مجلة حكمة
البعد التجريدي في مرحلة ما قبل الأنساق: الوجود دائم الحركة - هيثم الماجد - حكمة

البعد التجريدي في مرحلة ما قبل الأنساق: الوجود دائم الحركة – هيثم الماجد


الجزء الأول: الوجود دائم الحركة

أيونْيَة .. وفلسفة الحكماء

نبغت أيونْيَة كرحمِ الحكمة الذي أنجب حكماء الإغريق الأوائل، وخلق الفضاء الأرحب للعقل في تمرّدٍ على القيود المادية الفينيقية والإغريقية المحلية التي انزوت تحتها بحكم الطبيعة التجارية للمنطقة. برزت الحكمة الأيونية في أواخر المئة السادسة قبل الميلاد من خلال البحث في أصل المادة، الأمر الذي تمايز به الحكماء السبعة منذ صولون (٦٤٠-٥٦٠ ق.م). شكل هذا المسار البعد العقلي في مقابل البعد الحسي المباشر مستأثرًا بالسؤال الفلسفي؛ ومع ذلك، فإن الأيونيين وإن التفتوا للنظر الكلي للعالم، إلا أنهم التزموا بالتعبير المادي عن هذا الأصل ولو لم يكن المعنى المباشر مرادًا في ذاته. فطاليس حين يعزو أصل العالم للماء هو لا يعوّل على المعنى المباشر للماء، وإنما على كليات عقلية يُمثل الماء فكرةً تربِطُها، الأمر الذي فنده أرسطو فيما بعد حين جعل لطاليس ومن بعده هيراقليطس النصيب الأكبر في تأصيله للميتافيزيقا.

انطلاقًا من هذا الأصل؛ يمكننا القول إن مبادئ الفلسفة الطبيعية الأيونية التي تبلورت فيما بعد إنما بُنيت على مبدأ التأصيل لمادة العالم مستحضرةً فكرتين رئيستين هما الحركة والتغير على أنهما سمتا العالم الأكثر أصالة، وبالتالي فإن أصل مادته تقترب أو تبتعد عن هاتين السمتين بحسب نظرة الحكيم ومكانته. جسّد صولون – على سبيل المثال – هذا المبدأ الأصيل من خلال الفاعلية السياسية وتعزيز فكرتي المشاركة والتغيير لتكون البذرة الأولى للديمقراطية؛ وكذلك هي الحال في حركة خيلون التصحيحية في إسبرطة؛ إلا أن فلسفة طاليس – إن صح التعبير – هي الأكثر شهرة بحكم بنائها الجامع بين البعد العقلي والتطبيقي في مجالات الهندسة والرياضيات بعيدًا عن الصراعات السياسية التي انزلق فيها بقية الحكماء.

بقي مبدأ التغير والحركة متضمَّنًا في فكرة تأصيل المادة حتى ظهر في شكله الأكثر نضجًا مع هيراقليطس الذي صرح بأن السمة الطُولى لهذا الوجود هي الحركة الدائمة ومن ورائها ينتج التغير الدائم بما عُرف فيما بعد بمبدأ (السيلان).

 

أناكسيمندر .. نقطة التحول وذروة التجريد

سار أناكسيمندر (٦١٠-٥٤٦ ق.م.) على ذات النسق الطبيعي بحكم تلمذته على يد طاليس، إلا أنه ابتكر نمطًا مغايرًا في التعبير عن الأصل حين قال بأن أصل العالم هو اللامتناهي!

لم يكن البحث في أصل المادة هدفًا لدى أناكسيمندر عدا أنه استخدمه للتعبير عن نفي الأصل الواحد. انطلق أناكسيمندر من رؤية نقدية لفكرة طاليس عن كون الماء أصل الأشياء ذلك أن الماء لا يمكنه أن يكون أصلًا للمتناقضات، ولا يمكن أن تصدر المتناقضات عن أصل واحد له طبيعة معلومة، لكنه أبقى على فكرة أصولية الماء بالنسبة للكائنات الحية في معرض حديثه عن أصل الكائنات الأمر الذي اعتبر إرهاصًا لنظرية تطورية. وبهذا يكون أناكسيمندر قد حصر فكرة طاليس في أصل الحياة بدلًا عن أصل الوجود حيث فهم – كما فهم أرسطو فيما بعد – منشأ الفكرة لدى طاليس التي أفضت به إلى اختيار الماء أصلًا.

اعتمد أناكسيمندر على (اللامتناهي) لا كأصل للمادة وحسب وإنما كأصل تستمد منه الموجودات وجودها وتعود إليه طبقًا للضرورة، وعليه فإن اللامتناهي دائم أزلي يمكن أن تنتج عنه المتناقضات، ولذلك أطلق عليه اسم (الأبيرون). ينطلق الأبيرون من منطلقين للامحدودية: الأول لا محدودية الكم؛ وبالتالي يمكن أن تصدر عنه كل الموجودات؛ والثاني هو لا محدودية الكيف مما يجعل منه أصلًا للمتناقضات والمتباينات دون أن يكون له صفة تقيّد كيفه وتجعل صدور موجود ما عنه متعذرًا. تنشأ العناصر انبثاقًا عن الأبيرون من خلال دوام الحركة، ثم تتمايز هذه العناصر عن بعضها وتكوّن الأضدادَ التي تتصارع مشكلة مرحلة وجودها الذي ندركه.

من خلال هذا العرض، يمكن القول بأن للوجود مراحل ثلاثة أشار إليها أناكسيمندر في حديثه عن الأبيرون تتتالى منتجة جدلية صراع الأضداد في شكلها النهائي. أولى هذه المراحل مرحلة الأبيرون ذاته حيث اللامتناهي في شكله التجريدي كسديم أول أزلي تمتزج فيه الأضداد بشكل غير محدود الكم وغير محدود الكيف. تليها مرحلة تحكمها سمتان (الضرورة) و(العدل). سكّ أناكسيمندر هذين المصطلحين للتعبير عن الحركة في المرحلة الثانية لتولد الوجود عن السديم الأول، فالعدل يقضي بتمايز المتناقضات بنسب معينة لضمان توازن الوجود إلا أن كل عنصر من هذه العناصر المتضادة يستمر بالتوسع دون توقف، وهنا يأتي دور مبدأ الضرورة الذي يقضي بتمايز العناصر الأربعة الرئيسة وانفصالها عن الأبيرون ليلتزم كل عنصر منها مكانًا محددًا لا يتعداه[1].

تبرز بعد هاتين المرحلتين الضبابيتين المرحلةُ الثالثة وهي مرحلة تكون العوالم والكائنات من العناصر الأربعة الرئيسة، وهذه المرحلة من وجهة نظر أناكسيمندر تعد ظلمًا يكسر قانون العدل. يُسقِط نيتشه فكرة الظلم على وجود الموجودات ذاته باعتباره مقصورًا على الوجود ومقصورًا على الزوال معللًا أن كل صيرورة هي طريقة مذنبة للتحرر من الوجود الأبدي، وهي ظلم يجب التكفير عنه بالموت[2]. ومع ذلك يمكننا استنتاج نظرة أناكسيمندر من خلال تعريفه لمفهوم العدل، فنقول إن الظلم يظهر في هذه المرحلة لأن ظهور الموجودات (الأضداد) الناتج عن العناصر الأربعة ليس محكومًا بالتناسب، كما أن طبيعة العلاقة بين الأضداد في المرحلة الثالثة هي الصراع في مقابل التكامل والتوازن في المرحلة الثانية، وعليه أزعم أن نظرة أناكسيمندر للوجود في شكله الأخير على أنه ظلم لم يكن انطلاقًا من قصره على الوجود والزوال وحسب كما علل نيتشه.

أفضى صراع المتناقضات الذي صبغ المرحلة الأخيرة إلى فكرة أكثر تعقيدًا لدى أناكسيمندر وهي فكرة تعدد العوالم. فالظلم المتأتي من صراع المتناقضات يفرض السعي للعودة لمبدأ العدل، الأمر الذي يجعل من صراع الأضداد ينتهي بظهور عالم جديد يسري فيه مبدأ العدل فيحكم على العالم السابق بالفناء. ومن خلال تعدد العوالم يمزج أناكسيمندر بين فكرتي أزلية الأبيرون ونشوء الوجود عنه ثم عودته إليه.

 خرج أناكسيمندر من عباءة الطبيعيين من خلال اللامتناهي، فخلق فضاءً تجريديًا متعاليًا تنزوي تحته الأبعاد الميتافيزيقية وتعلل الوجود الفيزيائي في ذات الوقت، على أنه بقي محافظًا على مبدأ الأيونيين المعزز لدوام الحركة، بل إنه جعل من الحركة علةَ تمايز العناصر الرئيسة عن سديم الأبيرون الأول كما هي صبغة الصراع في وجود العوالم، وبهذا تصبح الحركة دائمة انطلاقًا من الأبيرون وعودة إليه أزليةً كأزلية الأبيرون.

مثل أناكسيمندر نقطة التحول في الفكر الفلسفي عمومًا رافعًا إياه إلى أعلى الذُّرى تجريدًا مسقِطًا على الوجود صفات مباشرة وغير مباشرة تجذّرت في الفلسفة فيما بعد ومثلت أطرَ التوافق والخلاف كمواضيع رئيسة للبحث الفلسفي؛ لينال السبق في إخراج الفلسفة من عالم المحسوس إلى عالم المفهوم، مؤسسًا للفكر التجريدي في الفلسفة بابتكار الأبيرون المفهوم الأكثر تجريدًا على الإطلاق.

 

هيراقليطس .. “خرجتُ لأبحث عن نفسي”

رَكَنَ هيراقليطس (٥٣٥-٤٧٥ ق.م.) إلى التعبير المادي عن أصل العالم فعزاه للنار مستلهمًا البعدين التغير والحركة من تموجاتها، إلا أنه لم يكن يعول على البعد المادي شيئًا بل كان مُبْدِئ ثورة فلسفية جديدة.

 

إن العالم وهو واحدٌ للجميع لم يخلقه إله أو بشر، ولكنَّه كان منذ الأزل، وهو كائنٌ، وسوف يوجد إلى الأبد، إنه النار التي تَشتعلُ بحساب، وتخبو بحساب[3]

 

توسعت فلسفة هيراقليطس – صاحب الشذرات الغامضة والشخصية المتكبرة – في فضاء أرحب من ضيق الفلسفة الطبيعية الأيونية والفيثاغورية لتطرق جوانب ثلاثة مهمة؛ أولها اللوغوس، يليه البحث في أصل الوجود وكينونته، وأخيرًا فكرته الملهمة في المعرفة التي تعد أول نظرية متكاملة في المعرفة.

يعتبِّر هيراقليطس عن اللوغوس بأنه الكلمة الأزلية، والحقيقة المشتركة التي تنبثق عنها الحكمة ولو ظن الناس أن لكل واحد منهم حكمته الخاصة؛ وكان بذلك أول من استخدم كلمة (لوغوس) التي استخدمت فيما بعد في غالب الفكر الفلسفي اليوناني وخاصة مع بروز علم المنطق. نظر هيراقليطس للوجود وكأنه كلٌّ واحدُ المرجعية بخلاف النظرة السابقة؛ هذه النظرة قادته في ذات السبيل التي سار عليها أناكسيمندر حين اختار اللامتناهي ليكون أصلًا يمكن من خلاله جمع المتناقضات. يرى هيراقليطس أن المتناقضات في هذا الوجود شيء واحد ومصدره واحد، ولهذا استعان باللوغوس على أنه (الكلمة الكلية) التي تجمع كل شيء، الكلمة العليا مصدرُ الحكمة كما يشير إلى ذلك في شذراته:

 

من الحكمة ألّا تصغوا إليَّ، بل إلى كلمتي وأن تقولوا بأن جميع الأشياء واحدة.

 

من هذا المنطلق يكون هيراقليطس قد سعى إلى تجريد المبدأ الكلي متجاوزًا مرحلة تجريد الأصل؛ فاللوغوس ككلمة عُليا مجردة يُشار إليها أحيانًا على أنها فكرة وأحيانًا أخرى على أنها الحقيقة الكلية التي تعبر عن المبدأ الكلي مصدر المعاني والأفكار، وسيقدِّمُ نظريته المعرفية فيما بعد ليرسم طريق الوصول إلى اللوغوس.

امتدادًا لهذا التجريد يؤطر هيراقليطس نسق المعرفة لديه منطلقًا من الإدراك الحسي الذي يعتبره وهمًا محضًا يتيه فيه أصحاب النظرة السطحية وهم الأغلبية الساحقة، في مقابل هذا تأتي المرحلة الأكثر تقدمًا وهي الحدس كمصدر أكثر صدقًا للمعرفة، ليكون بذلك أول من قدّم الحدس مصدرًا معرفيًا. يمثل الحدس هنا توقع غير المتوقع، فإذا كانت الحواس تمثل المتوقع الملاحظ فإن الحدس يمثل النظر إلى الماورائي وهو بذلك يعني ما وراء المتوقع والمحسوس وبين مرحلتي الحس القاصر والحدس المتعالي يحضر العقل التحليلي الذي ينتقل به الإدراك من عالم المحسوس إلى اللوغوس الكلي.

تمسك هيراقليطس – مع كل هذا الإغراق في التجريد – بالتعبير الأيوني عن أصل العالم، ولكن هذا الالتزام لم يعدُ التعبير عن الأصل بأنه (النار). استخدمت النار هنا لكونها الأكثر حركة وسرعةً في التحول وهي سمة الوجود كما يراه هيراقليطس، وجودٌ دائم الحركة، يحكمه الصراع الدائم بين المتناقضات (الموهومة)، ولأن الوجود في نظره أزلي لا ابتداء له، فإن الحديث عن النار ليس إلا تعبيرًا عن صيرورة الوجود ووصفًا لتنقلاته بين مختلف الأحوال وهو ما عبر عنه هيراقليطس بـ (البرستير) المتضمن لحركتين صاعدة من النار فالهواء فالماء وأخيرًا التراب تتلوها حركة هابطة بعكس الاتجاه عودة للنار؛ ومع هذا فإن الحركتين الصاعدة والهابطة تتحركان في ذات الوقت بالاتجاهين المتعاكسين اتساقًا مع فكرته الرئيسة في وحدة المتضادات.

يقول هيراقليطس: (لا يمكن أن تنزل مرتين في النهر نفسه لأن مياهًا جديدة تغمرك باستمرار)[4]. ويقول في شذرة أخرى: (تتجدد الشمس كل يوم)[5]. كل هذه الشذرات تعزز فكرتيه في دوام الحركة وقصور الحواس عن إدراك الحقيقة، فالنهر الذي تظنه واحدًا وحتى الشمس التي تراها ذاتها كل يوم متجددين خاضعين لمبدأ ابتكره هيراقليطس مطلقًا عليه (مبدأ السيلان). يعزى الوهم في تشابه الموجودات رغم تغيرها الدائم إلى أن الجوهر يتدفق بكميات متساوية في كل مرة، ولذا تتوهم الحواس التشابه رغم عدمه، بل إن الأمر يذهب لأبعد من هذا ليكون كل شيء موجودًا وغير موجود في ذات الوقت في خضوعٍ لمبدأ الصيرورة المتأرجح بين شكلين إما الوجود أو اللاوجود وبين هذا وهذا يقدّم هيراقليطس (الزمن) في أول أشكاله التجريدية حين يجعله الأول والأخير بين كل الأشياء، المتضمن لكل شيء، الذي يوجد ولا يوجد ويخرج دائمًا مما هو موجود ويعود من الجهة المقابلة، لأن اليوم هو الأمس بالنسبة لنا وقد كان الأمس غدًا[6].

اعتمد هيراقليطس على الزمن تعزيزًا لفكرة التغير، لكنه جعل الزمن واحدًا كي لا يخرق مبدأ الأزلية، وبهذا يمكننا قراءة الزمن الهيراقليطي بأنه مسارٌ يسير فيه التغير وتمضي على نهجه الحركة وكأنه وسيلة الجوهر في التدفق الدائم ليجسد الموجودات. هذا الاستنتاج يستحضر في طياته الجدلية المادية ممتزجة بمبدأ هيدغر القائل بأن الزمن ليس إلا كينونة الدزاين. كان هيراقليطس أول من تطرق للحديث مباشرة عن الزمن، وربما يكون الفيلسوف الذي أعطى الزمن أكثر صوره تعقيدًا وتجريدًا ولكن بشكل غير مباشر؛ كما أسس مبدأ الصراع الذي تبنته الأنساق الفلسفية من أفلاطون وأرسطو وحتى هيجل وماركس، وعزز في ذات الوقت مبدأ الأيونيين في الأصولية وفكرتهم المضمرة المشيرة إلى دوام الحركة فجعلها أصلًا يفهم من خلالها الوجود.

ومع كل هذا، فإن هيراقليطس لم يزعم لنفسه النظر في الوجود ولا البحث عن علة الإدراك بل قال عن نفسه بكل بساطة: (خرجتُ لأبحث عن نفسي)!

 

 

 


[1] مصطفى النشار، تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي، الجزء الأول ص١١١-١١٢

[2] نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، تعريب د. سهيل القش، ص٥١-٥٢

[3] شذرات هيراقليطس، ترجمة د.أحمد الأهواني، شذرة (٢٠).

[4] الشذرات، الشذرة ٤١.

[5] الشذرات، الشذرة ٣٢.

[6] الفلسفة الإغريقية، محمد جديدي، ١٦٦، نقلًا عن ثيوكاريس كيسيديس، هيراقليطس جذور المادية الديالكتيكية، ص ١٥٣

تمهيد السلسلة