مجلة حكمة
كانت الثورة العربية مجرد تفصيل. بعيداً عن الأراضي الفرنسية، حيث المسرح الرئيسي للمعركة، عمل بضع مئات من البدو خلف صفوف العدو، معاونين الحملة البريطانية ضد الإمبراطورية العثمانية

الثورة العربية – الإيكونوميست / ترجمة: هيفاء الصعب


على النقيض من المشهد المهول البشع للحرب العالمية الأولى، كانت الثورة العربية مجرد تفصيل. بعيداً عن الأراضي الفرنسية، حيث المسرح الرئيسي للمعركة، عمل بضع مئات من البدو خلف صفوف العدو، معاونين الحملة البريطانية ضد الإمبراطورية العثمانية. لقد أطلق تي إي لورانس (T.E. Lawrence) -ضابط المخابرات البريطانية الذي قاد هجماتهم على خطوط الإمدادات العثمانية – عليهم “عرض جانبي من عرض جانبي”. إلا أنه وبعد مرور قرن لازالت الثورة العربية تستحوذ على مخيلتنا. فقد ألهمت هذه السنة وحدها مجموعة من أعمال الدراما الوثائقية والكتب والمعارض، بل وحتى إلى الحفر في الصحراء بطابع تنقيبي عن التذكارات. وتخصص الأردن هذه المئوية بإجازة وطنية رسمية. وتجذب مسرحية جديدة بعنوان “لورانس ما بعد العرب” دور العرض المكتظة في لندن؛ وأخرى قيد الإنتاج. ولمعجبيها المعاصرين، فإن فرسان التاريخ الغابرين وهم يهيمون بين الكثبان قد قدّموا تَحْرِيراً بطولياً رومانسياً من سنوات الاقتتال العالمي التصنيعي الأربع. لقد أعطى دافعهم -تحرير العرب من القمع التركي- شعوراً لحظياً بالنقاء الأخلاقي لعالم مزقته الحروب وبدا ضالاً السبيل. ولكن بالنسبة لخصومها، فقد زعزعت المكائد البريطانية قروناً من الاستقرار في الشرق الأوسط تحت الحكم العثماني، مغرقة المنطقة في فوضى لم تخرج منها حتى الآن.

في الخامس من يونيو ١٩١٦م، انقلب الأمير العثماني في مكة الشريف حسين بن علي على أسياده وهاجم الحامية التركية في المدينة المنورة. صرّح الحاكم الهاشمي في بيان الحرب التي تبعت ما حدث بأنه لم يكن يقاتل السلطان العثماني الذي حكم لخمسمائة عام امبراطورية متعددة الجنسيات تمثّل معظم الشرق الأوسط، بل القوميين والعنصريين الأتراك الذين قبضوا على الدفّة في اسطنبول، وبتقدّم أبناءه – علي و عبدالله و فيصل- شمالاً، توسعت طموحاته. أعلن بأنه الملك الأول للحجاز، الساحل الغربي للجزيرة العربية، ومن ثم ملكاً للعرب حينما تقدّمت قواته غير النظامية في الهلال الخصيب. وبعد ذلك بعام، استولت فرقة الهجّانة التابعة له على ميناء العقبة العثماني في حافة البحر الأحمر. وفي أكتوبر ١٩١٨ م وصلوا دمشق ملتحقين بقوات تقودها بريطانيا وزاحفة من فلسطين لإبعاد الترك المنسحبين عن العالم العربي.

سرعان ما انحسرت تلك القمة التعاونية عندما حرّضت بريطانيا البدو ضد أسيادهم السنّة بأكياس من الذهب والأسلحة والتدريب والرفعة، وأهم من ذلك كله الوعد بأنهم سيرثون الأراضي التي خلّفها العثمانيون ورائهم. ولكنها وعدت أيضاً الفرنسيين واليهود بالأراضي نفسها تقريباً، كما أضمرت لنفسها طموحات إقليمية. في أثناء خسوف اهتمام بريطانيا بالحكم العربي، خسر الهاشميون في تعاقب سريع المدن الثلاثة المقدّسة عند المسلمين؛ مكة المكرمة والمدينة المنورة، وبعد فترة وجيزة (١٩٤٨-١٩٦٧ م) خسروا القدس العتيقة. وعلاوة على ذلك، خسروا صفوة أراضيهم: سوريا في ١٩٢٣م (للفرنسيين) والحجاز في ١٩٢٦م (لآل سعود) والعراق في ١٩٥٨م (للجمهوريين). بقيت البادية الجدباء الشاسعة من الأردن والتي يحكمها حفيد حفيد الشريف حسين (الملك عبد الله الثاني) آخر ما تبقى من ممتلكاتهم.

في العالم العربي الحديث، يُلّخص تخلي بريطانيا عن الثورة العربية الغدر الإنجليزي. لقد قطّع الدبلوماسي البريطاني الذي صمم علم الاستقلال العربي، مارك سايكس، تلك الأرض العربية ذاتها مع نظيره الفرنسي، فرانسوا جورج بيكو (François Georges-Picot)، لولايات فرنسية وبريطانية. صدّع هذا التقسيم ما كان حيزاً لتعدد الثقافات والأديان تحت حكم العثمانيين، وولّد ميليشيات طائفية وعرقية متنافسة تتزاحم من أجل السيطرة على الشرق الأوسط من بعد العثمانيين. لقد أسست الثورة العربية أيضاً حرب العصابات كأداة حديثة للتغيير السياسي. اعتدى رجال القبائل العربية المدعومين بمحاربين أجانب، بما فيهم عملاء سريين من بريطانيا وفرنسا جنود العرب من مناطق بعيدة كالجزائر والعراق، على مدن المنطقة العريقة. إن غارات الثورة على القطارات والجسور والسكك الحديدية؛ ذبحها للسجناء بدلاً من القبض عليهم؛ اللجوء المتكرر للنهب؛ قتالها من أجل الأرض، والدعوة الدينية تتشارك كلها مع التشدد الإسلامي المعاصر في المنطقة أكثر مما تقرّه الأعراف. وبعد مرور قرن، بقيت المعركة لاستخلاف العثمانيين كحكام إقليميين دون حل. وعلى حد قول هوارد برينتو، الكاتب المسرحي لـ “لورانس ما بعد العرب”: “نعيش في الفوضى التي خلّفوها”

المصدر