مجلة حكمة
الإله والمنطق دور العقل في الإسلام

الإله والمنطق في الإسلام: خلافة العقل – جون والبيردج / ترجمة: عبدالرحمن القحطاني

1
غلاف كتاب “الإله والمنطق في الإسلام”

JOHN WALBRIDGE, God and Logic in Islam: The Caliphate of Reason, (New York: Cambridge University Press, 2010)

جون ولبيردج، الإله والمنطق في الإسلام: خلافة العقل، (نيويورك، جامعة كامبريدج للنشر، 2010) – مراجعة: جورج صليبا


إن كتاب “الإله والمنطق في الإسلام” لمن ضرب الكتب التي لا يمكن أن يُعرف محتواها من عنوانها، إذ أن محتواه أغنى بكثير مما يشير إليه عنوانه. إذ يسبر كتاب “الإله والمنطق في الإسلام” دور “العقل “في التراث الإسلامي، ويثير سؤالا مهما، هو: هل كان الإسلام التقليدي “الكلاسيكي” نظاما قائما على الوحي فقط وبهذا ديانة وحضارة غير عقلانية، أم أن الحضارة الإسلامية بُنيت على قاعدة صلبة من الافكار المنطقية سواء أ كانت هذه الأفكار مستمدة من الفلسفة أو القانون أو التعليم أو حتى من الدين ذاته؟

بما أن مصطلح “العقل reason” يحمل معاني عديدة، فقد سعى المؤلف والبريدج WALBRIDGE لاستكشاف هذا المصطلح ومعناه، فبحث من ثمة في أبعاده في كتب الفلسفة الإغريقية الكلاسيكية، وعند منتهجي المدرسية scholasticism وفي دوره كأداة في علم اللاهوت، وخلال عصر الأنوار ودوره في التقاليد العلمية العقلانية. ويقوم المؤلف ببحث معنى هذا المصطلح في شكله النفعي، وفي الشكل الحالي كعقلية عملية، وفي شكله النسبي، وفيه نصه البروتستانتي، وفي معناه عند منتهجي الرومانسية، وفي الحروب الأهلية العقلية عند الغرب، وأخيرا مفهومه في الإسلام والغرب. يشرع والبريدج لفحص مفهوم العقل، ومع كل منحنى أو منعطف يمر به خلال فحصه لهذا المفهوم، لابد للقرّاء أن يكونوا على استعداد تام للانخراط في تجارب فكرية متطورة ومعقده والتي من شأنها أن تفحص مفهوم القارئ عمّا يكوّن ويشكل “العقل “. يقوم المؤلف بربط أساس المصطلح “ العقل reason “ للمفهوم الاغريقي “ logos “ والذي لا يحتاج إلى أي ترجمة إضافية بعد ربطه بالكلمة الإغريقية “ lege “ والتي تعني “ لأتكلم “ وبالتالي يندرج تحتها مفاهيم “ ككلمة، جدال، حديث، مبدأ، منطق، الطبيعة الداخلية و النظرية وغيرها” (صفحة ١٩)، وهذا يوضح لنا أهمية إمضاء مدة كافيه وجهد مساوي لهذا العمل حتى نستخدمه في استكشاف مصطلح “ الكلام  kal¯am “ في التراث الإسلامي ( والذي يعالجه المؤلف في صفحة ١١٧ من غير بحثه بنفس التفصيل الذي فعله مع مصطلح logos ). علم الكلام والذي يعني “ الحديث“ من الناحية اللغوية ( أو “ تكلم” كما وصفه المؤلف )، والذي يمكن ربطه على مستوى واحد مع الكلمة الاغريقية lege وبالتالي يمكن إضفاء نفس المعاني والتطبيقات المختلفة لهذه الكلمة التي ذكرت سابقا كمفاهيم لها، على مصطلح الكلام. إذا كان بإمكاننا فهم الفلسفة الإغريقية وعلم اللاهوت النصراني على أنها نتاج عملية تكشّف دقيقة للعقل Logos، فبإمكاننا القول إن قاعدة معظم العلم الديني الاسلامي والفلسفي مثبتة بشكل قوي في علم الكلام.

لم يكن استكشاف المفاهيم ومعرفتها هو ما يقدمه والبريدج في كتابه فقط، مع أنه يجعل هذه المفاهيم  الأساسية ركائز يعتمد عليها في مناقشة التطورات اللاحقة والميول العقلاني في الحضارة الإسلامية، مما سهل عليه مهمته. ولكن القارئ الحذق سيلاحظ مباشرة بعدما يجتاز الجزء الخاص بالمصطلحات وتعريفها، عن مدى انتشار المنهج العقلاني، وذلك يتكشّف في كل نواحي الحياة الفكرية الإسلامية. هذه هي الرسالة التي يحاول والبريدج أن ينقلها للقارئ من خلال كتابه، وإنه ليقوم بذلك بكل مهارة وذكاء.

من المهم عدم رؤية هذا الكتاب على أنه معالجة بسيطة للتعارض بين العقل والنقل (الوحي) في الحضارة الإسلامية، والذي يمكن أن يكون الانطباع الأول لمن يقرأه، مع أن الكتاب يبحث هذا البعد. ولكن المهم أن يراه على أنه  رحلة الى عوالم الفكر حيث “العقل” في كل مظاهره ومفاهيمه التي أُشير إليها سابقا، تجدها حاضرة في كل منحى من مناحي الحياة الفكرية وخصوصاً تلك المناحي التي تحمل طبيعة الوحي وروابطها القويّة مع الفقه والفلسفة وعلوم الدين.

بالإضافة إلى الإطار العام للمفاهيم الاساسية والتي تم توضيحها مسبقاً، فإن الجزء الأول من الكتاب يتطرق للمعرفة التجريبية لعقل الإله والمنطق والتجارب المختلفة خلال تاريخ الحضارة الإسلامية لتشكيل الدين والفلسفة، مشيرا وبشكل هام لمحاولة الفارابي ( ت ٣٣٩هـ ) الفاشلة بهذا الخصوص.   أما الجزء التالي من الكتاب فيتطرق للصوفية، والفلسفة الإسلامية بعد-الكلاسيكية، وصعود و تدهور العلوم الإسلامية. بالإضافة إلى هذا، فإن والبريدج يخصص جزءا من كتابه لمفهوم “فشل العلوم الإسلامية” حيث يقارن النهضية العلمية في أوروبا بغياب مؤسسة مماثلة لها في العالم الإسلامي. وعلى غرار المصادر التي اعتمد عليها لهذه الحجة، كأعمال إدوارد غرانت Edward Grant، وتوبي هوف Toby Huff، و هـ. فلوريس كوهين H. Floris Cohen، فإن والينبريدج لم يتنبه لخصوصية تطور العلم الأوروبي، خلال ومباشرة بعد عصر النهضة، بأن الإسلام لم يكن له دور كبير، والتي كانت الحضارة الأوربية في اتصال مستمر معه. في هذا الشأن،  يبدو أن والبريدج ومصادره، أهملوا هذه الحقيقة لكي يفهموا هذه الاختلاف بشكل صحيح، ولكن ليتم ذلك، فعلى الواحد منا أن يقارن هذه التطورات في أوروبا مع تلك الموجودة في بقية العالم أيضا، بما في ذلك الحضارة الصينية والهندية.  هاتان الحضارتان، جنبا إلى جنب مع الإسلام، كانت في ذلك الوقت المنافسة الشرعية لأوروبا، كما اقترح نيدهام Joseph Needham قبل أكثر من خمسين عاما. وبالتالي يحتاج المرء إلى فهم ما حدث لجميع تلك الحضارات بالمقارنة لما حدث في أوروبا بدلاً من التركيز فقط على مقارنة مضادة بين الحضارات الإسلامية والأوروبية. وبمجرد تعميم هذه المقارنة على جميع أنحاء العالم، فإن التباين بين الثورة العلمية الأوروبية والعلوم الإسلامية تفقد أهميتها الخاصة، ويضطر المرء إلى البحث عن تفسيرات أخرى لظاهرة نشوء العلم الحديث، والتي لا تزال غير مفهومة إلى حد كبير في الوقت الحالي. إذا أصر والبريدج على عزل الحضارة الإسلامية عن هذه الظاهرة العالمية، فيتوجب عليه أيضاً عزل الحضارتين الصينية والهندية وأن يسأل عن “فشل” العلوم الصينية، و”فشل” العلوم الهندية، وحتى “فشل” العلوم الإغريقية. يبدو لي أنه كان من الأفضل أن نسأل ما هو  الشيء الخاص بأوروبا الذي أدى لإنتاج هذه الثورات. الإجابة يمكن بسهولة أن تصبح  وقتها قصة “النجاح” بدلاً من الجدل حول “الفشل”، مع كل الآثار المترتبة على هذين المصطلحين.

خُصص الجزءان المتبقيان من الكتاب لكلٍ من “المنطق والتعليم والشك” (الجزء الثاني) و “سقوط ومستقبل العقلانية الإسلامية” (الجزء الثالث). هنا، يقدم والبريدج إجابته الخاصة على الأسئلة الشائكة التي لا تزال تزعج المجتمعات الإسلامية الحديثة، ويلقي اللوم على النظم التعليمية الإسلامية، ومناهجها، وتمسكها بما يسميه العقلانية المدرسية scholastic rationalism، وقدرتها على وضع حدود لمعالجة المنطق، وهنا يستخدم المنطق كأهم عنصر في النشاط الفكري. ويختم المؤلف الجزء الثاني بوصف النظام التعليمي الإسلامي المتأخر بكونه “تعليما من دون محتوى” (الفصل ٨) ومن ثم ينتقل إلى الجزء الثالث من الكتاب، حيث يعالج “سقوط ومستقبل العقلانية الإسلامية”. في الجزء الأخير، يعالج والبريدج قضايا مثل “ما الخطأ الذي حصل”، و “انهيار التعليم التقليدي”، و “الخلاف في العالم الإسلامي المعاصر”، و “القضايا الكبرى”. يُحسَب له أنه -وبينما كان يعالج مسألة “ما الخطأ الذي حصل” (ص ٦٩-١٦٢)- قد اقترب كثيراً من التشخيص الصحيح لتدهور العلوم الإسلامية (أو يجب أن نقول العقلانية الإسلامية؟) من خلال منظار الاستعمار. في هذا الجزء،  يستشعر المؤلف أساس الديناميكية التدميرية التي أحدثها الاحتلال البريطاني للهند، والموقف الاستعماري المكشوف الذي استخدموه هناك، والانقطاع الحقيقي للحياة العادية والذي كان نتاجا لهذا الاستعمار. ولكن للأسف، لم يستطع أن يرى أن من طبيعة الاستعمار تدمير الثقافات الأصلية تماماً، ولا أمكنه أن يرى أن أي ثقافة رازحة تحت الاستعمار لا يمكنها أن تولد أفكاراً جديدة ولا حتى أفكاراً مستوحاة من تاريخها الخاص لبناء مستقبل أفضل لها. حتى الثقافات التي تحت الاحتلال المباشر أو الخاضعة للهيمنة، كما في معظم العالم الإسلامي حتى وقت قريب جدا، ويمكن القول إنه ما زال مستمراً، ستواجه نفس مصير الهند. كما أنه لا يرى أي صلة بين المغامرات الاستعمارية واسعة النطاق للقوى الأوروبية بعد عصر الاستكشاف وبين صعود الثورات العلمية. وبنفس الطريقة فهو لا يرى كيف كان هذا التوسع الاستعماري مسؤولا عن التدمير التام لكل ثقافة أخرى في بقية العالم. لقد كانت لديه البيانات التي جمعها بشكل جيد في المبادلات بين “الإنجليزيين” و “المستشرقين” في الهند، وكان ينبغي له أن يكون قادرا على رؤية آثار ما كتبوا عن الناس الذين حكموهم بوحشية (أو يجب أن نقول “مدّنوهم”؟)، ولكن في رأيي كمراجع أن ولبريدج فشل في استغلال هذه البيانات من أجل بناء رؤية شاملة للقوة التدميرية للاستعمار على جميع جوانب الحياة. لم يقتصر الأمر على فشل الفلاسفة بل أيضا على فشل الفقهاء، والأدباء، والمنظرين الدينيين الذين أصبحت عقولهم محتلة، والعقول المحتلة ببساطة لا تنتج أفكاراً مبتكرة.

ومع هذا أظن أن هذا الكتاب يمكن أن يصبح كتابا أساسيا، فقط حتى لو لم يكن هناك من سبب آخر غير أن يوّلد مناقشات متعددة في بيئات الفصول الدراسية، تلك التي ترسم فيها الخطوط العريضة على عجل بمواد غنية جدا يغطيها هذا المؤلف النحيف.

المصدر