مجلة حكمة

الإشكال في التحدث نيابة عن الآخرين – ليندا مارتين ألكوف / ترجمة: العنود سعد


 هذا النصّ ترجمةٌ للمقالة التالية:

Alcoff, L., (1991-1992). The Problem of Speaking for Others. Cultural Critique, 20 (Winter).

**بروفيسورة في الفلسفة في كلية هنتر وجامعة مدينة نيويورك، وأستاذة زائرة في الجامعة الأسترالية الكاثوليكية، كما ترأست الجمعية الفلسفية الأمريكية 2012-2013. تنصبّ اهتماماتها في دراسات الفلسفة القاريّة والإبستمولوجيا والنسوية وما بعد الاستعمار، وقد ألّفت العديد من الكتب التي من أبرزها  Visible Identities: Race, Gender, and the Self الحائز على جائزة فرانتز فانون عام 2009.


 

   لنتأمّل القصص الواقعية التالية:

  1. آن كاميرون كاتبة كندية بيضاء على قدرٍ رفيعٍ من الموهبة. كتبت عدّة روايات بضمير المتكلِّم عن حياة النساء الكنديات الأصليات. وفي معرض الكتاب النِسْويّ الدولي لعام 1988، طلبت مجموعة من الكاتبات الكنديات الأصليات من كاميرون “التَّنحي” حرفيًا، ذلك أنّ كتاباتها أضعفت نفوذهن، وقد أقرّت بذلك[1].

  2. بعد أن ألغى مانويل نورييغا الانتخابات لعام 1989، صرّح رئيس الولايات المتحدة جورج بوش في بيانٍ عام أنّ تصرفات نورييغا “تلاعبٌ سافر” وأنّ “الشعب البنمي كان قد قال كلمته.” فالشعب البنمي كما يخبرنا: “يطمح إلى الديمقراطية لا الاستبداد، ويريد إسقاط نورييغا.” ثمّ انتقل إلى التخطيط لغزو بنما.

  3. دُعي مُنَظّر رفيع المستوى لإلقاء محاضرة عن المشكلات السياسية لما بعد الحداثة في ندوة حديثة في جامعتي. كنا نتطلع، وفينا العديد من النساء البِيض وأناس من قوميات وأعراق مضطهدة، بحماسٍ لما سيُدلي به حول هذا النقاش المهم، لكن أملنا خاب عندما استهلّ محاضرته موضّحًا أنّه لا يستطيع تناول الموضوع المُقرَّر. فهو لا يشعر بصفته رجلًا أبيضًا أنّه مخوَّل بالتحدّث نيابةً عن التصوّرات النِّسْوية وما بعد الاستعمارية التي ابتدأت الاستنطاق النقدي لسياسات ما بعد الحداثة، وقام بدلًا من ذلك بإلقاء محاضرة عن العمارة.

    تبيّن هذه الأمثلة جانبًا من مظاهر التحدّث بالنيابة عن الآخرين والنقاش الدائر حوله في مجتمعنا حاليًا، والذي يتعرّض بصفته نوعًا من أنواع الممارسة الخطابية لانتقادٍ متزايد. ترفض بعض الجماعات هذه الممارسة، ويرى فيها تيارٌ قويٌ في الحركة النِّسْوية -وإن كان متنازعًا فيه- تكبرًا وغطرسةً وفعلًا لا أخلاقيًا وغيرَ مشروعٍ سياسيًا. كما تشيع في المجلات النِّسْوية، مثل سوجرنر Sojourner، المقالات والرسائل التي يبدي فيها المؤلّف أنّه لا يسعه التحدّث إلّا نيابةً نفسه. تُعبِّر جويس تريبلكت عن هذه النظرة في مقالتها المهمة “Dyke Methods” في صياغةٍ فلسفية، فهي تعلن نبذها للتحدّث بالنيابة عن غيرها في إطار المجتمع النِّسْوي السحاقي، وتجادل قائلةً: “لن أحاول إقناع غيري من النساء بقبول معتقداتي لتحل محل معتقداتهن” انطلاقًا من أنّ القيام بمثل هذا الأمر يعني ممارسة نوعٍ من الإكراه الخطابي بل العنف[2]. كما يدور في الأنثروبولوجيا نقاشٌ مشابه حول ما إذا كان من الممكن أن يتحدّث المرء بالنيابة عن غيره على نحوٍ ملائمٍ ومبرر. توضّح تْرن تِي مينْها أساس الارتياب الحاصل عندما تقول أنّ الأنثروبولوجيا عبارة “في الأساس عن حوارٍ بين ‘نحن’ و’نحن’ عن ‘الآخرين’، بين الرجل الأبيض والرجل الأبيض عن الإنسان البدائي… حيث يُخْرَس ‘الآخرون’. يقف ‘الآخرون’ على الجانب الآخر من التلّ عراةً صامتين… فلا يُجاز ‘الآخرون’ ضمن ‘نحن’، القائمين بالنقاش، إلّا إذا استصحبتهم ‘نحن’ أو عرّفت إليهم…” [3]وعلى ضوء هذا التحليل، فحتّى دراسات الأعراق البشرية التي يُجريها أنثروبولوجيون تقدميون ذاتُ طابعٍ تقهقري بداهةً، وذلك نظرًا للسِّمات البِنْيوية للممارسة الخطابية الأنثروبولوجية.

    لقد برز إدراك الإشكال في التحدّث نيابةً عن الآخرين عن مصدرين. فهناك، أولًا، إقرارٌ مطّرد بتأثير الموقع الذي يتحدّث منه المرء على معنى حديثه وحقيقته، وعليه لا يستطيع المرء افتراض القدرة على تجاوز موقعه. فلموقع المتحدّث -والذي أقصد به موقعه الاجتماعي أو هويته الاجتماعية-، بعبارةٍ أخرى، أثرٌ إبستمي هائل على مزاعمه، كما له إسباغ الشرعية على حديثه أو رفعها عنه. لقد استُحدثت الأقسام المتخصصة في دراسات المرأة والدراسات الأفريقية الأمريكية على هذا الأساس تحديدًا: أنّ دراسة المُضْطَهَدين والدفاع عنهم لا بدّ أن يتصدّى لهما المُضطهَدون بأنفسهم في المقام الأول، وأنّ علينا الإقرار أخيرًا بأنّ تباينات الموقع الاجتماعي الممنهجة بين المتحدّث والمَنوب تؤثّر في محتوى الحديث تأثيرًا بالغًا. وهذا الكلام يفترض –ببساطةٍ- أهميّة موقع المتحدّث الاجتماعي البالغة من الناحية الإبستمية، وسأستطرد البحث في هذه المسألة في القسم التالي.

    لا يتضمّن المصدر الثاني الاعتراف بأهمية الموقع الإبستمية فحسب، بل يرى أنّ بعض المواقع التي تتمتع بالامتياز تشكّل خطرًا خطابيًا[4]، لا سيّما أنّ تصدّي بعض ذوي الامتياز للتحدّث بالنيابة قد ضاعف -في حالاتٍ كثيرة- الاضطهاد الواقع على الفئة المَنُوبِ عنها وزاد من حدّته. لقد كان هذا جزءًا من الاحتجاج على تحدّث آن كاميرون باسم النساء الكنديات الأصليات، لم تكن نيّتها محطّ شك على الإطلاق، لكنّ كتاباتها انعكست بما لا يتناسب مع احتياجاتِ هؤلاء النسوة، وذلك لأنّه سيُلتفت إلى كاميرون لا إليهن، وكتبها هي التي سيشتريها القرّاء المهتمّون بموضوع النساء الأصليات. فالأشخاص الذين ينتمون إلى جماعات نافذة ويتحدّثون بالنيابة عن غيرهم يُضْفون الشرعية والمصداقية على مطالبِ المُتحدِّثين المغلوب على أمرهم، ومثل هذا الفعل لا يُخِلّ بالهرميّة الخطابية العاملة في الفضاء العامّ بتاتًا، وهذا السبب الذي يتزايد من أجله انتقادُ أعمال المؤلفين ذوي الامتياز ممّن يتكلمون باسم المُضطهَدين من قبل أعضاءٍ من الجماعات المُضطهَدة نفسها[5].

    تخوّلنا مناصبنا الأكاديمية في الفلسفة والتنظير الاجتماعي وضعَ نظرياتٍ تعبّر عن أفكار الآخرين واحتياجاتهم وأهدافهم وتستوعبها، إنّما علينا البدء بمساءلة أنفسنا عمّا إذا كانت هذه السلطة سلطةً مشروعة. هل يمكن أن تكون الممارسة الخطابية المتمثلة بالتحدّث نيابةً عن الآخرين ممارسةً مشروعة؟ وإن كانت الإجابة بنعم، فما هي معايير مشروعيتها؟ هل من السليم، بالتحديد، أن أتحدّث بالنيابة عن آخرين ليسوا مثلي أو دوني في الامتياز؟

    قد نحدد الإشكال في كونه ينبع إذا ما تكلّم شخصٌ ذو امتيازٍ أعلى بالنيابة عن شخصٍ دونه في الامتياز، وعليه قد نقول بوجوب اقتصار التحدّث باسم الجماعة التي أنتمي إليها فحسب. لكن هذا لا يوضّح كيف يجب تحديد هذه الجماعات، فهل يمكن لامرأةٍ بيضاء، على سبيل المثال، التحدّث بالنيابة عن جميع النساء انطلاقًا من كونها امرأة؟ إن لم يكن كذلك، فكيف يجب رسم الحدود بدقة؟ إن التعقيد في تحديد الجماعات وتعدده قد ينتهي إلى “مجتمعاتٍ” تتكون من فردٍ واحدٍ، كما أنّ مفهوم الجماعات يفترض تصورًا سطحيًا عن وجود معالِم واضحة وهويّات “صافية”، فأنا امرأة بنمية أمريكية ذاتُ إثنيّة وعروقٍ مختلطة، فنصفي أبيض إنجليزي والآخر بنمي مستيزو، إنّ اتّخاذ هوية الجماعة معيارًا يترك الكثير من الأسئلة بلا إجابةٍ لشخصٍ مثلي، إذ أنتمي إلى عدّة جماعات مختلفة، لكنّ عضويتي فيها جميعها مسألة مشكلة. على أيّة أساس نبرر القرار الذي نتخذه في تحديد الجماعات وتعريف الانتماء إليها بطريقة دون الأخرى؟ إنّ اقتصار التحدّث بالنيابة على الجماعة التي ينتمي إليها المُتحدِّث لا يقدّم حلًّا سهلًا للإشكال.

    كما يثير تبني الرأي القائل بأنّ على المرء التحدّث نيابةً عن نفسه فقط مسائل إشكالية على نحوٍ مماثل. قد نتساءل مثلًا: إذا لم أتحدّث نيابةً عمّن هم دوني امتيازًا، فهل أفرّط في مسؤوليتي السياسة التي يحمّلني إيّاها امتيازي بحدّ ذاته في إدانة الاضطهاد؟ إذا كان عليّ تجنّب التحدّث نيابةً عن الغير، فهل يتعيّن عليّ الاقتصار على إتّباعهم بشكلٍ غير ناقد؟ هل مشاركتي العظمى هي في التّنحي وإفساح الطريق؟ أن ألتزم الصمت أو أن أفكك خطابي؟

    ستختلف الإجابات على هذه الأسئلة كثيرًا باختلاف سائلها دون شك. فبين قد يودّ بعضنا، على سبيل المثال، الاستمرار في تقويض دور حكومة الولايات المتحدة في التحدّث بالنيابة عن “العالم الحر” –مفهوم إيديولوجي يحيل إلى شريحة واسعة من أمم العالم الثالث-، فقد لا نودّ  تقويض أهليّة شخصٍ مثل ريغوبيرتا مينتشو في التحدّث نيابةً عن هنود غواتيمالا[6]. وعليه يبرز السؤال عمّا إذا كان من الواجب إدانة كافة ممارسات التحدّث بالنيابة عن الآخرين، وإن لم يكن كذلك، فأين نضع الخط الفاصل؟

    لا بدّ للإجابة عن هذه الأسئلة من استبانة المسائل الإبستمية والميتافيزيقية التي يتضمنها إشكال التحدّث نيابةً عن الآخرين، وهي مسائل مستترة في العادة. سأوضّحها ثمّ أعود لمناقشة بعض الردود الواردة على الإشكال قبل تقديم ردٍ إجرائيٍ مؤقت، ولكن يجب علي توضيح تأطيري للإشكال بدءًا.

    نستشف في الأمثلة المعروضة آنفًا خلطًا بين مسألتي التحدّث بالنيابة عن الآخرين والتحدّث حولهم، وهو خلطٌ تعمّدته. يكتنف الغموض كلتا العبارتين: فعندما يتحدّث المرء نيابةً عن غيره فقد يصف وضعهم، أي أنّه يتحدّث حولهم أيضًا، بل قد يكون من المستحيل، في طبيعة الحال، أن يتحدّث المرء نيابةً عن غيره دون الإدلاء بمعلوماتٍ حولهم في وقتٍ واحد، والأمر نفسه عندما يتحدّث المرء حول الآخرين محاولًا وصف وضعهم أو جانبًا من جوانبه، فربما تحدّث عوضًا عنهم كذلك، أي بالنيابة عنهم. كما قد يتحدّث المرء حول الآخرين بصفته محاميًا أو رسولًا إن لم يكن في استطاعتهم التحدّث باسمهم. فإن كانت مسألة التحدّث بالنيابة عن الآخرين إشكالية، فإني أرى مسألة التحدّث حولهم إشكالية أيضًا، وذلك لصعوبة التفريق بينهما في جميع الأحوال[7]. كما أنّنا إذا سلّمنا بالفرضية المذكورة سابقًا والتي تنص على تأثير موقع المتحدّث الإبستمي الكبير على حديثه، نجد أنّ كلا التحدّث بالنيابة عن الآخرين والتحدّث حولهم يثيران إشكالاتٍ مماثلة. سأحاول تركيز ملاحظاتي في هذه المقالة على التحدّث بالنيابة عن الآخرين، وإن كان من المستحيل فصل هذه الممارسة عن التحدّث حولهم فصلًا تامًا.

    بما أنّ “التحدّث حول” مشمولٌ هنا، فلا بدّ أنّ مفهوم “أزمة التمثيل” ذو علاقة أيضًا. أباشر في كلتا الممارستين، في الحديث بالنيابة عن الغير والحديث حولهم، تمثيلَ احتياجات الغير وأهدافهم وأوضاعهم، ومن هم في حقيقة الأمر. فأنا أمثلهم بصفتهم كذا وكذا، أو بمصطلحٍ ما بعد بنيوي: أشارك في بناء مواقع ذواتهم، بدلًا من اكتشاف حقيقتها. سأسلّم بأنّ جميع هذه التمثيلات ليست مباشرة، وأنها ناتجة عن التأويل -والذي يرتبط بالزعم القائل بأهمية موقع المتحدّث الإبستمية-. ونظرًا للطابع غير المباشر للتمثيل بأنواعه على وجه التحديد يرفض البعض شرعية التحدّث نيابةً عن الآخرين من منطلقٍ سياسي وإبستمي.

    وبمجرد طرح المسألة على أنّها مشكلة في التمثيل، فإننا لا نلاحظ التقارب التحليلي بين التحدّث نيابةً عن الغير والتحدّث حولهم فحسب، بل بين التحدّث بالنيابة عن الآخرين والتحدّث بالنيابة عن نفسي أيضًا. فحينما أتكلم نيابةً عن نفسي أمثّلها بطريقةٍ معينة، وعلى أنّها تحتل موقعًا ذاتيًا محددًا، وتتصف بسماتٍ دون أخرى وهلمّ جرًا. إذ أعمل على اختلاق ذاتي -بشكلٍ مؤقتٍ- عندما أتحدّث باسمي، أي أنني أختلق ذاتًا علنيةً خطابية، والتي يترتب عليها في معظم الأحوال تأثيرٌ على ذاتي الداخلية. وحتّى في حال لم يطّلع الآخرون على الذات التي أقدمها عنهم، فإنّهم قد يتأثرون بالقرارات التي يتّخذها غيرهم بناءً عليها. والمراد هنا هو أنّ جميع حالات التحدّث بالنيابة تنطوي على وجهٍ من التمثيل، سواء أكنت أتحدّث بالنيابة عن نفسي أم غيري، وأنّ هذا التمثيل ليس مجرد عملية اكتشافٍ بسيطة على الإطلاق، بل سيؤثّر في الشخص المُمَثَّل غالبًا.

    على الرغم من وضوح اتّصال مسألة التحدّث بالنيابة عن الآخرين بمسألة التمثيل عمومًا، فإنّي أرى الأولى فرعًا خاصًا عن الثانية. وأشكّ أنّ التفسيرات الدارجة حول التمثيل تناسب تعقيد وخصوصية الإشكال في التحدّث بالنيابة عن الآخرين.

    يتضمن التمثيل دلالةً أخرى ذات صلةٍ حيويةٍ أيضًا: التمثيل السياسي، كما في السياسة الانتخابية مثلًا. يحظى الممثِّلون المنتخَبون بشرعيةٍ خاصةٍ تخوّلهم الحديث بالنيابة عن ناخبيهم، وقد يتساءل المرء ما إذا كان لهذه الشرعية تبديد الإشكالات المصاحبة للتحدّث بالنيابة عن الآخرين لتكون حلًا نموذجيًا، سأجيب بنعم ولا معًا. يتميّز الممثِّلون المنتخَبون بشرعيةٍ تسمح لهم بالتحدّث باسم غيرهم، كما للمَنوب تخويل شخصٍ ليتحدّث نيابةً عنه في مواقف أقل رسمية، وهو تخويلٌ تتعدد تطبيقاته، والتي منها مثلًا توكيلي شريكي التحدّث باسمي عندما كنت في غرفة الولادة في المستشفى، وطلب إحدى طالباتي إليّ التحدّث من أجلها في اجتماعٍ مع مدير الجامعة. لكن الحصول على التخويل لا يلغي جميع إشكالات التحدّث بالنيابة عن الآخرين، إذ ما يزال المتحدّث يفسّر وضع الآخر واحتياجاته -إلّا إذا كان يقرأ من ورقةٍ زوّده الأخير بها-، أي أنّه ما يزال يختلق لهم ذاتًا في حضرة الغير، كما يندر أن يمتلك المَنوب المقدرة على التخويل والتحكّم بالمُمثِّل المُعيّن. فالأعمال الفكرية لا تقيّد نفسها –قطعًا- بضرورة الحصول على إذنٍ ممّن تتحدّث باسمهم أو حولهم، ويصح ذلك على معظم الممثلين السياسيين الذين لا يتقيّدون فعلًا بأهمية الحصول على مثل هذا التصريح. والمراد هنا عدم إمكانية توظيف نموذج التمثيل السياسي في كافّة ممارسات الحديث بالنيابة عن الآخرين، رغم أنّه قد يفيدنا في محاولاتنا لوضع ردودٍ على الإشكال.

    أخيرًا، قد يُلمّح عرضي للإشكال إلى قدرة الأفراد على اتّخاذ قراراتٍ فرديةٍ واعيةٍ متحررةٍ من الإيديولوجيا وقيود الواقع المادي حيال ممارساتهم الخطابية، لكن ليس هذا ما أرجو إفادته. فالإشكال اجتماعي الطابع، والخيارات المتاحة أمامنا اجتماعية التركيب، لذا لا يجوز اعتبار الممارسات التي نزاولها ناتجةً عن خيارٍ فرديٍ مستقل. لكنّ إبدال “نحن” بـ”أنا” -ببساطة- لا يحل هذا الإشكال، لأنّ “نحن” وليدة عوامل وسيطة أيضًا، كما أنّها -في إحدى دلالاتها- مفهومٌ مُتخيّل، والاستعاضة عن “أنا” و”نحن” بصيغة المجهول التي تطمس الفاعليّة تؤدّي إلى محو مسؤولية المرء عن حديثه، وهذا ما أعارضه بشدّة -فهناك ما يكفي من الضعف في حسّ المسؤولية في الخطاب الغربي!-. أزعم أيضًا أنّنا حينما نجلس لنكتب أو ننهض لنتحدّث نخوض تجربة الاختيار، وقد نشعر بالتردد لأننا نخاف النقد، أو لأننا نخشى أن نزيد الطين بلّة من حيث أردنا الإصلاح، كما قد نجد من أنفسنا تصميمًا على التحدّث برغم العقبات أمامنا، لكننا في معظم الأحوال بالخيار بين التصدّي للحديث من عدمه. إنّ أيّ نظريةٍ تفسّر هذه التجربة بأنّها عملية اختيارٍ مستقلة نظريةٌ تجانب الصواب وتتصف ببعدٍ إيديولوجي، لكنّنا إذا لم نقر بعملية الاختيار، من جانبٍ آخر، وما يُصيب المرء من حيرة، فإنّما ننكر واقع تجربةٍ نخوضها[8]. لذا أتناول في هذه المقالة المساحة الضيّقة التي نختبر فيها جميعنا الفاعليّة الخطابية، وذلك مهما كانت في واقعها متعددة المستويات وخياليةً ومحدودة.

    تنعكس إمكانية التحدّث بالنيابة عن الآخرين على مدى الفاعليّة السياسية انعكاسًا كبيرًا، فكلا العمل الجماعي والتحالف يتطلبان إمكان التحدّث بالنيابة. لكن جيل دولوز يرى: “أمرًا أساسيًا: دناءة التحدّث بالنيابة عن الغير”[9]، وتنبذ تريبلكت التحدّث باسم غيرها، كما قادت مخاطر التحدّث بالنيابة عن الآخرين الكثيرَ إلى الشك في شرعيته. أودّ استكشاف جوانب الخطر في رفض هذه الممارسة الخطابية وفي قبولها، ولكن لا بدّ في البداية من استيضاح الادعاءات المعرفية والميتافيزيقية التي يتضمنها الإشكال.

I

    تجادل مصادرٌ غزيرةٌ في هذا القرن بعدم إمكانية إثبات حيادِ المُنَظِّر أبدًا، وهذا ما تجمع عليه النظرية النقديّة وخطابات التمكين ونظرية التحليل النفسي وما بعد البِنْيَويّة والنِّسْوية والنظريات المناهضة للاستعمار. فقد تبيّن أنّ المتحدّث وجمهوره مهمّان في نهوض المعنى والحقيقة بقدر أهمية الحديث، بل يتغيّر الحديث بتغيّر قائله وسامعه، وذلك ما سأطلق عليه “طقوس الحديث” اقتداءً بفوكو. تعيّن هذه الطقوسُ الممارسات الخطابية المتمثلة في التحدّث أو الكتابة والتي لا تقتصر على محتواها بل تشمل موقعها ضمن الحيّز الاجتماعي، بما في ذلك الأشخاص الذين يشملهم الكلام أو يتصرفون وفقه أو يتأثرون فيه. وتتضمن عنصرين جديرين بالإشارة: موقع المُتحدِّث والسياق الخطابي، بحيث يشير العنصر الأخير إلى روابط وعلاقات التدخّل بين نصِّ الحديث –كتابيًا كان أو شفهيًا- وغيره من النصوص، إلى جانب الممارسات الماديّة في البيئة المتّصلة، والتي يجب عدم خلطها مع البيئة المجاورة مكانيًا للحدث الخطابي.

    تؤسّس طقوس الحديث المعنى، معنى الكلام المُلقى ومعنى الحَدَث، ممّا يستدعي تحويلَ أنطولوجيا المعنى من موقعها في النص إلى حيّزٍ أوسعٍ يستوعب النص وسياقه الخطابي معًا. ومن أهمّ ما يقتضيه هذا الادّعاء هو وجوب النظر إلى المعنى بوصفه متعددًا ومتغيّرًا ذلك أنّ النصَّ الواحد يولّد معانٍ شتّى حسب تنوّع سياقاته. ولا يقتصر تأثير موقع المتحدّث والمتلقّي على الأمور التي يجري التأكيد عليها وملاحظتها واستقبالها فحسب، بل إنّ قيمة الحقيقة أو الحالة الإبستمية تتأثران أيضًا.

    نلمس في الكثير من الأحيان تحيّزًا ضدّ المرأة عندما تتحدّث، على سبيل المثال، بينما يُحمل حديث الرجل عادةً محمل الجِدّ –إلّا إن كانت طريقة حديثه تدل على انتماءه إلى جماعةٍ تابعة-. عندما أصرّ الكُتَّاب المنتمون إلى أعراقٍ وأممٍ مضطهدةٍ على الطابع السياسي لكافة أشكال الكتابة، إمّا رُميت دعواهم بالسفاهة المدفوعة بالسخط، أو ضُرب الصفح عنها بكل بساطة. ولكن عندما طرح فلاسفةٌ أوروبيون محترمون ذات الادّعاء، جرى استقباله “كحقيقةٍ” جديدة وأصيلة -وهذا ما تطلق عليه جوديث ويلسون “المقابل الفكري للنسخة المؤدّاة عن الأغنية الأصلية[10]”-.

    إنّ طقوس الحديث المشتملة على موقع المتحدّث وسامعيه تؤثر على ما إذا كان الادّعاء سيؤخذ على أنّه حجةٌ صائبة ذات تفسيرٍ متينٍ مقنعٍ أو ما إذا كان فكرةً معتبرة. يعتمد تلقّي الحديث، إذن، على قائله الذي يؤثر بدوره على أسلوب الحديث ولغته مما ينعكس على تقدير أهميته -عند شريحةٍ من المتلقّين-. فالأسلوب الخطابي الذي عبّر من خلاله بعضُ أتباع ما بعد البنيوية الأوروبيين عن بعد الكتابة السياسي أضفى الأهمية على ادّعائهم ورجّح صوابه عند بعض الأوساط –النافذة-، بينما الأسلوب الذي أعرب الكتّاب الأفريقيون الأمريكيون من خلاله عن ذات الادّعاء أقصاه في نظر الأوساط عينها.

    يتفق على هذا الأمر أولئك الذين يقرّون بتبدّل التفسير سياسيًا، لكنهم قد يصرّون على أنّ الحقيقة مسألة مختلفة تمامًا. وهم محقّون في أنّ تأثير الموقع على المعنى وحُسْنِ تلقيه ضمن سياقٍ خطابي معيّن لا يستلزم أنّ الحقيقة “الفعليّة” لادعاءٍ ما رهينة سياقها، ولكن اعتراضهم يفترض تصورًا معينًا للحقيقة يُجيز التفريق بين حقيقة الحديث وبين تأويله وتقبُّله، والحقيقة وفقًا لهذا التصوّر مستقلة بحدّ تعريفها عن موقع المتحدِّث أو المتلقي المُتجسّد والتّصوري -باستثناء الحالة البديهية عندما يتلفّظ المتحدِّث بعبارةٍ مقترنةٍ بمعطياتها الإشارية في مثل: “أنا الآن أجلس.”-.

    لذا مسألة ما إذا كان الموقع يؤثّر على ما يؤخذ على أنّه صواب، أو ما هو صواب فعلًا، وما إذا كان في الإمكان إقامة مثل هذا التمييز، تتضمن إشكال معنى الحقيقة العويص. يزخر تاريخ الفلسفة الغربية بالعديد من التعريفات والرؤى الأنطولوجية المتنافسة حول معنى الحقيقة، مثل نظريات التطابق والمثالية والبراغماتية والاتّساقية والإجماعية. ويرى الرأي السائد أنّ الحقيقة تمثّل علاقة تطابق بين قضيةٍ مجردة وواقعٍ يقع خارج حدود الخطاب، فهي إذن مستقلة تمامًا عن سلوك الإنسان، وتعبّر عن الأشياء “كما هي في ذاتها”، أي أنّها منفصلة عن التأويلات البشرية.

    لقد أصبح من المقبول على نطاقٍ واسعٍ منذ كانط، كما يُجادل البعض والأمرُ أوضح منذ هيغل، أنّ الحقيقة باعتبارها مستقلة عن تأويلات البشر تصورٌ يفضي لا محالة إلى الشك بما أنّه يجعل من الوصول إلى الحقيقة أمرًا متعذرًا بحكم طبيعتها. وقد دفع ذلك إلى إعادة مَوْضَعة أنطولوجيا الحقيقة، وإدخالها ضمن إطار التأويلات البشرية بعد أن كانت خارجه. لقد رأى هيغل، على سبيل المثال، أنّ الحقيقة “هويةٌ في الاختلاف” بين عناصر ذاتية وأخرى موضوعية، كما لم تعد التصوّرات المتنوعة التي أعقبت الهيغيلية تعتبر العوامل الذاتية أو الظروف التاريخية الخاصة، والتي تحصل فيها المعرفة الإنسانية، منقطعة الصلة بالحقيقة أو عقباتٍ  تحول دون الوصول إليها.

    ففي الرؤية الاتّساقية للحقيقة مثلًا، والتي يؤمن بها فلاسفة مثل رورتي ودونالد ديفيدسون وكواين وغادامير وفوكو، تُعرَّف الحقيقة بأنّها خاصية تطرأ عن موقفٍ خطابيٍ أساسًا، وذلك عند حدوث شكلٍ معيّنٍ من الانسجام بين عدة عناصر، ولا تقتضي هذه الرؤية علاقةً قائمةً بينها وبين المثالية. أمّا فيما يتعلّق بموضوع هذه المقالة، فيمكن القول بأنّ موقع المتحدّث يؤثر على الحقيقة إلى درجة التأثير على المعنى الكامل لأيّ فعلٍ كلاميSpeech Act، وذلك ما سأقوم بتفصيله في غضون ما يلي.

    سأتناول الآن صياغة الإشكال في التحدّث بالنيابة عن الآخرين، والتي تضمر فرضيتين لا بدّ من التطرق إليهما حتّى نوسّع فهمنا للمسائل التي ينطوي عليها الإشكال:

الفرضية الأولى: تؤثّر “طقوس الحديث”، والتي يتموضع فيها النصّ كما عرّفناها سابقًا، دائمًا على المعنى والحقيقة تأثيرًا لا يجوز الغضّ معه عن علاقة المَوْضَعة أو الموقع أو السياق بالمحتوى، ويحدث هذا التأثير بحجمٍ متغيّرٍ، ولا يتّسم بالحتميّة ولا الثبات.

أبرز ما تقتضيه الفرضية الأولى أنّنا لا نستطيع تحديد شرعية التصدّي للتحدّث بالنيابة عن الآخرين مكتفين بالسؤال –ببساطةٍ- عن الجهود البحثية التي بذلها المتحدّث لإقامة ادّعاءاته، فبرغم أهميّة استيفاء البحث، إلّا أنّه ليس معيارًا كافيًا للتقييم.  لننظر في الفرضية الثانية:

الفرضية الثانية: تتّصل بعض السياقات والمواقع ببِنى الاضطهاد، فيما يتّصل غيرها بالجانب المقاوم لهذه البِنى، وعليه ليست جميعها على حدٍّ سواء من الناحية السياسية، كما أنّها تتفاوت من الناحية الإبستمولوجية إذا ما سلّمنا بارتباط السياسة بالحقيقة.

إنّ دعوى “ارتباط السياسة بالحقيقة” مترتبةٌ عن الفرضية الأولى بالضرورة. فطقوس الحديث تنشأ نشأةً سياسيةً من خلال علاقات القوة الناجمة عن الهيمنة والاستغلال والإخضاع، فما المتحدّث والمَنوب والمتلقّي إلّا نتائجٌ للصراع السياسي وأفعاله. بشكلٍ مباشرٍ: السياق الخطابي عبارة عن حلبة سياسية، وبما أنّ هذا السياق يؤثّر على المعنى، وبما أنّ المعنى موضوعُ الحقيقة إلى حدٍ ما، فإنّه لا يمكننا تقييم الادّعاء من الجانب الإبستمولوجي دون تقدير سياسات الوضع في الوقت ذاته.

     وبالرغم من عدم قدرتنا على تحقيق الحياد وفقًا للفرضية الأولى، فإنّ لنا جميعًا حقًا وصلاحيةً يخوّلاننا التحدّث على الأقل، لكن الفرضية الثانية تستثني البعض من منطلقاتٍ سياسية وإبستمية معًا.

    تُفيد خلاصة الفرضيتين الأولى والثانية أنّ المتحدّث يفقد جانبًا من سيطرته على معنى حديثه وحقيقته، فالمتحدّث ليس سيّد كلامه بما أنّ سياق المتلقّي عاملٌ محددٌ جزئيًا. قد يسعى المتحدِّثون لاستعادة سيطرتهم بالنظر في السياق الذي يكتنف حديثهم، لكن من المستحيل أن يتمكنوا من الإحاطة بجميع أبعاده، بالأخص مع ظهور وسائل التواصل الورقية والإلكترونية التي زادت من صعوبة معرفة أيّ شيء عن سياقِ المتلقي.

    قد يظن بعض المتحدّثين أنّ فقدانهم للسيطرة لا يُجيز محاسبتهم على أفعالهم الخطابية، لكنّه فَقْدٌ جزئيٌ لا يستوجب إسقاط مسؤوليتهم. من الواضح أنّ الإشكال في التحدّث بالنيابة عن الآخرين يتمركز في موضوع المسؤولية، ويجب ألّا يستتبع الإقرارُ بهذا الإشكال إعفاء المتحدّث منها. سأنظر في القسم التالي في بعض الردود الممكِنة على الإشكال.

II

    يرى أوّل ردٍ أتطرق إليه في صياغةِ إشكال التحدّث بالنيابة عن الآخرين جوهرانيةً رجعية لا تستند على أساسٍ ميتافيزيقي، وتفترض قدرة المرء على قراءة حقيقة الحديث ومعناه من السياق الخطابي مباشرة. سأطلق على هذا الرد “تهمة الاختزال”، بما أنّه يدّعي أنّ الفرضيتين الأولى والثانية تستتبعان نظريةَ تبريرٍ -أو تقييم- اختزالية، والتي قد تختزل، على سبيل المثال، عملية التقييم في التقييم السياسي لموقع المتحدّث، بحيث يُعتبر الموقع جوهرًا يقيّد المرء ومن العصيّ تخطيه، فيصبح الأخير وكأنّما ثُبّتت قدماه بالغراء على بقعةٍ من الرصيف.

    بعد أن دافعت بشدةٍ عن مقالة باربرا كريستيان “The Race For Theory”، تساءل أحد زملائي البِيض، والذي كان تقييمه للمقال مختلفًا، عمّا إذا كان دفاعي منبعثًا عن رغبةٍ منّي في تبرير الطرح الأفريقي الأمريكي ومساندته أمام كلّ الصعاب، وقد أثار تساؤله هذا مسألة نظرية التبرير الاختزالية/الجوهرانيّة التي وصفتها للتوّ.

    إنّني أرفض أيضًا نظريات التبرير الاختزالية والتفسير الجوهراني لمعنى امتلاك المرء موقعًا. فتأثير الموقع على المعنى والحقيقة لا يعني أنّه يُحتّمهما، إذ ليس جوهرًا ثابتًا يُجيز حديثَ المرءِ إجازةً مطلقةً مثلما كان حديث موسى حقًا مطلقًا بفضل الربّ. لا بدّ من تجنّب تصوير الموقع على أنّه ذو بعدٍ واحدٍ ثابت، بل على أنّه متعددٌ وذو درجاتٍ متفاوتةٍ من المرونة[11]، لذا فمعنى التحدّث انطلاقًا من جماعةٍ ما أو موقعٍ معين أمرٌ بالغ التعقيد، وعليه ليس في الإمكان اختزالُ تقييمِ المعنى والحقيقةِ في تحديدِ موقع المتحدّث تحديدًا سطحيًا، بما أنّ موقعه ليس جوهرًا ثابتًا، ونظرًا لاضطراب العلاقة بين الموقع من جهة والمعنى والحقيقة من جهةٍ أخرى وعدم ثبوتها وجدليّتها.

    لا تقتضي أيٌّ من الفرضيتين الأولى ولا الثانية اختزالًا أو جوهرانيّة، فهما تدافعان عن ارتباط الموقع فحسب، ولا تزعمان تحلّيه بقوةٍ أحاديّةٍ مُحَتِّمَة. وبما أنّهما لا تحددان الطريقة التي نحمل عليها مفهوم الموقع، فإنّه من الممكن بلا شك إسباغ معنى بعيدٍ عن الجوهرانيّة عليه.

    فيما تشيع تهمة الاختزال بين المُنَظِّرين الأكاديميين، يسود الردّ الثاني الذي سأسميه الردّ “الانسحابي” بين بعض أقسام الحركة النِّسْوية الأمريكية. يتمثّل هذا الردّ -ببساطةٍ- في الانسحاب من جميع ممارسات التحدّث بالنيابة، والتأكيد على أنّ المرء لا تمكنه معرفة سوى تجربته الشخصية الضيقة و”حقيقته الخاصة”، ولا يمكنه الإتيان بزعمٍ خارج هذا النطاق. ينبعث هذا الردّ جزئيًا من الرغبة في الاعتراف بالاختلاف، كالاختلاف في الأولويّات مثلًا، دون توزيعه في هياكل هرميّة.

    أرى أحيانًا أنّ هذا هو الردّ المناسب على الإشكال في التحدّث بالنيابة عن الآخرين، وذلك بحسب من يقول به. فنحن نرغب بلا شك في إصغاءٍ متفتّحٍ من قبل أصحاب الامتيازات الخطابية، وصدّ أمثلة التحدّث بالنيابة عن الآخرين المتّسِمة بالعجرفة والتعسف. لكن الانسحاب من عملية التحدّث بالنيابة لا يرفع من درجة التقبّل في كل حال، إذ قد يسفر عن انسحابٍ إلى أسلوبِ حياةٍ نرجسيٍ مترفٍ لا يتحمّل فيه الشخص المتمتع بالامتياز أدنى مسؤولية تجاه مجتمعه، وربما شعر بأنه يسوغ له استغلال امتيازه لتحقيق سعادته الخاصة على حساب غيره من باب أنه ما من خيار آخر في يده.

    لكن تفضيل الردّ الانسحابي ليس دائمًا عذرًا مقنّعًا بقناعٍ رقيقٍ لتجنّب العمل السياسي والانغماس في الرغبات الشخصية، إذ ينتج أحيانًا عن رغبةٍ في الانخراط في العمل السياسي دون التورّط فيما تجوز تسميته الإمبريالية الخطابية.

    تكمن المشكلة الكبرى في مثل هذا الانسحاب في إضعافه الفاعليّة السياسية بشكلٍ هائل، في حين تشهد أمثلة عديدة على أنّ التحدّث بالنيابة مثمرٌ سياسيًا في الدفع قُدُمًا بمطالب المَنُوب عنهم، وأحسب أنّ مينتشو مثالٌ بارزٌ وبليغ. تنحدر مينتشو من هنود الكيتشي، وقد وُلِدت وتربّت في غواتيمالا، عانت عائلتها تحت وطأة استغلال ملّاك الأراضي والحكومة الحاد، وهو ذات المصير الذي قاساه جميع الهنود الغواتيماليون تقريبًا، فقد عاشوا حياةً تفشّت فيها حالات سوء التغذية وضحايا التسمم بالمبيدات الحشرية -وهو ما كان نتيجةً مباشرةً للعمل الإجباري في المزارع الشاسعة، لا جرّاء أسلوب حياتهم التقليدي الزراعي-. كان والداها ناشطين في حركة المقاومة ضدّ ملّاك الأراضي، وقد تعرّضوا لتعذيبٍ وحشيٍ من قبل الجيش وقتلوا على يدهم مثل الآلاف من غيرهم الذين كان أخوها أيضًا واحدًا منهم. قرّرت مينتشو تعلّم الإسبانية، والسفر إلى البلدان الأخرى لإذاعة أمر المذبحة بين الناس على أمل وضع حدٍ للإبادة الجماعية.

    تفتتح مينتشو سيرتها الذاتية قائلةً أنّ قصتها “ليست حياتي فحسب، بل شهادةٌ من جميع الغواتيماليين المساكين أيضًا، فتجربتي الشخصية تعكس واقعَ شعبٍ بأكمله.” وهي تؤكد خلال كتابها أنّها لا تتحدّث من أجل عائلتها ومجتمع هنود الكيتشي فحسب، إنّما نيابةً عن جميع الجماعات الهندية الثلاثة والثلاثين في غواتيمالا، والتي تختلف لغاتها وعاداتها ومعتقداتها عن الكيتشي. تشرح مينتشو وضعهم بعنفوانٍ وفصاحة، وتفنّد أي رأيٍ يقول “بهرميّة الحضارات” تفنيدًا قاطعًا، لأنّه يجعل من ثقافتها الزراعية ثقافةً حقيرةً مسؤولةً عن هلاكها، كما تقدّم بصفتها ممثلةً للعالم الرابع نقدًا لاذعًا لأعمال الإبادة التي ما زالت هذه الجماعات تتجرع ويلاتها.

    لقد أسهمت كلمات مينتشو في التعريف بالوضع في غواتيمالا، وجمع المال من أجل الثورة، والضغط على الحكومتين الغواتيمالية والأمريكية المتواطئتين في المذابح. ليس المراد من هذا المثال أنّ مينتشو لا تجد مشكلةً في التحدّث نيابةً عن غيرها، فهي تعي مخاطره جيدًا، وتروي من باب التثقيف كيف تعاملت حركة الهنود الثورية مع هذه المشكلة، والتي حاولت تدريب كل ناشطٍ مقاومٍ على أداء جميع المهامّ الضرورية، من نصب الكمائن للعسكر واستخدام البنادق والتوجه إلى المدينة لطلب النجدة، لقد شدّدت على هياكل تدريبية عامّة بدلًا من الاعتماد على أفرادٍ مخصصين وذلك لإضعاف انعكاس مقتل أحدهم أو خيانته على قوة الحركة، وهذا السبب عينه الذي ذهبت من أجله مينتشو إلى المدينة حيث أصبحت عاملة منزلية وتعلمت الإسبانية، وذلك كي لا يظل الكيتشي متّكلين على غيرهم لمعالجة وضعهم -كانت الحكومة وملّاك الأراضي يرشون المترجمين ليتعمّدوا تحريف ما يقوله أفراد الكيتشي في حالاتٍ كثيرة-. كما تتحدّث مينتشو بحسٍ فكاهيٍ لاذعٍ عن مجموعةٍ من التقدميين الأوروبيين الذين أتوا إلى غواتيمالا وحاولوا مساعدة قريتها بإمدادها بمنتجاتٍ زراعية جديدة والتي لم يكترث لها أهل القرية إذ لم يكن تقدير الأوروبيين لاحتياجاتهم في محله. لقد ظلّت مينتشو وعائلتها على علاقةٍ وديةٍ مع الأوروبيين، لكنّهم قاوموا تصوّراتهم عن احتياجات قريتهم بصبر.

    وعليه لا يصح الظنّ بأنّ مينتشو متحدّثةٌ “ساذجة” لا تعي مخاطر التحدّث بالنيابة عن الآخرين ومصاعبه، فهي ورفاقها يدركونها جيدًا إذ لطالما ساءهم تصدّي غيرهم للتحدّث باسمهم بغضّ النظر عن طيب نياتهم التي لم يحالفها التوفيق من خبثها، لكن بدلًا من الانسحاب بعيدًا عن هذه الممارسة، قامت مينتشو ورفاقها بابتكار سبلٍ لتقليص مخاطرها، فهي لم تخشَ انتهاز الفرصة لتتحدّث من أجل جميع المجتمعات الهندية في غواتيمالا برغم ما بينها من اختلافاتٍ كبيرةٍ ومعقدة.

    يجب النظر في نسخة تريبلكت من الردّ الانسحابي على حِدَةٍ، فهي تتفق على أنّ منع التحدّث بالنيابة منعًا مطلقًا يُضعف الفاعليّة السياسية، وتُجري المنع ضده في إطار المجتمع النِّسْوي السحاقي فقط، وعليه يجوز القول بإمكانية الانسحاب من الحديث بالنيابة دون التضحية بالفاعليّة السياسية إذا ما حُصر في حيّزاتٍ خطابيةٍ معينة. لِمَ قد ينادِ المرء بمثل هذا الانسحاب الجزئي؟ تؤمن تريبلكت أنّ التحدّث بالنيابة عن الآخرين ومحاولة إقناعهم وجهٌ من وجوه ممارسة العنف الخطابي ضدّ الآخر ومعتقداته، وبما أنّ التأويلات والمعاني عبارة عن مفاهيم خطابية يختلقها المتحدّثون المتجسدون، فإنّ تريبلكت تخشى أن يؤدي التصدّي لإقناعِ الآخر والتحدّث باسمه إلى بتل قدرته أو رغبته في الانخراط في عملية صناعة المعنى البنائية، وبما أنّه لا يمكن للمتحدّث المتجسد أن يقدّم إلّا رأيًا جزئيًا، وبما أنّ عملية إنتاج المعنى عمليةٌ جَمْعيّةٌ بالضرورة، فإنّه لا بدّ من تشجيع كل شخصٍ على مشاركة رأيه ضمن جماعته المحدّدة -أي المجتمع السحاقي بالنسبة إلى تريبلكت-.

    أتفق مع تريبلكت في كثيرٍ مما تقوله. فأنا أوافق تمامًا على أنّ بعض تطبيقات التحدّث بالنيابة عن الآخرين تمثّل عنفًا ولا بدّ من إيقافها، إلّا أنّ رأيها الذي يقول بإمكانية التخلّي عن التحدّث بالنيابة عن الآخرين، وإن كان في حدودِ مجتمعٍ مؤيدٍ، يتضمّن إشكالًا.

    يكمن الإشكال في أنّ موقف تريبلكت، والموقف الانسحابي العام، يفترض صورةً أنطولوجية لا تستقيم عن السياق الخطابي. فهو يفترض -تحديدًا- أنّ المرء يستطيع الانسحاب إلى موقعه المنفصل ليقدّم دعاوى تنطلق برُمَّتِها من هذا الموقع وحده دون أن تكون متّصلةً بغيره، أي أنّ في إمكانه الانعتاق من الشبكات التي تستبطن أفعاله الخطابية ومواقع الآخرين وأوضاعهم وأفعالهم -بعبارةٍ أخرى: يستند الزعم بأنني لا أستطيع التحدّث إلّا بالنيابة عن نفسي فقط على مفهوم استقلال الذات في النظرية الليبرالية الكلاسيكية، وذلك أنّه لا علاقة لي بالآخرين فيما يخص ذاتي الأصيلة، أو أنّه في يدي الاستقلال عن الآخرين عند تحقيق شروطٍ معينة-. ولكن ما من موقعٍ محايدٍ يمتلكه المرء امتلاكًا خالصًا مطلقًا بحيث لا تؤثر كلماته تأثيرًا توجيهيًا في تجارب غيره أو تتوسّطها، كما لا توجد طريقةٌ يرسم بها المرء حدًّا قاطعًا بين موقعه ومواقع غيره، وحتّى بالنسبة للانسحاب الكامل من التحدّث بالنيابة، فهو ليس عملًا محايدًا بالطبع بما أنّه يسمح باستمرار هيمنة الخطابات الحالية ويقوم عدمُه بتقويتها.

    مثلما تهيَّأت لي أفعالي بفضل أحداثٍ منفصلةٍ عن جسدي مكانيًا، فإنّها كذلك إمّا تتيح للآخرين أفعالهم أو تمنعها، لذا لا يترتب على التصريح بأنني “أتحدث نيابةً عن نفسي فقط” أمرٌ سوى السماح لي بتجنّب مسؤوليتي عن الآثار التي ألحقها في الآخرين إذ لا يمكنه إزالتها تمامًا.

    لتتضح المسألة: لقد خلقت الحركة النِّسْوية في الولايات المتحدة العديد من مجموعات الدعم التي تنوّعت بتنوّع احتياجات النساء، من ضحايا الاغتصاب وزنا المحارم والزوجات المُعَنَّفات وغيرهن، وقد كانت بعض هذه المجموعات ترتكز على النظرة التي تجد أنّ على كل ناجيةٍ التوصّل إلى “حقيقتها” التي تخصها، والتي لا تتخطّاها ولا تؤثر في غيرها، وعليه فإنَّ معاناة امرأةٍ واحدةٍ مع الاعتداء الجنسي وما ألحقه بها وتأويلها له، يجب ألّا يُعمّم تعميمًا كونيًا بحيث يتعيّن على الأخريات إدراج تجاربهن ضمن هذا التعميم ومواءمتها فيه.

    إنّ هذه النظرة صالحةٌ إلى حدٍ معيّن فحسب، فهي إذا ما استشفَّت الاختلافات التي لا يمكن إسقاطها في طريقة استجابة الناس للصدمات بأنواعها، وراعت التفاوت الفعلي في الكيفية التي تستطيع النساء معالجة أنفسهن من خلالها، كانت تجاوزًا حقيقيًا لمنهج التجانس الكونيّ الذي يختط سبيلًا واحدًا ليمشي عليه الكل. إنّما من الوهم الظنّ بأنّ عضوًا من المجموعة، حتّى وإن كان ضمن حيّزها الداعم الآمن، لها استصغار الزنا بين الأخ وأخته بوصفه “عبثًا جنسيًا” دونما أن تجرح امرأةً غيرها في المجموعة كانت تحرشات أخيها الجنسية اعتداءً مؤذيًا عليها، وهي الآن تحاول التشبّث بتقديرها الواقعي أمام تفسير أخيها الذي لا يجد الأمر يخرج عن كونه “مجرد لعبٍ بريء”. ولا يهم ما إذا قامت المتحدّثة بالتنبيه مرارًا إلى اقتصار آرائها على موقعها، فهي ستؤثّر في قدرة غيرها على تصوّر تجاربهم وتفسيرها وردّة فعلهم تجاهها، وذلك لأننا لا نستطيع فصل أفعالنا الوسيطة التي تفسّر تجاربنا وتبنيها عن أفعال الآخرين فصلًا واضحًا، فجميعنا عالقون في شبكةٍ معقّدةٍ دقيقةٍ، بحيث كل فعلٍ أقوم به فيها، خطابيًا كان أو غيره، إمّا يشدّ خيوطها الكثيرة إلى بعضها أو يرخيها أو يبقيها على حالها، فعندما أتحدّث باسمي أعمل على صنع ذاتٍ مُمْكِنة، طريقةٍ أتمثّلها في العالم، وأقدمّها إلى غيري كإحدى طرق الوجود الممكِنة سواء أقصدت ذلك أم لم أقصد.

    لذا فمحاولة تجنّب الإشكال في التحدّث بالنيابة عن الآخرين بالانسحاب إلى حيّزٍ فردي وهمٌ يزعم بأنّ الذات ليست مكونة من خطابات متعددة متقاطعة بل كيان واحد قادر على الاستقلال عن الآخرين، وهذا ما تدعمه الإيديولوجيا الفردانيّة الغربية. إنّه لانخداعٌ الظنُّ بأنني أستطيع الانفصال عن الآخرين إلى درجة تمكنني من تجنّب التأثير فيهم، قد تكون هذه نيّةُ حديثي، بل معناه باعتبار ما تقتضيه أشكال الجمل، ولكنّه ليس انعكاسه، ولذا فإنّه يعجز عن استيعاب حقيقة الحديث بوصفه ممارسةً خطابية، فعندما “أتحدّث بالنيابة عن نفسي” أشارك في خلق الخطابات التي تتشكّل فيها ذاتي وذوات غيري، وأسهم في إعادة إنتاجها.

    كما يضمر الردّ الانسحابي إشكالًا آخر، إذ قد يُلجأ إليه التماسًا لمنهجٍ أو ممارسةٍ محصنةٍ من النقد. فحينما أتحدّث باسمي فقط يخيل أنني أرسم حاجزًا دون النقد بما أنني لا أتقدّم بمزاعم تصف الآخرين أو تملي عليهم أفعالهم، وبناءً على ذلك فإنّه ما من مسؤولية تلزمني الصدق حيال تجربتك واحتياجاتك نظرًا لاقتصار حديثي على نفسي فحسب.

    لكن بناء المرءِ تصرفاته على أساس رغبته في تجنّب النقد أمرٌ مرفوضٌ أخلاقيًا وسياسيًا بلا شك، بالأخص إذا ما كان على حساب المسائل المتعلقة بالفاعليّة. ربما الباعث في بعض الحالات ليس اتّقاء النقد بقدر ما هو تجنّب الأخطاء، حيث يرى المرء أنّ السبيل الوحيد لتفاديها هو في ترك الحديث باسم الآخرين كليًا، لكن لا مفر من الخطأ في البحث النظري والنضال السياسي، فضلًا عن إسهامه فيهما. وقد لا تكون الرغبة في إيجاد وسيلةٍ لمجانبة ارتكاب الأخطاء مجانبةً مطلقةً نابعةً عن التطلّع إلى النهوض بالأهداف الجماعية بل عن الطمع في السيادة الشخصية، وذلك بإرساء موقفٍ خطابي متميّز يحمي صاحبه من الاستنقاص أو الاحتجاج عليه، فيكون بذلك سيّد الحَدَث، فموقعُ المرء في مثل هذا الموقف لا يستدعي استنطاقًا مستمرًا أو تأمّلًا ناقدًا، ولا يتطلّب منه الانشغال بهذه العملية الشاقّة نفسيًا باستمرار، كما يحصنه من مسائلات الآخرين له. لا بدّ من مقاومة هذه الرغبة في السيادة والحصانة.

    أمّا آخر ردٍ أتناوله فتورده غاياتري شاكرافورتي سبيفاك في مقالتها الغنية “هل يستطيع التَّابع أن يتكلم؟”. تكمن المشكلة الرئيسة وفقًا لسبيفاك في التصوّر الجوهراني النازعِ إلى الأصالة للذات والتجربة، فهي تنتقد موقف “المثقف المُنكِر نفسه”، والذي يتبناه كل من فوكو ودولوز في رفضهم التحدّث بالنيابة عن الآخرين لأنه يفترض في اعتقادهما قدرة المضطهدين على تمثيل مطالبهم الحقيقية بشفافية. فهي ترى أنّ موقفهما هذا يتجاهل سلطة المثقفين التي تتجلى في انسحابهم تجليًا فعليًا إذ يسهم في حدّ ذاته في ترسيخ مفهومٍ محددٍ للتجربة -بوصفها شفافةً وعارفةً بذاتها-، وعليه يعمل تشجيع “الاستماع إلى”، بخلاف التحدّث بالنيابة، على إسباغ صبغةٍ جوهرانية على المضطهدين كذواتٍ غير مركبةٍ إيديولوجيًا. لكن سبيفاك تنتقد أيضًا التصدّي للتحدّث بالنيابة عن الآخرين المتورّط بتمثيلٍ خطير، مفضلةً “التحدّث إلى” في النهاية، بحيث لا يُنكِر المثقف دورَه الخطابي، ولا تُفتَرض أصالة المضطهد الذي يُتاح له مع ذلك توليد “خطابٍ مضادٍ” ليسهم في نسج سرديةٍ تاريخيةٍ جديدة.

    هذا الردّ هو أشد ما اتفق معه. لا بدّ من الاجتهاد ما أمكن لخلق الظروف التي تسمح بالحوار والتحدّث مع الآخرين وإليهم بدلًا من التحدّث نيابةً عنهم. إن كانت مخاطر التحدّث من أجل الغير نابعةً من إمكانية تمثيلهم على نحوٍ مخل، وتوسيع سلطة المتحدّث وامتيازه، وإنشاء طقسٍ خطابي إمبريالي في مجمله، فالتحدّث مع الآخر وإليه يخفف هذه المخاطر.

    ليست إمكانية الحوار من الأمور التي يُتطرق إليها في العادة، كما لا يبذل الأشخاص المتمتعون بامتيازٍ أعلى جهدًا كافيًا لتحقيقها. لا بدّ من تغيير الأماكن التي تبدو فيها اللقاءات الحوارية مستحيلة إلى أماكن قادرة على استيعابها، مثل الفصول الدراسية، والمستشفيات، ومقرات العمل، ووكالات الخدمة الاجتماعية، والجامعات، ومؤسسات التنمية والمعونة الدولية، والحكومات. في وسع تقنيات الاتصال المتوفرة إنتاج هذه الأنواع من التفاعل كما هو ملاحظٌ منذ مدة طويلة، وإن كانت فرق الأبحاث والتنمية لا تجدها مجديةً تحت ظل الرأسمالية.

    يشير رأي سبيفاك، على أيّة حال، إلى عدم تمثّل الحل البسيط في تمكّن المضطهَد أو صاحب الامتياز الضعيف من التحدّث بالنيابة عن أنفسهم، بما أنّ حديثهم ليس بالضرورة تحرريًا أو عاكسًا لـ”مصالحهم الحقيقية” إن كان لها وجود من الأساس. أتفق معها في هذا، لكن يجوز القول، وأظنّها تخلص إلى ذلك بنفسها، أن تجاهل كلام التابع أو المضطهد ما هو إلّا “استمرارٌ في المشروع الإمبريالي”. إن لم يكن في الإمكان تمييز حديث المضطهد بما أنّ محتواه ليس ذا قيمة تحررية بالضرورة، فيمكن تفضيله على أساس عملية التحدّث في حد ذاتها. إذ تخلق هذه العملية ذاتًا تتحدّى المقابلة بين الفاعل العارف وموضوع المعرفة وتقوّضها، وهي مقابلة تسهم إسهامًا رئيسًا في إعادة إنتاج الأنساق الإمبريالية الخطابية. فالإشكال في التحدّث بالنيابة عن الآخرين يقع في صلب البِنْية الخطابية للممارسة ذاتها بغضّ النظر عن محتوى الحديث، ولذلك فإنّ هذه البِنْية ذاتها هي ما يجب تغييره.

    بينما يجب إجراء المزيد من البحث النظري والتطبيقي لخلق البدائل، يظلّ التحدّث بالنيابة -على أيّة حال- أفضل خيارٍ متاحٍ في بعض الأوضاع الراهنة. فالانسحاب المطلق يُضعف الفاعليّة السياسية، فضلًا عن استناده إلى وهمٍ ميتافيزيقي، وليس ذا نفعٍ غير إرخاءه الستار على السلطة التي يمتلكها المثقف. سأتساءل في ما بقي من هذه المقالة: كيف نستطيع تقليص المخاطر التي تكتنف التحدّث بالنيابة؟

III

    لست في رفضي الانسحاب العام أدعو إلى العودة إلى التصدّي عن التحدّث بالنيابة عودةً يجتنب فيها المتحدّث الأثَرَة في سبيل الغير، بل أدافع عن ضرورة انطلاق أي شخصٍ يحمل على عاتقه هذه المهمة من تحليلٍ واقعي لعلاقات القوة والتأثيرات الخطابية المتضمَّنة. أودّ التوسّع في هذه المسألة بعرض مجموعةٍ من التطبيقات الاستفهامية التي تساعد في تقييم حالات التحدّث بالنيابة الموجودة والممكِنة، والتي قد تبدو في عرضها في قائمةٍ أشبه بمعادلةٍ رياضية، ندرج فيها حالةً معطاة فتخرج لنا تحليلًا متكاملًا وتقييمًا لها، لكن المقصود منها هو تقديم عددٍ من الأسئلة التي يجب طرحها حول كل ممارسة خطابية. وليست التطبيقات الاستفهامية هذه جديدة، بل لطالما تعلّمها العديد من الناشطين والمنظّرين والتزموا بها.

  1. يجب فحص الدافع وراء التحدّث بالنيابة فحصًا دقيقًا، بل مجاهدته في الكثير من الحالات -لا سيّما من قبل الأكاديميين!-. قد تكون هذه بدايةً غريبةً لاستفتاح النقاش حول كيفية التحدّث بالنيابة، لكن المراد أهميةُ النظر في حقيقة الدافع الذي يجعل المرء يرغب في التصدّي للحديث دائمًا وفي كل مناسبة: ألا وهو الرغبة في السيادة والهيمنة. فإن كان مُحرّك المرء المباشر هو تعليم مُتحدِّثٍ ذي امتيازٍ أقل بدلًا من الإصغاء إليه، فتجب عليه مقاومة هذا الباعث بما يكفي حتّى يبحث فيه برويّة. لقد تعلّم البعض منا أنّ الحق معهم في الغالب بحكم نفوذ نوعهم الاجتماعي وطبقتهم وعرقهم ومنصبهم وما إليها من المعايير، فيما تعلّم غيرهم خلاف ذلك، فحديثهم يشوبه التردد وتتكرر فيه الاعتذارات إن تحدّثوا من الأصل[12].

يجب الاعتراف في الوقت ذاته أن قرار “التنحّي” والانسحاب لا يصدر إلّا عن موضعٍ يتمتع بالامتياز.   فالذين ليسوا في مقامِ التحدّث على الإطلاق ليس لهم الانسحاب من عملٍ غير متاحٍ لهم، كما أنّ اتّخاذ قرار الانسحاب من عدمه ما هو إلّا امتدادٌ للامتياز وتطبيقٌ له، لا تنازلٌ عنه، وإن كان أمرًا مطلوبًا أحيانًا.

  1. لا بدّ من استقصاء تأثير موقعنا وسياقنا على ما نقوله، وأن يكون هذا الاستقصاء جزءًا صريحًا من كل ممارسةٍ خطابيةٍ جادّةٍ نقوم بها. ومن الطرق للبدء في ذلك وضعُ الفرضيات حول الروابط الممكِنة بين موقعنا وكلامنا. وأنجح ما يكون هذا الإجراء هو عند الانخراط فيه جماعةً مع الآخرين ليساعد في كشفِ أبعادِ موقعِنا الغائبةِ عنّا[13].

كثيرًا ما يُعمل بهذا الإجراء بطريقةٍ شوهاء، حيث يستفتح المتحدّثون بدافع “الصدق” كلامَهم بمقتطفاتٍ من سيَرِهم الذاتية من باب تبرئة الذمة، وهم يقصدون بذلك الإشارة إلى أنّهم يتحدثون انطلاقًا من موقعٍ محددٍ متجسدٍ دون ادّعاء حقيقةٍ مطلقة. لكن كما تحاجّ ماريا لوغونِس وغيرها بشدّة، لا يفيد مثل هذا التصرف بشيءٍ عند توظيفه لتبرئة المرء من جهله أو أخطائه، وعند صدوره دون استنطاقٍ ناقدٍ لتأثير هذا الجانب الشخصي على ما سيقال، بالإضافة إلى إلقاءه بالجهد الحقيقي الذي لا بدّ من بذله على عاتق المتلقّي. فلو ابتدأ رجلٌ أبيضٌ من طبقة متوسطة، على سبيل المثال، حديثَه بمشاركتنا ملامحًا من حياته، ثم أخذ يتعذّر بها عن الحدود التي تقيّد حديثه، فإنّما يلقي على عاتقنا نحن المتلقين الذين لا نشاركه موقعه الاجتماعي مهمةَ التصدّي لترجمة مصطلحاته إلى مصطلحاتنا بأنفسنا، وتقييم مدى إمكانية تطبيق تحليله على وضعنا المختلف، وتحديد صلة موقعه الجوهرية بطرحه. لطالما تعيّن على الأشخاص من ذوي الامتياز الأقل القيام بهذه المهام عند قراءتهم لتاريخ الفلسفة والأدب وغيرهما، ممّا يجعل مهمّة ملائمة هذه الخطابات أصعب وأكثر استنزافًا للوقت –ومفضيةً إلى الاغتراب في أغلب الظن-. فالتَبَرُّؤ البسيط غير المدروس لا يُصلح هذا الوضع المألوف، بل قد يزيد من سوئه، فقد يشعر المتحدّث بعرضه لمثل هذه المقتطفات من حياته بأنّ صلاحيته في التحدِّث قد ازدادت في نظره ونظر أقرانه أيضًا.

  1. يجب أن يتحمّل المرء دائمًا مسؤولية كلامه إذا تحدّث. أمّا مسؤولٌ أمام من فخيارٌ سياسي/إبستمولوجي جدلي مشروط، كما تقول دونا هاراواي، ومبنيٌ على أساس عملية الفعل الخطابي. وهذا يوجب من الناحية العملية التزامًا جادًا صادقًا بالانفتاح على النقد ومحاولة “الإصغاء” إليه –فهمه- بتفاعلٍ واهتمامٍ وحساسية، ولا بدّ أن يثير النزوع السريع إلى رفضه الحذر فينا.

  2. أمّا مرادي الرئيس فهو أهمية تحليل تأثيرات الحديث المحتملة والفعليّة على السياق الخطابي والمادي من أجل تقييم محاولات التحدّث بالنيابة عن الآخرين في أي حالةٍ معطاة. فلا يجوز الاكتفاء بالنظر –ببساطةٍ- إلى موقع المتحدّث أو مؤهلاته، أو إلى المحتوى القَضَوي للكلام فحسب، بل يتوجّب النظر أيضًا إلى وِجْهة الكلام وما يفعله هناك.

إن الاقتصار على النظر في محتوى مجموعةٍ من الادّعاءات دون الالتفات إلى تأثيراتها لا ينتج تقييمًا مناسبًا لها أو حتّى ذا قيمة، وذلك يعود بعض الشيء إلى تهالك فكرة انفصال المحتوى عن تأثيره. فمحتوى الادّعاء، أو معناه، يتولّد عن التفاعل بين الكلام والمتلقّين في إطارِ سياقٍ تاريخي محددٍ جدًا. يجب على ضوء ذلك إيلاء التنظيم الخطابي بالغ العناية لنفهم المعنى التام لأي حدثٍ خطابي مُعطى. عندما ينهض شخصٌ من العالم الأول عن طيب نيةٍ للتحدّث نيابةً عن شخصٍ أو جماعةٍ من العالم الثالث مثلًا، فإنّ التنظيم الخطابي قد يرسّخ مفهوم “هرميّة الحضارات” التي تتقلد الولايات المتحدة رأس قمّتها، ويحدث هذا التأثير لأن المتحدّث ينطلق من موضع السلطة والتمكين والمعرفة، بينما تُختَزل الجماعة من العالم الثالث، بسبب بِنْية الممارسة التحدّثية فحسب، إلى موضوعٍ وضحيةٍ يجب الدفاع عنها عن بُعد، وبذلك فهي غير مُمَكّنة. ومع أنّ المتحدّث ربما يحاول ماديًا تحسين وضع جماعةٍ دونه في الامتياز، فإنّ تأثير خطابه يعزز المفاهيم العنصرية الإمبريالية، وربما زاد من إضعاف قدرتهم على التحدّث وإيصال صوتهم[14]، وهذا يبيّن لنا مدى أهمية إعادة تصوير الخطاب، كما ينصح فوكو، واعتباره حدثًا يتضمّن متحدّثًا وكلامًا ومتلقّين وموقعًا وما إلى ذلك.

جميع التقييمات التي تمتثل إلى هذه الطريقة مرتبطةٌ بسياقها بالضرورة، أي أنّها تناسب موقعًا محددًا للغاية ولا يمكن تعميمها تعميمًا كونيًا، وذلك نظرًا لانبنائها على أساس العناصر الخاصة بالسياق الخطابي التاريخي وموقع المُتحدّث والمتلقّين وغير ذلك، بحيث يتطلّب تغيّر عنصرٍ من هذه العناصر تقييمًا جديدًا.

سأوضح بالنظر في الأمثلة التي أوردتها في البداية. إذا كانت تأثيرات كتب كاميرون تضعف تمكين النساء الكنديات الأصليات فعلًا، فهي ذات حصيلة تخالف نيّتها التي وضّحتها، وعليها إذن “التنحّي”. أمّا فيما يتعلق بالرجل المُنَظِّر الأبيض الذي أخذ يتكلّم عن العمارة بدلًا من سياسات ما بعد الحداثة، فقد كان أثرُ رفضه عدمَ إسهامه بمسألةٍ مهمةٍ، وخسرنا جميعنا فرصة مناقشتها واستكشافها.

أمّا عندما يدّعي الرئيس بوش أنّ نورييغا مستبدٌ فاسدٌ يقف في طريق تحقيق الديمقراطية في بنما، فإنّما يردد ما تقوله حركة المعارضة في بنما بالحرف الواحد، لكن أصداء هذين التصريحين اختلفت بشدّة لأنّ المعنى الكامل للكلام يتغيّر جذريًا بتغيّر قائله. حينما يقف رئيس الولايات المتحدة أمام العالم مطلقًا الأحكام على حكومةٍ من العالم الثالث، ومنتقدًا إيّاها على أساس الفساد والافتقار إلى الديمقراطية، فإنّ معنى ادّعائه، بعكس ادّعاء المعارضة، يعمل على ترسيخ النظرة الأنجلونية السائدة التي ترى في الفساد الأمريكي اللاتيني المسبِّب الرئيس وراء الفقر في المنطقة وافتقارها إلى الديمقراطية، وأنّ الولايات المتحدة تدين الفساد والاستبداد. لذا فإنّ انعكاس حديث الرئيس بالنيابة عن أمريكا اللاتينية يعزز إمبريالية الولايات المتحدة في تعتيمه على دورها الحقيقي في المنطقة، وذلك في تعذيب المئات والآلاف ممّن حاولوا إقامة حكومات ديمقراطية تقدمية وقتلهم، وسيستمر هذا التأثير ما لم يغيّر سياسة الولايات المتحدة الخارجية تغييرًا جذريًا، ويعترف بتاريخها في الإبادة الجماعية.

 

الـخـاتـمـة

    يزداد الإشكال تعقيدًا مع تنوع المفاهيم حول أهمية المصدر أو موقع المؤلّف. ففي إحدى الآراء، مؤلّف النص هو “مالِكه” أو “مُبْدِعه”، فله الفضل في خلق أفكاره وهو الجدير بتفسيرها. أمّا في رأيٍ آخر، لا يتميّز المتحدّث الأصلي أو الكاتب بشيءٍ عن أي شخصٍ آخر يعبّر عن هذه التصوّرات، بل لا يمكن في الواقع تعريف “المؤلّف” تعريفًا جازمًا بما أنّه مفهومٌ إيديولوجي نحّته العديد من النظريات عن الطريقة التي تنشأ بها الأفكار وتتحول إلى قوى مادية[15]. هل يعني الموقف الأخير أنّ موقع المؤلّف غير ذي علاقة؟

    ليس هذا الاستنتاج الوحيد بالضرورة، وإن كانت قد تقتضيه بعض الصيغ الأخرى. يمكننا نزع امتياز المؤلِّف “الأصلي”، وإعادة تصوير الأفكار على أنّها متجولّة بحرية في الفضاء الخطابي ومُتاحة من مواقع متعددة بلا سلسلة أصلٍ واضحة المعالم دون التخلي عن فكرة ارتباط المصدر بالأثر. فنظريتنا حول نظرية سلطة المؤلّف Metatheory لا تستثني وجودَ المتحدّث أو الكاتب الماديّ في الحيّز الخطابي باعتباره مؤلّف الكلام، أو ارتباطَ مفهوم “البطريركية” الذي استولت عليه النِّسْوية مثلًا بكيت ميلِت، نِسْوية بيضاء أنجلونية، أو كونَ مصطلح النِّسْوية نفسه مصطلحًا ذا أصلٍ وارتباطاتٍ غربية. تترتّب على هذه الارتباطات أثر، فهي تنزع الثقة من قلوب بعض مواطني العالم الثالث، وتطبع مواقف نِسْويّات العالم الأوّل بطابعٍ إمبريالي شبه واعٍ، وليست هذه التأثيرات المُحتملة فقط، كما قد لا تكون بعضها ذات بعدٍ وخيم، إنّما لا بدّ من وضعها كافةً في الحسبان عند تقييم خطاب “البطريركية”. ولست ألمّح إلى وجوب رفض مصطلح “البطريركية”، أو القبول بردود المتلقّين دون نقاش، لكنّنا إذا تجاهلنا التأثيرات الفعليّة بالتفاتنا إلى “المحتوى” فحسب -هذا إن كان الفصل بينهما مُمْكِنًا- كان التقييم قاصرًا قصورًا صارخًا.

    لذا لا يجب أن يقلل التشديدُ على أهمية التأثير من ضرورة استقصاء موقع المتحدث، وهو استقصاءٌ أشبه ما يكون بالقيام بدراسةٍ جينالوجية. فالجينالوجيا بهذه الدلالة تبحث في الطريقة التي تتدخّل فيها الممارسات التاريخية والثقافية والاقتصادية والنفسية والجنسية/النوعية بائتلافاتها واختلافاتها في موقفٍ أو رأيٍ معين، وكيفية تَشَكُّلِه خلالها. لكنني أرى ضرورةَ إدراج أهمية النظرِ في مصدرِ رأيٍ ما والقيامِ بدراسةٍ جينالوجية ضمن إطارِ التحليل العام للتأثير، بحيث يتمحور السؤال الرئيس حول أثر الرأي على الممارسات الماديّة والخطابية التي يتخللها، وعلى البِنْية الخاصة بعلاقات السلطة الناتجة عنها، فالمصدر ذو علاقةٍ –فقط- عندما يكون مؤثرًا على انعكاس الرأي، وكما يحلو لسبيفاك التعبير، لا يمنع اختراع الهاتف على يدِ رجلٍ أوروبي من طبقة عالية من تسخيره في ثورةٍ مناهضةٍ للإمبريالية.

    أودّ ختامًا التأكيد على أنّ التصدّي للحديث نيابةً عن الآخرين يتولّد عن رغبةٍ في السيادة غالبًا، حيث يودّ المرء إظهار نفسه في مظهرِ الخبيرِ بشؤون غيره، أو المنافحِ عن هدفٍ سامٍ ليحرز المجد والثناء. وليس تأثير التحدّث بالنيابة عن الآخرين، في معظم الأحوال لا دائمًا، إلّا محوٌ وإعادةُ إدراجٍ للهرميّات الجنسية/النوعية والقومية وغيرها. أرجو أن يساهم هذا التحليل في النقاش المهم الذي يدور اليوم حول كيفية وضعِ استراتيجياتٍ تضمن توزيعًا متساويًا عادلًا للفرص التي تتيح التحدّث وإيصال الصوت، لا أن يحطّ من شأنه. وهي عملية لا ينبغي لها الخلوص إلى رفع صلاحية التحدّث بالنيابة عن الآخرين رفعًا تامًا، إذ لا يزيد تحدّث الآخر المختلف بالنيابة عنّي الطين بلّة في كل حال، كما لا يضاعف تحدّثي باسم غيري من سوء أوضاعهم دائمًا، فنحن قد نحتاج أحيانًا إلى “رسولٍ” يدافع عن مطالبنا كما تقول لويس ستيوارت.

    لا يكفي صدور رأيٍ –أو ممارسةٍ خطابيةٍ ما- من دافعٍ مُتَّهَمٍ، أو خطةٍ مريبةٍ، أو موقعٍ اجتماعي ذي امتياز لرفضه كما وضّحت، وذلك برغم ارتباط المصدر دومًا، إذ لا بدّ من طرح أسئلةٍ أخرى تتعلّق بتأثيره، بحيث يكون السؤال التالي مربط الفرس: هل سيسهم هذا الرأي في تمكين الشعوب المضطهَدة؟

 

 

 


 الـمـلاحـظـات:

[1] Lee Maracle, “Moving Over,” in Trivia 14 (Spring 89): 9-10.

[2] Joyce Trebilcot, “Dyke Methods,” Hypatia 3.2 (Summer 1988): 1.

تقدّم تريبلكت هنا تفسيرها الخاص لرفضها هذه الممارسات، لكنها لا تطلب غيرها من النساء الانضمام إليها في رفضها، لذا لا ينمّ رأيها على عدم اتّساقها مع نفسها.

[3] Trinh T. Minh-ha, Woman, Native, Other: Writing Postcoloniality and Feminism (Bloomington: Indiana University Press, 1989), 65 and 67.

للاطّلاع على المزيد من الأمثلة التي تتناول هذه المسألة من الزاوية الأنثروبولوجية، انظر:

Writing Culture: The Poetics and Politics of Ethnography ed. James Clifford and George E. Marcus (Berkeley: University of California Press, 1986); James Clifford “On Ethnographic Authority” Representations 1.2: 118-146; Anthropology as Cultural Critique ed. George Marcus and Michael Fischer (Chicago: University of Chicago Press, 1986); Paul Rabinow “Discourse and Power: On the Limits of Ethnographic Texts” Dialectical Anthropology, 10.1 and 2 (July 85): 1-14.

[4] إنّ الحظوة بالامتياز هنا تعني التمتع بوضعٍ أفضل وأكثر مرونة وأوسع نفوذًا ضمن بنى السلطة والمعرفة في المجتمع، وعليه يُشعر الامتياز الفردَ بالفضل عند قيامه بالحديث. تمنح بعض الأعراق والقوميات والأنواع الاجتماعية والميول الجنسية والطبقات الامتياز، ولكن قد يحظى الفرد الواحد -معظم الأفراد في الغالب-  ببعض الامتيازات بفضل جوانب معينة من هويته ويحرم من أخرى بسبب غيرها من الجوانب، لذا يجب أن يكون الامتياز مقترنًا بعلاقات محددة ومواقع محددة. لا يضم مصطلح الامتياز السلطة الخطابية المتحصل عليها عن الاستحقاق، والتي يندر منحها عن مجرد استحقاقٍ محضٍ في طبيعة الحال. فقد يحظى البعض، بعبارةٍ أخرى، بالسلطة الخطابية نظرًا لكفاءته القيادية أو لخبرته في التعليم، لكن سلطة الأشخاص المبنية على جدارتهم تختلط، في واقع الأمر، مع السلطة التي يتمتعون بها بفضل نفوذ نوعهم الاجتماعي أو عرقهم أو طبقتهم أو ميلهم الجنسي. إنّ مصادر السلطة الأخيرة هذه هي ما أقصده بمصطلح “الامتياز”.

[5] Maria Lugones and Elizabeth Spelman, “Have We Got a Theory For You! Cultural Imperialism, Feminist Theory and the Demand for the Women’s Voice” Women’s Studies International Forum 6.6 (1983): 573-81.

تبحث لوغونس وسبيلمان في مقالهما في الطريقة التي أسهمت بها “المطالبة بأصوات النساء” في إضعاف النساء الملونات بتجاهلها التباين في الامتياز بين النساء بوصفهن فئة، ممّا أسفر عن تمييز أصوات النساء البيضاوات فقط. كما تنظر الباحثتان فيما نجم عن ذلك من تأثيراتٍ في مجال صناعة النظرية في الدراسات النسوية، وتسعيان للعثور على “طرقٍ للتحدّث والتحدّث حول” والتي قد تساعد في تحسين الوضع وزيادة التمكين. أودّ متابعة نقاشهما في مقالي الذي استلهمته منه.

[6] Menchu, Rigoberta. I…Rigoberta Menchu, ed. Elisabeth Burgos-Debray, trans. Ann Wright (London: Verso, 1984).

أستعمل لفظة “هنود” اتّباعًا لمينتشو.

[7] مثلًا: بما أنّ الخطاب “الوصفي” ليس معياريًا أو خاليًا من القيم، فما من خطابٍ يخلو من حسٍ دفاعي، وعليه فإنّ التحدّث حول يضمر التحدّث نيابةً عن شخصٍ أو مجموعة من الأشخاص أو أمرٍ ما.

[8] كما قد نفرّق بين أشكال تطبيقات التحدّث بالنيابة المادية المختلفة، مثل: إلقاء خطاب، كتابة مقال أو كتاب، صناعة فيلم أو برنامج تلفزيوني، بالإضافة إلى الاستماع والقراءة والمشاهدة وغيرها. لن أتطرق إلى الاختلافات التي قد تنشأ عن ذلك، بل سأتناول المفهوم العام للتحدّث بالنيابة.

[9] “Intellectuals and Power” in Language, Counter-Memory, Practice. Ed. Donald Bouchard. Trans. Donald Bouchard and Sherry Simon (Ithaca: Cornell University Press, 1977): 209.

[10] للمزيد عن هذه الظاهرة في عالم الفن، انظر:

Wilson, Judith. “Down to the Crossroads: The Art of Alison Saar,” Third Text 10 (Spring 90).

بالإضافة إلى:

Barbara Christian “The Race for Theory” Feminist Studies 14.1 (Spring 88): 67-79; Henry Louis Gates, Jr. “Authority, (White) Power and the (Black) Critic; It’s All Greek To Me” Cultural Critique 7 (Fall 87): 19-46.

[11] Alcoff, Linda. “Cultural Feminism versus Post-Structuralism: The Identity Crisis in Feminist Theory” SIGNS: A Journal of Women in Culture and Society 13.3 (Spring 1988): 405-36.

وللمزيد حول تعدد أبعاد الهوية الاجتماعية، انظر:

Maria Lugones “Playfulness, `World’-Travelling, and Loving Perception,” Hypatia 2.2: 3-19; Gloria Anzaldua, Borderlands/La Frontera (San Francisco: Spinsters/Aunt Lute Book Company, 1987.

[12] Edward Said, “Representing the Colonized: Anthropology’s Interlocutors”. Critical Inquiry. 15.2 (Winter 1989), p. 219.

يُظهر إدوارد سعيد أنّ “الحوار” بين علماء الأنثروبولوجيا الغربيين والمستعمَرين لم يكن متبادلًا، ويرى أن على الغربيين الكفّ عن الحديث.

[13] المصدر السابق. حيث يشجع سعيد –تحديدًا- مساءلة الذات من قبل المتحدثين المتمتعين بالامتياز. وهو موضوعٌ يتكرر في ما يُطلق عليه اليوم “خطاب الأقلية” الذي يؤكد على أهمية توجّه البِيض لدراسة هويتهم. تحضر أهمية مساءلة المتحدّث موقعه في كل حدثٍ خطابي يقوم به، ولكن نظرًا لعدم تكافؤ “الحوارات” الجارية تبدو المساءلة أهمّ بين أصحاب الامتياز على وجهِ الخصوص، والذين يرغبون أحيانًا في دراسة الأحوال الاجتماعية والاقتصادية لجميع الناس ما عداهم.

[14] إن الدفاع عن علاقة التأثير بالتقييم لا يقتضي وجهًا واحدًا للقيام بهذه العملية، أو تحبيذ نوعٍ محددٍ من التأثير، فكيفية تقييم أثرٍ ما مسألة مفتوحة، ولست أقصد بالفقرة الرابعة إلّا توضيح أهمية أخذ التأثير بعين الحسبان.

[15] تناولت سوزان بوردو هذه الفكرة تناولًا جميلًا. فهي تقول في معرض الحديث عن النظريات والأفكار التي تكتسب نفوذًا: “…كافة التشكلات الثقافية… مركبةٌ تركيبًا معقدًا من عناصر متنوعة –فكرية، نفسية، مؤسساتية، واجتماعية. فهي لا تنتج عن تصوّرٍ موحدٍ بل عن تفاعلٍ بين عوامل وقوى متعددة، وأفضل وجهٍ لفهمها هو في النظر إليها بوصفها سياقًا منبعثًا تغذيه تياراتٌ متعددة، والتي قد تتشابه مع بعضها حينًا، وقد تختلف اختلافًا واضحًا في حينٍ آخر، لا في اعتبارها مواقف منعزلة قابلة للتحديد، والتي يمكن تبنيها أو رفضها.” إن كانت الأفكار تبزغ عن مثل هذا الشكل من القوى، فهل من المنطقي التماس المؤلف؟

الـمـراجـع:

Alcoff, Linda. “Cultural Feminism versus Post-Structuralism: The Identity Crisis

    in Feminist Theory.” Signs 13.3 (Spring 1988): 405-36.

Anzaldua, Gloria. Borderlands: La Frontera. San Francisco: Spinsters/Aunt Lute

    Book Company, 1987.

Bordo, Susan. “Feminism, Postmodernism, and Gender-Skepticism.” Feminism/

    Postmodernism. Ed. Linda Nicholson. New York: Routledge, 1989. 133-56.

Christian, Barbara. “The Race for Theory.” Cultural Critique 6 (Spring 1987):

    5 1-63.

Clifford, James. “On Ethnographic Authority.” Representations 1.2: 118-46.

Clifford, James and George E. Marcus, eds. Writing Culture: The Poetics and Politics

    of Ethnography. Berkeley: U of California P, 1986.

Deleuze, Gilles and Michel Foucault. “Intellectuals and Power.” Language, Counter-

    Memory, Practice. Ed. Donald Bouchard. Trans. Donald Bouchard and Sherry

    Simon. Ithaca: Cornell UP, 1977. 205-17.

Gates, Henry Louis, Jr. “Authority, (White) Power and the (Black) Critic; It’s All

    Greek To Me.” Cultural Critique 7 (Fall 1987): 19-46.

Lugones, Maria. “Playfulness, ‘World’-Travelling, and Loving Perception.” Hypatia

    2.2: 3-19.

Lugones, Maria and Elizabeth Spelman. “Have We Got a Theory For You! Cultural

    Imperialism, Feminist Theory and the Demand for the Women’s Voice.”

Women and Values: Readings in Recent Feminist Philosophy. Ed. Marilyn Pearsall.

    Belmont, CA: Wadsworth Publishing, 1986. 19-31.

Maracle, Lee. “Moving Over.” Trivia 14 (Spring 1989): 9-12.

Marcus, George E. and Michael Fischer, eds. Anthropology as Cultural Critique.

    Chicago: U of Chicago P, 1986.

Menchu, Rigoberta. I … Rigoberta Menchu. Ed. Elisabeth Burgos-Debray. Trans.

    Ann Wright. London: Verso, 1984.

Rabinow, Paul. “Discourse and Power: On the Limits of Ethnographic Texts.”

    Dialectical Anthropology 10.1 and 2 (July 1985): 1-14.

Said, Edward W. “Representing the Colonized: Anthropology’s Interlocutors.”

    Critical Inquiry 15.2 (Winter 1989): 205-25.

Spivak, Gayatri. “Can the Subaltern Speak?” Marxisma nd Interpretationo f Culture.

    Ed. Cary Nelson and Lawrence Grossberg. Urbana: U of Illinois P, 1988.

    271-313.

Trebilcot, Joyce. “Dyke Methods.” Hypatia 3.2 (Summer 1988): 1-13.

Trinh T. Minh-ha. Woman, Native, Other: Writing Postcoloniality and Feminism.

    Bloomington: Indiana UP, 1989.

Wilson, Judith. “Down to the Crossroads: The Art of Alison Saar.” Third Text 10

    (Spring 1990): 36.