مجلة حكمة
الإيديولوجيا سبيلا

الأيديولوجيا – محمد سبيلا

الأيديولوجيا هي مجموعة الأفكار والآراء والتمثُّلات والتصوُّرات التي تتَّخذ إلى حدٍّ ما طابعًا متناسقًا، والتي تعبِّر عن وضعيَّة وطموح مجموعة اجتماعية ما (مهنية أو سياسية أو عرقية، أو طبقية، أو غيرها)، وتقدِّم لهذه الجماعة تصوّرات تدعم وحدتها وهويتها وربما رسالتها، كما تكون بالنسبة إلى هذه الجماعة بمثابة مخزون من الأفكار الموجِّهة للفعل والمزوَّدة بالمعنى والغايات والمقدمة إمّا تفسيرات ملائمة لوضعيتها أو تبريرات لمواقفها وتوجُّهاتها. فالأيديولوجيا في ارتباطها بمجموعة اجتماعية ما هي أفكار غير محايدة أيّ مرتبطة بهذه الجماعة ومتحيِّزة لها، بحيث يمكن أن تكون أداة تعبئة وتحشيد لصالح هذه الجماعة. والأيديولوجيات السياسية التي تتبناها أحزاب أو هيئات أو حتى دول هي المثال الواضح لهذه الأدوار المتعدِّدة للأيديولوجيا.

لكن توسُّع مفهوم الأيديولوجيا ليشمل المجتمع كله (مثال ذلك الفكرة الوطنية أو القومية) يمكن أن يُماثِل مفهوم الثقافة ذاته من حيث أنها إحدى مصادر التماسك الاجتماعي أو التزويد المستمر بمشاعر الهوية أو تغذية مشاعر التميُّز. إلّا أن هذا البعد يؤول في النهاية إلى البُعد الأيديولوجي للثقافة في حين يظلُّ استعمال مصطلح أيديولوجيا أقرب إلى المعنى الأول.

وهذا المعنى الحصري للأيديولوجيا هو معنى مكتسب حيث تبلور مع الاستخدام الواسع لهذا المفهوم وخاصة من طرف ماركس والماركسية وتعميمه في الحقل السياسي في حين أن المصطلح في نشأته الأولى مع دستون دوتراسي في فرنسا سنة 1796 في كتابه “مذكرات حول ملكة التفكير” في جزئه الثاني: عناصر الأيديولوجيا حيث كان يعني به دراسة الأفكار وسِماتها وأصولها والقوانين التي تحكمها، وكذا علاقتها بالكلمات والعلامات التي تعبِّر بها. وقد اندرج هذا المسعى في سياق تطور العلوم الوضعية القادرة على توضيح الأفكار وتنوير العموم حيث انبرى تيارٌ من المثقفين سُمِّي بالأيديولوجيين (Les ideologues) ترأّسه دستورت دوتراسي (D. de Tracy) لإقامة علم للأفكار (المعنى الحرفي لكلمة أيديولوجيا) بهدف تبديد الأساطير والقضاء على النزعات الظلامية والقيام بتحليل علمي للأفكار.

يرجع فضل شيوع مصطلح الأيديولوجيا، وبخاصة في الحقل السياسي، إلى الماركسية، وإنْ بشحنة نقدية. فالأيديولوجيا عند ماركس هي المنظومة الفكرية التي تعكِس واقع وطموح طبقة اجتماعية ما، وذلك من حيث أن إنتاج الأفكار والتصوّرات والقيم في كل مجتمع مرتبطة بالنشاط الاجتماعي وبالإنتاج والتبادل الاقتصادي. غير أن ماركس الذي يتحدَّث عن كون الأيديولوجيا تعكس واقع فئة اجتماعية معينة يرى أن انعكاس الممارسة الاجتماعية في التمثُّلات والأذهان هو انعكاس معكوس، وهو ما يسميه أحيانًا بعملية “القلب الأيديولوجي” فالأيديولوجيا تعكس الواقع الاجتماعي عكسًا مشوَّهًا أو مقلوبًا بما يخدِم ويدعم ويرسِّخ للوضعية الاجتماعية للطبقة المؤمنة بهذه الأيديولوجيا. لذلك يقترح ماركس أن ننطلق في دراسة الواقع الاجتماعي لا ممّا يتصوّر الناس أو يقولونه عن أنفسهم أو من خلال ما يتخيلونه، بل من خلال واقعهم العيني كما هو. ومن المؤكَّد أن هذا التصوُّر الماركسي للأيديولوجيا يُضمر نوعًا من التمييز بين التصور الأيديولوجي الذي هو وعي مغلوط (fausse conscience) والتصوُّر العلمي الذي هو تصورٌ وصفيٌّ يعكس صورة الواقع كما هو، كما يركِّز ماركس في “الأيديولوجيا الألمانية” على رفض التصوُّر المثالي الذي يقول أن الوعي هو الذي يحدِّد الواقع ويقول على العكس من ذلك أن الحياة أو الواقع الاجتماعي هو الذي يصوغ الوعي ويوجِّهه، وهو ما يعبِّر عنه ماركس أيضًا من خلال التأكيد على أن البنية التحتية (الاقتصادية بالخصوص) هي التي تحدِّد البنية الفوقية (الثقافة – الوعي…) وتوجِّهها ضمن تصوُّر أقلّ ما يمكن أن يُقال عنه أنه علاقة ميكانيكية.

إلّا أن إسهامات العديد من السوسيولوجيين والفلاسفة قد وسَّعت إلى حدٍّ ما إشكالية الأيديولوجيا وأدخلت عليها عناصر تحليلية جديدة (مانهايم، ماكس فيبر، هابرماس، غيرتز (Geertz)، ألتوسير، ريكور، بودون، بشلر (Baechler)، بيار أنسار…).

فقد فتحت مساهمة كارل مانهايم في كتابه “الأيديولوجيا واليوتوبيا” سنة 1919 باب التفكير في علاقة الأيديولوجيا بالحقيقة من خلال مفاهيم الوعي الخاطئ، والوعي الجزئي، والوعي الكلّي، كما ساهم تمييزه بين المعنى القدحي للأيديولوجيا الذي هو معنى سجالي وجدالي يعتبر الأيديولوجيا هي فكر الآخر أو الخصم، وبين المعنى المحايد أو الوصفي للأيديولوجيا من حيث هي التصورات والآراء والأفكار المرتبطة عضويًّا بالفعل السياسي والاجتماعي والتي هي متحيِّزة بطبيعتها وبحكم وظيفتها الاجتماعية. كما يقيم مانهايم تمييزًا بين الأيديولوجيا واليوتوبيا من حيث أن الأولى ذات نزعة محافظة تمجِّد ما هو قائم بينما تبشِّر اليوتوبيا بواقعٍ اجتماعيٍّ أمثل. إلّا أن الفيلسوف الفرنسي بول ريكور سيُدخل البُعد اليوتوبي ضمن الأيديولوجيا نفسها مميِّزًا داخل الأيديولوجيا بين بُعدها الواقعي الوصفي أو التبريري وبعدها اليوتوبي أو الاستشرافي.

معالجة (Jean Beachler) في كتابه “ما هي الأيديولوجيا؟” (باريس 1976) بابتعادها عن التقليد الأنواري الذي يربط الأيديولوجيات بالعقل، والحرية، والتقدُّم، والوضوح، وتندرج في سياق تيار هوبز وماكيافيل الذي يميل إلى ربط الأيديولوجيات بالأهواء الإنسانية واللاعقلانية. فالأيديولوجيا عنده هي الحالات الوجدانية أو النفسيّة المرتبطة بالفعل السياسي الذي هو مجال صراع حول السلط، والخيرات، والمؤسسات، والقيم، كما يربطها بنشأة المجتمع الحديث القائم على التعددية والتفتح وتعدد الاختيارات مبيِّنًا أدوارها ووظائفها في هذا الصراع الاجتماعي الذي تحكمه الأهواء. فهي أداة للرصّ والاستقطاب وتوحيد الصفوف كما أنها تقدِّم آليات تسويغية وتبريرية للفعل السياسي مثلما أنها بمثابة غلالة تقنِّع أو تغطي على المصالح والأهواء. كما أن الأيديولوجيا تمكِّن الفاعلين السياسيين من التصرُّف في الاختيارات وتُسهِم في توجيه الأفعال وفي تقديم صورة مبسَّطة عن الواقع تساعد الفاعل على ممارسة الفعل السياسي.

وقد أسهم السوسيولوجي الفرنسي رايمون بودون في كتابه “الأيديولوجيا” الصادر سنة 1986 في تقديم نظرية متكاملة تسلِّط الضوء على الأيديولوجيا في مختلف أبعادها.

فالأيديولوجيات في منظور بودون تتميّز عن المنظومات المعتقدية الأخرى من خلال ثمانية معايير واضحة وحاسمة: 1- فالأيديولوجيا تعلن عن نفسها من خلال الطابع الصريح والواضح لصيغتها التعبيرية، 2- كما تتَّسم الأيديولوجيا بتمحورها بشكلٍ إرادي وواعي حول معتقد إيجابي أو معياري مركزي (الحرية – العدالة – الحقوق)، 3- حرصها على أن تتَّخذ في صيغتها ومضمونها وطقوسها موقفًا أو موقعًا متميزًا عن المنظومات المعتقدية الأخرى، 4- تتسم الأيديولوجيات عامة بكونها منظومات معتقدية أو فكرية أو ثقافية مكتفية بذاتها ومغلقة تجاه التجديد، بل كثيرًا ما تَعتبر التجديد خروجًا عن خطِّ الحزب أو عن سكَّة الأيديولوجيا، 5- ويرتبط بهذا المعيار الطابع الصارم والمتشدِّد لمعتقداتها سواء على مستوى المضمون أو حتى بالنسبة إلى المصطلحات والصياغة ذاتها، 6- تتَّسم الأيديولوجيات عامة بأن قناعاتها ومعتقداتها ذات طابع أهوائيٍّ ووجداني أكثر ممّا يتعلَّق الأمر باختيارٍ عقلانيٍّ قابل للنقاش والحوار والتكميل، 7- كل أيديولوجيا تتضمن المطالبة بالانخراط والانتماء. فهي تقدِّم نفسها كأحسن وسيلة للدفاع عن الشخص وحماية حقوقه ومصالحه وأن ذلك لن يتمّ إلا بالانخراط والتكاثر، 8- كل الأيديولوجيات مرتبطة بمؤسسات وتنظيمات (أحزاب، جمعيات، نقابات…) فالمنظمة أو المؤسسة هي الحامل العضوي للأيديولوجيا والضامن لاستمرارها ومركز إشعاعها.

كان ألتوسير – من منظور ماركس – قد أسهم في إجلاء هذا البُعد المؤسّسي للأيديولوجيات حيث تحدَّث عن الأجهزة الأيديولوجية مميِّزًا بين الأجهزة القمعية للدولة وأجهزتها الأيديولوجية الأولى وقودها القمع والثانية وقودها الإقناع والاستقطاب. وهذه الأجهزة الأيديولوجية هي جهاز الدولة الديني وجهاز الدولة الأيديولوجي المدرسي والعائلي والقانوني والسياسي والنقابي والإعلامي (صحف راديو تلفزة الأنترنيت) والثقافي. إلا أن لألتوسير إسهامات أخرى في تطوير نظرية الأيديولوجيا الماركسية وهي توسيعه دائرة الوعي لتشمل كل التمثلات، بل أشكال اللاوعي أيضًا مقحِمًا بُعد اللاوعي في مفهوم الأيديولوجيا ذاته وكذا إلحاحه على المسافة والقطيعة بين التصور الأيديولوجي والتصور العملي من حيث أن الأول قيمي ومعياري في حين أن الثاني صفي بالدرجة الأولى ملحًّا على عضوية الأيديولوجيا وضرورتها وفعاليتها لا على المستوى الاجتماعي العام، بل أيضًا على المستوى الجزئي أو القطاعي أو الحزبي.

وفي منظور سوسيولوجي مماثل كان السوسيولوجي الفرنسي (Jean Beachler) في كتابه (L’idéologie) قد عدَّد وظائف الأيديولوجيافي j التجميع والضم k التفسير والتبرير l الإظهار والإخفاء m تعيين الأهداف القريبة والبعيدة n تجويز الإدراك الذي يمكِّن الفاعل السياسي من الخروج من دائرة عدم اليقين بتبسيط وترتيب المعطيات ومكونات المشهد السياسي بما ييسر الفعل في وجهَيه الاعتقاد والممارسة.

يَعتبر العديد من المفكرين أن البنية العقدية للأيديولوجيا مماثِلة للبنية العقدية للدين، وأن الآليات المنطقية أو الاستدلالية للأيديولوجيا تماثل الآليات المنطقية والاستدلالية للعقيدة، كما يذهب آخرون إلى القول بأن الأيديولوجيات السياسية هي البديل العلماني عن الدين في عالمٍ تغزوه بالتدريج تقنيات الانفصال عن المقدَّس.


مراجع مقترحة

  • Michel Simon, Comprendre les ideologies, Paris chronique sociale, 1978.
  • Marx, L’idéologie Allmande, Paris, 1970.
  • Althusser, Positions, Paris 1980.
  • عبد الله العروي، مفهوم الأيديولوجيا، بيروت، الدار البيضاء، 1980.
  • محمد سبيلا، عبد السلام بنعبد العالي،الأيديولوجيا

    ، سلسلة دفاتر فلسفية، دار عكاظ، الدار البيضاء، 2007.