مجلة حكمة
اضطرابات أمريكا اللاتينية: ثلاث أساطير - موسى نعيم / ترجمة: عبد الخالق مفكير

اضطرابات أمريكا اللاتينية: ثلاث أساطير – موسى نعيم / ترجمة: عبد الخالق مفكير


“لم تول وجهها شطر اليمين ولم تودع الشعبوية، فضلا عن أن مكافحة الفساد ما زالت تنطوي على كثير من العمل التطوعي”.

لا يفسر العالم ما يقع في أمريكا اللاتينية بشكل صحيح. وتحديدا، انتشرت ثلاث أفكار، التي رغم أنها تنطوي على جانب من الحقيقة، إلا أنها لا تعكس كما ينبغي ما يحدث في هذه الجهة من العالم.

  1. نبذت أمريكا اللاتينية اليسار وولت وجهها شطر اليمين. غير صحيح. لم يشهد الناخبون اللاتينيون تحولا إيديولوجيا، بل خيبة اقتصادية عميقة. لقد اعتمدت الحكومات اليسارية التي حكمت أمريكا اللاتينية منذ بداية القرن العشرين على الأموال التي كانت توفرها الأسعار العالمية للمواد الأولية المُصَدَّرة لتحفيز الاستهلاك بشكل كبير. وأكسبها هذا الأمر شعبية كبيرة. لكن، بعد انهيار أسعار الصادرات، ومعه قدرة الدولة على المضي في تمويل الاستهلاك، انهار الدعم الشعبي لهؤلاء الحكام. وغادرت أسرة كيرشنر السلطة في الأرجنتين بعدما خسر مرشحها الانتخابات. وفي البرازيل، توجد ديلما روسيف خارج السلطة، في الوقت الذي فقد فيه لولا مصداقيته. وفي فنزويلا، يترأس خليفة تشافيز كارثة اقتصادية وسياسية غير مسبوقة. وفي بيرو، سيصير رجل الأعمال، بيدرو بابلو كوزينسكي، الرئيس القادم. وفي بوليفيا، خسر الرئيس، إيفو موراليس، عند محاولته تعديل الدستور للترشح لولاية رئاسية جديدة. لكن هذه النخب السياسية اليسارية، التي أبعدت حاليا، لن تبق خارج السلطة إلى الأبد. وستكون إصلاحات السياسة الاقتصادية التي ستجد حكومات أمريكا اللاتينية الجديدة نفسها مجبرة على القيام بها غير شعبية، وستخلق بالتالي فرصا للسياسيين القادرين على استثمار الحنين للزمن الجميل مع شافيز وكيرشنر ولولا.

  2. الشعبوية قد انتهت. لا. لن ينتهي أبدا ميل السياسيين لإسماع الناخبين ما يريد هؤلاء سماعه. إنها ممارسة اليساريين واليمينيين على حد سواء، علمانيين ومتدينين، خضر وصناعيين. لا يمكن لأي سياسي أن يمنح لنفسه رفاه احتقار هذه الممارسة، ولهذا توجد الشعبوية في جميع الجهات، من الولايات المتحدة الأمريكية إلى جنوب إفريقيا. تصير الشعبوية مشكلة عندما يفقد الساسة أي وازع عن اقتراح ما يدركون أنهم لن يستطيعوا تحقيقه، أو الترويج لسياسات مغرية، تكون سامة في الواقع، أو إطلاق سياسات تقسم المجتمع. وبطبيعة الحال، ثمة مشكلة أكبر من عدم نزاهة بعض السياسيين الشعبويين، هي سذاجة ملايين من الأتباع الذين يصدقون أكاذيبهم المغرية.

إن الرفاه الاقتصادي الذي عاشته أمريكا اللاتينية مطلع هذا القرن أتاح للشعبوية “المعهودة” أن تصير “شعبوية خارقة”، بلغت مستويات غير مسبوقة مع فنزويلا تشافيز وأرجنتين كيرشنر. لقد انتهت هذه الشعبوية المنفلتة من عقالها. ليس لأن الناس ما عادوا يصدقون الأفكار السيئة لكنها مغرية التي يروج لها الشعبويون، بل لأنه لم يعد ثمة المال لتمويلها. وهكذا، ستعود الشعبوية “العادية”.

3) أمريكا اللاتينية بدورها تحارب الفساد. هذه الفكرة صحيحة جزئيا. لكن… لاشك في أن العزل السياسي للرئيسة البرازيلية له صلة كبيرة بفضيحة الفساد الهائلة التي وقعت خلال ولايتها وولاية سلفها، لولا دا سيلفا. كما عُزل رئيس غواتيمالا أيضا ويقبع اليوم في السجن متهما بالفساد. وفي المكسيك، تجد حكومة إنريكي بينيا نييتو نفسها ضعيفة جدا بسبب الفضائح التي تورط فيها  أبرز قادتها. كما وجدت ميشيل باشليت في الشيلي نفسها متأثرة بفضيحة الفساد التي تورط فيها ابنها وكنيتها. وفي الأرجنتين، تواجه الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر وأشخاص مقربون منها تهما خطيرة.

أصبحت المسيرات الاحتجاجية ضد الفساد شائعة في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية. وشكل الرفض الشعبي للفساد دعما للأبطال الجدد الذي يحدثون الفرق في هذه المعركة: قضاة ونواب عامون شجعان، يواجهون الفاسدين بنجاح، ويشمل الأمر أولئك الذين كانوا يبدون غير قابلين للمس بسبب سلطتهم السياسية أو الاقتصادية.

إن هذا التشدد الجديد مع الفساد هو موضع ترحيب، الأمر نفسه ينطبق على نجاح القضاة “صائدو الفاسدين”. لكن يجب اتخاذ الحيطة. لا ينبغي أن تتوقف مكافحة الفساد على حسن النية أو شجاعة بعض الأفراد، بل على وجود مؤسسات وقواعد لا تحارب الفساد وتضع حدا للإفلات من العقاب، وتزيد من الشفافية في الإجراءات الحكومية، وتنشر الميزانيات العامة على شبكة الإنترنيت، و تتيح لجميع المواطنين الاطلاع على كيفية إنفاق المال العام، وتقليص عدد القرارات التقديرية التي يمكن أن يتخذها الموظفون العموميون، ووضع إطار قانوني فعال وموثوق به، كل هذه أمثلة أكثر جدية لمحاربة الفساد من الرهان على ظهور رئيس نزيه أو قاض شجاع.