مجلة حكمة

الأدب والمال – ترجمة: سعيد بو خليط

 

سعيد بوخليط
غلاف الكتاب

فصل من كتاب (نوابغ: سير وحوارات) – دار جداول للنشر


بالنسبة لفريديريك لونوار، حدث المفصل سنة 2004، حين أصدر هذا الكاتب وعالم الاجتماع والفيلسوف، صحبة “فيوليت كابيزوس” نصا مشتركا :

La promesse de l’ange، رواية بيعت منها 700 ألف نسخة، على امتداد خمسة وعشرين بلدا.

السنة ذاتها، نفدت 200 ألف نسخـة من عمل، كتبه مع “ماري فرانس إيتكيغوان” تحت عنوان : code da vinci, l’enquête ، أول تفكيك لرواية الكاتب الأمريكي “دان براون”، الذائعة الصيت. بعد، هذه الدراسات عن الدين والفلسفة، فقد باع داخل فرنسا أكثر من 100 ألف نسخة، كما عرفت رواياته نجاحا متزايدا في الخارج.

بيد أن هذه التجربة المتميزة، تبقى الشجرة التي تخفي الغابة : حين يتعلق الأمر، بأدباء آخرين يفتقدون لأي مقام ورؤية، أو أقساط مالية تحت الحساب، أو موارد. داخل

فريديريك لونوار
فريديريك لونوار

فرنسا، الأدباء الذين يؤمّنون دخلا بالاعتماد على أقلامهم، يشكلون أقلية طفيفة، وسيكون مجازفة بهذا الخصوص إعطاء أرقام مضبوطة. لكن، يبقى مؤكدا، أنه : “قياسا إلى عدد الكتب الصادرة [60 ألف من بينها 35 ألف عنوان جديد]، فقليل جدا المؤلفون، الذين يجدون موردا في قلمهم، لكن مع ذلك، مستواهم المعيشي جيد جدا”، يلاحظ الناشر جيل كوهن سولال.

على امتداد عشرين سنة، استطاعت العناوين الرائجة في السوق، تعميق المسافات، انطلاقا من روائيات مشهورات : أنّا غلفالدا، فريد فارغاس، أميلي نوتومب، موريل باربيري، .. وانضمت إليهن حاليا كاترين بانكول وصولا إلى أقل دخل عن النشر، فإن المقام الأدبي (نسترجع هنا عنوان دراسة للسوسيولوجي “بيرنار لاهير” حول الموضوع، صدر سنة 2006 عن منشورات “la découverte “) مختلف جدا.

اتسعت الهوة، بين كتّاب مغمورين، لازالوا عند حدود مستوى للبيع، لا يتجاوز بالكاد ثلاث ألف نسخة منذ عشر سنوات، وإن لامسوا بصعوبة اليوم رقم أربعة ألف. يقابلهم، في الجهة الأخرى، روائيون استطاعت عناوينهم تجاوز ثلاثين ألف نسخة، وضع يشكل العتبة التي تمنح الأدباء إمكانية، أن يعيشوا في رغد بفضل إنتاجهم الأدبي.

بناء على ما أوردته مجلة « Livres Hebdo »، وتصنيفها لأفضل مبيعات سنة 2009، فقد أدرجت قائمة أربعين كاتبا فرنسيا، يتقدمهم “جون فيليب توسان” الذي باع 29ألف نسخة عن روايته : [la vérité sur marie] (منشورات مينوي)، ثم “بيير ميشون” 32 ألف نسخة، همّت روايته،[les onze] (مطبوعات فيرديي)، وقوفا عند “ماري نداي” المتوجة بجائزة غونكور لسنة 2009، والتي بلغ عملها : Trois femme puissantes (غاليمار)،346 ألف نسخة. هي معطيات، تقوم على عينات تشكل تقديرا، قد يرتفع ثانية إلى % 20.

كذلك، يجب أن يكون مسار البيع منتظما. فعلى هذا، يتوقف التماسك المالي للأدباء : ((أنا مطمئن حاليا، لوضعي المادي، لكني أخاف أن أضيع ثقة قراء أصبحوا أوفياء لي)) يعترف فريديريك لونوار. ينهض، سر النجاح على ضمان إخلاص القراء : ( فانطلاقا، من لحظة انتشار، يبدأ جمهور ما في ملاحقتك) يضيف فريديريك لونوار، الذي يعرف عما يتكلم، وهو من عانى الحرمان طيلة خمس عشرة سنة قبل نجاحاته الأولى، حينما كان يصدر مؤلفات لا يبيع منها سوى خمسة ألف عدد. لكنه ليس الوحيد. أيضا، “تاتيانا دو روزناي”، بدأ تحليقها لما أخرجت روايتها : [elle s’appelait sarah] (2007)، اقتبسها فيلم سيخرج إلى قاعات السينما يوم 13 أكتوبر. هكذا، بإمكان الصحافية السابقة، أن توفر حاليا مصاريف الحياة من خلال عائدات نتاجها الأدبي. لكن، كان عليها انتظار روايتها التاسعة، كي تقتحم الشاشة. وأضحت، تجد نفسها في مواجهة نفس أسئلة الأغنياء، كالضرائب مثلا. تقول ساخرة : ((إذا غادرت فرنسا لأسباب مالية، فسأعلن ذلك أولا على صفحات تويتر Twitter)).

نموذج آخر، بمناسبة هذا الدخول الثقافي لشهر شتنبر، حين استحضار “دانييل بيناك”، أحد مؤلفي سيناريو ألبوم مغامرات “لوكي لوك” Lucky Luke، التي ارتفع سحبها الأولي إلى 350 ألف نسخة. ومنذ نجاح رواية [ Des aventures de la famille Malaussène]، ثم بلوغه القمة مع عمله، [ la Petite marchande de prose] (غاليمار 1989)، فقد تحول التلميذ الطائش سابقا، إلى كاتب يراكم النجاحات، عبر كل ما يصدره : رواية ، قصص مرسومة، أو دراسة، كما هو الحال مع [Chagrin d’école] (غاليمار)، مكنته سنة 2007 من الحصول على جائزة « Renaudot ».

إذن، ينتمي هؤلاء الأدباء الذين يساوي توقيعهم ذهبا، إلى حلقة منغلقة وصغيرة جدا : نجد على رأس هذه المجموعة المعدودة من المحظوظين، مارك ليفي، والذي لامست أصداؤه في الموقع الإلكتروني : [Un français des ventes] رقما إجماليا بلغ 80,6 مليون أورو، خلال شهر نوفمبر 2008، بعد حساب كل المبيعات وكذا تراكم الحقوق الفرعية (ترجمة، كتاب الجيب، ندوة، سينما)لمؤلفاته مابين 2005 و 2008. داخل هذا النادي الصغير، نقف طبعا على “غيوم ميسو” و”بيرنار فيربير”، الأول 35 مليون أورو، والثاني 33 مليون أورو، وإلى جانبهما نجد، “أنّا غفالدا” و “فريد فرغاس”، و”إيريك إيمانويل شميت” و “جان كريستوف غرانجي” و “فريديريك بيغبيدير” و “ميشيل هولبيك” ثم يقترب منهم أيضا “أوديرزو” أو”زيب” مبدع فكرة « Titeuf ».

حقا : “يعيش الأدباء تقريبا، ظروفا جيدة، بفضل أقلامهم”، يتحدث “جان مارك روبير”، المسؤول عن دار النشر “ستوك”، والذي أصدر لمبدع اسمه “إريك أورسينا”،استطاع جني عائدات جد ثرية من رواياته. نفس الشيء، بالنسبة ل “جون لوي فورنيي” المتوج سنة 2008 بجائزة Fermina عن عمله :? [ où on va Papa]. وكذا، فيليب كلوديل، مؤلف ومخرج سينمائي. هذا الأخير، صار بوسعه التمتع بحياة مرتاحة نتيجة ما تدره عليه رواياته من أموال، منذ نجاح عمله : [des ames grises] (2003)، مع ذلك تمسك بمنصبه كمدرس “بسبب هاجس ذاتي” أكثر من “الإبقاء على إرساء في الواقع”. آخرون، أمثال “بريجيت جيرو”، لورانس تارديو” أو “جان مارك باريزيس”، يمكنهم الرهان على كتبهم، لأن حجم المبيعات تجاوز 20 ألف نسخة، ومع ذلك، فقد فضلوا بالموازاة مواصلة ممارسة مهن مساعدة. لكن القضية، ليست فقط ذات طابع مالي. بالتالي، توزع السجال، بين كُتّاب تمسكوا بعمل آخر، خارج إطار الكتابة، مقابل من فضلوا الانقطاع كليا للأدب. هكذا، أبقت “أني إيرنو” على وظيفتها التدريسية، بينما سيكون “ستيفان أوديغي” رهن إشارة التربية الوطنية، منذ خروج روايته الثانية : [fils unique] (غاليمار، 2006).

أما، الشاب “جان بابتيست ديل أمو”، وقد أصدر حديثا روايته الثانية: [le sel] (غاليمار)، فهو كاتب يعاني البطالة. يبلغ من العمر 28 سنة، ناشط اجتماعي سابقا، لكنه حاليا مقيم دائما بقصر ميديسي Médicis. يقول: “الكتابة، تحتجزك بشكل مهول”.

من ناحية ثانية، يفتقد البعض الآخر، لهذا النوع من الشعور. فإذا كان جميع الكُتاب، لا يكسبون بالضرورة نقودا. أيضا الكُتاب، الذين يستثمرون أموالا من وراء تأليفاتهم، لا يعتبرون حتما أدباء. هذا، ما ينطبق على “توني بلير”، الذي أخذ مبلغا تحت الحساب يقدر ب 5,6 مليون أورو من أجل إصدار مذكراته. وفي فرنسا، بلغت مبيعات “مذكرات” جاك شيراك، أكثر من 250 ألف نسخة، مما شكل إحدى النجاحات الكبرى للمكتبة، ودخلا ماليا يعتد به لرئيس الجمهورية السابق. كذلك، رواية : [une vie]، “لسيمون فيل”، من خلال معدل تجاوز 400 ألف نسخة، مما حقق لها شهرة واسعة سنة 2007.

حاليا، أسماء من طينة”كلود أليغر”، “جاك أتالي”، أو “لوك فيري”، قد حققت اكتفاء ماليا، والكتابة عندها مجرد نشاط ضمن أنشطة أخرى.

“الأدب والحاجة إلى المال، شيئان متعارضان”، حوار مع الكاتب “جان دورميسون”

1 ـ هل يمكننا توخي العيش من الأدب ؟

بالتأكيد، الرهان على أن نقتات مما نكتبه، فكرة سيئة لأن الكتابة هدف في ذاته. تصور الأدب، بتلك الكيفية يدفع إلى الكتابة من أجل الجمهور والمثابرة كي نجعل ما نتخيله يستجيب لانتظاره. أفضل وسيلة، لإنجاز الرداءة ! فالأدب وكذا الحاجة إلى اكتساب المال، شيئان متعارضان. أستبقي على شرط وحيد : الكتابة تحت الطلب. كتابات مأمورة، قد تكون ذات قيمة. فالأدب الكلاسيكي، ظل باستمرار موجّها. أديب، على شاكلة بول فاليري، مارس ذلك بموهبة. لكن، إذا ابتغينا الإثراء فعلينا اختيار طريق مغاير.

حاليا، قد نعد على رؤوس أصابع اليدين الكُتاب الفرنسيين، الذين يستندون إلى الأدب لتأمين حياتهم. ليس، إذن إغراء الكسب، ما يحرض الأدباء الشباب على الكتابة (فيما يخص حالتي، فقد كتبت أول نص إرضاء لفتاة) بل، لأن لديهم شغف بالكتابة حتى قبل معرفتهم بما يريدون قوله.

2 ـ كثيرون يضعون هذا الشغف في خدمة الصحافة :

الأدب والصحافة…، الصلة طبيعية جدا. في كل الأحوال، كان هيرودوت مبعوثا خاصا من اليونان إلى مصر. أما، أكيسنوفان، فقد شكلت نصوصه : [L’anabase]، و [la retraite des dix mille] مراسلات حربية. يمكن، القول بأن فولتير، كان صحافيا عبقريا، وربما لم يكن غير هذا. أما، فيكتور هيغو، الذي كان حقا شيئا آخر، فهو أيضا من نوابغ الصحافة. وزولا، عُرف أكثر، بمقالة قياسا لكل مؤلفاته. لن أتكلم، عن “مورياك” و”كيسيل” وآخرين. مع ذلك، أعتقد بأن الصحافة خطر على الكاتب. ينتمي، الصحافي إلى فريق. بينما، الكاتب مصاحب لعزلته. يبقى اليومي، أساس اهتمام الصحافي، في حين الكاتب قريب جدا من الموت. الزمان، خاصة يصنع الفارق. يتموقع الصحافي مطلقا إلى جانب زمان فوري وعابر. بينما، الكاتب يناصر بأكمله الديمومة والأبدية. مع ذلك، أحس برغبة كتّاب غير مؤهلين بعد، كي يكسبوا بسرعة المال من الصحافة، عوض انتظار افتراضي لعائدات مؤلفاتهم.

بالنسبة إلي، جاء الأمر متأخرا جدا، وبالضبط عام 1971 وقد بلغت من العمر 35 عاما، موعد أرّخ لظهور، روايتي [ la Gloire de l’empire] الذي سبق دخولي الأكاديمية الفرنسية. وتبقى حتما “فرانسواز ساغان”، الاستثناء، لأنها عن سن السابعة عشر، استطاعت أن تضمن دخلا ماديا، بروايتها :

[Bonjour Tristesse]. بانتقالنا نحو نموذج مضاد، سنصادف رسالة “هنري ميشو” إلى غاليمار. جاء فيها : ((أعهد إليكم بهاته المسودة. وسأكون ممتنا لكم، إذا حرستم على البقاء في حدود 5 آلاف نسخة)).

فقد رفض ميشو مع آخرين، صدور نصوصه في شكل كتب الجيب، نظرا لتمسكه بمبدأ اقتصار قراءتها على عدد محدود من الأفراد، وهي رغبة نادرة في أيامنا المعاصرة.

3 ـ ما هي وصيتكم إذن لكتّاب شباب، لا يزالون في البداية ؟

أوصيهم، بامتلاك حرفة، تمكنهم من توفير مصدر مادي، لكن دون أن يكرسوا لها جل وقتهم وطاقتهم ودماغهم. لذلك، أرفض الصحافة مادامت تستولي على المرء طيلة 24 ساعة كاملة. كأننا، في بورصة مما يقتضي تركيزا مفرطا. إذن، ينبغي تجنب المهن المستحوذة جدا. سائق سيارة التاكسي، قد تكون مناسبة، لا أحد يموت من الجوع، كما أنها تخلق لك مجالا للكتابة حين انتظارك قدوم زبون ما، أو العمل لدى شركات التأمين. لقد اشتغلت في اليونسكو، كسكرتير عام لهيئة صغيرة، تهتم بالفلسفة والعلوم الإنسانية. واقترحوا علي، غير ما مرة بأن أوسع مهامي أكثر داخل اليونسكو، وأتحول بالتالي إلى موظف ضمن أجهزتها، مما سيضاعف راتبي الشهري أربع مرات، لكنه وضع سيكون على حساب وقتي.

بالطبع، لا أكتب خلال ساعات العمل، بل أقوم بذلك ليلا حيث الإحساس أكثر بالسكينة والطمأنينة. فأصبحت كاتبا ليليا وكذا يوم الأحد. لكن، عندما بدأت أراهن على قلمي كي أعيش، استطعت تغيير مجرى الأشياء فأكتب طيلة اليوم، وبالأخص خلال فترة الصباح، لأن الأمر يتم بشكل أفضل.

4 ـ في لحظة ما إذن، حددتم اختيار حاسما نحو الكتابة …

وأعترف، بأن الموعد جاء متأخرا فتحت، وطأة شعور بورجوازي، بقيت منزويا في اليونسكو، لمدة ليست بالقصيرة. وأنا، أطرح على نفسي تساؤلا، يهم المورد المادي الذي يمكنني به تدبر حياتي، إذا عجزت مؤلفاتي عن تحقيق إيرادات كافية ؟ لقد كان ذلك مدعاة للسخرية. استنزفت، عشر سنوات ! كان يفترض، أن أتحلى بكثير من الشجاعة، وأكرس نفسي للأدب، بشكل مطلق.

 

 


 [*] – le monde : Mardi 7 Septembre 2010.