مجلة حكمة
الإيمان والفلسفة عند سبيلا - حميد لشهب

الإيمان والفلسفة عند سبيلا – حميد لشهب


يتناول سبيلا في نص: “الفلسفة والدين والسلطة” في كتابه: “النزعات الأصولية والحداثة”، الصادر عام 2000، عن منشورات رمسيس، التصور السلبي الذي يحمله رجل الشارع عن التفكير عموما وعن الفلسفة بوجه خاص. فالطبيعة البشرية للإنسان العادي في نظره “تحتم” عليه غذاء ثقافيا وروحيا سهل المنال، يقدم كل الأجوبة، دون طرحها حتى. وهذا ليس غريبا، لأن الإنسان عموما مطبوع بالكسل المعرفي، ما دام التفكير والتمحيص والتدقيق في الأمور يتطلب طاقة لا طاقة لهذا الإنسان بها. ولربما لهذا السبب طور الإنسان الشعبي العادي على مر الزمن نوعا من الإستخفاف والتهكم من الفلسفة والفكر. بل عادة ما تلصق بهما “تهمة” الإلحاد.

يقول سبيلا ردا على هذا الإتهام: “الفلاسفة كالمتصوفة يؤرقهم هَمَّ التوصل إلى علاقة مع الذات الإلهية خالصة من أي لوثة دنيوية، علاقة خالية من أية روح منفعية أو تكسبية حتى ولو تعلق الأمر بالمكاسب الأخروية”. ويشرح “تهمة إلحاد الفلاسفة” بحكم العامة على المظهر فقط، لأن الفلاسفة لا يكتفون في بحثهم عن علاقة مثالية مع الذات الإلهية بما تتداوله العامة من معارف عن الله: “هذا التوق إلى إيمان خالص خال من الزلفى والنفاق والمساومة والتظاهر، هو ما يميز الكثير من الآراء الفلسفية […] فالأمر لا يتعلق بجحود بقدر ما يتعلق بإعمال للعقل، أي للمواهب الفكرية للإنسان ككائن مزود بالعقل، في فك وتجلية رموز الكون”. وهذا الإستعمال هو الذي يقود من بين ما يقود إليه إلى “فضح استغلال الدين” من طرف جهات معينة ويضمن تقوية الإيمان عن قناعة وبحث وصبر ومعانات وجلد: “إن إضفاء القدسية على أماكن وأشياء وكائنات دنيوية، وإظهار مظاهر التقديس والتعبد اتجاهها، أمر ترفضه الفلسفة، لأنها ترى بأن انتقال البشرية من الوثنية إلى التوحيد [ … ] هو بنفس الوقت انتقال من التجسيد والتشخيص إلى التنزيه”.

تُجَاور الفلسفة التصوف حسب سبيلا في رفضها تحويل الشعور الديني من شعور خاص بالله وجلال خلقه وعظمته إلى استغلال هذا الشعور في تظاهر بالتدين قصد الوصول إلى أهداف دنيوية محضة. ولهذا السبب فإن صاحب السلطة الذي يؤسس شرعيته على الدين، غالبا ما يشعر “ببلبلة” الفيلسوف، ويحاصره، بل يضيق عليه، لأنه يُعتبر خطرا عليه؛ ذلك أن ممارسة السلطة تفضل “قطعان الخرفان” على مواطنين يعون، ليس فقط حقوقهم، بل قبل كل شيئ واجباتهم، أمام الخالق وأنفسهم أولا وأخيرا، ولهذا السبب فإن: “الفيلسوف الصالح مواطن فاسد في المنظور القيصري”، على حد تعبير سبيلا.

قد يساعدنا هذا العرض المختصر لهذا النص على محاولة فهم العمق الفكري، بل الإلتزام المبدئي لفيلسوف من طينة سبيلا في إعادة موضعة مسؤولية المفكر والفيلسوف اتجاه العالم الرمزي للشعوب المسلمة. فالفلسفة والدين هما التخصصان اللذان يحملان على عاتقهما، كل بطريقته، الإهتمام بالأسئلة الوجودية “الخطيرة” المتعلقة بالحياة والموت وما قبلهما وما بينهما وما بعدهما. أي ما يُكَوِّن هويتنا الإنسانية في كل أبعادها في علاقتها بالخالق. والإنسان المسلم عموما، والمغربي على وجه الخصوص، الذي “يحلم” به سبيلا هو المسلم الذي يبني إيمانه بالتفكير بنفسه باستقلال ومسؤولية، لا أن يفكر آخرون عوضه ويملون عليه، ليس فقط الطريقة التي يجب عليه تصور الله بها، بل أيضا الطريقة التي يجب عليه التقرب بها منه.

إن التنوير الحداثي في ميدان الإيمان الذي يقترحه سبيلا يتوخى فتح قاعدة الإيمان على المعارف والعلوم الإنسانية الحديثة. جوهر الدين، كما نفهمه عند سبيلا، هو الحرية، على اعتبار أن الله ذاته لا يتجلى للإنسان إلا من خلال الحرية، وليس عن طريق الأصفاد والقيود التي يفرضها رجال الدين والساسة. ولعمري أن أكبر عقبة تواجه الفيلسوف المسلم حاليا، الذي يريد “عتق” رقبة ليس فقط العباد، بل حتى “تمثل الله” في الدول المسلمة هو إعادة صياغة تصور صحيح عن الله، غير التصور الذي يعشش في المخيلة الشعبية للمسلمين. فالتحدي العقائدي والفكري الأعظم في المرحلة الراهنة هي إعادة إدخال الحرية في حقل التفكير، وبالخصوص حرية الإيمان بمواصفات سبيلا، أي التجريدية المحضة، المتقربة من الله في علاقة حب متبادل من أجل الحب، وليس من أجل حاجة معينة من طرف المتعبد.

إذا كان الفيلسوف المسلم منذ غابر الأزمان يعي حدود ليس فقط العقل الإنساني، بل طموح البشر لفهم أحسن للخالق، فإن سبيلا يذهب بالتحليل إلى أعمق نقطة ممكنة حاليا، ألا وهي محاولته “تلقيح” “إجباري” للميدان الروحي لمسلمي القرن الواحد والعشرين، عله يُجنبهم أمراضا محدقة بهم، تتمثل في التحكم في رقاب العباد باسم دين يُبعِد عن الله أكثر مما يُقرب منه، بسلب البشر ملكة التفكير فيهم ودفعهم دفعا للكسل الفكري، وبالتالي للفقر الإيماني، وحرمانهم من الحرية في الإرتماء في أحضان الله، ما دامت هناك هيئات ومجموعات وأشخاص وحكومات تفرض نفسها كوسيطة بين الله وعبده، في ثقافة تفشت فيها وظيفة ودور “الحاجب”، الذي يأذن أو لا يأذن بمُلاقات “الأمير”، وما أكثر “أمراء” المسلمين في وقتنا الحاضر.

إن نص سبيلا “الفلسفة والدين والسلطة” يُقلق، يُشغل، يُشعل، يُؤرق، لأنه انكب على ميدان يهم الإنسان الشعبي العادي، كما يهم النخبة المثقفة والسياسية على حد سواء. وهو تذكير صريح بأن المفكر العربي المسلم “أهمل” التفكير في موضوع الإيمان، لربما بسبب انهزامه أمام “جبروتين”: الفقيه والأمير و”التضامن” العلني للجهل والكسل واختيار أسهل الطرق في الإيمان للطبقة الشعبية العريضة، بوراثته عن طريق السمع والكلام. وقد تغيرت قواعد اللعبة حاليا بدخول عنصر جديد حلبة الصراع (محاولة السيطرة على زمام الأمور من طرف المتطرفين)، مهددا “امتيازات” الفقيه ومصالح “أمير المؤمنين”.

بهذا النص يكون سبيلا من “الفلاسفة المتصوفة” القلائل في العالم المسلم، ممن –حتى وإن كانوا شيوخا للحداثة- لم يُغفلوا الجانب الروحي والإيماني لأمتهم، بل دافعوا على الأهمية القصوى لهذا الميدان، لكن ليس طبقا لتصور “الفقيه” و”الأمير” البرغماتيين، بل بأمل الصوفي في اكتمال معرفة الله بحبه اللامشروط.