مجلة حكمة
الأطفال الفلاسفة

كل الأطفال فلاسفة – كارن يونغ / ترجمة: قيس عبداللطيف


 

  • ماما، هل هذا حلم؟

  • كلّا، ليس حلماً.

  • كيف لك أن تعرفي؟

  • …..

كان  ذلك موجز الحوار  بين صديقتي أوزجي وابنها كان البالغ من العمر 3 أعوام.

فيلسوف القرن السابع عشر، الفرنسي رينيه ديكارت، المشهور بمقولته “أنا أفكّر إذاً أنا موجود”، كان قد سأل ذات السؤال الذي طرحه “كا”ن على أمه، إلّا أنه كان حينها في عمر متأخر: “كيف يمكن للمرء أن يكون متأكداً من أنه ليس يحلم؟”.

إن المعنى الأصلي لكلمة “فلسفة” (philosophy) يأتي من جذر الكلمة اليونانيّة “فيلو” (philo)، والتي تعني “حب”، بينما الجزء الآخر منها “سوفوس” (sophos)، ويعني “حكمة”. الأطفال فلاسفة صغار يحبّون أن يسألوا أي شيء وكلّ شيء عن العالم المحيط بهم، وإن الكلمات الفاخرة التي نستخدمها لوصف العالم من حولنا خلقت لدينا إدراكاً جدلياً يخلص إلى أن الأطفال غير قادرين على التفكير بشأن المفاهيم الكبرى، ومع ذلك، فإن هذه الأسئلة التي يطرحونها علينا، لم تُحسم بشكل واضح: “هل الله موجود؟”، “كيف ولدت أنا؟”، “إلى أين ذهبت جدتي بعد موتها؟”، “ماما، هل هذا حُلم؟” ليستمر الأطفال في طرح الأسئلة حول الميتافيزيقيا والقيم والوجود. في معظم الأوقات لا يكون لدينا إجابة فعليّة، نحن إما نتظاهر أننا نملك إجابة، أو نكون نعتقد فعلاً أن لدينا إجابة، أو أننا ببساطة نتجاوز السؤال.

“مستقبلنا يحسّن ماضينا.”

عندما كنت صغيرة، أفكارٌ غريبة كانت عادة ما تتسلل إلى ذهني في كلّ مرّة يغادر فيها والداي غرفتي: “هل هما يتبخران حينما يكونان بعيداً عن الأنظار؟”، عندما سألتهما، قيل لي: “توقفي عن التفكير في هذا الهراء، نامي فقط”. وتوقّفت عن التساؤل بعد عدّة محاولات فاشلة.

لاحقاً، بعد مضيّ سنوات من عمري، اكتشفت مدرسة فكريّة ناقشت تأملات طفولتي. لقد طرح الفيلسوف الإيرلندي جورج بيركلي سؤالاً مشابهاً: “هل يكون الشيء موجوداً دون أن يكون مدركاً أو محسوساً؟ إن لم يكن هناك أحد ليرى شجرة ما، يسمعها، يلمسها أو يشمّها، فكيف يمكن أن يقال أنها موجودة؟”، وكما يبدو فلم يُقل له: “نَم فقط”.

قبل عدّة أيام كنت ألعب مع علي، ابن أخي البالغ من العمر خمس سنوات، وأخته زينب ذات التسعة سنوات. كانت معنا هناك جارتنا التي يطلّ منزلها على منزلنا، العمّة آيتن، وبينما كان علي يلهو بقطعة ما، قال من العدم وبدون أي مقدّمات: “مستقبلنا يحسّن ماضينا”. لقد وجدتها وجهة نظر مثيرة للاهتمام، لأن خط التفكير السائد يقول العكس تماماً.

العمّة آيتن كانت سريعة في تصحيح الفكرة له: “بُني، هذا غير صحيح. ماضينا هو ما يحسّن مستقبلنا”. العمّة آيتن ليست فيلسوفة يكتب اسمها بحروف من ذهب على صفحات التاريخ، ومع ذلك كانت تبدو مصمّمة على زرع طريقة تفكيرها الخاصة في دماغ ابن أخي الصغير.

لحسن الحظ، شقيقة علي قفزت إلى المحادثة. بعمر 9 سنوات، كان ذهنها الذي مايزال المرحلة الوسيطة بين بساطة الطفولة الأولى وإدراك البالغين الذي يبدأ يتشكّل في فترة المراهقة، وفي وضع مثالي ليجعلها تلعب دور المُحَكِّم. في هذه الحالة الجدلية بين تساؤلات الطفولة وعالم الكبار الذي يحاول إقفال أبواب التساؤل، دافعت عن أخيها:

  • عمّتي، أعتقد بأن عليًا يقصد أن يقول: “سأفعل شيئاً جيّداً اليوم. وهذا سيجعل من غدي أفضل. وبحلول الغد، سأكون فعلت شيئاً جيداً في الماضي عبر التفكير بمستقبلي. وهذه هي الطريقة التي يحسن بها المستقبل ماضينا”.

وبينما كنت في حالة دهشة أشاهد روعة هذه الأفكار، العمّة آيتن، لم تكن تبدو عليها معالم التأثر، وقالت مكررةً: “هذا خاطئ. إنه ماضينا  هو ما يحسّن مستقبلنا”.  تبادلت أنا وابنة أخي ابتسامة سريّة فيما بيننا؛ ابتسامة تعني أنه “ليس هنالك أمل”.

العمّة آيتن بكل تأكيد كان مقصدها حسناً. كانت تحاول أن تعلّم الأطفال الأمر الصائب مستحضرة كلّ النوايا الطيّبة، ومع ذلك، أنا كنت فخورة للغاية برؤية ابنة أخي إلى جانبي في وجهة نظري، وعلي كان قد عاد بالفعل للعب، محاولاً “تحسين لحظته الراهنة” عن طريق صياغة شخصيات خيالية ترافقه اللعب.

كلُّ الأطفال فلاسفة حتّى…

الأطفال هم الفلاسفة الصغار الذين يسائلون الحياة باستمرار. ثمّ، أوَتعرف ماذا يحدث: إما أن تقول لهم العمّة آيتن أنهم على خطأ أو أن شخصاً آخر ينذرهم ليتوقّفوا عن التفوّه بالهراء ويذهبوا إلى النوم. ربما قد يلْحقُون بالفرصة الضائعة من بين يديهم في المدرسة أو قد يتوقفون عن التساؤل بمجرّد دخولهم إلى النظام المدرسي، والقلّة المحظوظون فقط هم من يتغلبون على كل هذه العقبات ليواصلوا  مسائلة الحياة فلسفيّاً.

لقد سألت صديقتي “أوزجي” إكمال هذه الجملة: “كل الأطفال فلاسفة حتّى….”، وأتى الجواب بدلاً عن ذلك من جدّة “كان“، وهي أستاذة فلسفة. قالت: “أفكار كارل ياسبرس يمكنها أن تكمل هذه الجملة بشكل حسن: كل الأطفال فلاسفة حتّى نقوم بحبسهم في سجن التبعيّة، حيث تذبل التساؤلات”.

عندما يكون لديك جدّةً أستاذة فلسفة، ينتهي بك المطاف بأن تكون ابناً لأمٍ تفكّر. ثمّ في الأغلب ستكون طفلاً يكبُر وهو يتسائل عن العالم من حوله، هذا وإن كنت تملك إسماً طموحاً مثل “كان ماكسيميليانوس كايزر”، فإن الاحتمالات ستكون كبيرة لأن تصبح فيلسوفاً عظيماً في يوم من الأيام.

إن أخفقت في تلبية هذه الشروط، فعليك أن تبدأ في التفكير بالحياة مثل “شوبنهاور” وفي لحظة ما ستجد نفسك تفكّر حول “شوبينغ آور” [ساعة التسوّق – shopping hour]!

لتسأل: حياة لا يُتَأملُ فيها ولا يتمّ مساءلتها، أهي حياة تستحق أن تعاش؟

لقد كان سقراط صاحب مقولة : “حياة لا يتمّ التشكيك فيها بمساءلتها هي حياة لا تستحق أن تعاش”، وليس صعباً علينا أن نحقق هذا مع أطفالنا.

عندما يسألون مثل هذه الأسئلة، يمكننا أن نرد عليهم ببساطة: “أنا لا أعرف، ما رأيك أنت؟ بما تفكّر”. بدلاً من اطلاق الأحكام النهائيّة الجاهزة، مثل: “أنت مخطئ” أو “هذا هراء”، إن التردّد أفضل وأكثر صدقاً وأمانة.

قد لا نملك إجاباتٍ دوماً، وفي هذه الحالة “لنفكر سوياً [نحن وإياهم]”، وهذا نهج لطيف. وعلينا في بعض الأحيان أن نسأل عن آراءهم حول قضايا نطرحها عليهم، دون أن ننتظر منهم أن يبادروا هم بالسؤال عن شيءٍ ما. كل كتابٍ نقرأه، كل حدثٍ يومي يمر بنا، كل محادثة عابرة قد تكون فرصة لطرح أسئلة “لماذا” و”كيف” [عليهم].

وقريباً قد يتحوّل التساؤل إلى عادة بل وهواية [لديهم].

بيكاسو قال ذات مرّة: “كل طفلٍ فنّان. المشكلة هي في كيفيّة بقائه فناناً عندما يكبر”، وبالمثل: فإن كل طفلٍ هو فيلسوف. المشكلة هي في كيفية بقائه فيلسوفاً عندما يكبر.

 مراجعة: ياسمين الملق

المصدر