مجلة حكمة
كرايس تشيرش كنيسة المسيح

التاريخ المزيَّف الذي أَلهم مهاجمَ كرايس تشيرش [“كنيسة المسيح”] – جيمس بالمر / ترجمة: حمزة المزيني


كرايس تشيرش [“كنيسة المسيح”]: كيف حوَّلت الجماعاتُ المعادية للعرب طوال عقود فصلاً من تاريخ القرن الثامن [الميلادي] إلى شيء مختلف عما هو في الحقيقة؟!


ما السبب الذي حَمل المتَّهمَ القاتلَ[1] في [مدينة] كرايس تشيرش [“كنيسة المسيح” النيوزلندية] على أن يَستلهم شخصياتٍ من القرون الوسطى [الميلادية] قدوةً له ويزيَّن أسلحته النارية بكتابة اسم “شارل مارتل” عليها؟ فهل كان بذلك يواصل صراعًا دينيًّا تاريخيًّا بين المسيحية والإسلام باحتفائه بـ”نبيل”[2] عاش في القرن الثامن [الميلادي] كان قد هَزم جيشًا عربيًّا [في معركة وقعت] بين [مدينتَي] بواتييه وتور [في جنوب فرنسا] سنة 732م[3] لوقف توسَّعِ الإسلام في أوروبا؟

[والإجابة] بنعم ولا. فقد استخدم المعادون للعرب اسمَ شارل مارتل مصدرًا للإلهام طوال عقود، إذ رأوا فيه مدافعًا عن [الهوية] المسيحية. فاستعمل الإرهابيون الفرنسيون اسمَه في السبعينيات والثمانينيات [الميلادية من القرن العشرين] حين هاجموا المحلات التجارية التي يملكها جزائريون [في فرنسا]. وكان ستيفن ك. بانون[4] هو الرجل الذي حضَّ في سنة 2014م الكنيسةَ المسيحية على أن تتخذ موقفًا في الدفاع عن “الغرب اليهودي المسيحي” ضد الإرهابيين.

أما شارل مارتل فلن يَعُدَّ نفسَه مدافعًا عن [الهوية] المسيحية. فهو قد خاض معركته [تلك] ليدافع عن امتيازاته الخاصة وأراضيه وليَهزم منافسِيه. ومع ذلك لا تملّ القوى المعادية للعرب الانغماسَ في تقليد دام قرونًا؛ ذلك التقليد المتمثل في تزييف حكاية شارل مارتل لتتناسب مع أغراضهم السياسية.

أما الواقع فهو أن الأخبار المبكِّرة في العصور الوسطى عن انتصار شارل مارتل لم تصوِّر تلك المعركة على أنها صراعُ بين حضاراتٍ إطلاقًا. إذ كان الملوك [الأوروبيون] في تلك الفترة ضعافًا وكانت القوة الحقيقية في أيدي “نبلاء” المناطق الذين يمتلكون الأراضي ويعيِّنون القضاة وينظِّمون الجيوش القوية جدًّا لأغراض الدفاع. وبرزت مكانة شارل مارتل، منذ أن انطلق مما يسمى الآن بلجيكا، عبر انتصارات عسكرية ضد خصومٍ رئيسيين ومنذ غزوِه الساكسونَ الوثنيين [سكان بريطانيا] من الشرقِ. وعزَّز قوته ببذل المكافآت من الأراضي وألقاب التشريف لحلفائه الدينيين وغير الدينيين. ولم تكن معركة تور، في ذلك الوقت، إلا خطوة واحدة في طريق الفتوحات التي خاضها شارل مارتل.

فقد زَعم [كِتابُ] تاريخٍ أمر بتأليفه عمُّ شارل مارتل أن “نبيلاً” مسيحيًّا آخر، [اسمه] إيدو صاحب [مقاطعة] أكويتاني، هو الذي دعا العرب لمساعدته في استعادة بعض الأراضي التي استولى عليها شارل مارتل منه. فلم يكن [الجيش العربي يمثل، إذن] غزوًا أجنبيًّا كبيرًا. لكن العرب خرجوا عن السيطرة وأحرقوا بعض الكنائس في طريقهم نحو الشمال. فانتهز شارل مارتل هذه الفوضى وادعى [أنه حقَّق] نصرًا سهلاً [عليهم]. وبعد انتهاء تهديد إيدو وحلفائه استمر شارل مارتل في توسيع سيطرته على بقية ما يُعرف الآن بفرنسا عن طريق مزيد من الأعمال العسكرية.

ومع أن شارل مارتل انتصر في كثير من المعارك التي خاضها فقليلٌ هم الذين نظروا إليه على أنه بطل. فقد نظر إليه كتّاب الكنيسة لا على أنه ذلك الشخص الذي دافع عنهم، بل على أنه شخص عادي انتهازي استغل أراضيهم أسوأ استغلال لمكافأة أتباعه. [ويشهد بذلك] قول أحد الكتّاب بأنه يستطيع رؤية آثار الدمار التي أوردها سانت دينيس[5] حيث يُجَر شارل مارتل إلى الجحيم [جزاء له على فظائعه].

وتحوَّلت قصةُ شارل مارتل ومعركة تور في القرن الثامن عشر [إلى شكل آخر] نتيجة لتأثير كتاب إدوارد جيبون[6] “اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها”. وكان أحدَ كتب التاريخ العظيمة، ولا يزال يُقرأ بشكل واسع في الوقت الحاضر، ويعبِّر [فيه جيبون] عن الأسى للكيفية التي قطع بها الأوروبيون علاقتهم مع حضارتي اليونان وروما. وصارت معركة [تور] في تلك القصة حقيقةً عن ثقافات تتقاتل. إذ كتب جيبون بلغة نثرية دراماتيكية مهتاجة قائلاً: “لقد تقدَّمت آسيا وإفريقيا وأوروبا بقدر متساو من الحماس نحو مواجهة سوف تغيِّر تاريخَ العالم”. ولم يكن [جيبون حين كتب ذلك] يعتمد على مصادرَ جديدة [عن المعركة] بل كانت لديه أولويات جديدة. وختم [كلامه عن معركة تور] بقوله إنه لو خسر شارل مارتل المعركة لاكتسح العرب الغزاة أوروبا. ولم يتوقف [جيبون لحظة] ليُعمل فكرَه في النتائج المتواضعة [لتلك المعركة] وفي أعداد الجيشين غير المؤكدة [جيش مارتيل وجيش العرب].

ولم يكن الفرنسيون مقتنعين بسردية جيبون، مع ذلك. فقد نظر يوليس ميشيليه[7]، المؤرخ الفرنسي الذي عاش في القرن التاسع عشر [الميلادي] ويُعَد مؤسس منهج الكتابة الفرنسية التاريخية بعد عصر الثورة، إلى معركة تور على أنها ليست أكثر من غارة غير منظَّمة. وقدَّر أن خوف الفرنسيين الأكبر كان من “الغزو الألماني” في تلك الفترة المبكرة. وكان شارل مارتل يمثَّل أدق تمثيل ذلك الغزو لمجيئه من الأراضي الواقعة غرب [نهر] الراين [في ألمانيا]. وجعل الصراعُ الفرنسي الألماني في الفترة التي عاش فيها ميشيليه من الألمان عدوًّا يَفوق عداؤه عداء العرب، لا سيما أثناء حروب نابوليون.

ووصل المؤرخ البلجيكي هنري بيرين[8]، في القرن العشرين، إلى نتائج مماثلة في كتابه الشهير “محمد وشارلمان”، المنشور بعد وفاته سنة 1937م. فقد ألَّف [ذلك الكتاب] ليقلل من أهمية الثقافة الألمانية في التاريخ الأوروبي بعد تجربته الخاصة في معسكرات السجن الألمانية خلال الحرب العالمية الأولى. فهو يرى أن نهاية العالم القديم وبداية العصور الوسطى بدأت حقيقة في القرن السابع [الميلادي] مع سيطرة العرب على البحر الأبيض المتوسط. لكنه كان يعتقد أنه حتى في ذلك السياق لم يكن [لمعركة] تور أهمية حقيقية.

ولم يصل جيبون وميشيليه وبيرين إلى تأويلات مختلفة لشارل مارتل ومعركة تور لأن أيَّ واحد منهم لم يكن يمتلك مصادرَ أفضل أو أكثر من الآخر. بل كانوا [كلهم]  يحاولون أن يُكيِّفوا القصة لتتلاءم مع سرديات أكبر عن ثقافات العالم التي لم تحدَّد تحديدًا دقيقًا أو مع الدول الوطنية حديثة النشأة. وتأتي تلك القصص معها بأفكار مختلفة عما كانتْه أوروبا وما لم تَكُنه ـــ وهي التي تحدِّدها دول وأعراق وثقافات أكثر من أن يحدِّدها بدين.

أما من حيث الواقع، فلم ير شارل مارتل مواجهتَه مع الجيش العربي على أنها معركة بين حضارات. ذلك أن التوسع العربي وانتشار الإسلام كانا جديدين في سنة 732م مما جعل أكثر الناس لا يعرفون إلا القليل عن كيف تتلاءم تلك الأشياء مع عالم يؤطَّر بالإمبراطورية الرومانية و[الهوية] المسيحية لا [بالدول والأعراق والثقافات المحلية]. ولم يقاتل شارل مارتل، بحسب ما يمكن أن نعرفه عنه، إلا ليدافِع عن مصالحه الخاصة وحسب.

إن ادعاء القاتل في مدينة كرايس تشيرش تمثيل تراث شارل وشهرته لا يعدو أن يكون تذرُّعًا بشهرة تاريخية استَغلت التاريخَ أسوأ استغلال لتسويغ العنف. وهذه ليست أُميَّة تاريخية وحسب ـــ بل إنها لا تمثِّل إلا الكيفيةَ التي تَظهر بها [معركة] تور في كثير من الكتب ومواقع الإنترنت وحسب. أما ما نحتاج إلى أن نفهمه ونواجهه فهو الكيفية التي تكتَسب بها غالبًا لحظاتٌ تاريخية مثل [معركة] تور معناها الشائع [غير الدقيق] من خلال [المنظورات] السياسة الحديثة.


[1] وصفتْه رئيسة وزراء نيوزيلندا الشجاعة، جاسيندا آرديرن بأنه: “إرهابي ومجرم ومتطرف. وهو الذي شن هجومًا مسلحًا على المصلين في يوم الجمعة (8/7/1440ه/15/3/2019م) وقتل خمسين من المصلين [المترجم].

[2] Duke

[3] وقعت هذه المعركة المعروفة في التاريخ الإسلامي بـ”بلاط الشهداء”  في رمضان سنة 114ه وكان قائد الجيش فيها عبد الرحمن الغافقي الذي استشهد فيها [المترجم].

[4]Stephen Kevin Bannon    (27 نوفمبر 1953م ــــ ) الإعلامي الأمريكي اليميني المتطرف المعروف الذي عمل مستشار استراتيجيًّا للرئيس ترامب لأشهُر [المترجم].

[5] Saint Denis إشارة إلى مؤرخ مسيحي وصف الفظائع المدعاة التي ارتكبها مارتل ضد الجيش العربي [المترجم].

[6] ــــــ  Edward Gibbon”إدوارد جيبون” (8 مايو 1737 ــ 16 يناير 1794م)، مؤرخ إنجليزي مشهور. ترجم كتابَه إلى العربية محمد علي أبو درة، مراجعة وتقديم أحمد نجيب هاشم، ج1 (ط2)، القاهرة: الهيئة المصرية للكتاب، [1969م] 1997م؛ (ج2) ترجمة محمد سليم سالم، ومراجعة أحمد نجيب هاشم؛ (ج3) ترجمة محمد سليم سالم، ومراجعة محمد علي أبو درة.  قال عنه أحد  مؤرخي روما وهو باتولد نيبور “إن كتاب جيبون لن يبزه كتاب أبدًا” [المترجم]. ومما قاله جيبون: “خط انتصار [المسلمين] طوله ألف ميل من جبل طارق حتى نهر اللوار كان غير مستبعد أن يكرر في مناطق أخرى في قلب القارة الأوروبية حتى يصل بالساراسانيين [يقصد المسلمين] إلى حدود بولندا ومرتفعات اسكتلندا، فالراين ليس بأصعب مرورا من النيل والفرات، وإن حصل ما قد ذكرت كنا اليوم سنرى الأساطيل الإسلامية تبحر في مصب التايمز بدون معارك بحرية ولكان القرآن يدرس اليوم في أوكسفورد ولكان علماء الجامعة اليوم يشرحون للطلاب باستفاضة عن الوحي النازل على محمد” [نقلاً عن ويكبيديا [المترجم]].

[7] Jules Michelet “يوليوس ميشيليه” (21 أغسطس 1798 ـــ 9 فبراير 1874م) [المترجم].

[8] Henri Pirenne (ديسمبر 23، 1862 ــ أكتوبر 24، 1935م) [المترجم].