عَـلِـمَ عن ارتباطه الوراثي بسيراليون في أحد احتفالات الإعلان الأولى لشركة أفريكان إنسيستري. وقد دفعته نتائج الفحص إلى المشاركة في سلسلة من الأنشطة جعلته يدنو أكثر من وطنه ومن شتات وطنه. كان واشنطن موجودًا في صباح يوم من أيام شتاء عام 2009 حينما وصلتُ إلى مدينة شارلتون بولاية ساوث كارولاينا، وذلك لحضور «الاحتفال بذكرى» الأسلاف، الذين تفرقوا أو فُـقِـدوا بسبب تجارة العبيد. وينتسب معظم الناس المجتمعين ذلك اليوم بطريقة ما إلى سيراليون، مثل واشنطن، الذي سمّى نفسه «سيراليونيّ بالحمض النووي». وقد نظم الاحتفالَ مشاركون من رحلات «العودة للوطن» من الولايات المتحدة إلى سيراليون التي أُقيمت بدءًا من عام 1989. وفي هذه الرحلات الثلاث المباركات، أدى كبار السن من سيراليون طقوسًا احتفالية جمعوا فيها «الآباء المعروفين» من الأميركيين والأفارقة حتى «يباركوا عودتهم للوطن وليجمعوا شمل أسرهم». إنّ الهوية الوراثية وسيلة للوصول إلى أرض أكثر اتساعًا – أرض التسوية.

وتَـناولَ الفصلان، السادس والسابع، دور تحليل السلالة الوراثية لـ كيتلز في ما اتُخذ حيال قضايا جماعية تاريخية تتعلق بردّ الأموال لعمالٍ أرقاء لم يُعطوا حقهم، وهي قضية نشأت في محكمة بروكلين الفيدرالية عام 2002. وفي القضية أفاد المدّعون من فحص السلالة الوراثي الذي قامت به أفريكان إنسيستري لدعم قضيتهم التي تزعمتها المحامية والناشطة ديدريا فارمر – بالمان – المؤسسة ومديرة التنفيذ لمنظمات استعادة الحقوق في نيويورك: فريق دراسة استعادة الحقوق Restitution Study Group ومنظمة الوحدة القبلية Organization of Tribal Unity. وفي هذه المساعي قُـدِّمت نتائجُ فحص الحمض النووي دليلًا على ما أصاب أسلافهم من رق وما نتج عن ذلك من ضياع هوياتهم وثرواتهم. وهنا جاءت التسوية في صورة استعادة ميراث المجتمع ورأس ماله.

وفي الفصل الثامن بسطنا القول في تكوين «شتات الحمض النووي» أو «شكبة الحمض النووي». إن ثمة منظمات كمنظمة ليون سوليفان Leon H. Sullivan، وهي منظمة تضربُ جذورها في حركات الحقوق المدنية، وهناك أيضًا أفراد ينظمون المشاريع، مثل ايزيا واشنطن، تـزعّـم كلٌ من المنظمات والأفراد مشروعَ الحمض النووي أو شبكةَ الحمض النووي لتكون جهودًا تدعم «إعادة الوحدة» والتعاون بين جماعات السود متعددي الجنسيات، وذلك خلال العمل الإنساني، والمشاريع التنموية الاقتصادية، ومشاريع المواطنة المزدوجة، والسياحة الأثرية. لقد اتخذ فحص الحمض النووي في شركة السلالة الأفريقية أساسًا للانتماء إلى الشبكات المؤلفة بين الأفارقة في القارة الأفريقية والسود خارج البلاد. لقد أشبهت هذه المبادرات حركة «العودة إلى أفريقيا» وحركة الأفارقة القومية، كمشروع ماركس غارفي Marcus Garvey وغيره، غير أن أكثر الأمور أهمية أنها اتخذت وجهة جديدة، نحو مستقبل ممكن لسياسة عرقية عالمية مستمدة من علم الوراثة.

لكن هناك إشكالات تكتنف حلم التسوية بين الشعوب، كما تَبيّن ذلك في أحد الخلافات التي كان واشنطن قد اشتبك فيها أثناء تفشي وباء إيبولا عام 2014؛ فقد كان واشنطن يمتلك وطنية مزدوجة مع دولة سيراليون، وهي من أكثر الدول تضررًا بالوباء. وقد انتقدتْ الصحيفة المحلية، سيرا إكسبرس ميدي Sierra Express Media، حمْلَ واشنطن جوازَ سفرٍ لدولة لا يُقاسمها حِمْلها في هذه الحالة الصحية الطارئة. لكنه ردّ على ذلك ردّ مواطنٍ من سيراليون، فقد بذل جهدًا لنيل تمويل يعين على استئصال المرض بعمله الخيري، مؤسسة غوندوبي مانقا Gondobay Manga، وسعى إلى استمالة الأمم المتحدة عام 2014 للحصول على دعم حكومي لمقاومة الوباء. وهذ المثال يُشعِر أنّ شتات الحمض النووي(*) DNA diaspora أَنشأ عددًا من الامتيازات والالتزامات[58]. لقد كان لمؤسسة سوليفان «رؤية عظيمة» لبناء جسرٍ بين القارة الأفريقية وشتاتِها. ومع ذلك فقد أثار هذا الاقتراح قضيةً أخرى عن نوع العلاقات، بما في ذلك القرابة أو المواطنة، التي يمكن ضمانها اعتمادًا على نتائج فحص السلالة الوراثي.

يتـتـبع هذا الكتابُ مجموعةً من مشاريع التسوية المترابطة من بداياتها في الولايات المتحدة في تسعينيات القرن العشرين وحتى اتساعها بين الشعوب اليوم، ومن نشوئها من مساعٍ فردية إلى مجموعة كبيرة من مشاريع اجتماعية سياسية. إن تتبع مشاريع التسوية هذه يتيح لنا أن نفهم كيف أن الرغبة في إعادة الوحدة والتعويض – مع توسع فحص السلالة الموجه للمستهلك – دفع بعلم الوراثة من العالم الاجتماعي الصغير في المختبرات الطبية الحيوية إلى مجتمع أكبر.[59]

وفي ضوء الأعمال المتنامية لشركة أفريكان إنسيستري، ما الذي يوحي به استخدام علم الوراثة في سياق المرامي القومية القائمة والصراعات السياسية فيما يخص تطلعات التسوية العنصرية في الولايات المتحدة؟ إن المجموعات الناشطة والمنظمات غير الحكومية – بما فيها مؤسسة ليون سوليفان، التي لها علاقة مباشرة بحركات الحقوق المدنية في أواخر القرن العشرين، وغيرها كمنظمة المقبرة الأفريقية، التي أسهمت في نقل العدالة العرقية إلى القرن الحادي والعشرين – كلُّ أولئك يلجؤون إلى علم الوراثة لتحقيق أهدافٍ سعوا لها من قبل عبر تنظيماتهم المحلية، وسياسة الانتخابات، والإقناع الأخلاقي(*). ولذا فالتحسّرُ على ضعف منهج الناشطين التقليدي نحو الحقوق المدنية قد يكون في غير موضعه. فالنشاط يتخذ أشكالًا جديدة، تمشيًا مع الابتكارات العلمية والتقنية في العقد الماضي، كما اتضح ذلك من حملات وسائل الإعلام التي أثارت احتجاجاتٍ وطنيةً ضد وحشية رجال الأمن في مدينة جينا بولاية لويزيانا؛ وفي مدينة فيرغسون بولاية ميسوري، وفي مدينة بالتيمور بولاية ماريلاند، وفي أماكن أُخر في السنوات الأخيرة. وبسبب التحذيرات من مشاركة الأقـلّـيـات في العلم والتقنية وعدم ثقة هذه الأقليات نفسها في هذه العلوم وما يتعلق بها، فقد اتُخِذ علمُ الوراثة على وجه الخصوص لغايات تـرمي إلى التحرر.

لكن الجهود لاسترداد الهوية الأصلية عبر التقنية الوراثية، رغم فائدتها النفسية، قد باءت بالفشل في التعامل المادي مع التباين البنيوي(*) القائم. وكما أن التطبيقات العلمية والعلاجية لبحوث الحمض النووي لم تكن عند حسن الظن، كذلك تطبيقات التقنية الوراثية لمبادرات التسوية، فقد جعلت القيود التقنية والمؤسسية والسياسية واضحة كل الوضوح. إن مسار مشاريع التسوية التي نُوقشت في هذا الكتاب تُشعِرُ أنّ ربطَ المساواة والعدالة والأخلاقيات بدليل وراثي أو اتفاقه معها أمرٌ ليس بالهين.[60]

يجب أن نكون على حذرٍ مـن أن استعمالات علم الأنساب الوراثي الإبداعي الذي وُضِـع لأغراض حسنة – مع اعتماده على المنتجات التجارية – قد يسهم في عالم ترتبط فيه المطالبات بالوطنية، بممارسات الاستهلاك. علينا كذلك أن نكون على حذر كبير من نقل مبادئ العدالة إلى أساليب علمية. لكن علينا كذلك أن نقدر أن هذه المساعي هي استراتيجيات مبتكرة في نظر أولئك الذين وجدوا السبل الأخرى إلى التوعية التاريخية والعدالة الاجتماعية سُبلًا مغلقة، وكذلك الذين سلكوا الطريق للتسوية العرقية رغم ذلك.


[1](*) الجذور: ملحمة عائلة أميركية (Roots: The Saga of an American Family) رواية تاريخية ألفها أليكس هيلي ونشرت أول مرة عام 1976. ثم أنتجت مسلسلًا تلفزيونيًا باسم «الجذور» عام 1976 استغرق اثنتي عشرة ساعة، ولاقى رواجًا كبيرًا. (ويكيبيديا)

[2](*) كيزي (Kizzy): ابنة كونتا كونتيه [انظر الهامش التالي].

[3](**)       كونتا كونتيه (Kunte Kinte): أحد أجداد هيلي الذي استُعبد وأُتِيَ به رقيقًا إلى الولايات المتحدة. وتناقلت الأجيال اللاحقة قصة كونتا وكيف أنه كان شخصا حرًا في غامبيا. إلى أن حصل أحد أحفاد كونتا على الحرية وهو جد هيلي من جهة والدته. وبحث هيلي العادات الأفريقية وعادات الأفريقيين الأميركيين ليدمجها في قصة رائعة تتحدث عن تاريخ عائلة منذ منتصف القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن العشرين. (ويكيبيديا)

[4](*) القوة السوداء (Black Power): شعار ساد الولايات المتحدة الأميركية في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، يؤكد هوية الأميركيين الأفارقة وثقافاتهم، ويرمي إلى أهداف كثيرة من صد الاضطهاد عنهم، إلى إنشاء مؤسسات اجتماعية، واقتصاد ذاتي. (ويكيبيديا).

[5](**)       الداشيكي (Dashiki): رداء يميز الأفارقة. (ويكيبيديا)

[6](*) وصف الأعراق البشرية (Ethnography): دراسة وصفية لمجتمع إنساني معين، أو العملية التي يتم بها ذلك. وتتطلب هذه الدراسة اليوم العمل الميداني والانغماس الكلي في الثقافية اليومية للمجتمع موضع الدراسة. (موسوعة بريتانيكا).

[7](*) السياسة العرقية أو العنصرية (political racism): ما يقوم به ممثلو السياسة من ممارسات تستغل مبدأ العرق من أجل دعم أنظمتهم. (ويكيبيديا).

[8](*) انتروبولوجيا (anthropology)، هي علمُ الإنسان. دراسة الجوانب الإنسانية، بدءًا من جوانب علم الأحياء وحتى التاريخ التطوّري للجنس البشري، والجوانب التي تفصل الإنسان عن الحيوان. (موسوعة بريتانيكا).

       Linda Strausbaugh et al., «The Genomics Perspective on Venture Smith:

[9]     Genetics, Ancestry, and the Meaning of Family», in Venture Smith and the Business of Slavery and Freedom, ed. James Brewer Stewart (Amherst: University of Massachusetts Press, 2010), 209.

(*)   الأنتروبولوجيا الطبيعية (physical anthropological): علم الإنسان الطبيعي. علمٌ معنيٌّ بنشأة الإنسان وتطوّره وتنوّعه. (موسوعة بريتانيكا). وقد يسمى أيضًا (biological anthropology).(ويكيبيديا).

[10]    James Brewer Stewart, editor’s preface to Venture Smith and the Business of Slavery and Freedom, xiv.

[11]    Venture Smith, A Narrative of the Life and Adventures of Venture, a Native of Africa, but Resident Above Sixty Years in the United States of America, Related by Himself (New London, CT: Printed by C. Holt, at the Bee-office, 1789).

       ذكر سميث في الرواية أن أول مالك له، جيمس ممفورد، دعاه باسم فينتشر ذلك أنه اشتراه عن طريق مشروع ممفورد الخاص [بالإنكليزية؛ مشروع venture = فينتشر]. ثم أبرم اتفاقًا مع آخِر مالكيه، أوليفر سميث، عمل بموجبه أعمالًا إضافية حتى يُعتق نفسه.

[12]    كان لوك كولونغوود العقلَ المدبر، سيئ السمعة، لمذبحة عام 1781 التي قُتل فيها أكثر من مائة رقيق من الرجال والنساء. انطلق كولونجوود بحمولته البشرية التي تزيد عن أربعمائة شخص إلى جاميكا من أفريقيا على سفينة تدعى زونغ Zong. فلما اتخذت السفينة مسارًا غير مسارها مما قد يطيل أمد الرحلة ويعرض صحة الأسرى للخطر، مما سيُعرّض أسياده للمساءلة القانونية إن هم ماتوا، فأمر كولنجوود أن يُلقَوا في البحر ليتمكن من المطالبة بالتأمين.

[13]    Stewart, editor’s preface, Venture Smith and the Business of Slavery and Freedom, xiv.

[14]    Strausbaugh et al., «The Genomics Perspective on Venture Smith», 208.

[15]    المصدر نفسه، 225.

[16]    Dorothy Nelkin and M. Susan Lindee, The DNA Mystique: The Gene as a Cultural Icon, 2nd ed. (Ann Arbor: University of Michigan Press, 2004), xxix.

[17]    المصدر نفسه، 2.

[18]    يوجد الآن أكثر من (36) شركة لفحص السلالة الوراثي. وأعلنت شركة (23 and Me) أنها حددت النمط الجيني لمليون شخص. انظر:

       Anne Wojcicki, «Power of One Million», 23 and Me Blog, June 18, 2005 ,http://blog. 23 andme.com/news/one-in-a-million/. A 2014 story in the Scientist placed Ancestry.com and Family Tree DNA’s clients at 600,000 each. See Tracy Vence, «DNA Ancestry for All», Scientist, July 10, 2014, http://www.the-scientist.com/?articles.view/article No/40460/title/DNA-Ancestry – for – All/.وذكرتْ جينا بيج من شركة أفريكان إنسيستري، في لقاء لها مع مؤلفة الكتاب، أن عدد العملاء المستهدفين من السلالة الأفريقية بلغ (45.000) شخص خلال (12) سنة مضت.

[19](*)        شعار النبالة (coat of arms): الجزء الأساسي من أنظمة الرموز الموروثة، استُخدم أساسًا لتحديد الهوية في المعارك، وتطور ليكون دلالة على سلالة عائلة معينة، أو ملكية معينة أو غيرها. (موسوعة بريتانيكا).

       Herbert J. Gans (1979): «Symbolic Ethnicity: The Future of Ethnic Groups and Cultures in America», Ethnic and Racial Studies 2, no. 1 (1979): 1 – 20. A helpful chronology of the «Americanization» of root-seeking from the colonial era to the present is provided in Francois Weil, Family Trees: A History of Genealogy in America (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2013).

[20]    A Slave’s Story, British Broadcasting Company, March 25, 2007.

[21]    المصدر نفسه.

       أخذ الباحثون عدة عينات من تابوت سميث، دون أخذ جزيء من الحمض النووي.

[22]    Nelkin and Lindee, The DNA Mystique, xii.

[23](*)        مشروع الجينوم البشري (Human Genome Project):  مشروع بحثي بدأ العمل به رسمياً في عام 1990، وقد كان من المخطط له أن يستغرق (15) عامًا، لكن التطورات التكنولوجية عجلت العمل به حتى أوشك على الانتهاء قبل موعدهِ المحدد لهُ بسنوات. فأعلنت نتائجه الأولية عام 2000، وأعلنت النتيجة النهائية للمشروع عام 2003. وقد أدى ذلك لإجراء أبحاث في مجالات ذات أهداف أبعد. وكان من أهداف هذا المشروع التعرف على الجينات التي يحتوي عليها الحمض النووي البشري. (ويكيبيديا) وقد يسمى هذا المشروع (الأطلس الوراثي).

       See Nicholas Wade, «A Decade Later, Genetic Map Yields Few New Cures», New York Times, June 10, 2010, www.nytimes.com/2010/06/13/health/research/13genome.html; «Spiegel Interview with Craig Venter: We Have Learned Nothing from the Genome», Spiegel Online International, July 29, 2010, http://www.spiegel.de/international/world/spiegel – interview-with-craig-venter-we-have-learned-nothing-from-the-genome-a – 709174.html.

[24]    Arjun Appadurai, The Social Life of Things: Commodities in Cultural Perspective (New York: Cambridge University Press, 1986), 5.

[25](*)        اللولب الثنائي (double helix): أو اللولب المزدوج، أو السلّم الحلزوني، أو غيره من المسميات. يُراد به الحمض النووي (الدنا).

       Alondra Nelson, «The Social Life of DNA», Chronicle of Higher Education, August 29, 2010, http://chronicle.com/article/The - Social - Life - of - DNA/124138/.

[26]    Alondra Nelson, «Reconciliation Projects: From Kinship to Justice», in Genetics and the Unsettled Past: The Collision of DNA, Race, and History, ed. Keith Wailoo, Alondra Nelson, and Catherine Lee (Rutgers, NJ: Rutgers University Press, 2012), 20 – 31.

[27](*)        منظمة جدات مايو (Grandmothers of Plaza de Mayo): منظمة لحقوق الإنسان تهدف للعثور على الوِلدان المخطوفين، والذين كان تبنيهم على نحو غير شرعي، أثناء الحرب  القذرة في الأرجنتين.

(**) الفصل العنصري في جنوب أفريقيا (apartheid): وكان ذلك حين سيطرت أقلية بيضاء في جنوب أفريقيا على الحكم لسنوات طويلة، وفرضت قوانين عنصرية في مجالات الإسكان والتعليم والتوظيف، وكان لها تأثيرها على الغالبية العظمى من غير البيض، (الموسوعة العربية العالمية).

[28]    Christine Hine, Virtual Ethnography (London: Sage Publications, 2000); Daniel Miller and Don Slater, The Internet: An Ethnographic Approach (Oxford, UK: Berg, 2001); Stefan Helmreich, «Spatializing Technoscience», Reviews in Anthropology 32 (2003): 13 – 36. See also Deborah Heath et al., «Nodes and Queries: Linking Locations in Networked Fields of Inquiry», American Behavioral Scientist 43 (1999): 450 – 63.

[29]    A. J. Hostetler, «Who’s Your Daddy? Genealogists Look Inside Their Cells for Clues to Their Ancestors», Richmond (VA) Times-Dispatch, April 24,

[30]    Stephen Magagnini, «DNA Helps Unscramble the Puzzles of Ancestry», 2003 Sacramento Bee, August 3, 2003; Steve Sailer, «African Ancestry  Inc. A, Traces DNA Roots», Washington Times, April 28, 2003; Frank D

       Roylance, «Reclaiming Heritage Lost to Slavery», Baltimore Sun, April 17, 2003; Rick A. Kittles, interview with author, February 4, 2006.

       Sam Fulwood III, «His DNA Promise Doesn’t Deliver», Los Angeles Times, May 29, 2000, http://articles.latimes.com/2000/may/29/news/mn-35219.

(*)   ستار تريك (Star Trek): برنامج خيال علمي أميركي. (ويكيبيديا)

[31](*)        العرق (race) والانتماء العرقي (ethnicity) حين يُذكران معًا يُراد بالأول العرق من الناحية البيولوجية، ويراد بالثاني من الناحية الثقافية.

(**) العنصرية العلمية (scientific racism): استخدام العلم لإثبات تفوّقِ عنصرٍ بشري على آخر. (ويكيبيديا).

(***) الحتمية الوراثية (genetic determinism): تفسير الإنسان وحياته من وجهة نظر وراثية حصراً. وترتبط بها كثيرًا الحتمية البيولوجية، ويمكن أيضاً تعريف الحتمية الأحيائية على أنها فرضية تقول بأن العوامل البيولوجية مثل جينات الكائن الفرد هي من تحدد بالكامل تصرفات وتغيرات نظام ما (وليس العوامل الاجتماعية أو البيئية). (ويكيبيديا).

       Barbara Katz Rothman, Genetic Maps and Human Imaginations: The Limits of Science in Understanding Who We Are (New York: Norton ,1998);

[32]Troy Duster, Backdoor to Eugenics (New York: Routledge, 1990);, and Nelkin and Lindee, The DNA Mystique.

       Donald Kennedy, «Not Wicked Perhaps, but Tacky», Science 297 (2002): 1237; Craig J. Venter, «A Part of the Human Genome Sequence», Science 299 (2003): 1183 – 84.

[33](*)        أديولوجيا (ideology): منهج في التفكير مبني على الافتراضات المترابطة والمعتقدات وتفسيرات الحركات أو السياسات الاجتماعية، وقد يكون محتواه دينيًا أو اقتصاديًا أو سياسيًا أو فلسفيًا، وفي الغالب لا يعتمد أصحاب المذاهب على معلومات حقيقية لدعم معتقداتهم. (الموسوعة العربية العالمية).

       Craig J. Venter et al., «The Sequence of the Human Genome», Science 291 (2001): 1304 – 51.

[34]    «Reading the Book of Life: White House Remarks on Decoding of Genome», New York Times, June 27, 2000,http://www.nytimes.com/2000/06/27/science/reading - the - book - of - life - white - house - remarks - on - decoding -of – genome.html.

[35]    Dorothy Roberts, Fatal Invention: How Science, Politics and Big Business Re-Create Race in the Twenty-First Century (New York: New Press, 2011), x.

[36]    المصدر نفسه.

[37]    Vincent Sarich and Frank Miele, Race: The Reality of Human Differences (Boulder, CO: Westview Press, 2004).

[38] Neil Risch et al., «Categorizations of Humans in Biomedical Research: Genes, Race, and Disease» Genome Biology 3, no. 7 (2002): Comment 2007.1 – 2007.12; Esteban G. Burchard et al., «The Importance of Race and Ethnic Background in Biomedical Research and Clinical Practice», New England Journal of Medicine 348 (2003): 1174.

[39]    Nicholas Wade, A Troublesome Inheritance: Genes, Race, and Human History (New York: Penguin, 2014).

[40](*)        عمى الأعراق، في الأصل عبارة (color-blind racism): أي العنصرية المصابة بعمى الألوان، وقد وضعت لها هذه الترجمة لأن العنصرية ترى ألوانًا (أعراقًا) محددة، ولا تعترف بغيرها، تمامًا كحال المصاب بعمى الألوان.

       See Eduardo Bonilla-Silva, Racism Without Racists: Color-Blind Racism and the Persistence of Racial Inequality in the United States (Lanham, MD: Rowman & Littlefield, 2003).

(*)   العدالة العرقية (racial justice): يراد بها تسخير السياسات والممارسات والتوجهات والأفعال للوصول إلى فرص وعلاج وقوة تخدم المجتمع كله بأعراقه المختلفة.

[41]    http://www.uprootingracism.org/wp-ontent/uploads/2012/02/What%20is%20Racial%20Justice_.pdf

       Roberts, Fatal Invention, 287.

[42]    الحاجة إلى التوعية بالعنصرية فيما يتعلق بالحركات الاجتماعية في القرن الحادي والعشرين، انظر المصدر السابق.

(*) تعليق حبل ذي أنشوطة (hanging of a noose): فعل يرمز إلى معاناة الأميركيين الأفارقة عبر التاريخ؛ إذ كانوا يُعدمون بتلك الطريقة، على أن لجنة التحقيق في المدرسة توصلت إلى أن هؤلاء الفتيان لم يكن عندهم علم بمعنى هذا الفعل. (ويكيبيديا: Jena Six).

[43](*)        أخلاقيات بيولوجية (Bioethics)، أو أخلاقيات علم الأحياء: دراسة فلسفية للخلافات الأخلاقية الناجمة عن التقدم في مجال علم الأحياء، والطب. الأخلاقيات البيولوجية تتعامل مع قضايا مثل: الإجهاض، والقتل الرحيم، والتبرع بالأعضاء، والحق في رفض الرعاية الطبية لأسباب دينية أو ثقافية ونحو ذلك. (ويكيبيديا).

[44]    Dena S. Davis, «Genetic Research & Communal Narratives» Hastings Center Report 34, no. 4 (July–August 2004): 43.

[45]    Natalie Angier, «Scientist at Work: Mary-Claire King; Quest for Genes and Lost Children» New York Times, April 23, 1993, http://www.nytimes.com/1993/04/27/science/scientist-at-work-mary-claire-king-quest-for-genes-and-lost-children.html?pagewanted = all&src = pm. This reconciliation project is discussed at length in chapter 1.

[46]    Peter Gill et al., «Identification of the Remains of the Romanov Family by DNA Analysis», Nature Genetics 6, no. 2 (February 1994): 130 – 36.

[47]    أُسند إلى فريدريكا كاسيل، عالم الأنتروبولوجيا الجزيئية، وخبير في تحليل الحمض النووي القديم، إجراء تحليل الرفات. (يمكن استخدام تقنيات الحمض النووي القديم لعينات يعود تاريخيها إلى مائة ألف عام). وتوفت دراسة الرفات بعدما طالبت الجماعات الأصلية بحقوقها بناءً على قانون حماية المقابر الأميركية وإعادة اللاجئين (NAGPRA)، لكنّ الباحثين قاموا  بمقاضاة الحكومة الفيدرالية ليعودوا ثانيةً. وطلب القاضي الذي استمع إلى القضية بفحص مبدئي للرفات للتأكد من إمكانية إجراء البحث. وأَجرى فريقٌ بقيادة كاسيل تحليلًا بعد ذلك

[48]    عام 2000. لكن هذه البقايا بدأت بالتحجّر ولم يُستخرج منها سوى معلومات يسيرة. انظر:

Frederika Kaestle, «Report on DNA Analysis of the Remains of ‘Kennewick        Man’ from Columbia Park, Washington», in F. P. McManamon, Kennewick Man (Washington, DC: US Department of the Interior, National Park Service, May 2004), http://www.nps.gov/archeology/kennewick/Kaestle.htm. For an excellent critique of the use of genetics in the «Kennewick Man» case, see also Kimberly TallBear, «Genetics, Identity and Culture in Indian Country» (working paper, International Institute for Indigenous Resource Management, Denver, CO, 2000), and Michelle M. Jacob, «Making Sense of Genetics, Culture, and History: A Case Study of a Native Youth Education Program», in Wailoo, Nelson, and Lee, Genetics and the Unsettled Past, 279 – 94.

       Morten Rasmussen et al., «The Ancestry and Affiliations of Kennewick Man», Nature (2015), doi: 10.1038/nature14625.

(*)   مجتمع المزارع (plantation society): المجتمعات التي كانت تقوم على الزراعة وذلك من خلال استغلال العبيد، وهي مرتبطة ارتباطًا كبيرًا بالعبودية. المصدر (www.encyclopedia.com) تحت عنوان: Plantation System of the South.

[49]    Annette Gordon-Reed, Thomas Jefferson & Sally Hemings: An American Controversy (Charlottesville: University of Virginia Press,  1997); Annette Gordon-Reed, The Hemingses of Monticello: An American Family (New York: Norton, 2008).

[50]    Eugene A. Foster et al., «Jefferson Fathered Slave’s Last Child», Nature

n 1999 the scientists would qualify their findings, saying that the father of        Hemings’s last son could have been Thomas Jefferson or one of a small number of his paternal relatives.

[51]    المصدر السابق.

       أُكد بعد ذلك للمرة الثانية نُدرةَ النمط الفرداني الذي تشترك فيه ذرية جيفيرسون من طريق الأبوة. انظر:

Turi E. King et al.«Thomas Jefferson’s Y Chromosome Belongs to a European Lineage», American Journal of Physical Anthropology 132 (2007): 584 – 8.

[52]    John Works, «The Jefferson-Hemings Controversy: A New Critical Look», Drumbeat (Fall 2010): 17 – 19, http://www.tjheritage.org/newscomfiles/WorksJefferson-HemingsArticle.pdf.

[53]    أسس جاكسون مشروع (African – American DNA Roots Project)، وهو مشروع غير ربحي لتحليل السلالة الوراثية، مع بيرت إيلي Bert Ely، عالم الأحياء في جامعة ساوث كارولاينا عام 2001.

[54]    Jonathan Mummolo, «African American Seeks to Prove Genetic Link to James Madison», Washington Post, June 11, 2007, http://www.washingtonpost.com/wp-dyn/content/AR2007061001404.html «Proving Lineage to a President», National Public Radio, June 14, 2007, http://www.npr.org/templates/story.php?storyId = 11077716; Kris Coronado, «What Ever Happened To… the Possible Relative of James Madison», Washington Post, October 14, 2011,

http://www.washingtonpost.com/lifestyle/magazine/whatever-appened-to-the -possible-relative-of-james-madison/2011/09/27/gIQA9evGkL_ story.html.

[55](*)        نظام الامتياز (peculiar institution): عبارة تلطّفٍ كانتْ تُطلق في القرن التاسع عشر على «الاستعباد». المصدر:

       «Report of the Brown University Steering Committee on Slavery and Justice» (PDF). Brown.edu.

[56](*)        قرابة الحمض النووي (DNA kinship): القرابة التي أُثبتتْ عن طريق تحليل الحمض النووي.

(**) الإعلان (reveal): حين تذكر المؤلفة هذا الكلمة، تريد تلك المناسبة ذات الطابع المسرحي غالبًا حين تعلن نتائج الباحثين عن أصولهم بعد أن يجروا البحث، ويكون الإعلان أمام الملأ

[57]    لتسجيل تلك اللحظات المثيرة المفاجئة حين يعرف أحدهم إلى أي دولة ينتمي، على أن كثيرًا منهم يطّلعون على نتائجهم من قبل.

[58](*)        شتات الحمض النووي (DNA Diaspora): يُراد به أولئك المشتتون الذين تجمعهم جينات وراثية مشتركة.

       Sierra Express Media, «Isaiah Washington States His Sierra Leone Passport Has No Bearing on What He Can Do for Salone», Sierra Express, September 18, 2014, http://www.sierraexpressmedia.com/?p=70465; «Isaiah Washington’s Fight Against Ebola», CNN, April 17, 2015, http://www.cnn.com/videos/world/2015/04/17/ebola-ball-challenge-isaiah-washington-intv.cnn.

[59](*)        الإقناع الأخلاقي (moral suasion): اللجوء إلى الأخلاق في التعاملات قصدَ التأثير على السلوك وتغييره. (ويكيبيديا).

[60](*)        التباين البنيوي (structural inequality): أن تكون فئة اجتماعية معينة في حالٍ اجتماعية لم تُـنصف. (ويكيبيديا).