مجلة حكمة
دوستويفسكي و الحب

الحب في عالم دوستويفسكي – سلمان العواشز


عند الحديث عن دوستويفسكي والحب موقعه الحبّي، يتم اختصار الموضوع بأن رواياته لا تحتوي على امرأة -ككل العُصابيين- بعكس آنا كارنينا لدى تولستوي أو مدام بوفاري لدى فلوبير، وهكذا يتم إنهاء الحديث، وأن النساء -كما يرى ترويا؛ متأثّراً ببرديائف- لديه مجرد نقطة تحوّل في مسيرة الرجل وأن رواياته رجولية فقط؛ وأعتقد بأنه هكذا يرفض التحليل النفسي المتهم بقتل الإبداع بفكرة العُصاب. حسناً فلنحاول فقط معرفة ماهي المرأة لدى دوستويفسكي ؛ أو بالأصح، العلاقة بين شخصيات رواياته في إطار الحب . وهذه المحاولة ماكانت ستظهر بدون مقال لسيغموند فرويد -والعجيب أنها ليست المقالة التي خصصها لـ دوستويفسكي ذاته. والمقالة بعنوان “نمط خاص من الاختيار الموضوعاني لدى الرجل “؛ والتي يتحدث فيها فرويد مسهباً ومفسّراً لنوع من الإختيار الموضوعاني للمحبوب؛ أي الشخص الذي يختارونه كحبيب وكزوجة ويقيمون معهم علاقتهم الحبية. ويحددها فرويد في أربعة شروط؛ اثنان منهما كشروط يحققها الموضوع وشرطان يحققهما الشخص النمطي ذاته:

١-[الثالث المغبون؛ وهو يقتضي ألا يختار الفرد أبداً موضوعاً لحبه امرأة لا تزال حرة، وبعبارة أخرى، فتاة أو امرأة وحيدة، وإنما حصراً امرأة يستطيع رجل آخر، أزوجاً كان أم خطيباً أم صديقاً، أن يدّعي له فيها حق ملكية]

٢- [إن المرأة العفيفة والتي هي فوق الشبهات لا يكون لها أبداً تلك الجاذبية التي من شأنها أن ترفعها إلى مرتبة الموضوع الحبّي، فمثل هذه الجاذبية وقف على المرأة التي تحيط بحياتها الجنسية بصورة أو بأخرى سمعة سيئة. أي المرأة التي يستباح الشك في وفائها وفي أهليّتها للثقة.]

[الشرط الأول يتيح لنوازع حب المصارعة والعدوان أن تحظى بمبتغاها من الإشباع من خلال الرجل الذي تسلب زوجته المحبوبة] والشرط الثاني مرتبطٌ بالغيرة. وعندما يغارون يبلغ حبهم أوجه، وتحظى المرأة بكامل فتنتها في نظرهم. ولا يفّوتون على أنفسهم الفرصة لأن تنتابهم تلك المشاعر. والعجيب أنها ليست موجهة إلى المالك المشروع للمرأة، بل ضد الدخلاء الذين يلقون عليها الشبهات.

٣-يعامل المتصفات بالصفتين السابقتين [كما لو أنهن مواضيع حبية رفيعة القيمة كل الرفعة] [إذ تبلغ حداً من التطرف تنحّي معه الاهتمامات الأخرى كافة] وشدة الوفاء وتجدده -الغير نادر بأن يكسر- القوي جداً. وتتسم بطابعها القهري. ولا يكون هذا النوع من الحب واحداً -كالمتوقع- بل متكرراً في كل مرة يمكنه له أن يتغير؛ تكرر دائم. ولكأنه نسخ مطابقة للأصل، وكل واحدة تزيده عطشاً.

٤-[ميلهم السافر إلى إنقاذ المرأة المحبوبة] [فالرجل راسخ الاعتقاد بأن المرأة المحبوبة بحاجة إليه].

وسيكون من الواجب توضيح أسباب هذا النمط التي ذكرها فرويد. فهذا الحب هو امتداد لم يتحرر من حب الأم، التي يمتلكها الأب. والتي بنظر الصبي هي خائنة مع أبيه. وأيضاً أن ذلك الحب المقيم تقييماً عالياً ورفيعة القيمة لديه يكون صورة بأن الأم كائن فريد لا يمكن أن يطرقه شك أو يشاركها آخر بتفردها؛ فليس للمرء إلا أم واحدة. وأما تكرار الوفاء الدائم وتكرار الحب الدائم فلأنهن مجرد صور لها، وكل صورة تخلق حسرة وعطشاً من جديد والشهوة وتلانتقام تلازم كل تخييلاته اللذية والحبية ولا تنفصل؛ فلم تجد ازدواجية العواطف لديه كما لدى السويين انشطاراً بعد الطفولة، فالطفل يحي ويكره نفس الشخص دوماً. وأما الإنقاذ وبقية التفاسير كثيرة وطويلة فهي في المقال لا يمكن أن تكون هنا.بلا شك أن من يعرف حياة دوستويفسكي أو أياً من أعماله فسيرى هذا الحب ، هذه العلاقة الحية بين شخصيات حياته/رواياته. بل هو النمط الحبي الطبيعي في عالم دوستويفسكي . ليغرينا أن نذكر بأنها “متكررة” في رواياته الفقراء، والمقامر، وحلم العم، والزوج الأبدي، والأبله، والجريمة والعقاب، والشياطين، والإخوة كارامازوف وذلك الصراع بين الأب والابن على العاهرة؛ وكذلك أول ثلاث علاقات حميمة في حياته. ورغم أن الزوج الأبدي تغري لتفحص هذا النمط، ولكن لن نتبعه لأنها تقع تحت الأفكار اللاشعورية التي يحولها دوستويفسكي إلى واقع واعي بذاته. ولهذا سيقع الاختيار لتفحص أربع روايات. الفقراء؛ التي لم يسبقها أية علاقة حب في حياته، فلا يمكن أن تحددها تجارب شعورية. وقلب ضعيف، لأنها المناقضة لكل هذا النمط وهذا الموضوع-ظاهرياً فقط- وأيضاً المقامر؛ المشابهة لسيرة ذاتية روائية، والأبله؛ التي هي صارخة بكل مايجول في هذا، والشبيهة بالأمير. ولكن أولاً لنتحدث عن زواجه الأول، لنخرج من تلك المفارقة المسماة “الإبداع”. فزواجه الأول كان علاقة حب بمتزوجة يحاول دوماً إنقاذها، ويحبها بجنون شديد تنسيه حياته ويضحي بكل حياته من أجلها. وحين يتدخل الغريب يجن جنونه غيرة عليها إلى أن تصبح حقاً خطيبةً وحبيبة للخطيب -ويستطيع أن يدعي بحق ملكيته لها- فيساعدهما ويقدم لهما الزواج ويعينهما بتلك الديون الطائلة. ولا نشك في أن علاقته معها وهي متزوجة تلقي عليها ظلالاً من الشك ليست بالهينة حتى في نظر القارئ بعد قرابة ١٥٠ عاماً. وفرحه وخبثه بموت السكير زوجها، وتحميله لنفسه مسؤولية موته؛ من جديد كما حدث لوالده! وسنتعجب حين استطاع بعد كل هذا أن يحب مرة أخرى وبذات الجنون لتلك العدمية المتحمسة ليلحقها عبر لأوروبا وليعيش من جديد كل ذلك؛ ولكن بلا زواج. وحين نمر عبر روايته الفقراء، التي سبقت كل علاقة حب له، نجد ماكار المجنون حباً -أبويّاً- بتلك الفتاة التي تقول عن نفسها:[وربما لم أشأ أن أحمي شرفي وأدافع عنه]. وعلاقتهما المثيرة للشائعات والنمائم؛ وأيضاً محاولته بشدة أن يضحي بحياته وسعادته من أجل إنقاذها، وحين تتزوج يشتري لها كل مايجهز لها زواجها، ولكأنه يقدمهاعلى طبقٍ من فضة -كما حدث لاحقاً مع الغريب في قصة زواجه الأول-. ولكأن القدر الذي حداه لاختيار ذلك الحب الغريب في روايته، دفعه أيضاً لزواجه الأول. أحقاً قدر ؟ أم هو نفسه، رغبته الدفينة التي تدفعه دفعاً إليها ولا يجد لذلك سبب ؟ وفي الأبله: الأمير يحب ناستازيا سيئة السمعة والتي أيضاً يحبها الجنرال وروجويين وهيبوليت وكادت أن تخطب لذلك التعيس. ولكن مايثير الاهتمام ليس الأمير بل روجويين والأمير سوياً؛ وعلم الأمير بأن روجويين سيقتلها بلا سبب إلا لأنه يحبها بشدة -ولكأن الحب مزدوج بالكراهية فكل منهما يزيد الآخر؛ وليذكرنا [بالشهوة وظمأ الانتقام]؟! الغير معروفين سوى أنهما خيالات المحب هذا-. والتي يساقون إلى القتل وكأنه قدرٌ محتوم. والتي يحاول الأمير إنقاذها من بؤسها وشقاءها، والتي يعلم روجويين بأنها ستخونه بمجرد أن تغيب عنه. والذي يضحي بكل حياته من أجلها. ألا ماأغرب هذه السيئة السمعة التي يساق إليها الكل “بلا شعور” منهم. ويتجلى الحب والانتقام بلا دافع وبلا سبب في المقامر. فيقول لبولين:[ألا تعلمين أنني سأقتلك ذات يوم ؟ لا غيرة ولا لأنني أكون قد أنتهيت من حبك! لا. وإنما سأقتلك لمجرد أني أشعر في بعض الأيام برغبة في أن ألتهمك] ولكنه أيضاً يقول لها :[لماذا أحبك ؟ كيف أحبك ؟ لا أدري] ولكأنه ذات القدر. ولا ننسى أنه يخبرها:[أما قلبك فسيء ولاشك] ويقول [نعم أكرهها]. ويعرف بيقين أنها تحتاجه، وتستنجد به.  ما أغرب هذا القدر الذي يدفع شخصياته بلا شعورٍ منهم لكل ذاك. ألا ماأظلمنا حين نقول القدر. وأما رواية قلب ضعيف، فيكاد كل من قرأها أن يصرخ بأنها لا تتبع هذا النمط. بل إنه لن يجده. فسيجد ذا القلب الضعيف يحب فتاة شريفة طاهرة. وهو ينوء تحت حمل مهول من الذنب ليس له مايبرره -ولكم سيغري هذا الحديث لكل مهتم بالتحليل النفسي-. ولكن لماذا لم يوفّق هذا الحب لدى دوستويفسكي ؛ لماذا يرحل البطل للأبد وتتزوج الخطيبة شخصاً آخر. أولكأن “قدر” دوستويفسكي ذاته يخبرنا بأن حباً كهذا مستحيل؛ لا معنى له وغير منطقي. فلا يستطيعه ولا يفهمه. فلذلك لا يمكن أن يكونا معاً ، ولا يمكن أن يكرهها حتى. ولأن هذا يذكر بسفيدريغاليوف حين علم أنها لا تحبه بما يكفي لكي تقتله.

ولكأن دوستويفسكي يصرخ بأن حباً بلا مومس ولا ثالث مغبون هو حب مستحيل. ولأنه حقاً على غرار الحب الأفلاطوني، هناك حبٌ دوستويفسكي .