مجلة حكمة
التطلع للمستقبل عبر معالجة الماضي المغربي وتاريخه ما بعد الكولونيالي

التطلع للمستقبل عبر معالجة الماضي المغربي وتاريخه ما بعد الكولونيالي – سونيا حجازي / ترجمة: رشيد بوطيب

سونيا حجازي: مستشرقة وباحثة ألمانية متخصصة في القضايا العربية


 

ليس من الضروري كتابة التاريخ من جديد. لكن التاريخ ينتمي إلى الأسس الأكثر أهمية فيما يتعلق بإعادة هيكلة الدولة والمجتمع بعد الثورات العربية. إنه أمر يصدق أيضا على المغرب، الذي عمد نظامه السياسي إلى تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة بغرض معالجة أخطاء الماضي. إن النقاش الدائر حول الذاكرة والتاريخ، والذي تشارك فيه الآن قوى المجتمع المدني أيضا، يحدد مستقبل المغرب، ويظل نقاشا غير مسبوق في العالم العربي.

لا يتوفر المغرب بعد على متحف لتاريخه المعاصر، لكن شهر تشرين الأول/ أكتوبر عرف اجتماعا لأهم مؤرخي البلاد، برئاسة البروفيسور محمد كنيبب، لأجل تطوير مشروع المتحف. إن متحف التاريخ الوطني للمغرب المزمع تأسيسه، يدخل في إطار مشاريع متتالية للجنة الحقيقة المغربية، والتي لا تبغي فقط كشف النقاب عن الظلم وتعويض ضحاياه، ولكن أيضا تعريف المغاربة بتاريخهم.

 

مقاربات لمرحلة الديكتاتورية

بعد ضغوط كثيرة وخلال سنوات، من طرف ضحايا القمع السياسي، أقدم الملك محمد السادس سنة 2004 على تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة، من أجل بحث انتهاكات حقوق الإنسان بين عامي 1956 و 1999. فخلال عقدي السبعينات والثمانينات خصوصا، أقدم والده الحسن الثاني على مطاردة المعارضة السرية وتلك المرتبطة بالجيش وبشكل منهجي. سجن عسكريون بعد المحاولتين الانقلابيين لعامي 1971 و 1972 ونشطاء سياسيون لما يتجاوزوا العشرين عاما في معتقلات سرية. وترتبط طلبات رد الاعتبار التي توصلت إليها هيئة الإنصاف والمصالحة بهذه المرحلة التاريخية بالذات. وتمثل عمل الهيئة في الكشف عن الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، وتعويض الضحايا وأسرهم، علاوة على إعداد مقترحات للإصلاح، من أجل تجنب تكرار تلك الخروقات في المستقبل.

وقد عين المرحوم إدريس بنزكري رئيسا للهيئة، وكان قد سجن عام 1974 وهو في الرابعة والعشرين من عمره بتهمة الانتماء إلى منظمة «إلى الأمام» السرية، ولم يعانق الحرية إلا عند بداية الانفتاح السياسي عام 1991. وساهم المؤرخون بشكل فعال ومنذ تأسيس الهيئة في عملها، سواء في إطار مجموعات بحث أو عبر إصدار منشورات.  ومن الشخصيات التي عملت في الهيئة المكونة من ستة عشر عضوا، البروفيسور المتقاعد ابراهيم بوطالب. وقد دعا التقرير الختامي للهيئة في توصياته إلى ضرورة إصلاح البحث العلمي المتعلق بتاريخ المغرب المعاصر. وكان إدماج «سنوات الرصاص» (سنوات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان) في المقرر المدرسي أحد الأهداف الأساسية للهيئة. كما شارك باحثون شباب في عمليات توثيق وأرشفة جلسات الإستماع.

وتقع اليوم مسؤولية كبيرة على المؤرخين من أجل تطبيق توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، لأن تقييم التاريخ ما بعد الكولونيالي للبلاد يمتلك أهمية سياسية أكثر من أي وقت مضى، كما تقف دونه عديد من العقبات. لكن ما يعقد عملية بحث تاريخ المغرب هو أن البلاد لم تعرف تغييرا للنظام. ففي كل ديكتاتورية، تلامس أسئلة الحصول والتعامل مع المصادر التاريخية طريقة اشتغال السلطة. فنادرا ما تمت أرشفة أحداث البلاد أو الاهتمام بالوثائق المرتبطة بها. ومن أجل إخراج فيلم ونشر بحث عن الحي المحمدي في الدار البيضاء، اضطرت فاطمة البويه إلى طلب رخصة من سبع عشرة إدارة محلية، من بينها مصلحة الصحة وسينما سعدة، لأجل الإطلاع على وثائق.

 

ثقافة التذكر

أقدم الصحفيان يوسف شمرو وسليمان بن الشيخ عام 2010 على تأسيس أول مجلة تاريخية شعبية تعنى بتاريخ المغرب. وينتمي بن الشيخ إلى رموز الصحافة الاستقصائية في المغرب، كما شارك في تأسيس العديد من وسائل الإعلام الخاصة في السنوات العشر الأخيرة، كما أن موقعه على الإنترنت يحظى بشعبية كبيرة. أول نسخة من مجلة «زمان» ظهرت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2010، وتبلغ عدد نسخها المطبوعة شهريا خمسة عشرة ألفا، وقد تمكنت من الوصول إلى عدد كبير من القراء باللغة الفرنسية. وتبحث المجلة العديد من المواضيع الاجتماعية، مثل الصحراء، تشكل التدين في البلاد أو نشر دساتير القرنين التاسع عشر والعشرين إلخ.  وتعرضت النسخة الأولى من المجلة للتاريخ المجهول للفاشيين المغاربة، ولماذا وكيف فقد المغرب يهوده، ثم تاريخ مقتل الملوك. وهنا يظهر بوضوح ارتباط الرؤية إلى الماضي بكل رؤية إلى المستقبل.

إن المجلة هي جزء من «ثقافة التذكر» المغربية. وإلى جانب أنشطة لها علاقة بإحياء ذكرى المفقودين أو رحلات إلى المعتقلات السرية والمقابر الجماعية، توجد عشرات من الأمثلة الفردية، أدبية وفنية عن تاريخ القمع في المغرب. فقد قدم السجناء السياسيون سابقا شهادات عن ظروف سجنهم في نصوص بيوغرافية وأفلام وأشعار وروايات. والبعض منهم كان يخطط للإطاحة بالنظام الملكي، وبعضهم وزع منشورات في المكان والزمان الخطأ، وبعضهم اختطف وسجن في معتقلات للتعذيب، كان من بينهم أطفال أيضا. ومن بين هؤلاء إبراهام السرفاتي، زعيم منظمة «إلى الأمام» الماركسية ـ اللينينية، والذي قبع في السجن من عام 1974 وحتى عام 1991، ومليكة أوفقير، ابنة محمد أوفقير الذي قتل من طرف الجيش بعد فشل انقلاب 1972 ضد الحسن الثاني، فقام النظام بسجن زوجته وأبنائه الستة لمدة عشرين سنة. ويقدم كتاب مليكة أوفقير «السجينة: حياة في المغرب» شهادة مثيرة عن حياة الدعة والترف في القصر الملكي خلال الستينيات وحتى  اختطاف الأسرة وسجنها في سجون مختلفة، من عام 1972 وحتى عام 1991.

 

تعويضات مادية وحصانة قضائية

قدم ما يقرب من اثنين وعشرين ألف ضحية وأسرهم طلبات لرد الاعتبار عام 2004 لدى هيئة الإنصاف والمصالحة. وتلقى ما يقرب من عشرة آلاف طلب ردا إيجابيا. فحصل الضحايا على تعويضات مختلفة، من بينها أيضا مساعدات صحية وتعويضات مالية. وبلغت قيمة التعويضات التي صرفت خمسة وثمانين مليون يورو، كما كشف النقاب عن مصير سبعمائة واثنين وأربعين من المخطوفين، ونشر التقرير الختامي للجنة الإنصاف والمصالحة والذي بلغ سبعمائمة  صفحة في اللغة العربية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية. وتنتقد منظمات حقوقية مستقلة حتى اليوم استبعاد أي متابعة للمتورطين في الخروقات. بل إنه لم يسمح بذكر أسمائهم في الجلسات العمومية. فمازال المتورطون يتمتعون بالحصانة القضائية. وتحت عنوان: «الحقيقة، العدالة والمصالحة» يعبد التقرير الختامي الطريق لعدد من الإصلاحات. فبالإضافة إلى تأكيد الدستور على ضمان حقوق الإنسان، هناك أيضا التوقيع على  المعاهدات الدولية واستقلالية القضاء وإصلاح قانون العقوبات وتدريس مادة حقوق الإنسان في المدارس، إضافة إلى التعويضات الجماعية. وبدأ اليوم جيل ثان في الهيئة العمل على تطبيق التوصيات. وفي الفصل الذي يحمل عنوان: «أبحاث»، تمت الدعوة، إضافة إلى حماية الأرشيف الوطني والسماح بالوصول إليه، بتغيير مقررات درس التاريخ وتأسيس مؤسسة علمية تعنى بتاريخ المغرب. ولكن مثل النصيب الأكبر من توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، فإنه لم يتم حتى الآن تأسيس مؤسسة التاريخ الراهن كما اصطلح عليها في التوصيات الختامية. في حين فتح تخصص جديد للتاريخ المعاصر في جامعة الرباط من طرف البروفيسور محمد كنبيب، إذ يتوجب أولا تكوين ما يكفي من الباحثين.

وفي حزيران/ يونيو 2012 أعلن رئيس المجلس الأعلى لحقوق الإنسان محمد اليازمي عن نية الحكومة إطلاق مشروع المؤسسة المغربية للتاريخ المعاصر في هذه السنة بالضبط. ويعمل الآن بشكل مؤقت ما يقرب من ثلاثمائة وخمسين شخصا على تحديد الوثائق وتقصي صحتها وأرشفتها. لقد ساهمت  طلبات رد الإعتبار وجلسات الاستماع التي نظمتها هيئة الإنصاف والمصالحة في تكوين أرشيف مهم عن تاريخ المغرب المعاصر، والذي لم يفتح بعد أمام المهتمين. إذ يقوم باحثون مغاربة وأجانب بتقييم  ذلك الأرشيف. وقام عام 2008 المؤرخ المشهور جامع بيضا بافتتاح  مؤتمر علمي في هامبورغ بمحاضرة عن «هيئة الإنصاف والمصالحة وعملها بين عامي 2004 و 2005، من وجهة نظر تاريخية: رؤى جديدة حول كتابة التاريخ المعاصر». “الآن فقط يمكن لكتابة التاريخ المغربية الاهتمام بحقبة ما بعد التاريخ الإستعماري”، يقول بيضا. وهو يصف نشاط هيئة الإنصاف والمصالحة كـ “تشريح لحكم الحسن الثاني”. ويعمل بيضا اليوم رئيسا للأرشيف الوطني الذي افتتح عام 2011، والذي يعتبر أيضا جزءا من سيرورة تجاوز آثار الماضي.

 

تذكر ورد للإعتبار

 تمحور عمل لجنة الحقيقة خصوصا حول مبدأ التعويض الجماعي. وتندرج في هذا السياق عمليات رد الاعتبار على المستوى المحلي والجمعي، عبر الاهتمام بالأحياء والمناطق المهمشة والأماكن المنسية كمعتقلات التعذيب. واستفادت من هذا المشروع الذي بدأ عام 2008 حتى الآن إحدى عشرة مدينة ومنطقة. وتؤكد عملية التعويض هذه  والمتمثلة في مشاريع تمس البنية التحتية ومشاريع تنموية أهمية سرديات الضحايا في عملية إعادة هيكلة المجتمع، كما تشير إلى ذلك الإثنولوجية سوزان سليموفيك. إذ لا يتوجب المحافظة على الذاكرة حية عبر أقوال الشهود والمتاحف والأرشيف فقط، ولكن أيضا عبر التخطيط الحضري وإعادة الهيكلة الجغرافية وتنمية المناطق الريفية والفقيرة. وبذلك لن تمتلك الذكريات الذاتية معنى فرديا فحسب، ولكن أيضا معنى اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ولربما أيضا بعدا إيكولوجيا. وتتضارب الآراء حول عمل هيئة الإنصاف والمصالحة.

ولأنه لم تتم محاكمة الجناة ولأن النظام الملكي لم يقدم اعتذارا واضحا عما حدث، يرى البعض في الهيئة مجرد مهزلة. فبالنسبة لهم اختزلت الهيئة آلامهم في تعويض مادي. لكن بالنسبة للبعض فإن الملكية ورغم التصريحات الرسمية المتضاربة، قد اعترفت بأخطائها عبر تأسيس الهيئة، والأهم من ذلك أنها ردت الاعتبار الإجتماعي للضحايا. فلأول مرة تهتم مؤسسة رسمية هي هيئة الإنصاف والمصالحة بمراكز التعذيب في البلاد وخروقات حقوق الإنسان من طرف قوى الأمن وتجاوز القانون ومصير المخطوفين. وهي كلها خروقات لم يعترف بها نظام الحسن الثاني. فخلال مقابلة شهيرة لآنه سينكلير مع الحسن الثاني عام 1993، أشارت فيها الصحفية إلى تقارير أممية عن تازمامارت وقلعة مكونة، أجاب الملك دون أدنى تأثر: “قلعة مكونة هي عاصمة الزهور. أنتم لا تعرفون جيدا جغرافية المغرب”، منكرا بذلك وجود أي مركز للتعذيب في المنطقة. إنطلاقا من هذه الخلفية فإن هيئة الإنصاف والمصالحة تمثل قفزة كبيرة في الثقافة السياسية للبلد. وبعد عشر سنوات تقريبا على المقابلة مع الحسن الثاني، نشرت فاطمة البويه مذكراتها عن السجن بعنوان: امرأة إسمها رشيد. ويأتي العنوان على خلفية الاسم الذي أطلق عليها خلال سجنها في مركز شرطة درب مولاي الشريف في الدار البيضاء:«رشيد رقم 45».

نشطت فاطمة كطالبة في النقابة الوطنية للتلاميذ وألقي القبض عليها بسبب تزعمها إضرابا للتلاميذ عام 1974. وفي سن الثانية والعشرين وكناشطة طلابية، حكم عليها عام 1980 بالسجن لخمس سنوات. واليوم تعيش فاطمة في الدار البيضاء، وتعمل في عديد من المشاريع الحضرية ضد النسيان. وقد أسست رفقة زوجها يوسف مداد عام 2006 مركزا لإعادة إدماج المعتقلين اجتماعيا. وهي تعمل على فتح أبواب درب مولاي الشريف كمتحف عمومي. لكن مازالت أسر رجال الشرطة تقطن فيه.

 

شكوك حول طريقة التعامل الرسمية مع الماضي

رغم أن بعض الشخصيات التي تعمل اليوم في المؤسسات الرسمية تتمتع بمصداقية كبيرة، إلا أن جزءا من المعارضة يعتبر تلك المؤسسات التي خرجت إلى الوجود في العشرين سنة الأخيرة مجرد حملة لتسويق سياسة البلد في الخارج. وتعبيرا عن رأي الكثيرين كتب أحد المدونين بداية عام 2001: “هيئة الإنصاف والمصالحة التي لم تصالح  شيئا: تأسست تحت الرعاية السامية للملك محمد السادس بهدف فتح ملفات فصل مؤلم في تاريخ المغرب. لم تحقق شيئا كثيرا. تأثيرها الوحيد تمثل، كما بينت ذلك الشهادات والروبورتاجات، في فتح هذا الفصل  وإعادة الخنجر إلى جراح أسر وضحايا سنوات الرصاص، دون الإجابة على أسئلتهم وانتظاراتهم. الضحايا يعرضون أنفسهم وعواطفهم. كلهم مضطرون لأن يتعروا أمام العموم واجترار حياتهم بعد أن تأكد مرورهم بهذا العذاب. كلهم اضطروا للحديث عنه، لكن لأي هدف؟”. أما ليلى كيلاني فبعكس ذلك أنجزت عام 2009 فيلما وثائقيا مؤثرا، يحمل عنوان: «أماكننا المحظورة» عن عمل هيئة الإنصاف والمصالحة.

وفي دائرة الاهتمام تقف أربع من أسر الضحايا وتضارب آرائهم حول أهمية نفض الغبار عن الذاكرة.  رافقت المخرجة أعضاء الهيئة إلى الضحايا وأسرهم. ويظهر الفيلم عملية تقديم المشورة للأسر في مقر اللجنة ومشاهد من الشهادات العمومية. وفي الوقت الذي لا يبحث فيه الجيل القديم إلى حد ما عن ضرورة معرفة ما حدث مع الضحايا، يطالب أبناء وأحفاد الضحايا بين العشرين والثلاثين في العمر بكشف تفصيلي عن مصير أجدادهم. فكل الأسر تطلب معرفة الحقيقة. البعض عرف بمصير ذويه بفضل عمل الهيئة. وخلال سنوات الرصاص في السبعينات والثمانينات قام ذوو الضحايا من أجل حماية أنفسهم بتغيير الاسم العائلي وتاريخ الأسرة. كبر الأطفال وهم يعتقدون أن الأب خذلهم وغادر الأسرة. وأحد شخصيات الفيلم تنتقد بقوة عدم قيام جدتها بالسؤال عن مصير زوجها واستسلامها للنسيان، حتى جاءت الهيئة. ويصور الفيلم أيضا وضعية من مروا بتجربة السجن والتعذيب، والذين يواجهون انتقادات ترى أنهم دمروا حياة الأسرة بسبب اعتناقهم لأيديولوجية خاطئة. والبعض منهم لا يستطيع التفاهم إلا مع أمثاله من المعتقلين السابقين، والكثير منهم ينشط في إطار الهيئة. ويظهر مشهد من الفيلم اختلاف تعامل الأجيال مع الحقيقة: امرأة، اختفى زوجها العسكري مباشرة بعد زواجهما، تتحدث مع ابنها عن إمكانية زيارة معتقل تازمامارت وقد بدا عليهما أثر هذه المأساة. الأم ترفض زيارة المعتقل: “اليوم قالوا لنا: هيا لرؤية المكان الذي سجنوا فيه. لماذا؟ لرؤية ماذا؟”

وفي صوت خفيض يعترض الإبن على موقف أمه: “أريد أن أرى بلحظ عيني حتى لو لم يكن هناك سوى عظام. أريد أن أرى المعتقل السري، الزنزانات، القبر. حاولت تصور ذلك بمخيلتي، لكن  مخيلتي عجزت عن ذلك. حاولت مرارا وتكرارا توسيع مخيلتي، لكني أعتقد أنها ما كانت لتمسك يوما بحقيقة تزمامارت”. بالنسبة للأم تمثل زيارة تازمامارت الاعتراف النهائي بموت زوجها، ولربما تشعر بالخوف من فقدان ذكرياتها رفقته: “بالنسبة لنا لم يموتوا. إنهم دائما أحياء في قلوبنا، في عقولنا ووعينا. لا يحس المرء بموت أحد إلا أمام قبره”. لكن بالنسبة للإبن فإن الزيارة خطوة في طريق إعادة الإعتبار للذات: “شعرت بنفسي دائما مغلوبا، ودائما بهذه الرائحة التي يفوح بها جلدي. ابن خائن” ــ من فيلم: أماكننا المحظورة ـ ليلى الكيلاني 2009.

 

2011: العالم العربي أمام منعطف تاريخي جديد

إن كيفية التعامل مع التاريخ مسألة خلافية على المستوى الدولي. وحتى في ألمانيا، دارت نقاشات طويلة، عمرت لسنوات، إلى أن تم تأسيس متحف التاريخ الألماني في برلين عام 1987. فقد شكك نقاد بالمعنى الكامن خلف نية الحكومة الألمانية تأسيس متحف وطني لتاريخ ألمانيا. وبعد سقوط الجدار، تمحور عمل المتحف، الذي يقع في القسم الشرقي من المدينة حول كشف النقاب عن تاريخ دولتين ألمانيتين. العديد من الكتاب يشتكون من هذا الاهتمام بالذاكرة أو من «صناعة الذاكرة»، والتي بدأت في السنوات الأخيرة من القرن العشرين. إن التاريخ “مصادر، يتنافس عليها فاعلون، ما برح عددهم يزداد،  لأهداف ومصالح مختلفة وفي أشكال متباينة” كما قال المؤرخ هانس غونتر هوكرت. يحظى التاريخ المعاصر باهتمام كبير لأن الشهود ما زالوا على قيد الحياة وعملية «تجاوز تبعات الماضي» كوسيلة للصراع السياسي تزيد من هذه الأهمية. أما في المغرب فإن الاهتمام التاريخي العلمي بالنصف الثاني من القرن العشرين هو أيضا نوع من التقييم لحقبة الحسن الثاني من عام 1962 وحتى وفاته عام 1996. وتقع على عاتق الأساتذة والطلبة مهمة تقييم العمليات الانقلابية والمسيرة الخضراء عام 1975 والثورات والتمردات التي عرفتها الأربعين سنة الأخيرة والتطور الإجتماعي في مرحلة ما بعد الإستقلال وخروقات حقوق الإنسان وعملية إشراك المعارضة في اللعبة السياسية.

إن الثورات والاحتجاجات التي يعرفها العالم العربي منذ 2011 تعني في وضوح نهاية النظام ما بعد الكولونيالي. يتوجب إذن كتابة التاريخ من جديد، لأن ذلك ينتمي أيضا إلى أهم مصادر بناء الدولة والمجتمع في المستقبل القريب. وتقع على عاتق المؤرخين، أكثر من السياسيين، مهمة تقديم جواب على طريقة هيكلة العشرين سنة القادمة بالنظر إلى الخمسين سنة الأخيرة. إن التاريخي هو ما كان بالإمكان، والمستقبل يفتح إمكانيات جديدة. وبالنسبة للمغرب فإن السؤال الأساسي ـ والذي تتضارب حوله الآراء ـ هو إمكانية وكيفية إصلاح الملكية لتتحول إلى ملكية برلمانية، أم أن الإصلاحات والخطوات الأخيرة مجرد محاولة للحفاظ على النظام القائم؟

لم تتمكن هيئة الإنصاف والمصالحة من منع خروقات جديدة لحقوق الإنسان في المغرب. أما نجاحها من عدمه في مصالحة المغرب مع تاريخه فيبقى سؤالا مفتوحا. إن الفكرة  التي ارتبطت خصوصا بفرويد والتي تقول بأن «السرد» من شأنه أن يحد من الصراعات السياسية ويصالح بين المجتمعات يتوجب على الأقل، في عصر ما يسمى بالعدالة الإنتقالية، إعادة النظر فيها.

أجل، مازالت توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة في بداياتها بعد مرور ثمان سنوات. لكن على الرغم من ذلك فإن الهيئة ليست عديمة الأهمية ولا تخدم فقط السردية الرسمية. وقد تكون قد قدمت المغرب كنموذج ناجح لبلد عربي على المستوى الدولي. وفي الآن نفسه يفتح هذا الاهتمام من جهة المؤسسة الرسمية ومنظمات حقوق الإنسان المستقلة وجمعيات مقاومة النسيان إضافة إلى وسائل الإعلام حوارا عموميا يناقش «الذاكرة السياسية» للبلاد.

وفي هذا السياق يقول عالم السياسة هيلموت كونيغ: “تكتسب أسس النظام السياسي شكلا محسوسا: ما هي أحداث الماضي التي تصيبنا بالفزع، وما هي الأحداث التي نقرأها كأحداث مؤسسة. ولأي سبب.” يشير هيلموت كونيغ إلى وجهين للذاكرة السياسية ـ إنها مرتبطة بإشارات معينة، لأنها تحتاج مثلا إلى معالم للتذكر ومتاحف وطقوس إلخ، ثم إنها شعورية، بمعنى أن كل الفاعلين يمارسون سياسة للذاكرة. لكن هذا الاهتمام لا يجرد عملية معالجة آثار الماضي من أهميتها، بل إن نقاش كل الفاعلين حول الذاكرة والتاريخ سيحدد مستقبل المغرب.