مجلة حكمة
حوار مع آلان دو بوتون حول الحب والزواج

حول العلاقة بين الحب، والزواج، والألم: حوار مع آلان دو بوتون / ترجمة: حنان العلياني

حاوره: محمد الرشودي
حاوره: محمد الرشودي

English Version – نسخة PDF


سخّر ضيف هذه الحلقة من سلسلة مقابلات حكمة الشهرية -آلان دو بوتون – نفسه للإجابة على سؤال واحد ورئيسي: كيف نعيش حياة جيّدة؟ ضيفنا هو مؤسس “مدرسة الحياة” (School of Life)، وهي مؤسسة عالمية تهدف إلى تطوير الذكاء العاطفي، كما تهدف إلى التطبيق العملي للسيكولوجيا، والفلسفة، والثقافة في حياتنا اليومية. يتميز ضيفنا في كتبه ومقالاته ومحاضراته بأسلوبه السهل والممتع، وهو ما خلق له جمهورًا عريضًا من القراء، وقد سبق وأن تُرجمت بعض أعماله إلى العربية مثل كتابي عزاءات الفلسفة وكيف يمكن لبروست أن يغير حياتك، كما تُرجمت أشهر مقالاته لم ستتزوج الشخص الخطأ على حكمة. آلان دو بوتون، يسعدني أن أرحب بك ضيفًا على حكمة في حوار لعله الأول لك عربيًا.

1-من الفيلسوف الذي كان له الأثر الأكبر على آلان دو بوتون؟ ولماذا؟

لم أكُنْ سأُصْبِحُ ما أنا عليهِ الآن لو أنني لمْ أكتشف في بداياتِ العشريناتِ من عُمُري أعمالَ الأكاديمي وكاتب المقالاتِ الفرنسي رولان بارت. كثيراً ما أحسستُ بالارتباك تجاه حنيني للكتابةِ في سنواتِ دراستي الجامعية، ولم يكن لديّ تصورٌ عما سأصبح عليه ككاتب، فلم يمر عليّ حينها ما يُمكِنُ أن يقدِّم لي الشجاعة للشروع في الكتابة. لم أكن متحمساً كفايةً للروايات، ولم أكن قادراً على أن أقْصُصُ حكايةً واحدة، ولكن الرواياتُ الواقعيةُ التي عَرَفْتُها آنذاك، كانت موضوعيّةً ولا تُثير اهتمام القارئ أو شيئاً من هذا القبيل، أما المذكرات، فكانت تفتقرُ إلى الأساسِ الفكري الذي لطالما احتجتُ إليه. ثم ما لبثتُ أنِ اكتشفتُ هذا الكاتب الفرنسي رولان بارت، الذي جعلني أتعلَمَ طريقةً جديدةً في الكتابةِ الواقعية. كانت جُلُّ أعماله حولَ الأشياء الأكثر من عادية، كمسحوقِ الغسيل وبرج إيفل والوقوع في الحب والتنانير ذات الأطراف القصيرة والطويلة وصور والدته.

ولكن في نفس الوقت، كان له تأثيرٌ على هذه المواضيع حينما استحضرَ التعليم التقليدي والعقلية الفلسفية. عرف بارت كيف يربط بين الكاتب المسرحي جان راسين والعطل الصيفية، وبين المفكر فرويد وتَرَقُب مهاتفةَ الحبيب. حيث لَفَظَتْ أعمالُهُ البَوْنُ الشاسع بين طَرَفَيّ النقيض التي اتّسَمَتْ بها أعمالُ أغلب الفنانين المعاصرين أمثال الشاعر الأيرلندي جيمس جويس ونظيره صمويل بكيت، والفنان مارسيل دوشامب ونظيره جوزيف كورنيل. تميّز بارت بنظرته الثاقبة لرؤية أدقِّ التفاصيل في المواضيع العميقة. كان بارت مُبْتَكِراً في أسلوبه وفي عرض مؤلفاته كغيره من الفنانين المعاصرين (توزعت أعماله بين البنوية ومابعد البنوية)، حيث حَمَلَتْ كُتُبُه الكثيرَ من الصور، والتلاعبِ بالخطوطِ المختلفة. كتبَ بارت كتاباً كاملاً بعنوان: س/ز، والذي تمحور حول قصةٍ قصيرةٍ لـ بلزاك، والتي تميّزتْ بتحليلِ كُلُّ سطرٍ بطريقةٍ لاتخلو من الهوس والتدقيق الموسوعيّ. لكن كتاباته لم تخلو من الحسّ التقليدي المتّسِم بالاتزانِ وضبط النفس. مشى بارت على خُطَى “الأخلاقيون” الفرنسيون (والذين لم أسمع بهم من قبل إلا من كتابات بارت)، أمثال الحكيم الفرنسي فرانسوا دي لا روش فوكولد وميشيل دي مونتين (رائد المقالة الحديثة) والأديب الفرنسي جان دي لا برويير والكاتب الفرنسي نيقولا شامفور. ألهمتني كُتُبُ بارت التي تَلَتْ هذا الكتاب وحتى آخرِ كتابٍ لَه، فكتابُ “شذراتٌ من خطابِ محب” ساعدني في تشكيلِ ملامح كتابي الأول في موضوع الحب. وماكتبه عن “راسين” و”بكيت” بوصفهم أبآءاً روحيين لكتاب “كيف غيّر بروست حياتك”، فالتأثير لم يكن على مستوى الأفكار بقدر ما كان على مستوى الأسلوب والنهج الذي اتبعه.

2-تروّج حضرتك للفلسفة كطريقة لعيش الحياة وتقبل الموت. تعني الحياةُ الكريمةُ في عصرٍ العولمةٍ والاقتصاد المالي أشياءً مختلفة على غرار: معرفة معلومات وبيانات أكثر، وأن تكون خبيراً بشيءٍ ما. ونجد الفلاسفة في المقابل لا يتفقون على أي شيء، وهذه هي ماهية الفلسفة، وعليه قد يقولُ قائل أن الفلسفة ليست إلا مضيعة للوقت، فما هو تعليقك؟

أؤمن بمبدأ التعليم العاطفي، حيثُ يُصَمم التعليمُ لتحصيننا من نقيصتين اثنتين. الأولى: أننا لا نعيش فترةً طويلةً تمكننا من معرفةِ كل ما يجب علينا معرفته في هذه الحياة، والثانية: أن كل فردٍ منا يتسم بالغباء إلى حدٍّ ما.  ولكننا –نظرياً على الأقل وبفضل التعليم- نستطيع في غضون سنواتٍ قليلة أن نبيني مخزوناً من الرؤى التي تتطلب من العباقرة سنيناً للحصول عليها. ثمرةُ آلافٍ من السنينِ من التفكيرِ المُتَبَحّرِ في علمٍ من العلوم قابِلٌ للاختزالِ في مجموعةِ كتبٍ في غضون ساعاتٍ معدودة.  يُساهم النظام التعليمي في الفائدةِ الجماعيةِ بخلق لحظاتٍ وامضة من الذكاء الفردي، فيُسَاهِم في استقرار الذروة لعقولنا الفوضوية والصفيقة، وإطالة نجاتها في فترة العمر الافتراضي الواحد إلى ما لانهاية. فهي تسمح للغباءِ أن يَحْصُدَ محصول النبوغ، فالتعليم يسمحُ لنا بأن نحظى بحياةٍ نتمتع فيها بذكاءٍ أكثر مما نحن عليه. فغالبيتنا –كلٌّ على حدة- لسنا بأذكى من بقرةٍ أو طائر، ولكن على عكس الحيوانات، نمتلك القدرة على التعلّم من الأذكى في القطيع. فيشعفع لنا أننا بين الفترة والأخرى نرتادُ للذهاب إلى المدرسة. ولكن السؤال هو: ماهي المدارس الموجودة؟ فلدينا مدارس لتعليم الطيرانِ وجراحةِ الأعصابِ والهندسةِ الماليةِ وإدارةِ التوريدِ، فنحنُ قادرونَ على تعليمِ خصائص البلوتونيوم والمبادئ الكهرومغناطيسية، ونملك معلومات عن جسيمات البنتا كواركات ونظرية الكروموديناميكا الكمومية. ولكننا مازلنا انتقائيين في المجالات التي نرغب بتثقيف أنفسنا فيها، فنحن نقلقُ قلقاً بالغاً على من يُدرّس أبناءنا مادة الرياضيات، ولا نلقي بالاً لمدى جاهزيتهم للتأقلمِ مع الحياةِ الزوجيةِ أو التوتر. فطاقاتنا موجهةٌ للأسئلةِ الماديةِ والعلميةِ والتقنية، لا إلى الأسئلةِ النفسيةِ والعاطفية.

نتعلَمُ الكثيرَ في المدارسِ وفي فصولنا الدراسية عن الصفائحِ التكتونية، وتكوّن السُحُب، ولا نتعلّمُ ما يكفي عن كيف ينشأ الغضبُ أو آلية الحب، ونُعَلّم الكثير عن خصائص السبائك المعدنية، والقليل عن الحسد والشعور بالذنب. فكما لو أننا نعتقد ضمنياً بأن الإدراك العاطفي في جوهره شيءٌ غير قابل للتعَلُّم، وبعيدٌ كل البعدِ عن المنطقِ والمنهجية. وعليه فإننا نجد أنفسنا ننبذُ الغريزة الفردية والحدس. إننا نترك الجميع يبحثون في متاهة مشاعرهم على طريقتهم الخاصة، وكخطوةٍ قويةٍ وحكيمةٍ، أقتَرِحُ أن يُعيدَ كلُّ جيلٍ اكتشاف قوانين الفيزياء بمفردهم. تحيزنا أثقَلَ كاهِلَنا: تزامنَ التقدمُ الاستثنائي في المجالاتِ الماديةِ والتكنولوجيةِ مع الركودِ النفسي. فنحنُ أقلُّ حكمةً من السومريين، وخبراء في تغييرِ أماكنَ إقامتنا، بينما نبقى مبتدئين في استخدام وظائفنا الذهنية. بحوزتنا تقنية الحضارات المتقدمة على المستوى لعاطفي التي لم تتغير من عصر الكهوف. إننا قادرون على التنقل في الكون بسرعة أسرع من الصوت، ونعاني في التعامل مع المحتوى الجامح في الفص الأمامي من أدمغتنا. نمتلك الشهية والغضب المدمر في الكائنات الرئيسيات البداية والمتمثلة في امتلاك الرؤوس النووية. تعريفنا لمفهوم الذكاء سببٌ لذلك جزئياً، حيث اُستخدمت من دون تمييزٍ بين معانيها الكثيرة وغير المتوافقة، فنميلُ للاعتقادِ بأن الذكاء الحقيقي قد يعني شيئاً من قبيل جمع الشهادات من جامعاتٍ مرموقة، والبراعةُ في حل المشاكل التقنية والتحديات التجارية. نثور ضد بعض حدود تصنيفاتنا، فنلاحظ فيما نصنفه بالحيوات الذكية أنواعاً من الحماقة القوية والمستمرة والمتسقة جنباً إلى جنب بطريقة اعتيادية، وتحتفي بأشكالٍ من الألمعية. فنتعجب أنّى لها أن تكون بهذا الشكل الألمعي وفي نفس الوقت تكون مشوشة، أنَى لها أن تكونَ فطِنةً وميالةً للانتقامِ وعدم التصالح في ذاتِ الوقت، حياةٌ يشيد بها النظام التعليمي، ولكنها مهزومةٌ من العالم. نحن على شفى حفرةٍ من الاحتمالات المبهمة، فالحاجة ماسة لمصطلحٍ يلتقطُ معنىً صريحاً وواضحاً، ولا يقل أهمية عن القدرات العقلية.

يمكننا جمع خمسةُ مهاراتٍ إدراكيةٍ مميّزة تحت عبارة “الذكاء الاجتماعي”: فِهْمُ الانسانِ لذاته (تاريخه النفسي، وأعماله الروحية، وتمَكُّنهِ من مشاعره ونضجها)؛ المقدرة على الإحساس بالآخرين والتعايش معهم (بتوفر القدر المطلوب من الصبر والمسامحة والسكينة والإحسان وحسن الظن)، واكتسابِ موهبةِ التعاملِ في العلاقات (بكل ما تتطلّبُه هذه العلاقات من التواصلِ واظهارِ الضعفِ والكرمِ والحسِ الفكاهي وتفَهُمِ الرغباتِ الجنسية وتقديم بعضِ التنازُلاتِ)، وفهم الركائز العاطفية لهذا العالم العملي، والانفتاح على مشاعر الشكر والتقدير مع التكيف مع الألم بما يحفظ الكرامة، والتكيف مع الخسارة والوفاة.  أوجه القصور في هذا المقام هي انعدام وجود الاهتمامات الثانوية بكل أسف، فكل شيء يمكن أن يُشّكل خطأً كارثياً مثل أسوأ الأخطاء التي قد تحصل في المجال المادي أو التقني. تتنازل حياتنا بسهولة عن أبعادها العاطفية كما هو الحال في التأثير الأكبر لاقتصادنا وسياساتنا وحروبنا.

3- ذكرت في كتابك “عزاءات الفلسفة” بأن باعة الكتب يمثلون وجهةً قيّمة لمن يشعر بالوحدة، أخذاً بعين الاعتبار عدد الكتب التي كُتبت لأن مؤلفيها لم يجدوا من يتجاذب أطراف الحديث معهم، فهل يشعر آلان دو بوتون بالوحدة بطريقة ما؟

لعله يوجد عددٌ من الاعترافاتِ المسببةِ للحرجِ والتي يمكن أن نبوح بها عدا كوننا وحيدين، فالفرضية الأساسية هي أنه لا يوجدُ شخصٌ محترمٌ قد يشعرُ بأنه معزولٌ قط، إلا إذا غيّر بلده أو أصبح أرملاً/أرملة. لكنّ الحقيقةَ الجليةَ هي أنّ أقصى درجاتِ الوحدةِ هي جزءٌ لا يُمْكِنُ تغييره من تكوين الانسان الحسّاس والذكي، هي صفةٌ أساسيّةٌ في الوجودِ المُعَقّدِ للإنسانِ وتكوينه، ولهذا عدةُ أسبابٍ جوهرية:

اعتراف وإقرار الآخرين باحتياجاتنا – مع أننا نشعرُ بالراحةِ لمشاركةِ غالبيةِ هذ الاحتياجات، سيكون مزعجاً للمجتمع ككل. فكثيرٌ من الأفكار القابعة في خبايا عقولنا غريبةٌ أو متناقضةٌ أو حاذقةٌ أو مثيرةٌ لدرجةِ أننا لا نشعرُ بالأمانِ للإفصاح عنها لأي شخصٍ آخر. لذا نجدُ أنفسنا بين خيارين ألا وهما: إما أن نكون صادقين مع أنفسنا، أو نكون مقبولين من الآخرين، ولعلنا نتفَهّمُ اختيارنا للخيار الأخير. يتطلّبُ الاستماع لتجارب حياةِ الآخرين جهداً لا يُستهانُ به لكي يتَمَكّن المستمعُ من التعاطف مع ما يمرون به من تجارب، ولا ينبغي لومُ الآخرين على فَشَلِهِم في التوصلِ لِفَهْمٍ عميقٍ لذواتنا، فلعلّهم يريدون الالتقاء بنا، ولكن يجب أن نتقبل الجهد الذي يبذلونه للحفاظ على أن تكون حياتهم هي محور الحديث معهم. سنرحل عن هذه الدنيا وحيدين، مما يعني أن آلامنا في هذه الحياةِ نتحمَلها وحدنا، وبالرغم من وجود من يشجعنا في هذه الحياة، إلا أننا نُبْحِرُ وحيدين في المحيطِ ونجابه الغرقَ في الأمواجِ العاتية، ومهما بَلَغَتْ لَطَافَةُ الآخرين، فإنَهم سيُلَوّحون بكل هدوء من شاطئ الأمان. من المستبعدِ جداً أن نَجِدَ شخصاً تتوافقُ أرواحنا معه تماماً، على الرغمِ من توقنا للانسجامِ الكاملِ مع هذه الروح، سنجد تنافراً مستمراً، لأننا وجدنا على ظهرِ البسيطةِ في أوقاتٍ مختلفة، فنحن ثمرةُ لاختلافِ العائلاتِ والتجاربِ والخلفياتِ الثقافية. فلن نتفق جميعاً على رأي واحد إذا شاهدنا نفس الفيلم، ولن نتشارك نفس الأفكار حينما ترتفع أعيننا للسماء المزيّنة بالنجوم، فقد تتدفق من أحدنا مشاعرٌ فياضة، وقد تستثار مشاعرُ الشَجَنِ والحُزْنِ في نفوسِ بعضنا لاسترجاعهم تفاصيلاً مؤلمة عن حياته الخاصة، الأمر فعلاً مُحَيّرٌ لدرجةِ الفكاهة.

لن نجدَ الأشخاصَ المناسبين ليفهموننا على الأغلب، ولكنهم متواجدون حولنا وإن لم تسنحِ لنا الفرصة لنلتقيهم. فلعلنا مررنا بهم في الشارع، حتى وإن لم يكن لدينا أدنى فكرة عن إمكانية التواصل معهم. ولربما أخذهم الموت قبل أسبوعين في مدينة بعيدة، أو لم يُكتب لهم أن يُخلَقوا إلا في القرن الثاني والعشرين، فهذه ليست مؤامرة، ولكننا نحتاج جرعةَ حظٍ زائدةٍ لنتواجدَ معهم.

وقد يزيدُ الطين بلّة لو كنا أشخاصاً عميقي التفكير وحاديّ التبصر، فتَقِلُّ إمكانية وجودُ أشخاصٍ متسقين وذواتنا. أليست تلك بالأسطورةِ الرومانسيةِ القائلةِ بأنّ الوحدةَ هي الضريبة التي يتعيّنُ علينا دَفْعُهَا لِنُكَفّرَ عن الغموضِ والتعقيدِ الذي يَكْتَنِفُ عُقُولَنا؟

فمنذُ زمنٍ بعيد، كانت الرغبةُ العارمةُ في أن يحظى البشرُ بعلاقةٍ حميميةٍ أقوى من الرغبةِ في خَلْقِ حديثٍ مُثْمِر، فينتهي الأمرُ بِنا أنْ نَجِدَ أنفسنا مُحَاصَرِينَ بعلاقاتٍ مع أشخاصٍ لا نجدُ الكثيرَ لِنَقُولُه لهم لمجرد أننا كننا مهتمين بشكل الأنف ولون العينين الجذابتين. وبالرغم من كل ما قيل، من المفترض ألا نكون متوجسين أو مرتبكين بسبب هذه الوحدة المنتشرة. فالكاتب الألماني “غوته” والذي حَظِيَ بالكثيرِ من الأصدقاءِ في حياته، ثارَتْ ثائرتُهُ في لحظةِ غضبٍ قُبَيْل وفاته وقال: “لم يفهمني أحدٌ قط كما ينبغي، ولم أفهم أحداً كما ينبغي، ولم يفهم أي أحد أي شخص آخر”. ثورة غضبه كانت مفيدة، خصوصاً من رجلٍ عظيم كـ “غوته”. وجود درجة من التباعد بين الشخصيات وحالة اللاتفاهم المتبادلة ليست علامة على أن الحياة سلكت بنا مسلكاً خاطئاً، فهذا ليس خطأنا، بل كان حرياً بنا أن نتوقعه بادئ ذي بدء، وحينما نفعل ذلك ستنهلّ علينا الفوائد:

عندما نتقبل حالة الوحدة، فإننا نصبح مُبْدِعِين، فعلى سبيل المثال: تُلْهِمُنَا الوحدةُ لكتابةِ رسالةٍ ووضعها في قارورة، والوحدةُ تدفعنا للغناءِ ولكتابةِ الشعرِ ولتأليفِ الكتبِ والمدونات. هذه النشاطاتُ تنْبَثِقُ من إدراكنا بأنّ الأشخاصَ حولنا لم يفهمونا بصورةٍ أفضل، قد يكون هناك من يمكنه أن يفهمنا، ولكن يَفْصِل بيننا وبينهم عوائقُ الزمانِ والمكان. يُعدُّ التاريخ الفني سجلٌ للناسِ الذين لم يحظوا بفرصةِ تواجدِ من يتجاذبون معهم أطراف الحديث بالقربِ منهم، فيمكننا استخراجُ رموزِ الحميميةِ في ثنايا كلماتِ الشاعر الروماني الذي وافته المنية في السنةِ العاشرةِ قبلَ الميلاد، أو في كلمات المغني الذي يَصِفُ حالةَ الشجنِ التي نمرُّ بها في تسجيلٍ قديم من عامِ 1963 في مدينةِ ناشفيل. تخْلُقُ الوحدةُ في دواخلنا أشخاصاً قادرين على اقتناص الفرصةِ المناسبةِ لعلاقةٍ حميميةٍ، فيما لو حصلت تلك الفرصة، فهي تُعَمِقُ الأحاديثَ التي نحظى بها مع أنفسنا. فالوحدةُ تُضْفي على شخصياتنا خصيصةً فتُمَيّزَها. فلا نجترُّ أراءً ليست لنا، بل نُطَوّرُ أراءَنا الخاصة. قد نكونُ معزولين حالياً، ولكننا أقربُ بكثيرٍ من أن نحظى بروابطٍ مثيرةٍ لاهتمامنا مع أي شخصٍ نحدِدُهُ في نهايةِ المطاف.

حتى الناس الذين نعتقدُ بأنهم لا يعانون من الوحدة، هم وحيدون في الحقيقة. فأولئك الذين لا تفارق البسمةُ محيّاهم في الوقت الحاضر، سيأتونك في أحلكِ أوقاتِ حياتِهم بعدَ تعاقبِ السنين قائلينَ بأنهم يشعرون على الدوام بأن الآخرين لا يفهمونهم فهماً كاملاً. الصداقةُ المقربةُ والتي اتسمت بالمرح في أغلبِ لحظاتِها ليست دليلاُ على أنهم وجدوا ضالتهم، بل هي دليلٌ على اليأسِ الممتدّ الذي يجعلهم يخفونَ حقيقةَ وحْدَتِهم غير القابلةِ للإصلاح. يورثنا شعورُ الوحدةِ شعوراً رائعاً ومغرياً بطريقةٍ غريبة، فيوحي لنا بأننا أكثر من مُجَرّدِ أنماطِ عاديةِ تستوعبها التعاملاتُ الاجتماعيةِ، ولا شك في أن ذلكَ مدعاةٌ للفخرِ، والاحساسُ بالعزلةِ في الحقيقة كما نظنُ – شعور يمنعنا من أن نشعر بخوفٍ من الغطرسة-  دليلُ عمقِ في شخصيةِ الانسان. فعندما نعترفُ بشعورنا بالوحدة، فنحن نُوَقِعُ على عضويتنا لناديٍ يضمُّ أناساً تعرفنا عليهم من خلالِ رسوماتِ ادوارد هوبر وقصائدِ الشاعر شارل بولديير وأغاني ليونارد كوهين. يمكننا أن نَلِجَ تجربةً عظيمةً وطويلةً كأشخاصِ يعانون من الوحدة؛ وعجباً نجد أنفسنا محاطين بالرفقاء. الشعورُ بالوحدةِ الدائمةِ والثابتةِ أفضل من المعاناةِ مع التنازلاتِ في مجتمعٍ كاذبٍ غالباً فالوحدةُ بكلّ بساطةٍ ثمنٌ قد ندفعه لتَمَسُكِنا بأرائنا الصادقةِ والطموحةٍ لِما يجبُ على الرفقةِ أن تكونَ عليه.

4- ذكرتَ في كتابك “هندسة السعادة المعمارية”: “في الحوارِ مع الألم، تكتسبُ أغلبُ الأشياءِ الجميلةِ قيمَتُها”.  وقلتَ في كتابك ” كيف يمكن لبروست أن يغير حياتك” بأننا لا نتعلمُ شيئاً في حياتنا بالطريقةِ الصحيحةِ إلا إذا حدثت مشكلة أو إذا واجهنا الألم أو إذا تعثَرَتْ أحلامُنا. نحن نقاسي، وعليه تبدأ أفكارُنا بالخروج من مخبأها. وقُلتَ في كتابك “دورةُ الحُبّ”: “أفضلُ علاجٍ للحب هو أن تتعرّفَ على المحبوبِ أكثر”. وذكرتَ في عددٍ من مؤلفاتكَ الأخرى، بأننا نبحثُ في الواقع عن المعاناةِ المألوفةِ في الزواج لا عن السعادة. يبدو لي أن كل شيءٍ يُعزى إلى لألمِ والمعاناة، وهذه نظرةٌ سوداويةٌ للحياةِ لأننا نلهث وراء السعادةِ بطريقةٍ خاطئة. فهل نتلذذُ بالمعاناة؟ هل المعاناةُ هي ما سنحصلُ عليه كثيراً في هذه الحياة؟ وإذا كان هناك ما يسمى بالحب والسعادة في هذه الحياة، ما هو السر في تحقيقهما من وجهة نظرك؟
قد لا تفيدنا بعضُ الأفكارِ غيرِ المفيدةِ في البحثِ عن الراحةِ النفسيةِ أكثرَ من الافتراضِ بأن هدفنا الأساسي يجب أن يكون التحصّل على حالةٍ من الرضا التام. لعل حلمُ الوصولِ إلى الكمالِ والذي يصيب المجتمعات المتقدمة أحد أكثر الأحلامِ جمالاً وقبحاً.

         فعلى مرّ السنين، كنا أذكى من أن تَخْدَعُنَا كلمةٌ على غرارِ السعادة. فكلّ مساعينا في الحياة -من زواجِ، وإنجاب أطفالٍ، وحصولٍ على وظيفةٍ، وانخراطٍ في السياسة- كانت محمية بسبب التشاؤم الذي كان يلوح في أفقِ احتمالاتِ حدوثه من عدمه. استَوْعَبَتْ الديانةُ البوذيةُ أن جوهرَ الحياةِ عبارة عن الألم؛ كما أصرّ الإغريق على فكرةِ الأساس المأساوي في كل تصورٍ بشري; كما أن الديانة المسيحية وصَمَتْ كل واحدٍ منا بالخطيئةِ الأصلية.

أنشأ القديس أوغستين هذه الفكرة في يوم سقوطِ الامبراطورية الرومانية، حيث تُصرّ فكرة “الخطيئة الأصلية” بقوةٍ على أن الانسانَ مخلوقٌ معيبٌ في أساسه وليس مصادفةً، فنحن نعاني ونشعرُ بالضياعِ والتِيْه ومثقلون بالهموم نَنّزِعُ إلى اتخاذِ مواقفاً دفاعيةً، ونضيّعُ مواهِبَنَا ونرْفُضُ الحُب ونفْتَقِرُ إلى التعاطفِ والتسامحِ وميّالون للنكدِ والهوس، ونُضْمِرُ الكُرْه؛ فهذهِ ليست مجرّدُ صفاتٍ صغيرةٍ يمكن التغاضي عنها، بل هي صفاتٌ أصيلةٌ لا يمكننا التخلصُ منها. نحن مخلوقاتٌ واهنةٌ تَعَرَضَتْ للطردِ من جنّةِ عَدْن، لسنا نحن فقط من طُردنا من الرحمة، بل كلّ الأعراقِ البشريةِ – ليتردد صدى العبارة اللاتينية “الخطيئة الأصلية”. لا يوجدُ ما يمكن وصْفُهُ بصفةِ الكمالِ في محيطِ البشرية، حتى لو لم نعتقد بصحة منطق أوغستين، سَنَخْلُصُ لنفس النتيجة: لا يوجد أدنى بصيصُ أملٍ لأن نكون طبيعيين أو قنوعين للأبد. ولا يجب حَمْلُ هذا محملَ العقوبةِ التي تترّصّدُ بنا، بل يجبُ أن نشعرَ بأنهُ اعفاءٌ منَ الحِمْلِ الذي أثْقَلَ كاهِلَنَا وامْتَدّ مائتي سنة من إيمانٍ ثَبَتَ أنه فُرِضَ علينا على أملِ التقدمِ والوصولِ للسعادةِ الخالصة. وبالتالي، قد لا يكون هناكَ حلول ولا أيّ دافعٍ ذاتي من أي نوعٍ قد يزيل هذه المشاكل مجتمعة، ولا يعني هذا أنه لا يمكننا احراز أي تقدم. ما نهْدُفُ إليه في أفضلِ الحالاتِ هي المواساة، كلمةٌ لم تحظى بشهرةٍ واسعةٍ ولكنها ذاتَ قيمة. فلا تعني كلمةُ المواساةِ العلاج، بل تحْمِلُ معنى أن الحياةَ ليست مشفى للمرضى، بل نُزُل للإقامة فيه. ومع ذلك يُقَدّمُ هذا النُزُل رعايةً من نوعٍ ما، وتخفف من الأعراض التي نعاني منها بشكلٍ ملحوظ. شيئانِ اثنانِ يقدمان لنا المواساة على وجه الخصوص: التفَهُّم والرفقة، أو تفهمُ ماهيةِ المشاكل التي تواجهنا، وأن نعلمَ أننا لسنا وحيدين فيها. نحتار غالباً مما نتعرضُ لهُ من ابتلاءات، فلا نسبر أغوارَها لنَفْهَمَ مبدأها ومنتهاها، وماهي علاماتها، ولأي مدى قد يطول بنا هذا الكَرَب. لا نزعم بأن الألم سيختفي وكأنهُ لم يَكُن بمجرد فهمنا لمشاكلنا، ولكنّ هذا الفهم يساعدنا على تقليصِ مدى الخوف، وتفاقماتِ المشاكلِ الثانوية. فعلى الأقل نعرف من أين تحيق بنا تلْكُمُ المشاكل، وماهي الأسباب ورائها، فليس علينا أن نستسلم للخوف، ولا نحتاجُ لأن نَشْعُرَ بأن هناك عقوبةٌ تتقصدنا لعملٍ سيءٍ ارتكبناه، بل علينا أن نحوّل الألم إلى علم. نستطيع أن نكْتسِبَ المفرداتِ التي تُسَاعِدُنا في التعبيرِ عن ِآلامنا، ففي كل مرةٍ تتوسعُ اللغةُ لتُعَرِّف لنا علةً جديدة، فإن جزءٌ من معاناتنا يضْمَحِل، فكم هي كريمةٌ اللغةُ البرتغالية التي أكرمتنا بمفردة “الحنين” لتصوّر شعور اختلاط الحزن بالفرحِ للتعبير عن التَوْقِ لشيءٍ جميلٍ ولّى بلا رجعة، أو اللغة الألمانية التي وهبتْ لنا مُفْرَدَة “الذعر في اللحظة الأخيرة” لنُعَلِّمَ بها صنوفاً شتى من التوتر الذي يحيق بنا حينما نُدْرِكُ أننا وصلنا لخريفِ العُمْرِ ونَطْمَعُ في تحقيقِ مالم نُحَققه.

حينما نعرف أننا لسنا الوحيدين الذين نمرُ بمصاعبِ الحياة، فإن ذلك يُخَفْفُ عنا الكثير. فالمناخ العام في المجتمع يكون قاسي في تفاؤله غالباً؛ فما يراه الناس من ظاهرِ حياتنا أو حقيقةَ مانحنُ عليه لِنُخْفي عذاباتنا التي نقاسيها سراً. يعترينا الشعورُ بالرضا في حال تجلّت لنا بوادرُ مفادها أن الآخرين يقاسون الندمَ والحيرةَ في الخفاء، فمعاناتنا ماضيةٌ في طريقها، ولا نحتاج لأن نضيفَ إلى كمّ المرارةِ التي نقاسيها شعورَ الارتياب. ليس من عاداتنا أن نُظهرَ عَيْنَ الرضا عن كل شيء، أو نكون مُتَعقّلين في كل شيء، ويوجد أسباب قوية لافتقارنا لعنصر الموازنة. لدينا تاريخٌ معقد، ونتوجه نحو الهاوية في نهايةِ المطاف، نحن ضعفاء في وجه الخسائر المدمرة، والحب عندنا لا يمضي بسلامٍ كلياً، والهوّة بين آمالنا وواقعنا ستصبح غائرة. وفي مثل هذه الحالات، ليس هناك أي وجاهة في السعي وراء العقلانية، فيجب علينا العمل على تحقيقِ علاقةٍ حكيمةٍ ومتوقدة ومتزنةٍ لجنوننا المتشعب، أو يمكن لنا أن نطلق عليه مصطلح “الجنون العاقل”، يتميز الجنون العاقل عن الجنون العادي بقدرته على النقد والفهم الصحيح والدقيق للأمور، وإن لم تكن واضحة بشكل جليّ لهم في البداية.

فلعلهم ليسوا متزنين بصورةٍ كاملة، ولكن ليس لديهم تلك الحماقة التي تُمْلي عليهم أن يعيشوا حياتهم بصورةٍ طبيعية. فيمكنهم أن يعترفوا بكياسةٍ بالغة – من دون أن يحط ذلك من قدرهم- بأنهم متفردين جداً من عدةِ وجوه. فهم لا يحيدون عن الطريق ويختفون عن ناظرنا حينما توقظهم أحزانهم ليلاً، أو حينما تجتاحُهُم نوباتُ التوتر، أو حينما يغزو الحسد قلوبَهم، ويسخرون من مأساتهم كبشر في أحسن أحوالهم. يُقْدِمُون على تعريةِ مخاوفهِم وشكوكهِم وشوقهِم ورغباتهِم وعاداتهِم التي لا تَمُتّ للقصة التي نحبذ إخبار أنفسنا بها عن العقلانية. وليس لديهم استعدادٌ لعرضِ اعترافاتٍ جاهزةٍ ليتَخَلَّصوا من مآزقهم، أو ليَظْهَرُوا بمظهرِ غريبي الأطوار.

ولكنهم بكل بساطة تشرّبوا مفهوم اللامعقولية في أن يكونوا معقولين كل الوقت. فيحذرون الآخرين مسبقاً وعلى قدر استطاعتهم، بما قد يحدث حولهم وما قد ينطوي عليه، ويعتذرون فوراً عن سقطاتهم في أقرب وقتٍ حينما يتبينون الخطأ بأنفسهم. فهم يُقَدَمُون لأصدقائهم ورفقائهم دليلاً دقيقاً لجنونهم، وهذا من أعظمِ ما قد تجودُ بِهِ نفْسُ المرْءِ لأيّ شخصٍ قاسى المرارةَ معه. فالمجانين العقلاء الذين يعيشون بيننا ليسوا بفئةٍ خاصةٍ من المضطربين عقلياً: بل يُقَدِمُون نموذجاً ممكناً لأكثرِ الكائناتِ البشريةِ تطوراً ونضجاً.

5-نوهتَ في محاضرتك “عن التشاؤم” باستعارات من الفيلسوف الروماني “سينكيا” بأن التفاؤل مصدرُ الغضبِ وخيباتِ الأمل. حيث يعتقدُ المتفائلُ أن العالمَ يجب أن يكونَ مثالياً وخالياً من البؤس وما إلى ذلك. وبناءً على هذا المعتقد، ترى بأن التفاؤل غير صحي ويجب تجنبه قدر الإمكان لنحظى بحياة جيدة. وفي المقابل ترى أن التشاؤم أمرٌ صحيّ وجيد. فاستحضار فكرة الموت – مثلاً-  في الأذهان أمرٌ محمودٌ لنعيد ترتيب أولوياتنا. من وجهة نظري الشخصية أرى أن هذه الفكرة مفيدةٌ جداً، ولكن ماذا عن أولئك الذين يعانون أصلاً من حالاتِ الضغطِ والتوترِ أو الاكتئابِ وهَلُمّ جراً؟ فهل يُحَقِقُ التشاؤم لهم ذات المغزى؟

المتشائمُ شخصٌ يَفْتَرِضُ من البداية وبكل اتزان، ومتسلحاً بقدرٍ كبيرٍ من المبرّرات، بأن الأمور قد تؤول للأسوأ في كل مناحي الحياة تقريباً. التشاؤم أحد أكبر مصادر الرضا والصفاء النفسي للإنسان على الرغم من أن الفكرة قد تبدو غريبة. والأسباب كثيرة: نادراً ما تنتهي العلاقات بزواجٍ هانئ لعقلين وقلبين كما تريدنا الرومانسية أن نتوقع، كما أن الجنس دائماً ما يخلق التوتر والشوق، والمساعي الإبداعية غالباً مات كون مؤلمة لما تحمله من تنازلات ورتابة، وأي وظيفةٍ مهما كانت مغرية ستكون مثيرةً للسأمِ في أغلبِ تفاصيلها; والأطفال سيبغضون أباءهم على الدوام، ولكن حسنوا النية من البالغين سيحاولون أن يكونوا عكس ذلك. أما السياسة، فقد أثبتت أنها فوضوية ومليئة بالمساومات التي ما تلبث أن تنتهي بالمشاكل. يعتمد شعورنا بالرضا في الحياة على توقعاتنا بشدة. فكلما زادت توقعاتنا، كلما زاد الحنق، ومشاعر المرارة، وخيبات الأمل، والشعور بالاضطهاد. تجتمعُ قوىً كثيرة في مجتمعنا لتُثِيرَ أمالنا بطريقةٍ غير عادلة. بُنيت ثقافتنا التجارية والسياسية بكل أسى على صناعة الوعود من سنياريوهات بعيدة الاحتمال. اعتمدت هذه القوى على ميل عقولنا الفطري، على الرغم من خطأه، للاعتقاد بأن امتلاك الأمل والطيبة هو مفتاح السعادة. المتفائل والمتشائم كليهما يتمنيان أن تأخذ الأمور في الحياة منحى جيد على قدم المساواة. ولكن إدراك بأن الأمور قد تسوء، يجعل المتشائم أكثر براعة في ضمان النتائج الجيدة التي يحاول كلٌّ من المتشائم والمتفائل الحصول عليها في النهاية. إن ذلك المتشائم الذي لم يتوقع أن يحدث شيء جيد أبداً، هو من يضحك في نهاية المطاف.

6-ذكرتَ في كتابك “لِمَ ستتزوج الشخص الخطأ؟” بأن الشخص الذي لديه القدرة على التفاوض على اختلاف الأذواق بذكاء، والجيد في التعاطي مع اختلاف الرأي، والمتسامح مع المختّلِف، هو الشخص المناسب لنا. وهذا ما يُشار إليه عادةً بالتوافق. ولكن عملياً، هذه الاستراتيجية لا تعمل بطريقة جيدة، خصوصاً على المدى البعيد. فما الذي نفتقده من الناحية العملية؟

يهدف تفكيرنا الجمعي حول الحب إلى تناول مشكلة بداية أي علاقة. فالحب عند الرومنسيين يعني “البحث عن الحب”. وما نطلق عليه قصة حب بكل سرور لا يعدو كونه في الحقيقة سوى بداية علاقة الحب. ولكن الحقيقة بأن مصاعب الحب البطولية تهتم بكيفية المحافظة على الحب على المدى البعيد، ففي وجه العقبات التي لم تُناقش في كثيرٍ من الفنون، كذهاب الألق وعدم توافق جداول العمل واختلاف الأفكار حول ايتيكيت الحمام والمحادثات مع الأحباء القدماء وتراجع الشهوة ومتطلبات إدارة الأسرة ورحلات العمل التي تتعارض مع المناسبات السنوية والسؤال حول إنجاب الأطفال من عدمه ومتى الانجاب في حال رَغِبَا بذلك، واختلافِ أساليبِ التربيةِ ومشاكل أهل الزوج والزوجة والضغوطات الاقتصادية. لمناقشةِ هذه المصاعب تتطلب علاقة الحب على المدى الطول تطوير مجموعة من المهارات التي يسكت عنها المجتمع غالباً مثل: الصفح عن الأخطاء والاحسان وامتلاك حس الفكاهة والخيال، ورؤية الآخر على أن المحبوب الأحمق (عوضاً عن اعتباره مجرد شخص مخيب للآمال). يتضمن الحب مع مرور الوقت السعي لفهم ما يحاول قوله الآخر وقت الغضب- حتى لو كان ما يتلفظ به مزعج. فقد يساعد ذلك في اكتشاف مكانة وأهمية الأعمال المنزلية، أو تَقَبُّلِ الأمر الحزين الذي يقول بأن العلاقة الجيدة قد تتطلب التضحية ببعض الأحلام المتعلقة بالعلاقة الحميمية. قد نضطر للاعتذار حتى لو لم نكن على خطأ حقاً، وقد نجد أنفسنا مجبرين على قول بعض الكذبات البيضاء وربما بعض الكذبات الكبيرة في بعض الأحيان؛ وسيتعيّن علينا أن نواجه حقيقة أننا سنكتشف أوجه قصور قاتمة في الشخص الآخر وهم يسكنون وجداننا. علاقة الحب الواقعية والشائكة على المدى الطويل على نقيضِ ما تَقُولُ بِهِ الرؤية الرومانسية عن حالة الحب. فالحب كالكارثة التي تنكَشِفُ أمام أعيينا طبقاً لمعايير الرؤية الرومانسية. وبعيداً عن هذا التفسير، الحب هو ما يحدث بصورة طبيعية عندما يُتبَادل الحب بين اثنين، وحينما يعيش الناس العاديين جنباً إلى جنب لفترةٍ طويلة. فهذا جزءٌ مما يجب أن تظهر عليه العلاقات الطبيعية على مر السنون، هذا ما يحدث حينما ينجح الحب.

7- هل تعتقد بأن الفن أضرّ بمفهوم الزواج منذ انطلاق الحركة الرومانسية؟

الرومانسية حركةٌ فنيةٌ ومجموعةُ من الأفكارِ التي بدأت في أوربا في منتصفِ القرن الثامن عشر وغزت العالم حتى هذه اللحظة. فأصبح من الصعوبةِ بمكان أن تناقش أي قضية دون مواجهة هيمنة الموقف الرومانسي منها. الثقة في المشاعر والغريزة هي جوهرُ الموقف الرومانسي، وهي تمثل الخطوط الارشادية البارزة للحياة، بالإضافةِ إلى الشكوكِ المصاحبةِ للتفكيرِ العقلاني والتحليلي. وفيما يتعلق بالحب فهذه الفكرةُ تلهم الاعتقادَ بأن المشاعرَ الجياشةَ ستقودنا بكل اقتدار للشريكِ الذي سيوفرُ لنا خمسين سنة من السعادةِ الحميمية. كما أنها ستوفرُ العلاقةَ الجنسيةَ كأقوى تعبيرٍ عن الحب (وهذا الموقف الذي سيجعل مشكلة العلاقة الحميمية خارج إطار الزواج أمراً كارثياً). وفيما يتعلقُ بالعمل، تقودنا الروحُ الرومانسيةُ إلى الايمانِ بالعبقريةِ التلقائيةِ والثقة بأن الناس الموهوبين سيجذبون المهن إليهم. وفيما يتعلق بالحياة الاجتماعية، تقفُ الرومانسيةُ موقف الضد من الكياسةِ والتوافقِ في صالحِ المجاهرة بالرأي والصراحةِ في الحديث. كما تفترضُ الرومانسيةُ أنّ الأطفالَ أنقياءَ وطيبين، وأنّ المجتمع هو المسؤول الوحيد عن فسادِهِم. تبغضُ الحركة الرومانسية المؤسسات، وتًبَجّلُ المنبوذين الشجعان الذين يقاتلون ببسالةٍ ضد الوضع الراهن، يقاتلون من أجل التغيير بدلاً من الرتابة. تقف الروح الرومانسية ضد التحليل، فتؤمن بأن هنالك ما يُسمى بـ ” المبالغة بالتفكير” (عِوَضاً عن قولنا التفكير السيء)، ولا تحبذ المنطق والحوار. والموسيقى هي الوسيلة الفنية المفضلة لها. تستاء الرومانسية من كل ما هو رتيب وعادي وتتوق لما هو مميز ونادرٌ وحصري. إنها تنحى منحى الثورة عِوَضاً عن التطور.

دعوة إلى الرومانتيكية يوجين ديلاكروا، لوحة " الحرية تقود الشعب"، 1830م
دعوة إلى الرومانتيكية
يوجين ديلاكروا، لوحة ” الحرية تقود الشعب”، 1830م

تزدري الحركة الرومانسية التنظيم، والدقة، والانصياع، والبيروقراطية، والصناعة، والتجارة، والرتابة. فكل هذه الأمور بالطبع (وباعتراف الحركة) ضرورية، ولكنها (كما قلنا بكل وضوح) “غير رومانسية”. فهي املاءاتٌ بائسة فُرِضَت علينا من واقع وجودنا التعيس. لوحة الفنان الفرنسي يوجين ديلاكروا الأسطورية، تُمَثّلُ الرمزَ الأعلى للموقف الرومانسي: الحرية تقود الشعب.

تمتازُ الحركةُ الرومانسيةُ بالحكمة، ولكن رسائلها المحورية أصبحت عائقاُ كارثياً في حياتنا في كثيرٍ من النواحي. فهي تدفعُنا بكلّ حزمٍ لِنَسْلُكَ اتجاهاتٍ لا فائدةَ منها، وتحرضنا على التمسكِ بآمالٍ غيرِ واقعية، وتجعلنا لانطيقُ صبراً مع أنفسنا، وتُثَبِطُ التأمل وتعمي أبصارَنا فنخاطر ونتبع غرائزنا في الحب والعمل، وتجعلنا أبعد مانكون عن واقعنا، وتدفعنا للنواحِ على ظروفٍ طبيعية في الوجود. المهمة الكبيرة التي تقع على عاتقنا في عصرنا هذا، هي فك المفاهيم الرومانسية، وإحلال مفهومٍ آخر يمكننا أن نسميه – من باب التماثل والدقة التاريخية- بالكلاسيكية.

8- واجَهَتْ بعض المجتمعات الحداثة، بما فيها الأفكار الرومنسية، في وقتٍ لاحق دفعةً واحدة. فكيف سيؤثر ذلك على مؤسسة الزواج؟ هل سيكون هناك أي نتيجةٍ مختلفةٍ مقارنةً بأوربا؟

 لقد أصبح عصيّاً على الكثيرِ منا أن يعرفَ ما هو الجدوى من الزواج. العوائقُ في الزواجِ جليّةٌ ومحكمة. الزواج نظام قانوني أقرّته الدولة، ومرتبطٌ في الأساس بأمورٍ تتعلقُ بالممتلكاتِ والنسلِ والاستحقاقاتِ التقاعدية. يَهْدُفُ هذا النظام إلى التقييد والتحكَم في كيفية شعورِ شخصين تجاه بعضهِما البعض، بعد خمسين سنة من الآن فأكثر. فيستحيلُ هذا النظام إلى إطارٍ باردٍ وغير مفيدٍ ومكلفٍ ومتطفلٍ على ما سيكون دائماً وأبداً مسألةً خاصةً بالقلب. لا نحتاج لشهادةِ زواج لا ظهارِ عاطفتنا واعجابنا. وبالطبع فإن فَرْض الالتزام لن يزيد إلا من خطرِ اضمحلالِ الصدقِ والأمانةِ في نهايةِ المطاف. فإذا لم تنجح علاقةُ الحب هذه، سيجعل الزواج –ببساطة- عملية انفصال هاتين الحياتين المرتبطتين عملية صعبة، وسيطيل أمد المعاناة لاتحاد يعاني من الخلل. فالحب إما أن ينجح أو لا- ولن يساعد الزواج في كلا الحالتين مقدار ذرة. وبناءً على ذلك، فإنه من المعقول جداً الافتراض بأن تجنب الزواج تماماً هو الخطوة الناضجة، والحديثة، والمنطقية، مع ما يحمله الزواج من هراء. محاولتنا الدفاع عن الزواج، ليست إلا محاولةً بائسةً مبنيةُ على فكرةِ أنهُ أمرٌ حان وقت حدوثه. فمن الواضح أن الزواج عمليةٌ مرهقة، ومكلفة، ومحفوفة بالمخاطر، ومرحلة قديمة تماماً. ولكن هذا هو المغزى، فالمنطق وراء الزواج أن يُقَدِّمَ سجناً يجعل عملية الخروج منه صعبة ومحرجة لمن هم بداخله. جوهرُ الزواج هو في أن يُقَيّد معصميك ليحبط إرادتك، أن يضع عقباتٍ عاليةً ومكلفةً في طريقك ما أن تحاول الانفصال، وفي بعض الأحيان ليُجْبِر هذين الشخصين التعيسين أن يبقيا في صحبة بعضهما البعض لأكثر مما يتمنيان، فلماذا نفعل ذلك؟ نخبر أنفسنا ابتداءً بأن الله أراد لنا أن نستمر في مؤسسة الزواج، ولكن حينما نرى أن يد الإرادة لا تلوحُ لنا في الأفق كما كانت، نعتقد بما لا يدع مجالاً للشك بأن الزواج صعبٌ إلى درجة رغبتنا في التراجعِ عنه. نحرصُ على أن ندعو الجميع لنثبتَ شيئاً واحداً، لنصرّح لهم أننا سوف نلتزم بهذه العلاقة. نقوم عمداً بدعوة أقربائنا المسنين والذين لا يروقون لنا حتى، ليسافروا مسافةً طويلةً ليكونوا معنا. نملك القدرة على خلق مواقفاً محرجةً لا حصرَ لها، فهلاّ كنّا قادرين على الرجوعِ في ذلك، والاعتراف بأنه ربما قد أخطأنا في أمرنا هذا. وفوق هذا كُلُه، حتى لو كنا قادرين على فصل الأمور عن بعضها البعض، فإن الزواج يتضمن أموراً اقتصاديةً وقانونيةً عميقةً ومتشابكة. سيتطلّبُ هذا الأمرُ كتيبةً من المحاسبين والقانونيين ليحققوا لنا هذا الانفصال. يمكن حدوث هذا الأمر بالتأكيد، ولكنها ستكون حرباً طاحنة. ولكأننا فهمنا بطريقةٍ ما أن ثمةَ أسباباً وجيهة -على الرغم من غرابة ذلك- في تعقيدِ الخروجِ من علاقةٍ علنيةٍ طويلةَ الأمد أكثر مما هي عليه.

 

الدافع الأول: خطر الاندفاع

يُعْتَبَرُ اختبار الخطمي أحد التجارب التي حظيت بحفاوةٍ كبيرةٍ في تاريخِ علمِ النفس، والذي صُمم لقياسِ قدرةِ الأطفالِ على تأخيرِ غريزة الاشباع – ومن ثمّ قياسِ تبعاتِ القدرة على التفكير طويلِ الأمد. قُدّم لبعضِ الأطفالِ البالغين من العمرِ ثلاث سنوات حلوى الخطمي، وعُرض عليهم قطعتينِ إذا أمسكوا عن أكلِ القطعةِ الأولى لمدةِ خمسِ دقائق. اتضحَ أنّ أغلبَ الأطفالِ لم يستطيعوا الالتزام بمدة الخمس دقائق. فالفائدة الأقلُ والأسرعُ والمتمثلة في التهامِ قطعةِ الخطمي الأولى أمامهم، كانت أقوى من استراتيجيةِ الانتظار. والمهم في التجربة، أن هؤلاء الأطفال عاشوا حياةً مُحبطة بسبب عدم قدرتهم على ضبطِ اندفاعهم، وكانت مخاوفهم أسوأ بكثير من الأطفال الذين كانوا أفضل في كبحِ جماحِ الرغبةِ الآنية من أجل رغبة مؤجلة.

وعوداً على بدء، نجد أن العلاقات لا تختلف كثيراً عن هذه التجربة، حيث نجد الكثير مما يتعلق بالزواج يرتبط بالرغبة الآنية والمؤجلة. عدم أكل حلوى الخطمي، ولكن بالمقابل حلول كالفرار والبحث عن الحرية والهرب، أو قد يكون في تغيير طاقم العمل. فقد نكون حانقين لدرجة رغبتنا في تغيير ما هو آني بصورةٍ عاجلة. نتحمس لشخصٍ غريب، لدرجة رغبتنا في هجر شريكنا الحالي مرةً واحدة من أجله. وفي خضم محاولتنا للخروج من هذه المعمعة، نجد أن كل الطرق مسدودة. قد تكلفنا هذه المحاولة الكثير وقد تتسبب لنا بالحرج وستأخذ من عمرنا الكثير. يعتبر الزواج أكبر مثبطٍ للعزيمةِ على الاطلاق، والتي أنشأها ضميرنا لكبحِ ذواتنا الشبقة والساذجة والتائقة. ما نحاول أن نعترف به أساساً بإذعاننا لهذه الاملاءات هو تبصرنا بأننا (كأفراد) غالباً سنقوم باتخاذِ خياراتٍ غير مناسبةٍ تحت وطأة الاندفاع القوي قصيرِ الأمد. إننا نعزل أنفسنا بمحض ارادتنا، لأننا نقرّ بالفوائد طويلة الأمد؛ إنها الحكمة التي تتجلّى بعد مرور العاصفة بسلام.

يستمر الزواج بدون إشارة دائمة لمزاجات أبطاله، فالموضوع لا يتعلق بالمشاعر. بل إعلانُ نوايا مفادُهُ بأن الزواج منيع ضد رغباتنا اليومية. الزواج الطبيعي هو الذي يقضي أصحابه وقتاً ملحوظاً يتخيلون أنهم ليسوا متزوجين. ولكن الهدف من الزواج أن يجعل مثل هذه المشاعر غير ذات أهمية. إنها طريقة لتحمينا مما نرغب به، والأهم أن نعرف (في لحظاتٍ نكون فيها عقلانيين أكثر) أننا لا نحتاج ذلك أو نرغبه.

 

9- هل نحن نتطلع حقاً إلى معاناةٍ مألوفة في الزواج، عوضاً عن السعادةِ؟ فقد ذكرتَ في كتابك “دورة الحب” ما يلي: “لا يوجد شخص قادر على تدميرنا كما يفعل الشخص الذي تزوجنا منه”. أرجو منك شرح جزئية كيف يمكن لشيء كهذا أن يحدث؟ ولم يتزوج البشر ابتداءً إن كانت هذه أحد النتائج؟

تساهمُ العلاقات –في أحسن أحوالها- في عمليةِ تطويرنا ونضجنا واحساسنا بالكمال. نميلُ للأشخاصِ الذين يَعِدُوننا بأن يشحذوا هممنا بالاتجاه الصحيح غالباً. ولكن عملية النضج التي نمر بها قد تكون مؤلمة ومعقدة. نقضي فترات طويلة ولربما تمتد لعقود في لوم الشخص الآخر على المشاكل التي تواجهنا والنابعة من ضعفنا. نقاوم المحاولات التي تغيرنا ونطالبُ بكلّ صفاقةٍ من الآخر أن يحبنا ” كما نحن”. يمكن أن يتطلب ذلك سنيناً من الاهتمامِ الداعم، والكثير من الدموعِ المنهمرةِ من القلق والكثير من الإحباط حتى يمكن تحقيق تَقَدُّمٍ حقيقي. ومع مرور الوقت قد يكون بعد خوض 120 نقاش على ذات الموضوع، سيبدأ كِلا الطرفين برؤية الموضوع من زاوية الآخر. ورويداً رويداً ستتجلى لنا الرؤى من وحي جنوننا. سنجد ما نسمّي به مشاكلنا، ونتبادل مفاتيح شخصياتنا لعبور مناطقِ النزاع، ويغدو التعايش معنا أسهل بقليلٍ من ذي قبل. وللأسف أن تلك العِبَر المهمة – الدروس التي تساهم في تراكم مخزوننا من الحكمة وتُكمّلنا كما الآخرين- تكون مؤلمةً غالباً. يكمن السبب في إنها تجعلنا في مواجهةٍ مع مخاوفنا، وتجبرنا على تفكيكِ دروعنا التي نحتمي بها، وتجعلنا نشعرُ بالذنبِ حقاً بسبب قابليتنا على جرحِ الآخر، ونعتذرُ بكل صدقٍ عن أخطاءنا، ونتعلم كيف نتحمل عيوب الطرف الآخر. من السهولةِ أن نَظْهرَ بمظهرِ الطيبةِ والعفويةِ حينما نواصلُ الحصولَ على علاقاتٍ جديدة. وما يظهرُ للآخرين مع مرورِ الوقتِ على أساس ما أحرزناه من التقدم داخل ذواتنا هو ما يُعَرّفُ بحقيقتنا عند الآخرين. تزيد فُرَصُ التغييرِ بصورةٍ مضطردةٍ حال ثباتنا، وعدم استسلامنا لإغراءاتِ الهربِ لأُناسٍ قد يقْنِعُوننا زيفاً بأننا لا نعاني من خطبٍ ما. تتطلّبُ العديد من المشاريع الجديرة بالاهتمام تضحياتٍ هائلةٍ من كِلا الطرفين، وحجرُ الأساسِ في هذه التضحياتِ أنها تُعطى غالباً لمن لديه الاستعداد لفعلِ ذاتِ الشيءِ معنا. الزواج وسيلةٌ يُسْمَحُ للناسِ بأن يتخصّصُوا ربما في كسبِ المالِ وإدارةِ أمورِ المنزل. وهذا قد يكونُ مفيداً لأقصى درجة، ولكنه يحمل في طياته مخاطراً أيضاً. يحتاجُ كلّ شخصٍ (خصوصاً في حالِ وجودِ أحد الشريكين في المنزلِ بلا عمل) لتأكيدٍ بأنّ لا يتعرضَ لاستغلالٍ نتيجةَ تفانيهم فيما بعد. أسّسَ الزواجُ الظروفَ التي من خلالها نستطيع أخذَ قراراتٍ قيّمةٍ فيما يخص حياتنا، والتي قد تحفها الكثير من المخاطر في حال اتخذنا هذه القرارات من دون ضماناتِ مؤسسةِ الزواج. النقاشاتُ تحت مظلةِ الزواجِ تغيرتْ بمرورِ الوقت، فلم تَعُدْ ترتبط بقوىً خارجيةٍ تُمْلِي علينا ما يجبُ فِعْلُهُ: كالكنيسةِ، والدولةِ، وقانونيّة شرعيته، ومبدأ القَبُولِ الاجتماعي. ما نَصُبّ جُلّ اهتمامنا عليه الآن هو البُعْدُ النفسي الذي يصوّر لنا صعوبة رمي كُلُّ ذلك وراءَ ظهورنا. فقد اتضحَ جليّاً بأننا المستفيدون بصورةٍ كبيرة (بالرغم من الثمنِ الذي ندفَعُهُ بالمقابل) من الاضطرارِ إلى التمسكِ بالتزاماتٍ مُحَددة، لأن بعضاً من احتياجاتنا الأساسية تحتاجُ إلى لَبِنةٍ أساسيةٍ على المدى الطويل. على مرّ خمسون سنةٍ مضت، كانت هناك محاولاتٍ تسّمى ببذل الجهد الذكي لتخفيف تأثير الفراق على الطرفين. أخَذَتْ التحدياتُ حالياً منحىً جديداً ألا وهو: محاولةُ تذكيرِ أنفسنا بأنَ الحلول الفورية بلا مغزى، ومحاولةُ التريث ليتسنى لنا الحصول على قطعةِ حلوى الخطمي الثانية. تقييد أنفسنا بشركائنا تحتً مظلةِ مؤسسةٍ علنيةٍ كالزواج، تجعل من تقلباتِ مشاعرنا التي لا نستطيعُ تفاديها أخفَ تأثيراً على تدميرِ العلاقة، فما نعرفه في اللحظات الأكثرَ سكوناً، يكون ذا أهميةً قصوى لنا. الهدف من الزواج أن يكون غير مُرْضي بطريقةٍ مفيدة، على الأقل في الأوقاتِ الحَرِجة. فنحن كشركاء، نتبنى على حدٍ سواءٍ مجموعةً من القيودِ على نوعٍ واحدٍ من الحرية – حرية الهرب- وذلك لنُحَافِظَ على نوعٍ آخرٍ من الحريةِ ونقويه، وهو القدرةُ المشتركةُ على النضج، وابتكار شيءٍ ذو قيمةٍ دائمة، وامكانية الاستفادة من الألم للتغير للأفضل.

10- كثيرا ما تُعتبر محاولةُ تعليمِ الشريكِ (أي نقل فكرةٍ من شخصٍ لآخر بطريقةٍ مقبولة) في العلاقة بصفتها هجوماً عليه. وما يجعلُ الأمرَ أشدّ سوءاً هو أننا نُقْدِمُ على ذلكَ حينما نشعرُ بالخوفِ من فكرةِ أننا ارتبطنا بشخصٍ أحمق. وعليه فإننا نبدأ بالصراخِ عليه، في حين يفترضِ علينا أن نكون أكثر هدوءاً عندما نحاولُ تعليمَ شريك حياتنا شيئاً ما. وهذا يتطلّب تحكماً كبيراً في مشاعرنا، حتى أنه قد يبدو عملاً مستحيلاً، لأننا نشعرُ غالباً بضرورةِ اعطاءِ هذا الدرس حينما يستَفِزُنا الغباء، وعدمِ الاهتمام، والفظاظةِ وهلمّ جرّاً. فكيف يمكننا إدارةُ عملية التعليمِ هذه بطريقةٍ صحيحة؟

يعتبرُ التعليمُ والتعلّمُ من المهاراتِ العاطفيةِ التي نحْتَاجُها لنحيا بين بنو البشر. فإذا ما فُهِمَ التعليم بطريقةٍ مناسبة – وهو ما نقصد به محاولةُ نقلِ فكرةٍ مهمةٍ من شخصٍ لآخر- فإنه يُشكّلُ شيئاً غايةً في الأهميةِ لأيّ زوجين، فينتمي الأفرادُ في العملِ أو الأسرةِ لبعْضِهِمُ البعض أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى. على كلُّ واحدٍ منا أن يكون معلماً جيداً بِغَضّ النظرِ عن وظيفته التي يَشْغَلُها، لما تتطلّبه حياتنا باستمرار من إيصالِ معلوماتٍ مهمة بطريقةٍ تمتازُ بالفاعليةِ والكياسةِ لتصلَ إلى عقولِ الآخرين.  ونحتاجُ أيضاً إلى التواضعِ الذي يتطلبه دورُ التلميذ; فعلينا أن نستَدْرِكَ بأننا لم نُؤتى من العلمِ إلا قليلاً، وعلينا أن نعْتَرِفَ بأنّ تعلّمَ شيئاً جديداَ أمرٌ يّشُقُّ على الأنفسِ عَمَلُه، ونحتاجُ للاعترافِ بسهولةِ لومِ المعلمِ على تقصيره عِوضاً عن مواجهةِ ما يَحْمِلُه لنا من علم.

معظمنا كُنّا معلمون غيرَ جيدين في بداياتنا، ميلُنا للانزعاج لأمرٍ بسيطٍ كعدمِ معرفةِ الشخصِ الآخرِ بشيءٍ ما، حتى لو لم نُخْبِرَهُم بذلك حقاً. تحتلّ بعضَ الأمورِ مكانةً مهمةً في داخلِ أنفُسِنا، وبكلّ بساطة، لا نستطيع تخيّل أن الآخرين لا يعلمون أهميةَ هذه الأمور بالنسبةِ لنا. نفترضُ أنهم يتعمدون مضايقتنا بأنهم لا يملكون أدنى معرفةٍ عما هو مهمٌ بالنسبةِ لنا. سيجعلُ هذا الموقف محاولةَ التعليمِ وإقناعِ الآخرِ غيرُ ناجحةٍ على الأغلب. يبدأ التعليمُ الجيدُ من منطلقِ أنّ جَهْلَ الذي نحاول تَعْليمَهُ ليس عيباً: بل إنه نتيجةً لعدم حصوله على التعليمِ المناسبِ قط. وعليه فإنّ الخطأ خطأُ من لم يُحاوِلَ أن يعمل جُهْدَهُ في إيصال أفكارِه إلى الآخرين، بعبارةٍ أخرى: هذا خطأك.

كلما أردنا من الآخرين بأن يفهموا فكرةً ما، كلما قلّت قدرتنا على تأمينِ ما يلزم من الهدوءِ، وهو ما ليس لنا عنه غنىً لو أردنا أن نحظى بفرصة شرح المعنى لهم بفاعلية. احتماليةُ عدم قُدْرَتِهِم على فِهْمِ فكرتنا بسرعة، تَهُمُنَا جداً لدرجةِ أنها قد تَقُودُنا إلى غضبٍ عارم، وهو أسوأ ما قد يحصُلُ لمن يريدُ إيصالَ درسٍ لأيّ شخص.  ما أن نصلَ إلى مرحلةِ إهانةِ ما يُمْكنُ أن نُطْلِقَ عليه طالب، عن طريق نَعْتِهِ بصفاتٍ على غرار: غبيٍ أو أبْلَه، فإنّ الدرسَ يُعتَبَرُ قد ولّى بلا رجعة.  لم يَحْصُل قط أن تَعَلّمَ أحدٌ ما عن طريقِ الإهانة. من المفارقاتِ في هذا الموضوع، أنّ المُعَلِم الجيّد هو من يَفْتَرِضُ احتماليةِ أنّ ما يُحَاوِلُ تَعْلِيمه لُطُلاّبِه لن يكون مفهوماً لهم. هذا النّهْجُ المُنْفَصِلُ والمُتَشَائِمُ هو أفضَلُ ما يُمْكِنُ أنْ يَحْصُلَ لِخَلْقِ حالةٍ من الاسترخاء، والذي يُعْتَبَرُ مَنْهَجَاً أسَاسِيّاً لنَجَاحِ العمليةِ التعليميةِ من وجْهَةِ نَظَرِ عِلْمِ أصولِ التربية. كان المعلمون الجيدون فيما مضى طلاباً جيدين أيضاً. لأنّهُم يَعُون أنّ الجَميع لَديهم الكثيرُ ليتعلموه، وكلّ أحدٍ لديه شيءٌ مهمٌ يمكنه مشارَكَتُه مع الآخرين. علينا ألا نتمنى أن نكون محبوبين لِمَا نحن عليه. الوحيد الذي يلتزم بوضعه الراهن هو الشخصُ المثالي. أما فيما يخصّ بَقِيَتُنا، فإنّ التعْليمَ والتَعَلّمَ الجيدِ، هما السبيلُ الوحيدُ لضمانِ فرصةَ تطويرِ أنْفُسَنَا إلى صورةٍ أفْضَل مما نحنُ عليه الآن.

 

11- هل تعتقد أن إفصاح الفرد عن حاجته الماسّة ونقاط الضف إلى شريكه (كأن يقول: “أنا أعتمدُ عليه”، أو “هل مازلتَ تَهْتمّ لأمري؟”، أو “أنا في حاجة إليك إلى جانبي” …إلخ) عوضاً عن التلميح بأفعال لشدّ انتباهه (مثل التصدد ونحوها) قد تُثْقِلُ كاهِلَ الشخصِ الآخر بصفتها عبءٌ عاطفي ثقيل قد تُثيرُ الذُعْرَ في نفسِه، خصوصاً عندما تكونُ العلاقة في بدايتها؟

قد يكون البوحُ والإفْصاحُ عن نقاطِ ضعفِ الآخر -عدا عن كوْنِ هذا البوحِ كارثي- الطريقُ الوحيدُ للحصولِ على التواصلِ والاحترام. قد نَصِلُ إلى لحظةٍ نتجرأُ على توضيحِ مواقِفِنا بصراحةٍ لم نَعْهَدُهَا من قبل، أن نُصَرّحَ بمخاوفنا، أن نُصَرِحَ بأننا كُنّا في أحايينَ كثيرةٍ غير جيدين، وارتكبنا الكثيرَ من السخافات. وبغضّ النظرِ عما قد يَقْذِفُهُ ذلك من رعبٍ في نُفُوسِ رُفَقَائِنا، فهذه المكاشفاتُ قد تُساعدنا في خلقِ مساحةٍ بيننا وبينهم، وإضفاءِ الطابعِ الإنساني علينا في أعينهم، واخبارهم بأن نقاط ضعفهم قد تتكرر عند غيرهم كما هو الحال معهم. وسنُدْرِك معاً بأن المساعي لتعريف ما هو طبيعي، غيّبت عن ناظرينا مفاهيمها أساسيةً عن واقعنا المشترك.  وبعبارةٍ أخرى، فإن حجر الأساس للصداقة هو الضعف، فالصداقة تُفهم بالشكل الصحيح – ليس فقط – كعملية اعجاب في المقامِ الأول، ولكن أيضاً كتبادلٍ للتعاطفِ والعزاءِ لاشكاليةِ الوجود. وبطبيعة الحال، يمكن أن يكون هناك طرق مؤسفة لمعالجة ِالضعف: كالمطالبِ العداونيةِ التي نُطَالِب الآخرين فيها أن ينقذونا من مأزقٍ ما، أو عندما نفتَقِر للقدرةِ على وضعِ حدودٍ لهشاشتنا، أو عندما نقتربُ من الغضبِ والهستيريا بدلاً من الحزن والكآبة. حالةُ الضعفِ الإيجابية، لا تنتظرُ حلولاً من الآخرين للتغلبِ على المصاعب. ندْعُوهُم ليروننا على حقيقتنا على أمل تشجِعِيهِم على تَقَبّلِ حقيقتهِم، تقبّلِ الجانبِ المظلمِ من شخصياتهم. الضعف الإيجابي سخيٌّ في حقيقته؛ إنه يأخذُ الخطوةَ الأولى في المكاشفة، فيَسْهُلُ بذلك على الآخرين أن يشعروا بالأمانِ تجاهَ المجاهرة بما تُخْفِيهِ صُدُورهم عن حقيقتهم. إنه خطرٌ في هيئةِ هديةٍ تلقيْتَها نيابة عن الآخرين. إضافةً لذلك، نجد أن لعَرْضِ نقاطِ ضعفنا طريقةً غريبةً، في الإشارةِ -بالرغم من اقرارنا بما يُسبِبُ لنا الحَرَج- إلا أنّه بعيدٌ كل البعدِ عن أن يكونَ سخيفاً أو مثيراً للشفقة. إننا -على العكس- أقوياءَ بما يكفي لنكونَ ضُعَفَاء، أن نسمح لسخافتنا، ولحماقاتنا، ولغضبنا، ولحزننا أن يظهروا للآخرين، واثقين بأن هذهِ الأحكامِ النهائيةِ لا تُمَثّلُ ماهِيَتنا.

نحن ماضون في هذه الحياةِ بجرأة، وبالرغم من عدمِ وجودِ أدلةٍ سطحية، فإنّ الجميعَ في النهايةِ قاسوا من الحياةِ ما قاسينا، فمنهم الجريح، ومنهم المضطهد، ومنهم القَلِق، ومنهم المُتَضَرّر كما هو الحال معنا. ومع ذلك، فإن افصاحنا عما نحن عليه لا يعني أننا شذّينا عن الجَمْعِ للأبد: نحن ببساطةٍ نُعيدُ تأكيدَ عُضْوِيتَنا الأساسيةِ للجنسِ البشري. إنها مأساةٌ ثانوية في هذه الحياة، مأساةٌ أن نستنزفَ الكثيرَ من وقتنا لا خفاءِ ضعفنا، في وقتٍ تكونُ مشاركةُ ضَعْفِنا مشاركةً تُحفَظ فيها كرامتنا، هي السبيلُ لنشوء الصداقةِ والحب الحقيقي.

 

12- ذكرتَ أن الحب يعني أن نكشِفَ عن مساوئ الشُرَكاءِ، وأن نُعْطِي أفضَلَ التفسيراتِ بسخاءٍ لِمَا قد يُصرّحُون بِهِ. فكيفَ نحصل على هذا، بينما نحنُ في حقيقتنا كائناتٌ خطرة؟

يتصَرّفُ الأطفالُ الصغارِ بطريقةٍ غيرِ عادلةٍ وصادمةٍ بصورةٍ مثيرة في بعضِ الأحيان: يصرخون على من يعتني بهم، يدفعون بغضبٍ عارم وعاءً من المعكرونة ذات الأشكالِ الطريفة، ويرمون شيئاً جلبْتَهُ للتو لهم. لكننا نادراً ما نشعرُ بالاستياءِ أو الجرحِ بسببِ تَصَرّفِهِم. السبب في ذلك أننا لا نفترضُ في الأطفالِ الصغارِ الدافعَ السلبي، أو النيةِ السيئة. نتَوصّلُ إلى التفسيرات التي تُؤكْد على خيريتهم. لا نعتقدُ بأنهم يفعلون ذلك لمجردِ اغضابنا. نفترضُ بأنّ سببَ ذلكَ أنّهُم يشْعُرُون بالتعبِ، أو يعانون من لثةٍ متورمة، أو أنهم غاضبون بسببِ ولادةِ فردٍ جديدٍ في العائلة. لدينا مخزونٌ هائلٌ من التفسيراتِ البديلةِ والجاهزةِ في أذهَانِنَا، ولا يَقُودُنَا سبَبٌ واحدٌ من هذهِ الأسبابِ إلى الذُعْرِ أو الاهتياجِ بصورةٍ رهيبة. هذا على عكس ما يحصُلُ مع البالغينَ بالمجمل، ومع من نُحِبُهُم على وَجْهِ الخُصُوص. ها نَحنُ أولاءِ نَتَخَيّلُ أنّ الآخرينَ يتَقَصّدوننا بأفعالهم. حينما يتأخرُ الشريكُ عن عيدِ ميلادِ أُمِنا بسببِ العمل، نَفْتَرِضُ أنهم يتَحَجّجُونَ بذلك. إذا وعدونا بأن يبتاعوا لنا معجون أسنانٍ إضافي ثم “نسوا” ذلك، فإننا نفترض أنهم تعمدوا ذلك. ربما يتلذوذن بفكرة أن يتسببوا لنا بقليلٍ من الضيق. لكن لو طَبَقّنَا التفسيرَ الذي نَجْنَحُ إليه في حالةِ الأطفال، سيَكُونُ أولَ افتراضٍ يتبَادَرُ لأذهاننا مُخْتَلِفاً جداً: ربما لم يحظوا بقسطٍ من النومِ الليلةِ الفائتةِ، ولا يفكرون بطريقةٍ واضحةٍ بسببِ الاجهاد، وربما يُعانُون من ألمٍ في الرُكْبَة، وربما يَقومون بعملِ ما يُعَادِلُ اختبارَ حدود التسامُحِ الأبَويّ.

لا يصبح سلوكُ البالغين لطيفاً أو مقبولاً بطريقةٍ سحرية من وجهةِ النظرِ هذه، ولكن دَرَجَةُ الانزعاجِ تبقى في حدودٍ ضئيلة. إنه لأمرٌ مثيرٌ أننا نعيشُ في عالمٍ نتعلّمُ فيهِ كيفَ نكونُ لَطِيفِينَ مَعَ الأطفال; فحتماً سيكون لطيفاً أكثر أن نُصْبِحَ كُرَمَاءَ تجاه الجانبِ الطفولي في داخلِ كُلّ واحدٍ منا. ليست مرحلةَ البلوغِ مرحلةً يبْلُغَ مَدَاها منتهاها; فما نسميه الطفولة (تبقى مغمورة ولكن مهمة) في حياتنا. لذلك فإن بعض من الممارسات التي نفعلها بسهولةٍ نسبياً مع الأطفال، يجب أن تستمر للأبد، لتكونَ ذاتَ صِلَةٍ عندما نتعامل مع الكبار. إن إعادة التصوّر التصحيحية، والدقيقة، في داخل حيواتِ الآخرين، جزءٌ من التفكيرِ التعاطفي الذي نحتَاجُهُ باستمرارٍ للقيامِ به مع من حولِنا. نحنُ بحاجةٍ إلى تَخَيّلِ الاضطرابِ، وخيبةِ الأملِ، والقلقِ، والارتباكِ الهائلِ في الناسِ الذين قد يبدو عَلَيْهِم ظاهريا العداونيةُ واللؤم. حينما ننُظر إلى بعضِ أخطاءِ الرُفَقَاءِ كما نَظْرَتُنَا لأخطاءِ الأطفالِ، فإننا نَفْعَلُ لَهُمْ صَنِيعَاً. نُدْرِكُ تماماً بأنّ النَظَرَ لِتَصَرُفَاتِنَا وكأننا أَصْغَرُ مما نحنُ عَلَيْهِ يَنُمُّ عن مُرَاعَاة، وننسى أحياناً أنّ الامْتِيَازَ الكبيرَ الذي يُمْكِنُ أنْ يَحْظَى بِهِ أيُ شَخْصٍ هو أنْ تَكُونَ النَظْرَةُ لَهُ أبْعَدَ مِن أنه شَخْصٌ بالِغٌ للتَعَامِلِ مَع –ومسامحة-  الإخفاقاتِ، أو الغضبِ، أو العَجَزِ عن التعبيرِ عنِ الذات، أو الجَرْحِ في ذاكَ الطفلِ الذي بدَاخِلِهِ.

 

13- تُصِرُّ في كِتَابَاتِكَ على فكرةِ أنّ الحُبّ مَهَارَة، وليس َغريزةً أو مشاعرَ حماسٍية قَد تُخَالِجُنا. كيف يُمْكِنُ للمَرْءِ اتْقَانُ مَهَارَةَ الحُبّ؟ هل يُمْكِنُ اتْقَانُه مِن خِلال المَحَبّةِ والتَعَلّمِ من الأخْطَاء؟ أو مِن خِلالِ التواصلِ الجيد؟ أو شيءٍ آخر؟

يجب أنْ نتَعَلّمَ فَنّ الصَدَقَة. نتعَلّمُهَا في أبسطِ أشْكَالِهَا الخَيْريّة كإعطاءُ شَخْصٍ ما شيئاً يَحْتَاجُهُ ولا يستطيع الحصول عليه. غالباً ما يُخْتَزَلُ هذا الفعل في العطاءِ المادي، فنَرْبُطُ الصَدَقَةَ بالعَطَاءِ المَادّي. الصَدَقَةُ في جَوْهَرِهَا تَذْهَبُ لأبْعَدَ مما يَعْنِيهِ العَطَاءُ المَادِي، إنها تَرْتَبِطُ بتَفْسِيرِ الدَوَافِع. الصَدَقَةُ تَدْفَعُنا لرؤيةِ أخْطَاءَ الشخصِ الآخرِ كنتيجةٍ للمعاناة التي مرّ بها، ولَيْسَتْ نتيجةَ الشَرّ أو الخَطِيئة. تجْعَلُنا المَشَاعِرُ الخَيْرِيّة نُحِسُ في دَوَاخِلَنا بأننا “محظوظين” كفايةً لِقُدْرَتِنا على المُضُيّ قُدُماً بتفسيراتٍ لاخْفَاقَاتِ الآخرين – انعدام صَبْرِهِم أو طُمُوحَاتِهِم المُبَالَغِ فِيها أو تَحَسُسِهِم أو غَضَبِهِم- والتي تَأْخُذُ بِعَيْنِ الاعْتِبَارِ الظُرُوف المُخَفّفَة. تُوَلّدِ هَذِهِ المَشَاعِرُ الخَيْريّةِ صُورةً أُخرى لهذا الشَخْص الذي تُظهِرُهُ بمَظْهَرٍ أقلّ لُؤْمَاً وجُنُونَاً. تَنْزَعُ الصَدَقَةُ المُتَعَلّقَةُ بالشؤون الماليةِ إلى أن تَصُبَّ في اتجاهٍ واحدٍ دائماً. فاعلُ الخيرِ كريمٌ جداً، ومن يفعل ذلك غالباً يبقى غنياً; فعادةً ما يتعلقُ الأمرُ بالمُعْطِي لا المُسْتَقْبِل. لكن على صعيدِ علاقَاتِنا مع الآخرين وعلى نطاقٍ أوسع، من غيرِ المُرَجّح أنْ تَكُونَ الحَاجَةُ للصَدَقَةِ من طرفٍ واحد، نظراً لِما نحتَاجُه كُلّنا لسخاءِ تفسيراتِ الآخرين. نحن أبعدُ ما نكون عن طَلبِ المُساعدةِ لتَوضيح مَن نَحْنُ للعالم، ولِما نحنُ لسنا على درجةٍ من السوءِ الذي قد يَظْهَر للآخرين.

14- ما نبحثُ عنه في الزواجِ حقيقةً هو الألفة، تلك الألفة في الزواجِ وما يتأتى معها من المعاناةِ التي سَبَقَ وأن جرّبْنَاها مع والِدَينا من قبلُ حينما كنّا صِغاراً. ماذا عن الرجلِ الذي لا يتمنى الارتباطَ بامرأةٍ تُشَابِهُ أُمّهُ، أو فتاةٍ تَقُولُ بأنها لا تُريدُ أنْ تَرْتَبِطَ بشخصٍ مثل أبيها. هل هُم مخطئين من حيثُ لا يعلمون؟

تُشَكِل التحديات التي مررنا بها في الماضي، الغريزةَ التي تَحْكُم علاقَاتِنَا بطريقةٍ مميزةٍ جداً. فبدلاً من أن تَجْذِبَنَا غرائزنا لأشخاصٍ يشبهون والِدِينا، فهي تجذبنا بطريقةٍ لافتةٍ إلى العكس تماماً. لعلّ ماضينا يَحْمِلُ تجربةً صعبةً تجعلُ من وجودِ شَبَهٍ بين أحدِ أبوينا والشريك المُرْتَقَبِ أمراُ مُنَفِراً جداً، ونسمي هذا بالارتداد الحيوي.

يحظى غالبية الأباء والأمهات بجانبٍ مظلمٍ وجانبٍ جميلٍ على قدمِ المساواة؛ ولعلّ هذا هو السبب خَلْف هذه المعضلة. عندما نعاني من الارتداد الحيوي، قد نسعى للمحاولةِ في التغاضي عن الجانب المظلم، ولكننا ننتهي إلى تطويرِ حساسيةٍ ممانعةٍ لكثيرٍ مما نُحِبُه فيهم في نفس الوقت. لربما كان أحدُ الأبوينِ مبدعاً جداً، ولكنه في ذاتِ الوقت، ذو مزاجٍ مروّع. وربما كان أحد الأبوين ذكياَ جداً، ولكنه يَنْزَعُ إلى إذلالِ أبناءِه، فنَتَجَ عن ذلك بُغْضِنَا لأيّ شَخْصٍ ذَكي. وقد يكونُ أحد الأبوينِ مُتَمَيّزاً في التجارة، ولكنَه باردٌ عاطفياً، وعليه نحن نُبْغِضُ أيّ شَخْصٍ يَبْرَعُ في التجارة. قد يقودنا هذا الارتداد أو النكوص بأن لا نملكَ أيّ خيارٍ في دواخلنا إلا أن ننتهي مع شخصٍ لا يعود علينا بالنفع حقاً، فكان الأدعى لهذا الأمر أن ينفعنا كوننا عاطفيين بطبيعتنا. يقع أصدقاؤنا في حيرةٍ من أمْرِنا، فيَسْألون أنّى لشخصٍ خَلاّقٍ -والذي بالمناسبة كانت أُمُهُ مُبْدِعَةً هي الأخرى- أن ينتهي بهِ المَطَافُ مع هذا الشريك…؟ أو كيفَ لشخصٍ ينحدر من عائلةٍ مقتدرة مادياً أن ينتهي به المطافُ مع شخصٍ قليلِ الإنجاز…؟ فيجب علينا في مثل هذه الظروف أن نبحث عن دليلٍ يُفَسّرُ هذه الخياراتِ من مفهوم الارتداد الحيوي.

 

المواصفات الجيدة في أبوينِ صعبي الارضاء

متطلبات الارتداد أو النكوص

اكتفاءٌ ماديّ عالي

حساسية فيما يتعلق بالمال

مُنَظّم وحَرِيصٌ على الوقت

مُتَهَورٌ وغير مُنَظّم

مُهَذّبٌ ومُتَزِنٌ في تعاملاته الاجتماعية

جِلْفٌ وفَظّ في التعامل

ذكيٌّ على نحوٍ جليّ

لا يتمتع بالذكاء

15- وفي الختام، يودُّ قُرَاءُنا أن يعرفوا أكثر عن مشروعك “مدرسة الحياة” (School of Life)، حول ماذا يتمحور هذا المشروع؟ كم عدد المحاولاتِ الفاشلةِ التي مَرَرْتُم بِها قَبْل نَجَاحِ هذا المشروع؟ وهل سَنَشْهَدُ تَوَسّعاً لهذا المشروع في العالم العربي في المستقبل؟

“مدرسة الحياة” منظمةٌ تَحْمِلُ مُهِمّةً بَسيطة: السعيّ في زيادةِ انتشارِ الذكاءِ العاطفيِ كمفهومٍ بين الناس. نَطْمَحُ لاكتسابِ الذكاءِ العاطفيّ في علاقَاتِنَا، وأماكنِ أعمالِنا، وفي الاقتصاديات، والثقافة.

القاعدة الأساسية في طريقةِ تفكيرنا – تجدونها في القاموسِ في الصفحاتِ المقابلة- ثمانية مواضيعاً رئيسية، وهي كالآتي:

 

1- مَعْرِفَةُ الذات:

لخّصَ سُقراط –أحد أوائل عظماءِ الفلاسفة- الغَرَضَ من الفسلفةِ في عِبَارةٍ رنانةٍ واحدة: “أنْ تَعْرِفَ نَفْسَك”. القدرةُ على معرفةِ الذّات هي في قلبِ مِيُولِنا إلى المغفرةِ، والطيبةِ، والابداعِ، والحكمةِ في اتخاذِ القرارات، خصوصاً فيما يتَعَلّقُ بمَسَائِلِ القلبِ والعمل. لكن للأسفِ أنّ معرفة المَرْءِ لِذَاتِهِ (وغالباً لا تنتهي هذه المهمة) قد تتطَلّبُ حياةً بأكملها.  دائماً ما نجدُ أنفسنا بعيدي المنالِ وغامضين، فيجب علينا أنْ نَفْهَمَ نوايانا الحقيقيةَ بطريقةٍ غيرِ مُبَاشِرَة، ونتحلّى بصبرِ عُلَمَاءِ أجْنِحَةِ القِشْرِيّات. أحد مهامُ الثقافةِ أن تَعْرِضَ لنا الوسائلَ التي تُسَاعِدُنَا في مهمةِ معرفةِ ذواتنا. نحن أحْوَجُ إلى مفرداتٍ لنَصُوغَ بها مشاعرٍ وحالاتٍ ذهنيةٍ نَمُر بها، نحن أحْوَجُ ما نكونُ إلى التشجيعِ لأن نتوَحّدَ مع أنفسنا بانتظام، نحن أحوجُ ما نكونُ إلى الأصدقاءِ والمتخصصين، الذي يستمعون إلينا بتعاطفٍ و بدقةٍ عالية، ونحنُ أحوجُ ما نكون إلى الفن، ليُضِيءَ جوانباً بعيدةَ المنالِ لأرواحنا. وقبل كل شيء، نحن بحاجةٍ إلى أن تتبنى أنفسنا خصلةَ التواضع، لتَسْهُل علينا مهمةُ فِهْمِنا لذواتنا، وماذا نريد. يجب أن نعزز مواقف الشكوك التي تعترينا في كثير من دوافعنا الأوليةِ، و في معتقداتنا، ونجعلَ كلّ خُطَطِنا المهمةِ تخْضَعُ لاختبارٍ عقلانيٍ واسعِ النطاق. الفشل في معرفة المرءِ لذاته، سَبَبٌ لأخْطَر المآسي التي تواجه البشر فُرَاداً وجَمَاعَات.

2- الآخرين

إن وجودَ أشخاصٍ كثيرين حولنا، قد يختبر صبرنا في الحفاظِ على الاتزان، والطيبة، والخيرية. تأخذُ “مدرسة الحياة” طموحَ الفردِ في أن يكون مهذباً ولطيفاُ على محملِ الجد، على الرغم من عدم وجود هيبةٍ تُحيط بهذهِ المفاهيم، وتواجد الاحتكاكات المستمرة، وسوءِ الفَهْمِ في الحياةِ المجتمعية.

علاوةً على ذلك، نجدُ أنّ اللطافةَ مهارةٌ يجب أن نتعلمها، ، وعليه، يتحتّمُ علينا أن نضعَ جُهْداً مُضَاعَفَاً وغير متوقع لنتغلب على ردود أفعالنا الأولية تجاهَ الآخرين، والذي غالباً ما يتعارض (ونتفهم هذا) مع الغضب، والارتياب، والدفاعية. تبرز هنا مناورتين ألا وهما: يجب ألا نتوقع الكثير من الآخرين، ولا يعني ذلك أن ينتهي بنا بأن نكون غير منصفين معهم، ولكن لرفع جاهزيتنا للصفح، وتَقَبُّلِ المشاكلِ حالَ حدوثها. يجب أيضاً أن نتعلّمَ أن السلوكياتِ الخاطئةِ تَنْبُعُ دائماً من الألمِ والتوتر، لا من شرٍّ يُضْمَرُ لنا. نحتاج لتوجيه تعاطفنا وشحذ خيالنا باتجاه أهدافٍ لم نعتد عليها: أولئك الذين يحبطوننا أكثر.

3– العلاقات:

لعل العلاقات هي المصدر الوحيد والأكبر لسعادتنا ومعاناتنا في آنٍ معاً. على عكس العصور السابقة، فلا نسعى ببساطة للحصولِ على شريكٍ يمكننا التسامح معه، ولكننا نسعى لشخص نبادله الحب على مرّ العقود، ونبادِلُه الرغبة المتقدة، والالتزام، والاهتمامات. نحلم بشخصٍ يفهمنا، شخصٌ نستطيع مشاركته الشوق والأسرار، شخصٌ نكون معه على طبيعتنا كما يجب. ثم ما تلبث أن تبدأ المشاكل، لذا نحن بحاجةٍ إلى أن نفهم السبب. قد يُعزى جزءٌ من ذلك إلى أن الطفولةَ تتركُ إرثاً من المشاكلِ المتعلقةِ بالآخرين. نواجه صعوباتٍ في الثقةً بالآخرين، أو أن نكونَ قريبين منهم، أو الحفاظِ على المسافةِ اللازمةِ بيننا وبينهم، أو أن نكون مرنيين بالدرجةِ الكافية. لا نستطيعُ أن نُعَبّرَ عن خَلَجَاتِ أنفسنا، ومعرضون لنقلِ تَرَسُبَاتِ الماضي للوقت الحاضر، رغم عدم ملائمتها. نحتاجُ لرسمِ ملامحٍ لأرواحنا, ونحتاجُ لتقديمِ خارطةَ جنوننا لشركاءنا في وقت مبكر من عمر العلاقة، قبل أن نُمْعِن في جرحِ مشاعرهم قبل فوات الآوان.

تنبعُ صعوباتُ العلاقاتِ التي نعيشها حالياً –جزئياً- من مصدرٍ ثقافي نُطْلِقُ عليه “الرومانسية”. نتفاعل في أي علاقةٍ بخلفيةٍ تحمل إشكاليةَ صورةٍ رومانسيةٍ عما يجب أن تكون عليه العلاقة: نحلمُ بعلاقةٍ حميميةٍ عميقة، وإرضاءٍ جنسي، وغيابٍ للأسرار، واليسير من النزاعات. هذا النوع من الايمان مؤثر، ولكن يحمل في طياته عيباً مأساوياً: آمالنا تحولت إلى عائقٍ أمامَ علاقةٍ ناضجةٍ يمكن العمل على تحسينها. في “مدرسة الحياة”، نتوجه إلى ما نسميه بالنهج الكلاسيكي في الحب. النظرة الكلاسيكية نظرةٌ حَذِرةٌ بطرقٍ معينة. يولي الناس الكلاسيكيون عنايةً كبيرة للأخطاء التي يمكن أن تصدر من الآخرين. قبل أن نشجب أي علاقةٍ من حياتنا، يضعون في اعتبارِهِم معاييرَ المجتمعِ حولَهم فيما يجبُ أن يكون عليه الشريك، فقد يُفَسّرأمرٌ ما بأنه قابلٌ للتَحَمّلِ تحت الظروفِ الحاليةِ على إثرِ هذهِ المَعَايير. هذه الطريقةُ في نَظَرِ الآخرين أساسية، ولكن سوداويةٌ بشكلٍ مفيد. الجميع في نهايةِ المطافِ مضطربون. والأشخاص الوحيدون الذي نعتقدُ بأنهم طبيعيون هم أولئك الذين لم نعرفهم حق المعرفة.

 

4- النشاط الجنسي

ندرك في ” مدرسة الحياة” مقدار الآمال والتحديات حول الجنس، بالرغم من اعتقادنا أننا نعيش في عصرٍ متحرر، فإنه لا يزال هناك صعوبةٌ شديدةٌ في أن لا نشعرَ بالعارِ حولَ الكثيرِ من دوافعنا الجنسية، خصوصاً أنه من الصعبِ التواصلُ مع أولئك الذين ننجذبُ إليهم. نعتقدُ بوجوبِ الاجتهادِ في وضعِ فهمٍ رصينٍ لدوافعِ الرغبة، ومحو بعضاً من الحَرَجِ حول الخيالِ الجامح، مُظْهِرين أن كثيراً من الأماني الشاذّة تَعودُ إلى أسئلةٍ حميميةٍ معقدة.

 

5- العمل

أحدُ أهمِ الأفكارِ التي تُمَيّزُ العصرَ الحديثِ أننا لا نتوقع أن نَكْدَحَ كثيراً في العملِ لننجو بحياتنا. نَحْمِلُ آمالاً كبيرة فيما يتعلقُ بهذا الجزء المهم من حياتنا. فمن الناحية المثالية، نرغب في أن نشْغَلَ عملاً “ذو معنى”، والذي ينطوي عليه الاعتقادُ بأننا نُخَفِفُ من آلالامِ البشرِ بطريقةٍ ما، أو نَزِيدَ من سعادةِ أُنَاسٍ آخرين.

تَبْرُزُ ثلاثةُ أسبابٍ رئيسيةٍ كاجابةٍ على: لماذا أصبح من الصعبِ تأمِينُ العَمَلِ المُجْدِي: أولاً، لأنه من الصعبِ علينا أن نُحَدّدَ مصالِحَنا الحقيقيةِ في الوقتِ الذي نَعِيشُ فيه،قبل أن يُصْبِحَ البَقَاءُ على قَيْدِ الحياةِ أمراً ملحاً. مصالِحُنا لا تُظْهِرُ نفسها تلقائياً، فهي تتطَلّبُ تحليلَ أنفسنا، وتجربةَ مجموعةٍ من الخيارات، لمعرفةِ شعورنا لما يُمْكِنُ أن يكونَ الخيارُ “الأمثل” لنا.

          ولكن لسوءِ الحظ، المدارسُ والجامعاتُ والمجتمعُ ككل، لا تُولِي أهميةً كبيرةً في مساعدةِ الناسِ في فِهْمِ هَوِيَتِهِم العمليّةِ الأصيلة. يُمَارَسُ المزيد من الضغطِ على المرءِ للاستعدادِ لأي وظيفةٍ، في مقابلِ وظيفةٍ من شأنها أن تكون مناسبةً له. هذا أمرٌ مؤسفٌ ليس فقط للأفراد، ولكن بالنسبةِ للاقتصادِ ككل، لأن الناسَ يعمَلُونَ بطريقةٍ مُبْدِعَةٍ ومُثْمِرَةٍ أكثرَ حِينما يَنْغَمِسُ في العملِ من أعْمَاقِه. ثانياً، العديدُ من الوظائفِ لا معنى لها نسبياً لأنهُ من الممكنِ جداً -في ظلِ ظروفِ الاقتصادِ الحالية- جَنْيُ الأرباحِ من بيع الأشياءِ التي لا تُسَاهِم بصورةٍ أساسيةٍ في الرفاهية، ولكنها بدلاً من ذلك، تتصيّد نزعتنا للشراء، وانعدامِ القيادةِ الذاتيةِ لدينا. ثالثاً، قد يكونُ للعملِ معنىً حقيقياً من حيثِ لا نشْعُرُ يوماً بعدَ يوم، لأن العديدَ من المنظماتِ كبيرةً جداً، وتتحركُ ببطءٍ شديد، فبُنيَت الفروعَ في القاراتِ المختلفةِ، إلى أن أصبحَ الغَرَض: أن يَضِيعَ الجميعَ وسطِ الاجتماعاتِ، والمذكراتِ، والمكالماتِ الجماعيةِ، والإدارة.

يُساعدُ هذا التشخيصُ للإشارةِ إلى ما يُمْكِنُنا عَمَلُهُ لِنَخْلُقَ قيمةً حقيقيةً من وظائفنا: أولاً، تسليطُ الضوءَ على مساعدةِ الناسِ في إيجادِ المِهَنِ المناسبةِ لَهُم، وأن يجدوا ذواتَهم الأصيلةَ والحقيقيةَ في العمل. ثانياً، كُلّمَا دَعَمْنَا كعُمَلاءٍ أعمالاً ذاتَ قيمة، كُلَّما خَلَقْنا وظائفَ ذاتَ قِيمَة. سنساهِم في رفعِ عددِ الوظائفِ التي تَسْتَجِيبُ للاحتياجاتِ الإنسانيةِ العميقةِ عن طريقِ رفعِ جودةِ الطلب. ثالثاً, في الأعمالِ التي تقومُ بعملٍ هادف، ولكن على نطاقٍ واسع، وتستغرقُ فترةً طويلةً لتحقيقِ ذلك، سيكون من المفيدِ خَلْقُ مجالٍ لعَرْضِ قصصٍ عن أهدافِ هذه المنظمات، والتي تًعْرُضُ اسهاماتِ الأفرادِ للمنظمةِ كَكُل بطريقةٍ ملموسة. إن ضمانَ أن يكونَ العملُ ذا مغزىً ليسَ ترفاً: فهو يُحَدِدُ أكبرَ قضيةٍ في الاقتصادٍ الحديث: كيف يُمكنُ أن يَعْملَ الناسُ بمهارةِ وإقناع، وبالتالي، كيف يُمْكِنُ أن تكونَ المجتمعاتُ ناجحةً ومثمرة.

6– الرأسمالية

تبدو الاقتصاديات كما لو أنها مدفوعةٌ بعناصرٍ ماديةٍ ضخمة، كما لو أنها تتعلّقُ بحقولِ النفط، وأقمارِ الاتصالات، ومجمعاتِ التجزئةِ الضخمةِ، ومناطقِ الترفيهِ الواسعة. ولكن وراء هذه العواملُ المثيرةُ للإعجاب، نجدُ أنّ الاقتصادَ بطريقةٍ استثنائيةٍ، ليس إلاّ ظاهرةً نفسيةً مدفوعةً من النزعة الجماعية، والخيال، والشوق. ما نُسَمّيه بالرأسمالية، هو ببساطة في النهاية، نتيجةَ الطريقة التي تعمل بها عقولنا.

وحتى الآن، تميلُ الرأسماليةُ –وهذا غير مفاجئ- إلى التركيزِ على توفيرِ احتياجاتنا الأساسية. نحن مهتمون بنوعٍ من الرأسماليةِ التي تستهدفُ احتياجاتٍ أسمى: أيّ، رأسماليةٍ فعّالةٍ في تلبيةِ احتياجاتنا من التفاهمِ’ كما هو الحالُ مع الأشياءِ الحلوةِ في الطعام; نظامٌ عظيمٌ يُساعدُ حياتَنا بحكمة، النظام بارعٌ في توحيدنا مع الحلويات والملابس المثالية في الوقت الحاضر. وتتمثلُ المهمةُ في توسيعِ الاقتصادِ من أجلِ مساعدتهِ في المشاركةِ في القضايا الداخلية الحقيقية للإنسانية – والتي عادةً ما تكونُ خارجَ نِطاقِ التجارةِ كما هو معروف بشكل عام.

 

7– الثقافة

الناس الذين يريدون التعبيرَ عن الإعجابِ بالثقافة غالباً يقولون أنها قيّمة “من أجل ذاتها”. نقترحُ أن تكونَ ذاتَ قيمةٍ نظراً لقدرتها على تلبية احتياجاتنا من التعليمِ والتوجيهِ والتعزيةِ وتكوينِ وجهاتِ النظرِ والتشجيعِ والتصحيح. ننجذب إلى فكرةٍ مفادها أن الثقافة علاجية. وهذا لا يعني أنه ينبغي أن تساعدنا في المقام الأول في قضايا الصحة العقلية الملحة للغاية. لكن يمكن أن تساعدنا على إدارة المشاكل العادية من الحياة اليومية; مثل الميلِ إلى الانزعاجِ غيرِ المفيدِ مع الأشخاصِ الذين نحبهم، وفقدان المنظور فيما يتعلقُ بالمسائلِ البسيطة، والتخلي عن التعاطفِ مع الأشخاصِ الذين يستحقون في الواقع تعاطفنا، وأن نقسو على أنفسنا حينما نخطئ. ونحن نعتقد أن العالم حتى هذه اللحظة، لم يَسْتَغِلَ الإمكاناتِ العلاجيةِ الحقيقيةِ للثقافةِ كما هو مطلوب، بل قَدّس الثقافةَ دون تَعَلُّمِ كيفيةِ الاستفادةِ منها بطريقةٍ منهجية.

 

8– الدين

“مدرسة الحياة” منظمةٌ علمانيةٌ، وتهتمُ بالعديدِ من الحركاتِ الدينيةِ على حدٍّ سواء. إن الأفكارَ الدينيةِ (على سبيل المثال، الادعاء بأن الروح ستُبْعَثُ مرةً أخرى، أو أن المسيحَ عادتْ إليه الرُوح من بَعد الموت، أو أنّ خالقُ الكون قَدّمَ وعوداً محددةً حولَ حقوقُ الأرضِ في الطرفِ الشرقي من البحرِ الأبيضِ المتوسط) ألقتْ بظلالِها على بعضِ الممارساتٍ النفسيةِ المهمةِ التي كانت الأديانُ بارعةً في الترويجِ لها. اسْتَبْسَلتِ الأديانُ في مخاطبةِ مجموعةٍ من الاحتياجاتِ العاطفية، والتي وَقَفَتْ صامدةً حتى في العصرِ الذي انتشرَ فيهِ العِلْم. حاولت الأديانُ بكلّ ما أوتيت من قوةٍ لإبقاءِ فكرةِ الغفرانِ في قائمة الأولويات، وشَجَعَتْ الرحمة، وأصرّت على أنّ أشكالاً معينةً من النجاحِ الدنيوي هي طرقٌ مُضَلِّلَةٌ لتقييم قيمة الناس، حَمَلَتْنا على ادراكِ قُدرَاتِنا على إيذاءِ الآخرين، وأن نشعُرَ بالأسى إذ فعلنا، وحثنا على أن نكون معطاءين ومتفهمين لمعاناةِ الآخرين الخفية، وأمدتنا بطقوسٍ مساعدة، وأعمالٍ ثقافيةٍ جميلة، لنجعلَ الأفكارَ المُهِمّةَ نُصْبَ أعيننا على مدارِ العام.

نرى أنّ “مدرسة الحياة” قادرةٌ على تطويرِ الكثيرِ من المهامِ التي يقومُ بها الدين، وخَلْقِ بدائلاً علمانيةً لِتَحُلّ مَحَلَّ مجموعةٍ كبيرةٍ من المُثُل والممارساتِ الدينية. نؤمن بفكرةِ أنّ الثقافةَ يُمْكِنُ بَل وينبغي لَها أن تَحِلَّ مَحَلّ الكِتاب المُقَدّس.

***

في نهايةِ المطاف، نحنُ مدرسة. ولذلك نعتقدُ أنّ القدرةَ على التعلّمِ هي واحدةٌ من الأساسياتِ عندَ بني البشر. كم هي كثيرةٌ تِلْكُمُ الأشياء التي نستطيع أن نتعلَم كيفَ نَبْرَعُ فيها عن طريقِ التعْليم، بل وأكثرَ بكثيرٍ مما يمكننا تخيّله. التأثيرُ القويُ للحركةِ الرومانسية، والتي تُؤْمِنُ بأنَ أَفْضَلَ الاستجاباتِ العاطِفِيةِ لا يُمْكِنُ تَعَلُّمها، مما يعني فَشَلَ النظامِ التعليمي في توريثِ الذكاءِ العاطفي عبرَ الأجيالِ كما يجب.

نأخذُ برأي المنظورِ الكلاسيكي، والذي يرى أن كُلَّ إنجازاتِ البشر –خصوصاً ما يتعلق بالعواطف- قابلٌ للتوريثِ: كيف نتحكّمُ بالغضب، وكيف نبدأ محادثةً مع الآخرين، وكيف نُصْبِح أهلاً محبين، وكيف نحافظُ على اتزاننا، أو كيف نصبحُ أقلُّ ميلاً للمرارة.

ومع ذلك، ندرك مدى سهولةِ فقدان اهتمام الآخرين بأيّ شيءٍ يبدو عليه سيماء الوعظ، والميلُ القاتلُ عندهم لتركِ الأمورِ المهمةِ بزعمِ أنها مُضْجِرَة. التزامنا بالتعليم يجعلنا مهتمين اهتماماً عميقاً بمهمة الإغواء: الحاجة إلى الحصولِ على انتباهِ الناسِ واهتمامِهِم ببراعةٍ في عالمٍ يُعَزّزُ الفردانيةَ لأقصى درجة، ومليءٌ بالمُلْهَيَاتِ والمطالب. ولأنَ العمليةَ التعليميةَ محورية، لدينا طموحاتٌ فيما يجب عليه أن تكون. ليس الأطفال وحدهم من يحتاجُ إلى الذهاب إلى المدرسة، بل يجب على كل البالغين أن يروا في أنفسهم الحاجةَ للتعليم في كل يومٍ تقريباً، ولا ينبغي أنْ يَكْتَفي المرء من الاستزادةِ من العلم، عليه أن يكون خرّيجاً نشيطاً ويتعلّم من الحياة. في قسمِ البالغين في المدارس، يجب أن يكون هناك مقرراتٌ عن كيفيةِ بدءِ محادثةٍ مع الغرباء، ـوكيف تتعامل مع خوفِ التقدمِ في العمر، وكيف تهدئ نفسك في المواقف الصعبة، وكيف تسامح. يجب أن تكون المدارس مكاناً يحصل المجتمع فيه على التعليم، وليس مكاناً للأطفالِ فقط. يجب على بعض المقررات أن تمتد لعمر السبع سنين، وأن تمتدَّ مقرراتٌ أخرى لعمرِ الخمسين (وُجد أن الفئتين العمريتين المذكورتين يتشاركان ادراكاً متكافئاً في منطقةٍ معينة). عبارة “انتهيتُ من المدرسة” ستبدو غريبةً للغاية في المدينة الفاضلة.

وفيما يتعلق بالعالم العربي، نحن متواجدون في العالم الرقمي مسبقاً، وسنفتتح فرعاً حالما نجد الشريك المناسب!