مجلة حكمة
التكوين السياسي الشيعي

التكوين السياسي الشيعي: أصالة النظام السياسي رؤية شيعية للدولة في عصر الغيبة – فؤاد إبراهيم


بقليل من التأمل وكما تشي النصوص الواردة في هذا البحث يظهر أن الامامة في الادبيات الشيعية ليست شيئاً آخر غير الدولة بكافة وظائفها، وأن التشيع في تكوينه ظاهرة احتجاجية على الدولة البشرية، وفي مقصده النهائي تأسيس الدولة الدينية الالهية على الارض، التي لم تكن قابلة للتحقق حسب الاعتقاد الشيعي الا بظهور الامام المهدي الذي يملأ الارض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وهذا يمثل صبغة ومبرر استمرار التشيع، والذي سيلقي بظلاله الكثيفة على الذاكرة الشيعية عموماً وعلى ذاكرة المشتغلين بتنضيد الفكر والفقه الاماميين، وهم في الدرجة الاولى: علماء الكلام، والفقهاء.

وفي تواصل مع هذه الحقيقة اسست المدونات الشيعية الاولى في إحدى مهماتها وتجلياتها وعياً انتظارياً يفضي الى تعليق وظائف الدولة الدينية الرئيسية (جباية المال، واقامة الحدود، والجهاد، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاتيان بصلاة الجمعة)، مبنياً على طوباوية الامامة/الدولة، الا أنها في الوقت نفسه مثّلت أحد تمظهرات مرحلة مابعد النص، أي بداية العقلنة التي ستمهر مرحلة يفقد فيها النص حضوره المركزي، ويسمح بفتح ثقوب لدخول عنصر العقل في توجيه التشريع بما يخدم حاجات آنية ومصالح لا يمكن ترحيلها الى وقت الظهور.

ونحن في هذا الصدد نتعامل مع ثلاث طوائف من الروايات الشيعية، التي تعاطت مع الدولة/السلطة، مؤسساً هذا التعامل على طبيعة النظرات أو زوايا الرؤية المختلفه لها من أصل السلطة، وتتظافر الطوائف الثلاث مجتمعة في التكوين السياسي الشيعي، وتساهم بصورة مباشرة في توجيه وعي وسلوك الفقيه.

الطائفة الاولى

ـ في حديث طويل عن الامام الرضا : (…إن الامامة هي منزلة الانبياء وارث الاوصياء، إن الامامة خلافة الله وخلافة الرسول ومقام امير المؤمنين وميراث الحسن والحسين ، إن الامامة زمام الدين، ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين، إن الامامة أس الاسلام النامي وفرعه السامي، بالامام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وامضاء الحدود والاحكام ومنع الثغور والاطراف، الامام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ويقيم حدود الله ويذب عن دين الله ويدعو الى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة..الحديث)(1).

ـ عن اسحق بن غالب عن ابي عبد الله في خطبة يذكر فيها حال الائمة وصفاتهم، ومنها ما نصه (..لأن الله تبارك تعالى نصب الامام علماً لخلقه وجعله حجة على اهل مواده وعالمه..لا تصل اليه اعمال العباد الا بمعرفته..كل ما مضى منهم امام نصب لخلقه من عقبه اماماً علماً بيناً وهادياً نيراً واماماً قيماً وحجة عالماً أئمة من الله يهدون بالحق وبه يعدلون، حجج الله ودعاته ورعاته على خلقه، يدين بهديهم العباد وتستهل بنورهم البلاد وينمو ببركتهم التلاد، جعلهم الله حياة للانام ومصابيه للظلام ومفاتيح للكلام ودعائم للاسلام، جرت فيهم مقادير الله على محتومها، فالامام هو المنتجب المرتضى والهادي المنتجى والقائم المرتجى، اصطفاه الله بذلك(2).

ـ عن زرارة عن أبي جعفر في حديث طويل عن الامام واحوال الامام، قال:(أما لو أن رجلاً صام نهاره، وقام ليله، وتصدّق بجميع ماله، وحج جميع دهره، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه، وتكون جميع اعماله بدلالته اليه، ما كان له على الله ثواب، ولا كان من اهل الايمان)(3).

ـ وعن زرارة عن ابي جعفر : في قوله عز وجل (يحكم به ذوا عدل منكم): (فالعدل رسول الله والامام من بعده يحكم به، وهو ذو عدل، فإذا علمت ما حكم به رسول الله والامام فحسبك فلا تسأل عنه)(44).

ـ عن ابي حمزة عن ابي عبد الله قال:( منا الامام المفروض طاعته من جحده مات يهودياً أو نصرانياً الحديث)(5).

وتندرج هذه الترسيمة الصلبة للعقيدة الامامية، في سياق توجيه الوظائف/المؤسسات المنوطة بالدولة، كما يتبين في الروايات التالية:

ـ عن الاعمش عن جعفر بن محمد في حديث شرائع الدين قال:(والجهاد واجب مع امام عادل..الرواية)(6).

ـ في رواية أخرى عن الامام الرضا في كتابه الى المأمون قال (الجهاد واجب مع امام عادل..)(7).

ـ وفي وصية لأمير المؤمنين علي لكميل بن زياد قال: (يا كميل لا غزو الا مع امام عادل ولا نفل الا من امام فاضل..)(88).

ـ عن بشير الدهان عن ابي عبد الله قلت له إني رأيت في المنام أني قلت لك أن القتال مع غير الامام المفروض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير فقلت لي هو كذلك، فقال أبو عبد الله : هو كذلك، هو كذلك(9).

ـ وفي الاثر المروي عن السنة الشريفة، أخرجه ابن ابي شيبة من طريق عبد الله بن محيريز قال: (الجمعة والحدود، والزكاة، الى السلطان)(10).

ـ وفي رواية حفص بن غياث قال: سألت ابا عبد الله من يقيم الحدود، السلطان أو القاضي، فقال: إقامة الحدود الى من اليه الحكم(111).

وبنظرة فاحصة في متون ومضامين هذه الروايات يتبين أنها استندت على غصبية الدولة / السلطة وانفلاتها من حيز الشرعية الالهية منذ انصرافها عن اصحابها الشرعيين (أئمة اهل البيت التكوين السياسي الشيعي ، وتالياً انعكاس هذه النظرة على كل المعاملات مع السلطة.

ووفق هذه النظرة اسست الطائفة الاولى من الروايات لبنى الامامة الالهية الشمولية، بما تبطن نفياً مباشراً لأي شكل آخر من السلطة، واعتبار كل سلطة بموجب المقاييس الواردة في الروايات غصبية.

وارتداداً الى بدايات تدوين التراث العقدي/الفقهي بعد الغيبة الكبرى (وتبدأ من 329هـ)، نجد أن فقهاء الشيعة الاوائل أسسوا أبنية نظرية للامامة الشيعية كما استقرت في فترة ماقبل الغيبة الكبرى بوصفها الصيغة العقدية الثابتة والخالدة، بما يحيل الى نفي الدولة، فالغيبة في الرؤية الشيعية القديمة هي،أولاً: تعبير احتجاجي على الدولة القائمة، يستبطن حجب مشروعيتها (واستتاره من دولة الظالمين)(12)، هذه المشروعية غير قابلة للتحقق الا في زمن الظهور. وثانياً: أن الغيبة يعني انقطاع امكانية تحقق الدولة الشرعية (الامامة)، بما يشي أن المحاولة من بعده.

1- ليست ذات جدوى، يقول الشيخ المفيد (ولو كان في المعلوم للحقّ صلاح باقامة امام من بعده لكفى في الحجة وأقنع في ايضاح المحجة)(13).

2- ليست الدولة / السلطة من مهمات غير الامام (الغائب)، وفي هذا يذكر الشريف المرتضى في كتاب (الشافي في الامامة) ما نصه: (ليس علينا اقامة الامراء اذا كان الامام مغلوبا، كما لا يجب علينا اقامة الامام في الاصل.. ليس اقامة الامام واختياره من فروضنا فيلزمنا اقامته ولا نحن المخاطبون باقامة الحدود فيلزمنا الذم بتضييعها)(14).

3- لو أن ثمة امكانية لتحقق دولة الحق لحبطت الغاية من الغيبة، لأن الاستتار تعبير عن عدم امكان تحقق الدولة الشرعية(15).

ويعقد الشيخان المفيد والطوسي لهذه النقطة مقارنة بين مواقف الائمة السابقين و موقف الامام الثاني عشر. يقول المفيد (إن ملوك الزمان إذ ذاك كانوا يعرفون من رأي الائمة عليهم السلام التقيّة، وتحريم الخروج بالسيف على الولاة)(16). ونجد أكثر توضيحاً في قول آخر له (فلما ظهر ذلك عن السلف الصالح من آبائه عليهم السلام، وتحقق ذلك عند سلطان كل زمان وملك كل أوان، وعلموا أنهم لا يتدينون بالقيام بالسيف، ولا يرون الدعاء الى مثله على أحد من أهل الخلاف، وأن دينهم الذي يتقربون به الى الله عز وجل التقية، وكف اليد، وحفظ اللسان، والتوفر على العبادات، والانقطاع الى الله عز وجل بالاعمال الصالحات، أمنوهم على أنفسهم مطمئنين على أنفسهم، مطمئنين بذلك الى ما يدبرونه من شأنهم ويحققونه من دياناتهم، وكفوا بذلك عن الظهور والانتشار، واستغنوا به عن التغيّب والاستتار)(17)، وكان ذلك يعني ارجاء (ازالة دولة الباطل واقامة دولة الحق) الى حين ظهور الامام المهدي، وهذا ماأضفى لوناً قدرياً على الفقه الشيعي السلطاني، يحيل الى تقرير الحتمية التاريخية التي تتوّج بالوعد الالهي بظهور الامام المهدي لملء الارض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً.

فكان يرى هؤلاء العلماء بأن الاعتقاد بالامامة الشيعية الاثني عشرية وبالغيبة الكبرى للامام الثاني عشر هو نتيجة مباشرة لتقرير الانتظار وحجب الشرعية عن كل الحكومات القائمة في عصر الغيبة.

وانطلاقاً من هذه الخلفية القدرية، يستقيل الفقه السلطاني الشيعي امام الواقع، للاضطلاع بمهمة بناء المعرفة الدينية بأمور الغيبة، وصناعة جيل من المنتظرين المتناسلين على امتداد التاريخ حتى تحقق الحتمية التاريخية ( ظهور الامام المهدي)، وفي سياق هذا الوعي الغيبوي، يفقد الواقع أهميته لحساب المنتظر، وهكذا يُسقِط الفقيه بحث اسس الدولة وادارة الناس كحاجة اجتماعية ماسة وواقعية، ويتلبس بالتنظير للغائب، فهذا محمد بن ابراهيم النعمان (ت 342ـ 953م) يؤكد في كتاب (الغيبة) على أن الامامة حتى في عصر الغيبة جعل الهي وقال: (فمن اختار غير ما اختار الله وخالف امر الله سبحانه ورد مورد الظالمين والمنافقين الحالّين في ناره )، ويستشف من هذا النص أن لا سبيل الى العمل على اقامة سلطة أو انتخاب حاكم حتى ظهور الامام المنتظر، يؤكد ذلك دعوته للشيعة بـ ( الصبر والكف والانتظار للفرج وترك الاستعجال بأمر الله وتدبيره)، وعزز ذلك بروايات تحث على الانتظار في عصر الغيبة، وحذّر الشيعة من الورود مورد العاصين وذكّرهم بحال القابعين في الدرك الاسفل من النار وقال (وهذه حال كل من عدل عن واحد من الائمة الذين اختارهم الله عز وجل وجحد امامته، وأقام غيره مقامه، وادعّى الحق سواه إذ كان أمر الوصية والامامة بعهد من الله تعالى وباختياره لا من خليقة ولا اختيارهم، فمن اختار غير مختار الله وخالف امر الله سبحانه ورد مورد الظالمين والمنافقين والحّالين في النار)(18).

ونسج عدد من مشاهير فقهاء الشيعة على منوال النعمان مثل الخراز الرازي القمي (ت 381هـ) في (كفاية الاثر في النصوص على الائمة الاثني عشر)، وابن بابوية محمد بن علي المعروف بالشيخ بالصدوق (ت 381هـ) في (اكمال الدين واتمام النعمة)، و(الاعتقادات)، والشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي المعروف بشيخ الطائفة (ت 460هـ) في (كتاب الغيبة).

وقد عكست تلك المعتقدات التي قال بها فقهاء الشيعة الاوائل على تصنيفاتهم الفقهية، فقرروا تعطيل بعض الحدود والاحكام كالقتل والجراح، والجهاد وصلاة الجمعة، ومايدخل حسب اعتقاداتهم في ولاية الامام المعصوم، وانقسم الفقهاء في القرنين الرابع والخامس الهجريين حيال الخمس(19) الا أننا نقف في بحوث الجهاد والقضاء الشرعي وصلاة الجمعة كمعايير اختبار لمشروعية الدولة في الفقه الشيعي على نصوص لا تقبل الجدل على الحكم الاصلي في الفقه الشيعي فقد اشترط فقهاء الشيعة الامامية وجود (الامام العادل) أي المعصوم أو نائبه الخاص كشرط لوجوب الجهاد، واقامة الحدود، وصحة انعقاد صلاة الجمعة(20).

إن ما يهمنا هنا، تفسير اغراق علماء الشيعة الاوائل في تشييد بنى الامامة والنفور من الواقع، من السلطة، ويمكن كمحاولة للعثور على اجابات مقنعة أن نعزو هذا النفور الشديد من السلطة، للطغيان السياسي الذي قاسى الشيعة ويلاته في زمان الدولتين الاموية والعباسية انعكاساته الواضحة على الفقه السياسي الشيعي، الامر الذي بالغ معه فقهاء الشيعة في تصوير التحذيرات من مخالطة السلطان(21) الى حد المقاطعة ورفض مجرد التفكير في السلطة حتى في اطارها النظري التجريدي، وتالياً الاعتصام بالتقية كأحد افرازات وردود الفعل الشيعية على السلطة، واستعمالها كأداة مقالية لتفسير وتبرير الواقع التاريخي وتعميمها على الحقول المعرفية عموماً، وتوليد طائفة من المفاهيم الدينية والمعايير العقلية تخضع من طريقها النصوص الدينية التاريخية الى قرائتين: جلي / خفي ، ظاهر / باطن..

ونلحظ بوضوح بناء على المعطى المتقدم أن الفقه الامامي الشيعي ينشطر الى: فقه نصي يتمحور حول يوتويبا الامامة الدينية/المثال والحتمية التاريخية، ويمثل الثابت الديني، وفقه عقلي واقعي يرتكز على مبدأ التقية، يتحول في مرحلة تالية الى اطار تسويغي يجيز عبره الفقهاء تفكيك المفهوم الشيعي للنص الديني الممثل في الاخبار الواردة حول فضل الانتظار(22) والتحذير من الخروج (السعي الى هدم / واقامة السلطة)(23).

لقد كان اشتغال علماء الشيعة بعد الغيبة مباشرة بتقعيد العقائد الشيعية الاثني عشرية باعتبارها امتداداً رسالياً، أدى الى تعطيل التشريع والفقاهة وتجريد الفقيه من أي دور يتصل بالشؤون الدنيوية، تأسيساً على أن الفقه كان على الدوام يتبطن الامامة كعقيدة فاعلة في الحقل التشريعي، وفي توجيه وعي الفقيه.

ويمكن تطبيق هذا الاستبطان على واحدة من الموضوعات الكبرى الداخلة في سلطان الامام وصلاحياته، وهي صلاة الجمعة التي اكتسبت اهمية بالغة الاهمية، وتجاوزت حدود كونها شعيرة عبادية فحسب، واصبحت ذات صلة وثيقة بالمسألة السياسية في الاسلام، ففي حديث عن الامام علي التكوين السياسي الشيعي قال: لا جمعة الا في مصر تقام فيه الحدود(244)، وقد أهمل الفقيه الشيعي الشروط التي تعرض لها بعض علماء السنة مثل السرخسي (ت 4833هـ) فيما يتصل بوجوب صلاة الجمعة وهي: المصر، الوقت، الخطبة، الجماعة، السلطان، الاذن العام(25)، ولم ينل الحديث سالف الذكر عناية كافية من قبل الفقيه الشيعي، لحساب تأكيد شرط الامامة الذي يحتوي الشروط الاخرى ويجعلها ملحقة به، على أن تأكيد التعاليم الفقهية الشيعية كما هي نظيرتها السنية على اقامة جمعة واحدة في جامع واحد في المصر الواحد، ترمز الى الوحدة السياسية، أي وحدة الجماعة، وأن وجود الامام في الوعي الشيعي، محقق للمصر، والذي تصبح اقامة الجمعة، وامضاء الاحكام واجبة، وبه تقام سلطة موحدة.

وربما بسبب هذه التشابكات واختلال الاولويات، يصبح مفهوم المصر غائماً في التراث الفقهي الاسلامي عموماً، وسنجد صعوبة بالغة في لملمة دلالاته عبر الموضوعات التي يرد فيها ذكر للمصر، وهو كما تكشف تلك الدلالات لأول وهلة: الاقليم الذي تتوافره فيه امكانية لممارسة السلطة أياً كان شكلها: امضاء الحدود، اقامة صلاة الجمعة، تنفيذ الاحكام الشرعية، والاقليم هنا يعني حيز الاستقرار الاجتماعي، أي مكان لجماعة بشرية مستقرة، في مقابل الترحال كصفة للبدو، وحيز لممارسة السلطة.

وفي كل الاحوال، بقى الفقه الشيعي متصلاً في موضوعاته الكبرى بالعقيدة التي يصدر عنها، فهو اضافة الى ركونه الى عقيدة صلبة في الامامة، لم يتحرر تماماً من خلفية الصراع السياسي (الخلافة/الامامة) وامتدادته، والتي ستواري الكثير من الموضوعات والمسائل التي تدخل شريكاً مع الامامة أو تندرج في قائمتها، كما ظهر جلياً في شروط صلاة الجمعة، ويظهر في موضوعات اخرى مثل الحدود والقضاء والجهاد..وغيرها.

الطائفة الثانية
ـ السلطان والدنيا تأمان

عن ابي عبد الله تتظافر الطوائف الثلاث مجتمعة في التكوين السياسي الشيعي قال قال رسول الله : (الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل يا رسول الله ومادخولهم في الدنيا، قال: اتباع السلطان فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم)(26).

ـ وفي حديث عن الامام التكوين السياسي الشيعي مع سليم بن قيس الهلالي جاء فيه: ( .. إن في ايدي الناس حقاً وباطلاً وصدقاً وكذباً وناسخاً ومنسوخاً وعاماً وخاصاً ومحكماً ومتشابهاً وحفظاً ووهما.. وإنما الناس مع الملوك والدنيا الا من عصم الله)(27).

ـ السفر الى السلطان يدخل في باب سفر معصية يوجب التمام

عن ابي سعيد الخراساني قال، دخل رجلان على ابي الحسن الرضا بخراسان فسألاه عن التقصيرفقال لأحدهما وجب عليك التقصير لأنك قصدتني، وقال للآخر وجب عليك التمام لأنك قصدت السلطان(288).

ـ عمل السلطان وماله حرام الا لضرورة

1 ـ عن ابي عبد الله التكوين السياسي الشيعي: سئل عن عمل السلطان يخرج فيه الرجل، قال: لا الا أن لا يقدر على شيء ولا يأكل ولا يشرب ولا يقدر على حيلة، فإن فعل فصار في يده شيء فليبعث بخمسه الى أهل البيت(29).

2 ـ في حديث للامام الرضا مع احد اصحابه:…يا زياد لأن اسقط من حالق فأتقطع قطعة قطعة أحب الي من أن أتولى لأحد منهم عملاً أو أطأ بساط رجل منهم..)(300).

3 ـ في رواية عن ابي ولاد قال، قلت لأبي عبد الله ماترى في الرجل يلي اعمال السلطان ليس له مكسب الا من اعمالهم وأنا أمرّ به وانزل عليه فيضيفني ويحسن إلي وربما أمر لي بالدراهم والكسوة، وقد ضاق صدري من ذلك، فقال لي: خذ وكل منه فلك المهنا وعليه الوزر(31).

ـ الترافع الى السلطان قسوة للقلب ومبطل للذمة

ـ من وصايا النبي الى علي:..يا علي، ثلاثة يقسين القلب، استماع اللهو وطلب الصيد، واتيان باب السلطان..(322).

ـ سأل ابان بن تغلب، أبا عبد الله عن رجل تزوج امرأة فلم تلبث بعدما أهديت اليه الا أربعة أشهر حتى ولدت جارية فأنكر ولدها، وزعمت هي أنها حبلت منه فقال، لا يقبل ذلك منها وإن ترافعا الى السلطان تلاعنا وفرّق بينهما ولم تحل له ابداً(33).

ـ الحكام أشقى الناس

ـ في رواية عن الامام الصادق عن آبائه عن رسول الله قال:(أعبد الناس من اقام الفرائض، وأسخى الناس من أدى الزكاة، وأزهد الناس من اجتنب الحرام..وأورع الناس من ترك المراء وإن كان محقاً وأقل الناس مروءة من كان كاذباً وأشقى الناس الملوك وأمقت الناس المتكبر..)(34).

ـ إحداثات الحكام

ـ عن ابن مسعود عن النبي التكوين السياسي الشيعي في وصية طويلة قال: سيأتي اقوام يأكلون طيب الطعام والوانها ويركبون الدواب ويتزينون بزينة المرأة لزوجها ويتبرجون تبرج النساء، وزينتهن مثل زي الملوك الجبابرة هم منافقو هذ الامة..(355).

ـ عن ابي محمد عن رجل عن الرضا التكوين السياسي الشيعي: أنه ذكر له الوضوء قبل الطعام فقال ذلك شيء أحدثته الملوك ( 36).

ويتبين بعد امعان النظر في مضامين هذه الطائفة من الروايات، وبلحاظ السياقات التي ورد فيها ذكر السلطة أو أحد عناوينها ومرادفاتها، ثمة رؤية اسلامية عامة تزداد رسوخاً عند الشيعة الامامية تؤكد على أن السلطة ليست ذات قيمة ايجابية في التقليد الاسلامي والتاريخي، في مستوى النص وفي مستوى التجربة سواء بسواء، وفي الحد الاولى هي مورد نفور المسلمين عموماً، وتعزز هذا النفور في الوسط الشيعي منذ تفجرّ الصراع على السلطة، وخروج الامامة من اهل البيت.

وبفعل التجارب السلطانية في تاريخ المسلمين، جرى تطوير وتوجيه النصوص الدينية، بحيث نجد تمثيلاًـ انصباب الجهود على مطابقة كل النصوص التي تحدثت عن الظلمة وصرفها الى السلاطين ، ويظهر هذا الانغماس جليّاً في الادبيات الشيعية، إذ يتم تفسير كل الآيات التي تحدثت عن الظلمة على أنهم السلاطين والحكام الذي اغتصبوا حق أهل البيت كقوله تعالى (ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار) أو قوله تعالى (من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) وفي آية اخرى (الظالمون) وفي آية ثالثة (الفاسقون)، وكل آية تناولت مفردات مثل: ظلم، ظالم، ظالمين واشباهها.

ورجوعاً الى جذور الموقف السلبي من السلطة، نجد أن منبع هذا الموقف يرتد الى التفسير الاولي المرتكز على اعتقاد أن الدين نقيض الدولة وضدها، وربما جاءت التجارب السياسية في التاريخ الاسلامي، أي تاريخ السلطنات لتعمق هذا الشعور السلبي التنافري مع السلطة الدولة، كونها اصبحت ساحة حرب المصالح والتسويات السياسية، أي ساحة صراع على الدنيا التي اراد الدين اهمالها لحساب الوعد بجنة عرضها السموات والارض اعدت للمتقين.

لقد اعتبرت السلطة الدولة بحسب الادبيات الفقيهة والعقدية الشيعية رمزاً دنيوياً ممقوتاً وصنوا حميمياً للدنيا كما تصرح بذلك الروايات، كما احتلت السلطة الدولة على الدوام جانب السلب في المقابلات التي توردها التحذيرات الدينية، فاكدت النصوص الدينية الشيعية (والاسلامية عموماً) على أن الاقتراب من السلطان يعني الجنوح الى المعصية، والانغماس في الشهوات والركون الى الدنيا الفانية، وأن السفر الى السلطان سفر معصية يوجب تمام الصلاة والامساك عن الاكل والشرب اذا كان في رمضان، كما أن العمل معه كأكل الميتة، لا يجوز الا في حال الضرورة فالأصل فيه الحرمة، وأن سكة السلطان سكة الهلاك، وإذا اراد الله بعبد شراً مكّنه من العلاقة مع السلطان، وأن الملوك هم اشقى البشر، وفي كل الاحوال يقف السلطان في الوعي الشيعي في مقابل التقوى والورع والزهد، وأن السلطة في الوعي الشيعي، جائرة، فاسدة، مفسدة، والأصل أن رسالة الاسلام جاءت لايصال كلمة الدين الى الدولة ( الجائرة على الدوام) كما يوحي بذلك حديث نبوي (افضل الجهاد كلمة حق امام سلطان جائر).

وبحسب الوعي الشيعي العام، كان انتصار معاوية على الامام علي الخليفة الشرعي، قد سلب من الدولة المشروعية الدينية، والتي ستظل مسلوبة طالما ظل ائمة اهل البيت خارج الدولة (= غياب الامام المهدي)، والتي ستصبح أعني الدولة مرتعاً لاصحاب المصالح المادية ووكراً لطلاب الدنيا وخصوم الدين.

وكانت احالة الخلافة الى ملك سياسي عضوض مع وصول بني امية الى سدة الحكم، بداية الفراق بين الدين والدولة، حيث اقام بنو امية ملكهم على اساس المبدأ القبلي، وتخلصوا من اهل الدين والفقه من الصحابة، واصبحوا ملاّك الدين والدنيا والاوصياء على جماعة المسلمين بالقوة والاكراه، اضطرهم احياناً للدخول في معارك دموية، أو الصدام مع المقدس، كضرب الكعبة، وقتل نسل النبي، وصفوته، وتشريد البقية الباقية من صحابته.

وهكذا، عرفت الدولة في الادراك الشيعي العام، بأنها الاخضاع بالاكراه والقسر، في مقابل الدين الذي يقوم على الرضا والاقتناع الحر، الدولة التي تعني اقفال الحدود في مقابل ديناميكة الدين القاهرة للحدود والمبشرة برسالة عالمية تخترق الاسيجة عبر الجهاد، والدعوة الى الاسلام، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومما زاد في كراهية السلطة الدولة، سلسلة الصراعات السياسية المتواصلة على امتداد التاريخ الاسلامي (الاموي والعباسي حصراً)، والتي عكست ظلالها على الفعاليات الدينية والاجتماعية والفقهية، بحيث بات فقهاء / متكلمو الشيعة مع النصف الاول من القرن الرابع الهجري وفقهاء السنة مع النصف الاول من القرن الخامس الهجري ينظّرون لسلطة قهرية، كنموذج نهائي ووحيد في التاريخ الاسلامي يقصي وراءه اعتقاد طوباوي نميل الى ترديده اليوم من أن الحكم في الاسلام شوري / انتخابي / ديمقراطي.

لقد انتهى الوعي الشيعي من عملية الادلجة هذه للسلطة الى موقف مبدئي حدد على اساسه سيرورته العامة، فكان موقفه الاولي: اعتزال السلطة، ومقاطعتها، وتجريدها من لمشروعية حتى يكتب الله ظهور الامام المهدي الذي يتحقق على يديه نصاب الدولة الشرعية.

الطائفة الثالثة

1 ـ في رواية مشهورة عن الامام علي :(…لا بدّ للناس من امير برٍ أو فاجر، يضمّ الشعث، ويجمع الأمر، ويقسم الفيء، ويجاهد العدو، ويأخذ للقوي من الضعيف، حتى يريح برٌّ ويستراح من فاجر)(37).

2 ـ في رواية عن الامام الرضا عرض فيها اسباب وجود السلطة، وقال:(..فإن بقاء الناس واستمرار حياتهم مرهون بوجود الحاكم).

3 ـ في رواية عن الامام زين العابدين علي بن الحسين قال:(..وحق السلطان : أن تعلم أنك جعلت له فتنة وأنه مبتلى منك بما جعله الله له عليك من السلطان وأن عليك أن لا تتعرض لسخطه فتلقي بيدك الى التهلكة وتكون شريكاً له فيما يأتي اليك من سوء)(38).

4 ـ وعن الامام موسى بن جعفر قال:(لا تذلوا رقابكم بترك طاعة سلطانكم فإن كان عادلاً فاسألوا الله بقاه وإن كان جائراً فاسألوا الله صلاحه، فإن صلاحكم في صلاح سلطانكم، وإن السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم، فأحبوا له ماتحبون لأنفسكم وأكرهوا لكم ماتكرهون لأنفسكم)(39).

5 ـ وعن انس قال، قال رسول الله :(طاعة السلطان واجبة ومن ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة الله عز وجل ودخل في نهيه، إن الله عز وجل يقول (ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة)(40).

وتسعى هذه الطائفة من الروايات الى ارجاع السلطة الى مكونها الاولي/الطبيعي، المؤسس على النزوع البشري نحو وجود نظام / رابطة / كيان يضطلع بـ : حفظ النوع، ودرء المفاسد، وحراسة المصالح العمومية، وصيانة الانفس من العدوان، بكافة اشكاله، لتنهض من اثارة بواطن هذا النزوع، مطلباً بضرورة التسليم لما جبل الميل الفطري عليه، وفي نفس الوقت تحاول ايجاد مخرج مقبول اثر انسداد افق الامامة برسوخ سلطان خصوم الشيعة بعد الغيبة الكبرى، إذ ليس امام الشيعة سوى الاعتقاد بوجود حاجة فعلية للتعاطي مع سلطان الوقت.

وفي ضوء هذا التمايز بين الطوائف الثلاث سالفة الذكر، ينشق طريق سويّ للخروج من مأزق الشرعية، نظراً لغياب السلطة الدينية الالهية، إذ تجري تسوية الاحكام الصارمة القاطعة كما تخبر عنها النصوص حيال االامامة (الطائفة الاولى) والسلطة غير الشرعية الممقوتة (الطائفة الثانية)، حيث الانتقال من الديني الى الدنيوي، ومن الالهي الى البشري (الطائفة الثالثة)، وهذا التمايز كما سيعكس ظلاله على ابحاث الفقهاء وعلماء الكلام الشيعة، هو تمايز بين حكم الدين /الشريعة / الامامة ، وحكم الدنيا / السياسة / البشر ، وهذا ناشيء في صيرورته التاريخية عن أولا : انتهاء عصر النص مع حلول الغيبة الكبرى ، وثانياً : انفصال الحكم عن الشريعة، أو المؤسسة السياسية عن المؤسسة الدينية منذ خروج الحكم عن آل البيت ثم اكتمال الانفصال في غياب آخر امام للشيعة الاثني عشرية.

وفي واقع الامر، تشكل فترة الغيبة في بداياتها منعرجاً حاداً في مسيرة الشيعة بحيث اصبحوا في مواجهة مأزق غير اعتيادي، وكان على الفقهاء تمثل سيرة الائمة والحلول مكانهم في حد ادنى، فكان شعور الفقهاء بأنهم من الناحية العملية خارج مظلة الحكم وغرائب عليه، ومتلبسون بوضع تشريعات لكيفية التعاطي مع السلطات بشكله الغريب عنهم والخارج عن حدود صلاحياتهم، قد تعزز مع تكوّن طبقة من الفقهاء والكلاميين الشيعة خارج مظلة السلطة منذ القرن الرابع الهجري، وايضاً في تعارض مع السلطة، نزعت هذه الطبقة المشروعية الدينية عن السلطة من خلال رفض التنازل للسلطة عن الموضوعات ( صلاحيات) التي تشكل امتيازاً خاصاً بالامام مثل: الجهاد، القضاء، انفاذ الحدود، صلاة الجمعة، الخراج..الخ.

وفي هذا المورد، أرى ضرورة أن أشير الى أن الامام يظل على الدوام يشكل محور التفاف الشيعة، وتوحدّهم، فبدون الامام ليس هناك مبرر للجماعة، كما تفقد الامة قوتها ومصدرها (الامام) وهذا يعني تعطيل كل تمظهرات الامة والجماعة من قبيل (الجمعة، الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، امضاء الحدود والاحكام، الجهاد، وتطبيق الشريعة في مستواها الجمعي).

وبهذا يتفق الشيعة والسنة على ضرورة وجود امام يقيم النظام العام وأن لا صحة للامة بدون صحة السلطان، كما يقول الامام احمد بن حنبل، هي فكرة ومبدأ عميق وراسخ الجذور في الوعي الشيعي، الا أن الاختلاف يندرج في سياق التمثّل، أي الشخص الذي تتمثل فيه الامامة، حيث يرى الشيعة بأن الامامة مقيدة / موقوفة / الهية / نصّية ، أي امتياز خاص لأشخاص بعينهم، بينما هي مطلقة لدى السنة.

لقد وجد فقهاء الشيعة الاوائل انفسهم امام تحولات سياسية بالغة الجدّة، وتنطوي تداعياتها على رابطة وثيقة بالمذهب الشيعي، فبعد قرابة خمس سنوات على وقوع الغيبة الكبرى ظهرت الدولة البويهية الشيعية سنة 334هـ فسيطرت على جنوب ايران وغربها، وكان أحمد بن بويه الملقب بمعز الدولة قد استولى على بغداد مركز الخلافة العباسية وخلع الخليفة المستكفي بالله وعين مكانه المطيع لله(41) واعتبر دخول البويهيين عاصمة الخلافة تحولا خطيرا في تاريخ الخلافة سلب من الخليفة العباسي سلطانه الفعلي ولم يعد سوى رمزاً للسلطة الدينية وكان دأبه الطاعة لبني بويه، فيما دان الاخيرون بالتشيع منذ البداية وعملوا على نشره، فشجعوا الشعائر الحسينية وفي سنة 352هـ امر معز الدولة باقامة التعازي وعقد المناحات في عاشوراء واحياء لذكرى شهادة الحسين، فأجبر أهل بغداد على اغلاق الدكاكين والكف عن البيع والشراء والتلبّس بالنواح في هذه الذكرى..آية على الولاء لآل البيت (42) ، وأصدر امراً آخر بسب الصحابة وأن يكتب على مساجد بغداد مايلي:(لعن الله معاوية بن ابي سفيان، ولعن من غصب فاطمة رضي الله عنها فدكاً، ومن منع أن يدفن الحسن عند قبر جده عليه السلام، ومن نفى أبا ذر الغفاري، ومن أخرج العباس من الشورى)(43). لقد توشّح هذا الولاء التشيعي احياناً طابعاً سياسياً، بما يشي بحقيقة تمذهب الدولة البويهية واندكاكه في مجال تحصين الدولة وتحصيل الشرعية(44).

لقد أدى قيام الدولة البويهية على ارضية شيعية، الى جبر ثلمة الروح الشيعية بعد وقوع الغيبة الكبرى وعوّض الشيعة عن الشعور باليأس من تحسّن الاوضاع ولربما ساعد في تعدّيل الموقف السلبي التاريخي القانط، وعلى الصعيد الفقهي تحديداً كان الفقيه بحاجة الى حدث يخرجه من كهف العزلة والانتظار الى ميدان المشاركة والانفعال بالاحداث والتأثير فيها.

ونلحظ هنا أن حركة تدوين نشطة للمؤلفات الشيعية بدأت تمهر الدولة البويهية بلونها، فأمهات الكتب الشيعية المرتبطة بالمذهب الامامي كتبت في العصر البويهي فور انقطاع سلسلة النص الديني بعد غيبة الامام المهدي، وقد اعتبر علي الشابي حركة التدوين تلك (اساساً من اسس النهضة الفكرية التي حدثت في العهد البويهي، وهي نهضة شملت العلم والادب على السواء(45)، فيما يرجع محمد باقر الخوانساري (من علماء الشيعة) فضل هذه النهضة العلمية الشيعية الى الخلفاء العباسيين :(لأنهم كانوا مبالغين في تعظيم العلماء والفضلاء من العامة السنة والخاصة الشيعة ولم يكن الى زمان شيخ الطائفة الطوسي تقية كثيرة، بل كانت المباحثة في الاصول والفروع حتى في الامامة في المجالس العظيمة)(46).

وأياً كان الحال، بدأت تتضح في غضون هذه الفترة ملامح المدرسة الشيعية الاثني عشرية، فقد كتب محمد بن يعقوب الكليني (ت 329هـ) الاصول والفروع من (الكافي)، وكتب محمد بن علي بن بابوية المعروف بـ (الشيخ الصدوق) (329 381هـ) الذي عاش في بغداد تحت رعاية السلطان ركن الدولة البويهي (من لا يحضره الفقيه)، وقيل أن ركن الدولة افاد من نظرية الصدوق في الامامة في تدبير شؤون الدولة ثم جاء الشيخ الطوسي، وكان يدعى بشيخ الطائفة وأكمل منظومة الروايات الشيعية في (الاستبصار) و (تهذيب الاحكام).

وبالرغم من أن المصنفات الشيعية في تلك الفترة بما في ذلك الكتب الاربعة تجاوزت الدولة البويهية الشيعية كحقيقة سياسية، وأكدت أصالة الانتظار ومايفرضه من التزامات دينية، واعتبار الحكومات القائمة في عصر الغيبة مسلوبة الشرعية، ورسوخ هذه الظاهرة وسط العلماء المشتغلين بجمع الرويات عن الرسول والائمة الاثني عشر، وبالرغم ايضاً من أن التراث الغيبي أعني المصنفات الفقهية والعقدية الصادرة بعد وقوع الغيبة الكبرى، ظل حاكماً على طريقة عمل ونمط تفكير الفقهاء، الامر الذي عطّل دور الفقيه والفقه في عصر الغيبة سيما بعد انتهاء فترة النيابة الخاصة أي النواّب الاربعة المنصوبين من قبل الامام المهدي(47) ، الا أن ثمة حقيقة جديدة بدأت تظهر في ظل الدولة البويهية التي اعتمدت سلوكاً معتدلاً وجذّاباً مع الفقيه الشيعي، الذي قابل هذا السلوك بخطوات ايجابية، بدأت بخروجه من عزلته التقليدية، ومن ثم الانتقال بالتشيع من مهمة المراقبة والانتظار حتى ظهور الامام المهدي الى الانغماس تدريجياً في الحياة اليومية.

وبطبيعة الحال، لم يكن ممكناً أن يأتي هذا الخروج من جانب الفقيه الشيعي، ولا الانفعال في الواقع المعايش دونما اعادة تشكيل وعي الفقيه نفسه، من خلال مراجعة عقلانية للمسبقات الذهنية حول الامامة والتراث السلطاني الشيعي بوجه خاص.

ارهاصات العقلنة

أفرزت التحولات السياسية بعد الغيبة الكبرى وبوجه خاص إثر قيام دولة بني بويه الشيعية تمايزات في الوسط الفقهي/الكلامي الشيعي، انشقت عن خط فقهي/كلامي جديد ينخرط في الشأن العام ويتفاعل مع الواقع السياسي، ففي مقابل الخط التقليدي المتلبّس بصورة شبه كاملة بالاخبار الروايات والانغماس في تراث الانتظار واعتزال الحياة السياسية، وعدم الاقرار بشرعية الدول القائمة في عصر الغيبة، نشأ خطأ اجتهادي يؤسس لفقه الواقع، تأثر بحركة الاجتهاد في العالم السني، وحركة الفلسفة والعقليات التي تنامت بدرجة كبيرة في القرن الرابع الهجري، انتجت معها آليات عقلية استعارها الفقيه بما يسمح له تأويل الروايات المتصلة بالانتظار والغيبة استنباط الاحكام وفق القواعد الكلامية المنطقية.

ثمة ضغوطات شديدة التأثير تعرض لها فقهاء الشيعة من الحركة الاصولية في العالم السني في مرحلة مبكرة من عصر الغيبة ، تدفع باتجاه البحث عن وسائط عقلية تتيح للفقيه انتاج معارف وأحكام جديدة ، والمطالبة بالاجتهاد، أي بالتجديد، على اساس المحاكاة للنصوص دون الاغراق فيها، بمعنى التفريع على الاصول، فقد تواضع فقهاء الشيعة الاوائل على مصطلح (رواة الحديث) بما هو وظيفة للفقيه، يضطلع بجمع الروايات دون اضافة وعيه الخاص عليها، وهو مصطلح يدل بوضوح على أن الغاية هي غرس الاعتقاد بجدارة وكفاية النص الديني، بما يؤهل الفرد للعمل من أجل الالتزام بفحوى قول المعصوم دون واسطة ، وهو بالضبط متبنى الخط الاخباري، الذي يحيل الى نفي مطلق لنيابة الفقيه عن الامام المعصوم.

وقد تصدى فقهاء الشيعة في المرحلة الاولى انطلاقاً من الدفاع عن الذات لدفع تهمة التلبس بالاخبار عن المذهب الشيعي، وقلة المسائل لعدم اخذ الشيعة بالتفريع على الاصول، أي الاجتهاد، الذي اكتسب مدلولاً سلبياً في الوعي الفقهي الشيعي القديم ، وكان أقرب الى القول بالرأي أو الاجتهاد في مقابل النص(48) ، وهذا يفسر سبب عزوف فقهاء الشيعة عن الاجتهاد واعلانهم الحرب على الآخذين به، ومن ذلك تعرض الشيخ محمد بن أحمد ابن الجنيد الاسكافي (ت 378هـ) لحملة ضارية من فقهاء الشيعة ، بعد تصنيفه كتاب (تهذيب الشيعة) في عشرين مجلداً، ويعد الاسكافي أول فقيه شيعي يأخذ بالقياس وأول من فتح باب استنباط الفروع على طريقة فقهاء السنة، فكان كتابه جامعاً للفروع والاصول والاستدلال، فكتب الشيخ المفيد تلميذ ابن الجنيد نقضاً عليه باسم (النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي)، وكتب المرتضى في الانتصار) في بداية القرن الخامس للرد على ابن الجنيد وقال مانصه (إنما عوّل ابن الجنيد.. على ضرب من الرأي والاجتهاد وخطأه ظاهر)(49)، أما الشيخ الطوسي في (الفهرست) فقال عنه (كان جيد التصنيف حسنه، الا أنه كان يرى القول بالقياس فتُركت لذلك كتبه ولم يعوّل عليها)(50).

ويقدّم النص التالي وصفاً لطبيعة السجال المتنامي في تلك الفترة حول موضوعة الاجتهاد ، حيث يقول الشيخ الطوسي في (المبسوط) : ( ..فإني لا أزال اسمع معشر مخالفينا من المتفقهة المنتسبين الى علم الفروع يستحقرون فقه اصحابنا الامامية ويستنزرونه ، وينسبونهم الى قلة الفروع وقلة المسائل، ويقولون إنهم أهل حشو ومناقضة، وأن من ينفي القياس والاجتهاد لا طريق له الى كثرة المسائل ولا التفريع على الاصول لأن جلّ ذلك وجمهوره مأخوذ من هذه الطريقين ، وهذا جهل منهم بمذاهبنا، وقلة تأمل لأصولنا، ولو نظروا في أخبارنا وفقهنا لعلموا أن جلّ ماذكروه من المسائل موجودة في أخبارنا ومنصوص عليه عن أئمتنا الذين قولهم في الحجة يجري مجرى قول النبي أما خصوصاً أو عموماً أو تصريحاً أو تلويحاً . وأما ماكثروا به كتبهم من مسائل الفروع فلا فرع من ذلك الا وله مدخل في أصولنا ومخرج على مذاهبنا لا على وجه القياس بل على طريقة توجب علماً يجب العمل عليها ويسوّغ المصير اليها من البناء على الاصل وبراءة الذمة وغير ذلك)، ويرد الشيخ الطوسي تنامي الاتجاه الاخباري الشيعي واحجام فقهاء الشيعة عن ولوج علم الاصول الى (قلة رغبة هذه الطائفة الشيعية فيه وترك وعنايتهم به، لأنهم ألفوا الاخبار ومارووه من صريح الالفاظ حتى أن مسألة لو غير لفظها وعبّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها وقصر فهمهم عنها)(51).

ومن الواضح هنا، أن علماء الشيعة درجوا في تلك الفترة على (تدوين كتبهم الفقهية بالاقتصار على نقل الروايات بأسانيدها والافتاء بهذا النحو في المسائل الفقهية، فكان كل كتاب يعد مسنداً للرواي ، قد جمع فيه مجموع رواياته عن الامامة أو الائمة في كتابه وكان الافتاء بشكل نقل الرواية بعد اعمال النظر ومراعاة ضوابط الفتيا وهكذا مضى القرن الثالث.

وباطلالة القرن الرابع ظهر لون جديد في الكتابة والفتيا وهو الافتاء بمتون الروايات مع حذف اسنادها والكتابة على هذا النحو مع اعمال النظر والدقة في تمييز الصحيح عن الزائف فخرج الفقه في ظاهره عن صورة نقل الرواية ، واتخذ لنفسه شكل الفتوى المحضة)(52).

واختلفت الروايات حول بدء فتح باب الاستنباط، يقول الميرزا التبريزي مانصه (فكان أول من فتح باب استنباط الفروع من أدلتها الشيخ محمد بن أحمد بن الجنيد الكاتب الاسكافي والمعاصر للكليني والصدوق. كتب الفروع الفقهية وعقد لها الابواب في كتاب (تهذيب الشيعة) وكتاب (الاحمدي) ثم اقتفى اثره الحسن بن علي ابن عقيل المعروف بالعماني الحذاء وسار على الخط نفسه الشيخ المفيد الذي ألّف (المقنعة) ثم كتب المرتضى (الانتصار) ، وكتب الطوسي (المبسوط) و(الخلاف) و(النهاية)(53).

أما الشيخ جعفر السبحاني فيذهب الى أن (أول من فتح هذا الباب على وجه الشيعة بمصراعية هو والد الشيخ الصدوق (علي بن الحسين بن موسى بن بابويه) المتوفي 329هـ ، فألف كتاب (الشرائع) لولده الصدوق.. فتبعه ولده الصدوق المتوفي 381هـ فألف (المقنع والهداية) وتبعه شيخ الامة ومفيدها (محمد بن النعمان) المتوفي 413هـ في (المقنعة) وشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي المتوفي 410هـ ، في النهاية)(54)، وعضّد محمد واعظ زادة الخراساني هذا الرأي، وإن رجّح فيما بعد ما تواطأ بعض علماء السيرة الشيعة عليه: أن المؤسس الاول للاجتهاد هو الحسن بن ابي عقيل العماني المعاصر للشيخ الكليني (ت 381هـ) ، وبعده بن الجنيد المعاصر للشيخ الصدوق (ت 381هـ) ، وكان الشيخ المفيد تلميذاً لهذين وكان حسن الظن بهما فتابع طريقتهما ومنه تسرّى ذلك الى طلابه الذين تخرجوا عليه ومنهم السيد المرتضى والطوسي ومن عاصرهما(55) ولكن ليس هناك ما يمكن الرجوع اليه من كتبهما، إذ لم يبق منها سوى ماينقله الفقهاء الاوائل مثل المفيد والمرتضى والطوسي من آراء تعود اليهما.

ورغم ذلك يبقى الطوسي هو (المؤسس الاوحد لطريقة الاجتهاد المطلق في الفقه وأصوله)(56)، وأنه أول من وضع فيصلاً بين طريقتين في الفقه: الفقه المنصوص (= فقه الرواية)، والفقه المستنبط (فقه الدراية)، إذ يتفق الكثيرون (على أن هذا اللون من الفقه كان رواجه واستقراره رسمياً على يد الشيخ الطوسي(57).

وفقهياً ، ستنشأ من خلال الشخصية الفقهية المركبة لدى الطوسي أول معركة بين اتجاهين فقهيين (أصولي / عقلي في مقابل اخباري / نقلي) ولّدتهما ظروف المرحلة التي عاشها الطوسي، مرحلة انتقالية مربكة تتردد بين التمسك بخيار النقل ، كخيار نهائي لعمل الفقيه، أو التوسل بالعقل في وعي النص ، ويعد الشيخ الطوسي اول من اسس للاختلاف بين الفقهاء الشيعة، فقد لوحظ أن الطوسي في كتابيه (المبسوط) و(الخلاف) يظهر أنه: مجتهد صرف ، أصولي بحت، بل ربما سلك مسلك العمل بالقياس والاستحسان في كثير من مسائلهما.

ولكن في كتابه (النهاية): سلك مسلك الاخباري الصرف، بحيث أنه لا يتجاوز مضامين اخبار، وإن لم يتعد مناطق الآثار، وحسب رأي محمد بن ادريس الحلي في الطوسي من خلال كتابه (النهاية) : (لم يسلك مسلك الفتوى، وانما مسلك الرواية، وكتابه كتاب الرواية ، لا كتاب فتوى ودراية)(58).

وفي الواقع، ليست التصنيفات الفقهية وحدها المثيرة للخلاف والتي تعبر عن تجاذب اتجاهين متنافرين، وإنما هي منعكسة ايضاً حتى في تصنيفيه الروائيين المكملين للكتب الاربعة لدى الشيعة الاثنى عشرية، وهما (الاستبصار) و(تهذيب الاحكام)، ولم يكن بين الشيعة اختلاف كثير قبل تصنيف الطوسي لهما، لأن مدار عملهم حسب الخوانساري (أحاديث كتاب (الكافي) ولم يكن بين احاديث كتابه اختلاف ، ولما صنّف الشيخ رحمه الله مصنفات كثيرة وجمع الاحاديث المختلفة، واختلف في كتبه في فتاويه إجترأ الامامية على الاختلاف. .)(59).

ويمكن تقسيم الحياة العلمية للشيخ الطوسي الى مرحلتين:

ـ مرحلة النقل: صنّف خلالها كتابيه الكبيرين في الحديث (تهذيب الاحكام) و(الاستبصار)، كتبهما في بدايات حياته العلمية، ولا يعني ذلك نفي أو اثبات خضوعه لتأثير مباشر من استاذه الشيخ المفيد خلال الخمس سنوات التي قضاها الطوسي في مجلس درس الشيخ المفيد، فالاخير الى جانب نزوعه الشديد نحو الكلام كانت له نزعته الاخبارية ايضاً.

ـ مرحلة العقل: بدأ فيها الانفتاح على علوم المذاهب الاخرى، التي كان أقطابها ينشطون في بغداد، فاستحسن نظرات المذهب الشافعي في الاصول والكلام، وقد ضمّن آراء المذاهب الاسلامية في كتابيه (تفسير التبيان) و(الخلاف) وفوق ذلك (ترويجه الفقه التفريعي واشاعته طريقة (الاجتهاد) بين الشيعة على النحو المعمول به عند أهل السنة. . ةاقتباسه عباراتهم وخصوصاً من كتب الامام الشافعي ولا سيما في كتابه(المبسوط) وايراده للروايات من طرقهم..)(60)، وربما بسبب طريقته هذه، عدّه تقي الدين السبكي في (طبقات الشافعية) والعلامة جلال الدين السيوطي في (طبقات المفسرين) على أنه كان شافعي المذهب(61) قبل أن ينتكب منه الى التشيع عند المفيد.

ولعل من المناسب الاشارة هنا الى دور علم الكلام في العقل الشيعي، ومن الثابت أن علم الكلام عند الشيعة تأسس على يد هشام بن الحكم (أحد ابرز حواريي الامام جعفر الصادق وكان الهدف منه أي علم الكلام الدفاع عن المذهب والرد على المخالفين، ثم تنامى وسط الشيعة كلما ازدادت حركة الترجمة وتفاقمت السجالات المذهبية، الى أن بلغت الذروة في أواخر القرن الرابع الهجري على يد الشيخ المفيد، حيث برع في اتقان هذا الفن في الجدالات الكلامية، وكان من سحر بيانه الكلامي أنه اقنع خلق كثير بالتشيع وعلى حد قول الخطيب البغدادي في ترجمة الشيخ المفيد (هلك به خلق من الناس الى أن أراح الله المسلمين منه..)(62).

ومن الواضح ايضاً، أن جيل المفيد والمرتضى وشيوخهم والمعاصرين لهم وصولاً الى الشيخ الطوسي نفسه، لم يعرف بوصفه جيل فقهاء، بل كان مرجعاً في علم الكلام، وهكذا ايضاً تحكي تصانيفه ، فأكثرها في المسائل الكلامية فيما لم ينل الفقه سوى نسبة ضئيلة، وربما ذلك عائد في جزء منه الى كون التشيع كمذهب إثني عشري وايديولوجيا تامة كان في بدايات تدوين معارفه وكان بحاجة للتحصن باستدلالات منطقية ومحاججات كلامية رصينة لمواجهة اشكالات المخالفين، ومن جهة ثانية الجو الكلامي النشط في بغداد كمركز علمي يحتضن تيارات مذهبية متنافرة مما يشجع على اتقان فن الكلام للدخول في معارك سجالية من قبيل (فإن قالوا قلنا)، وهكذا سيظهر من خلال نظرة على قائمة تصانيف تلك الطبقة من العلماء، أن للمفيد كمثال بارز 180 كتاباً ورسالة في علم الكلام من أصل 200 مؤلفاً تشكل مجموع ما كتبه المفيد في حياته، فالشيخ المفيد لم يعرف بوصفه فقيهاً أو اصولياً وإنما عرف متكلماً، وهكذا وصفه معاصروه فقال عنه ابن النديم في (الفهرست) :(انتهت في عصرنا رياسة متكلمي الشيعة اليه، مقدّم في صناعة الكلام على مذهب اصحابه.. )(63).

وأياً كان الامر، فقد هدأت العاصفة التي اثارها فقهاء ومتكلمو الشيعة ضد ابن الجنيد، وازدادت الحاجة بمرور الوقت الى فتح باب الاجتهاد كلما تباعد الفقيه عن زمن صدور النص، وامتدت الفاصلة الزمنية بينه وبين عصر الكتاب والسنة والمضاعفات التي يخلفها ذلك التمدد الزمني المتواصل بما يفرض على الفقيه / المتكلم الاضطلاع بالمسائل المستحدثة ، والانخراط في العملية الاجتهادية وهذا بدوره سيعين الفقيه / المتكلم الشيعي على الخروج من اسار الاخبار والروايات ، واعمال العقل في الموضوعات المستحدثة التي لم يرد فيها نص ، وبدأت بوادر خط فقهي أصولي بالظهور تدريجياً ينشق من داخل الاتجاه الاخباري السائد الذي دشّنه الكليني والصدوق الطوسي، واشتغل بتدوين تراثه الاصولي فكتب الشيخ المفيد (التذكرة بأصول الفقه)، ثم اقتفى أثره تلامذته فكتب الشريف المرتضى (الذريعة)، وكتب سالار بن عبد العزيز الديلمي (ت 436هـ) كتاب (التقريب في أصول الفقه)، وكتب الشيخ الطوسي (العدة في الاصول)، وستكتب على يد الطوسي مرحلة جديدة تزوّد العقل بزخم كبير وشرعية توازي شرعية النص، بما يمهّد الاجواء الشيعية العامة على تقبّل تغييرات فقهية واجتماعية جد هامة..

تأصيل شرعي لسلطة بشرية :

الانزلاق نحو الواقع وترحيل الطوبى

مع تبدّل آليات تفكير الفقيه، تتبدل تبعاً لها وظيفته ايضاً، ففيهاً يغدو الفقيه أكثر من كونه راوياً للنص، وإنما بحسب التبدّل الجديد يصبح مفسّراً ايضاً وتالياً صانعاً لنص جديد سيتعامل معه السلف من الفقهاء المتأخرين عنه تعامل النص الديني (تماماً كتعامل فقهاء القرن السادس الهجري مع اجتهادات الشيخ الطوسي)، وبالتأكيد سيثمر هذا التعامل من جهة واحدة على الاقل، وهي اجترار مقولاته في موضوع يجري حسمه حينذاك، وبالتالي فهو يساعد على تسوية واحدة من الاشكالياتالكبرى في طريق الفقيه الامامي، وستعكس هذه التسوية بلا ريب نفسها في الفقه والرؤية الفكرية والفلسفية والسلوك لدى الشيعة.

ولعل أول اشكالية مقلقة واجهت الفقيه الشيعي بعد الغيبة الكبرى، والتي كشفت الى حد ما عن خلل بنيوي في الوعي العام، هي اشكالية السلطة، إذ لم يعد الحديث عن الامامة في الوقت الراهن ممكناً، فقد زالت مع غياب الامام امكانية اقامة الدولة الدينية الالهية، وأصبح وعي الواقع ضرورة موضوعية، فليس ثمة طريق سوى التفكير في تطوير معارف وآليات تتناغم وطبيعة الزمان الذي يحيا فيه الشيعة بعد الغيبة، فلا سبيل امام الفقيه الا الانخراط في الواقع بقدر أكبر من الحماسة والفاعلية، فمسئولية الفقيه بعد الغيبة قد تضاعفت واصبح بوصفه نائباً يضطلع بمهمة تأسيس بنى التفكير الجديد، مع الاحتفاظ بوهج ونفوذ وتأثير البنى الفكرية الاصيلة.

إن التأسيس لبنى السياسة الشرعية الشيعية بعد الغيبة هي من نوع البنى المؤقتة ولكنها في آن، قابلة للديمومة مع استمرار ذات الوضع، وتسري عليها نفس القوانين والاحكام التي تسري على الامامة مع بعض الاستثناءات ورد ذكرها سلفاً التي سويّت تدريجياً في مراحل لاحقة، وتحديداً بعد انغماس الفقيه في الشأن العام، ونزوعه النشط نحو بناء دولة خاصة به.

الا أنه وبالرجوع الى الحقائق التاريخية والفقهية ، بإمكاننا القول إن الفقهاء الاوائل لم يكونوا معنيين بالسلطة كطموح للوصول اليها، ولكن عنوا من تنظيراتهم حد التسليم بسلطة غير شرعية، مع بعض الاحكام الفقهية في كيفية التعاطي معها، ويمكن استكناه هذه المهمة من خلال السؤال الكبير الذي فرض نفسه على فقهاء الشيعة في القرنين الرابع والخامس : ماحكم العمل مع السلطان؟.

ولم يكن معلوماً على وجه الدقة تاريخ طرح السؤال، إذ ليس ثمة مصادر تاريخية، يمكن أن نهتدي بها لمعرفة بداية تأريخ بحث عمل السلطان في الفقه الشيعي بعد الغيبة الكبرى، ولكن سنحاول ربط ذلك التحول النوعي في الحقل الفقهي الشيعي بانعكاساته الموضوعية، ويمكن القول وفي موضوعة عمل السلطان التي نحن بصددها ، كان فقهاء الشيعة يصدرون في اجتهاداتهم في المراحل الاولى عن التقية لتحقيق التوازن الفقهي قبالة فريق الاخبار. فما صنّفه اعلام هذا الفريق من كتب فقهية اشتملت على آراء جديدة في العمل السلطاني، كان يصدر عن حالة استثنائية غير طبيعية في زمن الغيبة ، مؤسسة على طائفة روايات عن الائمة تضع تقييدات للعمل مع السلطان منها ماروي عن الامام الصادق :(كفارة عمل السلطان قضاء حوائج الاخوان) وفي رواية (الاحسان الى الاخوان)(64).

كما نجد رسالة مطوّلة للامام الصادق لرجل من شيعته ويدعى عبد الله النجاشي، أسندت اليه ولاية الاهواز، فسأل النجاشي الامام الصادق عن حدود التصرف في الولاية في ظل السلطان العباسي، فسرد الصادق في رده على الرسالة جملة توصيات، مشتملة على أحاديث عن الرسول وأهل البيت (أنظر الملحق الاول).

وتبدو أهمية الرسالة في كونها تؤسس لنمط جديد من العمل السلطاني، وتأتي في مرتبة ثانية من حيث الاهمية بعد رسالة الامام علي الى مالك الاشتر، فالاخيرة تؤسس لبرنامج ممارسة السلطة في ظل السلطان العادل، وفي الاولى تؤسس لطريقة ممارسة السلطة في ظل السلطان الجائر، ولذلك صارت هذه الرسالة مرجعاً لفقهاء الشيعة في عصر الغيبة.

إن مجرد مراجعة لتصنيفات فقهاء الشيعة في المرحلة الاولى من عصر الغيبة، تظهر حاجة وخطورة مسألة عمل السلطان، فالشيعة بعد غيبة الامام المعصوم كانوا في مسيس الحاجة الى مسوغات شرعية لطريقة التعامل مع السلطان بعد انتهاء عصر النص (=غياب الامام المعصوم)، ولربما كان فقهاء وعلماء الكلام الشيعة كانوا أشد حاجة من نظرائهم السنة في التوصل الى اجابات حاسمة ومتوازنة حول طبيعة العلاقة مع السلطة، بالنظر الى التقييدات الصارمة التي وضعتها نظرية الامامة على اتباعها، وقد يصلح تعضيداً لهذا الرأي الاشارة الى أن فقهاء الشيعة سبقوا نظرائهم السنة في الاجابة على العمل السلطاني، فقد كتب المفيد والمرتضى والطوسي في هذا الموضوع قبل أن يبدأ الماوردي (ت 450هـ) وابو يعلي الفراء الحنبلي (ت 458هـ) بتصنيف (الاحكام السلطانية)، مع التذكير بأن الاخير أشمل من حيث موضوعاته ومنهجه الفقهي.

ومما يلفت الانتباه، أن بحث عمل السلطان من الخطورة بمكان، الامر الذي اصبح حكراً على نخبة النخبة من فقهاء / متكلمي الشيعة في تلك الحقبة التاريخية الحساسة، فقد تكفّل هذا الامر علماء كبار حازوا على مكانة مرموقة في اوساط الشيعة ، بل وتسنموا زعامة المذهب والرئاسة الدينية في عصرهم، وممن خالطوا السلطان ، وبنوا صلات معه ، الامر الذي فرض عليهم ابداء رأي فقهي / عقلي ، يسوّغ مخالطة السلطان والتعاون معه، وقد ذكر آغا بزرك طهراني في (الذريعة الى تصانيف الشيعة) مصنفين حول عمل السلطان الاول كتاب عمل السلطان لأبي عبد الله الحسن بن أحمد بن المغيرة البوشيخي شيخ بعض مشايخ النجاشي، والثاني رسالة في عمل السلطان لشيخ القميين ابي الحسن محمد بن الحسن بن أحمد بن داود القمي (ت 368هـ) استاذ الشيخ المفيد (65) ، وذكر الشيخ الطوسي في (الفهرست) في مصنفات الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي كتاباً باسم (كتاب السلطان)(66).

ولن تتاح لنا هنا فرصة قراءة هذه التصانيف ، إذ لم نعثر على أي منها في المكتبات الشيعية الكبرى، وسنكتفي بقراءة تصانيف ثلاثة نماذج من مشاهير فقهاء الشيعة، برزوا في فترات متعاقبة، و نظّروا في بحوثهم الكلامية لعمل السلطان، وأصبحت آراؤهم مورد استدلال وبحث في التصنيفات الفقهية في المراحل اللاحقة، وسنحاول هنا قراءة كل نموذج بقدر من التحليل والتمعن..

ـ الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المعروف بـ (الشيخ المفيد) (338 – 413 هـ)

عاش الشيخ المفيد وهو زعيم المذهب الشيعي في عصره في فترة انكماش الدولة العباسية وضعفها، ايام سيطرة امراء الاقاليم، وتولي بني بويه شؤون السلطة في بغداد، فكانت له وجاهة عند ملوك الاطراف لميل كثير من أهل ذلك الزمان الى التشيع، وبلغ من احترام عضد الدولة له أنه (كان يزوره في داره ويعوده اذا مرض)، وهكذا عاش الشيخ المفيد في كنف الدولة البويهية، وحظي بصلات وثيقة ومنتظمة مع الدولة العباسية، فأجرت الرواتب له ولتلاميذه، وخصصت له جامع (براثا) في منطقة الكرخ لوعظه، واقامة الصلاة جمعة وجماعة، وكان له نشاط فعال في مجال الفقه والاجتهاد، وطرحت في عصره لأول مرة مسألة العمل مع السلطان ويشمل كل سلطان قام في عصر الغيبة ـ ، فكانت مقاطعة السلطة كما أسلفنا الاصل الذي تتمحور حوله الاحكام السلطانية الشيعية وأن المشاركة ترد في باب الاستثناءات والحالات الاضطراية كأكل الميتة(67) فكان تولي منصب في الحكومات عامة يعد في كل الاحوال من المحرمات، فكتب الشيخ المفيد في ذلك :(إن معاونة الظالمين على الحق وتناول الواجب لهم جايز ومن احوال واجب وإما معونتهم على الظلم والعدوان فمحظور لا يجوز مع الاختيار. وإن التصرف معهم في الاعمال فإنه لا يجوز الا لمن أذن له امام الزمان وعلى من يشترط عليه في الفعال وذلك خاص لأهل الامامة دون من سواهم ، وأما المتابعة لهم فلا بأس فيما لايكون ظاهر تضرر (لضرر) اهل الايمان واستعماله على الاغلب في العصيان واما الاكتساب منهم فجايز على ماوضعناه والانتفاع بأموالهم وان كانت مشوبة حلال لمن سميناه من المؤمنين خاصة دون من عداهم من ساير الانام)(68) مثّل هذا الرأي تقعيداً فقهياً يمكن ادراك مغزاه السياسي والفقهي والمذهبي العميق من خلال تداعياته في الاجيال الفقهية اللاحقة، رغم ماقد يكتنف الرأي من تقييدات تظهر لأول وهلة للشروط الصارمة المدرجة في مسألة عمل السلطان، الا أنها في الواقع تؤسس لمناخ فقهي اجتهادي جديد يجرؤ على تطوير الاحكام الفقهية ويغذي حركة الفقه المرتكز على اساس عقلنة النص، فاضافة الى رأيه في العمل مع السلطان الظالم ، فإن الشيخ المفيد يرسي مبدأ عاماً في الحقل السلطاني، ويؤكد وجوب وجود نظام في كل زمان ، ويقرر بأن الناس تكون في ظل النظام اكثر صلاحاً وأقل فساداً(69).

وهذه الموازنة التي يقيمها الشيخ المفيد بين الغيبة ووجوب وجود النظام العام الذي به تنتظم شؤون الناس ويحفظ به الامن ، يمهد من خلالها لنحل الفقيه بعض مهام النيابة عن الامام الغائب، ولعل من ثمرات السجالات المذهبية ما ورد في احتجاج الشيخ المفيد على خصومه الذين قالوا بأن غيبة الامام واطالتها تفضي الى تعطيل الحدود، وعدم نفاذ الاحكام، ولا دعوة الى حق، ولا جهاد عدو، فرد الشيخ المفيد هذا الاعتراض ، بتدشين اصطلاح (النيابة)، بما نصه (ولا يحتاج أي الامام هو الى تولى ذلك بنفسه، كما كانت دعوة الانبياء عليهم السلام تظهر نايباً (نائبا) عنهم، والمقرّين بحقهم، وينقطع العذر بها فيما يتأتى عن علتهم (كذا) ومستقرّهم ، ولا يحتاجون الى قطع المسافات لذلك بأنفسهم، وقد قامت الدعوة ايضاً نايباً عنهم بعد وفاتهم، وتثبت الحجة لهم في ثبوتهم بامتحانهم في حياتهم وبعد موتهم) ومدّ مظلة النيابة الى (الحدود وتنفيذ الاحكام، والجهاد)(70).

ونجد ثمة مفصلة لنيابة الفقيه جزئياً على الموضوعات ذات الصلة المباشرة بالامام، فثبّت للفقيه ابتداءا مهمة الافتاء للناس وقال في ذلك (فأما الممتحن بحادث يحتاج الى علم الحكم فيه فقد وجب عليه أن يرجع في ذلك الى العلماء من شيعة الامام..)(71)، ثم منح الفقيه مهمة الفصل بين المتنازعين وقال (يجب عليهم رد ما اختلفوا فيه الى الكتاب والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله من جهة خلفائه الراشدين من عترته الطاهرين، ويستعينوا في معرفة ذلك بعلماء الشيعة وفقهائهم..)(72)، وصعّد في كتابه الفقهي (المقنعة)، من هذه المهمة ، فأجاز للفقهاء تولي القضاء بالنيابة عن الامام ، وقال :(فأما اقامة الحدود: فهو الى سلطان الاسلام المنصوب من قبل الله تعالى ، وهم ائمة الهدى من آل محمد عليهم السلام، ومن نصبوه لذلك من الامراء والحكام، وقد فوّضوا النظر فيه الى فقهاء شيعتهم مع الامكان..)(73).

وفي واقع الامر، إن من شأن هذه الاراء أن ترفد حركة الفقه الشيعي بجملة من التصورات التي تسهم في ترشيد العملية الفقهية وإنضاجها وتسوية النظرة السلبية العدائية للسلطة السائدة في الوسط الفقهي، وبكلمة فإن الشيخ المفيد مهّد بهذه الآراء السبيل للجيل اللاحق الذي أخذ بالتفريع على اصول المفيد(74)، أو اجترارها والنسج على منوالها.

ـ علي بن الحسين المعروف بـ (الشريف المرتضى) (355 – 435 هـ)

ورث عن ابيه منصب نقيب نقباء الطالبيين ، وولي امارة الحج والنظر في المظالم وقضاء القضاة ثلاثين عاماً. وقد أقام المرتضى علاقة وثيقة بالخلافة العباسية وحظي باحترام الخلفاء العباسيين في عصره: الطائع ، والقادر، والقائم، حتى أنه واطأ الخليفة على أن يأخذ من الشيعة مائة ألف دينار للاعتراف بمذهبهم الى جانب المذاهب الاربعة، شريطة رفع التقية والمؤاخذة على الانتساب اليهم فقبل الخليفة فبذل المرتضى من ماله الخاص ثمانين ألفاً وطلب من الشيعة الايفاء ببقية المال فلم يفوا له(75)، وفي العام 434هـ اندلعت معارك دامية في بغداد اثر وفاة السلطان البويهي شرف الدولة فأحرق منزل المرتضى وقضى بقية عمره يرقب التحولات السياسية بقلق شديد.

وقد شهد عصر المرتضى جدلاً سياسياً نشطاً وواسعاً ، إذ ظلت مسألة العمل مع السلطان (الظالم) ، تحظى بقدر كبير من اهتمام الشيعة في ذلك الوقت، ولربما كانت الاجابة على تلك المسألة مهمة بنفس الدرجة بالنسبة للشريف المرتضى بسبب من منصبه الرسمي وعلاقاته مع الخلفاء العباسيين، حيث لم يُقدّر لاستاذه المفيد أن يحسم الخلاف حول هذه المسألة في اوساط عوام الشيعة ، فضلاً عن فقهائهم ومتكلميهم ، ويرجع السبب المباشر في تنامي الجدل الفقهي / السياسي حينذاك، الى نقاش جرى في مجلس الوزير ابي القاسم الحسين المغربي (370 418هـ) وزير مشرّف الدولة البويهي ببغداد (وهو أكبر منصب وزاري في الدولة البويهية) في جمادى الثانية عام 415هـ (ايلول / سبتمبر 1024م) والوزير المغربي أحد كبار مثقفي عصره، وكان على المذهب الاسماعيلي، فتنكب عن موطنه مصر الى عاصمة الخلافة بغداد بعد سيطرة آل بويه عليها، وتحوّل الى المذهب الشيعي الاثني عشري، وكان يعارض عمل الشيعة في الخلافة العباسية (الغصبية) ، وقد طرح سؤالا حول العمل مع السلطان، فكتب الشريف المرتضى رداً على اعتراضات الشيعة الايرانيين والاسماعيليين في مصر في رسالة بهذا الخصوص(العمل مع السلطان)، اقتفى فيها اثر استاذه الشيخ المفيد في تقسيم السلطان، وعزز رسالته بآراء جديد، ولعل اظهرها طاعة السلطان الظالم بما نصه (الظالم اذا كان متغلباً على البلد فلا بدّ لمن هو في بلاده وعلى الظاهر من جملة رعيته ، من اظهار تعظيمه وتبجيله والانقياد له على وجه فرض الطاعة).

ونجد تأصيلاً لهذا الرأي في رسالة المرتضى بعنوان (رسالة غيبة الحجة) يقول فيها:(إن وجود الرئيس المطاع المهيب المنبسط اليد أدعى الى فعل الحسن وأردع عن فعل القبيح..وأن الناس عند الاهمال وفقد الرؤوساء يبالغون في القبيح ، وتفسد احوالهم ويختل نظامهم)(76)، والمرتضى في هذا الرأي يعيد انتاج رأي استاذه الشيخ المفيد في مسألة وجوب وحفظ النظام، ويمثّل هذا الرأي في جوهره تطوراً عظيماً في الفكر السياسي الشيعي والاسلامي عموماً، كونه يؤكد على فكرة باتت من أولويات الفكر السياسي الحديث، والقائمة على اساس انضواء الافراد تحت رابطة سياسية تكفل عيشهم ، وتحفظ وحدتهم ، وتؤمّن استقرارهم، وهي رابطة تواطأ الفكر السياسي الحديث على تعريفها بالدولة.

بيد إن الاقرار بوجوب النظام السياسي، لا ينطوي في وعي المرتضى على اعتراف ضمني بمشروعيته، وإنما النقاش هنا يرد الى التمييز بين النظام واللانظام، أما موضوعة الشرعية فتندك في حيز المفاضلة داخل دائرة النظام، فالنظام الشرعي عند الشيعة مشروط بالامامة، ولكن هذه المشروعية ليست نفياً للنظام في عدم تحقق الشرعية/الامامة.

على أن النقاش في الشرعية واللاشرعية بهذه الطريقة يعد حلقة مفرغة، حيث يتم الفصل بين النظرية والتطبيق، فرغم نفي المرتضى لمشروعية النظم القائمة في عصر الغيبة، فقد تعاطى الفقيه الشيعي معها وتسنم مناصب حساسة في أجهزتها يقول المرتضى (ولم يزل الصالحون والعلماء يتولون في أزمان مختلفة من قبل الظلمة)(77) ويرد هذا الرأي الى قاعدة (لا رأي لمقهور)(78)، وإن لم يقفل باب الخروج على السلطان في حال المكنة(79)، وربما توسّع في شرح هذه المسألة في كتابه (رسالة في قتل السلطان)(80).

ـ الشيخ محمد بن الحسن الطوسي المعروف بشيخ الطائفة (385 ـ 460 هـ)

عاصر الشيخ الطوسي الدولة البويهية وحظي باحترام كبير من جانب خلفاء الدولة العباسية حتى جعل له خليفة الوقت (القائم بأمر الله) كرسي الكلام والافادة..وكان لهذا الكرسي يومذاك عظمة، وقدر فوق الوصف، إذ لم يعط الا لمن برز في علومه وتفوق على أقرانه، كما حظي باحترام وزراء الدولة البويهية وتولى زعامة الطائفة في عصره(81)، فكان يعرف بشيخ الطائفة.

وكان الطوسي قرأ على الشيخ المفيد مدة خمس سنوات في بغداد، ثم اصبح أبرز طلاب الشريف المرتضى علم الهدى الذي قرر له مبلغ 12 دينار شهرياً، وقرأ عليه علم الكلام، وعلوم اللغة والادب والتفاسير، والتزم سيرته في الفقه، كما قدّم شروحات لرأي استاذه في مسائل عديدة، منها ماذكره في كتابه (الغيبة) والذي انطوى على آراء غاية في الاهمية، أسس فيها لحقيقة انسانية فطرية بديهية تقوم على اساس أن الخلق (لا يجوز أن يخلوا من رئيس في وقت من الاوقات)(82) فالاصل عند الطوسي (وجوب الرياسة) مستدلاً على ذلك (والذي يدل على وجوب الرياسة ماثبت كونها لطفاً من الواجبات العقلية فصارت واجبة، كالمعرفة التي لا يعرّى مكلف من وجوبها عليه) ويعزز هذا الرأي عقلياً (إن من المعلوم أن من ليس بمعصوم من الخلق متى خلو من رئيس مهيب يردع المعاند ويؤدب الجاني، ويأخذ على يد المتغلب وتمنع القوى من الضعيف وامنوا ذلك وقع الفساد وانتشر الحيل واكثر الفساد وقل الصلاح، ومتى كان لهم رئيس هذه صفته كان الامر بالعكس من ذلك من شمول الصلاح وكثرته وقلة الفساد ونزارته، والعلم بذلك روري لا يخفى على العقلاء فمن دفعه لا يحسن مكالمته..)(83).

كما حذا حذو استاذه في مسألة طاعة السلطان الظالم وولاية الفقهاء في الحكومات الجائرة، فقد ذكر الطوسي في تلخيصه لكتاب (الشافي) لأستاذه الشريف المرتضى مانصه (أن تصرف الغاصب لأمر الامة اذا كان عن قهر وغلبة، وسوّغت الحال للامة الامساك عن النكير، خوفاً وتقية، يجري في الشرع مجرى تصرف المحق في باب جواز أخذ الاموال التي بقيت في يده ، ونكاح السبي، وماشاكل ذلك ، وإن كان هو بذلك الفعل موزوراً ومعاقباً..)(84)، ويتمثّل الطوسي هنا رأي استاذه المرتضى.

كما تناول في كتابه الفقهي (المبسوط) مسألة العمل في السلطة الظالمة، فأجاز اقامة الحدود والقضاء بين الناس في ظل حكومات الجور وقال مانصه (ومن استخلفه سلطان ظالم على قوم وجعل اليه اقامة الحدود جاز له أن يقيم ماعليهم على الكمال ويعتقد أنه انما يفعل ذلك بإذن من سلطان الحق لا بإذن سلطان الجور، ويجب على المؤمنين معونته وتمكينه من ذلك مالم يتعد الحق في ذلك)، وبخصوص تولي الفقهاء الحكم والقضاء قال (وأما الحكم بين الناس والقضاء بين المختلفين فلا يجوز ايضاً الا لمن أذن له سلطان الحق في ذلك، وقد فوّضوا أي الائمة الاثني عشر ذلك الى فقهاء شيعتهم في حال لا يتمكنون فيه من توليته بأنفسهم ، فمن تمكن من انفاذ حكم أو اصلاح بين الناس أو فصل بين المختلفين فليفعل ذلك وله بذلك الاجر والثواب مالم يخف على نفسه ولا على احد من اهل الايمان ويأمن الضرر فيه، فإن خاف شيئاً من ذلك لم يجز له التعرض لذلك على حال)(85).

وسنجد ايضاً ضرورة الى التذكير هنا بأن اصالة النظام السياسي كما يقدمها الشيخ الطوسي ، ليست متصلة بالشرعية واللاشرعية فالطوسي في الوقت الذي يؤكد على وجوب الرياسة لا يتنازل عن الشرعية التي يمثلها الامام وذلك من خلال المعايير التي اشرنا اليها سابقاً في قياس مشروعية الدولة كما تبلورت في الادبيات الكلامية والفقهية الشيعية، ففي شروط وجوب الجمعة، وهي شروط على ضربين أحدهما يرجع الى من جبت عليه ،والثاني يرجع الى غيره، ومنها: السلطان العادل أي الامام المعصوم ، أو من يأمره السلطان(86)، كما وضع في مسألة وجوب الجهاد شرائط سبعة منها: ويكون هناك امام عادل أو من نصبه الامام للجهاد(87)، وفي الحدود يرى الطوسي في سياق رده على اشكالية حكم الحدود في حال الغيبة (فإن ظهر الامام ومستحقوها باقون اقامها عليهم بالبينة والاقرار ، وإن كان ذلك بموته كان الاثم في تفويتها على من أخاف الامام والجأه الى الغيبة)(88)، فمهمة الامام الشرعي: الجهاد، وتولية الامراء والقضاء، وقسمة الفيء واستيفاء الحدود والقصاصات(89).

يمكن القول بأن النصوص المتقدمة كانت تتردد في بطون الكتب الفقهية الشيعية، بل ثمة احتذاء حرفي لها في بعض كتب الفقهاء المتأخرين عن عصر المفيد والمرتضى والطوسي، فهذا القاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي (400 481هــ) في (المهذب) وابن ادريس في (السرائر في تحرير الفتاوى) ينسجان على منوال المفيد والمرتضى والطوسي في باب عمل السلطان(90).

مجلة الواحة – العدد 60