مجلة حكمة

ازدهار علم الكلام في الإسلام – جوزف فان أس

مراجعة: رضوان السيد


لا بد من ملاحظتين قبل الخوض في تلخيص الكتاب الجديد هذا. فعلم الكلام هو الذي صار يُسمَّى لدى العرب والمسلمين اليومَ علم أصول الدين أو علم التوحيد أو علم العقيدة. ويُسمّيه المسيحيون (اللاهوت) كما هو معروف. وإنما سُمّي لدى المسلمين قديماً علم الكلام لأحد ثلاثة أسباب: أهمية مبحث (كلام الله) (القرآن) في ذلك العلم بحيث أُطلق الجزءُ على الكُلّ. أو لأنّ الكلام والجَدَل والأخذ والردّ هو الأُسلوب أو المنهجُ المتَّبَعُ فيه. أو تأثُّراً بالنصارى في القرن الثامن الميلادي والذين كان جوهر مباحثهم اللاهوتية: تَجَسُّد المسيح وفداؤه للبشرية. والمصطَلَحُ الذي يطلقونه على هذه العملية: الـ(Logos) أي الكلمة، وهي المفردُ الذي يبدأ به إنجيل يوحنّا: (في البدء كان الكلمة، وكان الكلمةُ الله) فعلم اللاهوتُ عندهم هو علمُ اللوغوس أو الكلمة، وقد يكون المسلمون قلّدوهم وترجموا الكلمة إلى الكلام وسمَّوا به علم العقائد هذا، رغم اختلاف مضامين هذا العلم بين المسيحيين والمسلمين.

والملاحظة الثانية أن مؤلَّف هذا الكتاب الصغير يوسف فان أس، أستاذ ألماني كبير، يعملُ منذ أربعين سنةً وأكثر في مجال علم الكلام الإسلامي أو فلسفة الدين الإسلامي. وقد انتهى قبل عشر سنوات من كتابة موسوعة في خمسة مجلدات عنوانها: (علم الكلام والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة)، وكعادة كلّ العلماء الكبار يعودون فيلخّصون كتبهم الضخمة في جزءٍ أو جزأين، لتَسْهُيلَ قراءةُ أفكارهم الرئيسية على مَنْ لا يهتمون بالتفاصيل؛ ولذا فإنّ فان أس كتب هذا الكتاب الصغير في جزءٍ واحدٍ ليكونَ بمثابة تقديمٍ لموسوعة الكلامية (ترجم هذا الكتاب عن الألمانية منذ عامٍ بإشرافي ومراجعتي، وسيصدر خلال العام 2009م)، يلخّص موضوعاتها الرئيسة.

يوسف فان أس منحازٌ للمدرسة المعتزلية، لكنه في موسوعته وتقديمه هذا يتعرض لكلّ الاتجاهات الكلامية. والواقع أنه يرسمُ هنا حدود علم اللاهوت أو علم الكلام أو علم أصول الدين بعد التمهيد في خمسة فصول: المتكلمون في نَظَر أنفُسِهِمْ: الخلافات والزندقة في الإسلام – والكلام والقرآن: معراج النبي والنقاش بشأن التجسيم – والكلام والعلم:

الذَريّة المعتزلية – والكلام والواقع الإنساني: الصُوَر التاريخية والأفكار السياسية – ومبادئ علم الكلام: التأويل والمعرفة.

في صفحات التقديم ينبّه المؤلّف إلى أنَّ الاهتمام اليوم منصبٌّ على الأصولية الإسلامية، وما كان الأمر كذلك قبل مدة في الغرب كما في الشرق. لكنّ علم الكلام الإسلامي فقد حظوظَهُ لدى المسلمين أنفُسِهِمْ قبل قرونٍ طويلة، تقدَّمَ عليه الفقه، وما بقي من اهتمامات سيطرت فيها الأشعرية السنية. وجاء الحنابلةُ وبعدها الوهّابية فَحَرَّموا (الكلام العقائديَّ) كلَّه. إنما ما نتحدث عنه هنا ينصبٌّ على القرون الثاني والثالث والرابع للهجرة. وفي الثاني والثالث ظهر المتكلمون المعتزلية وسيطروا، وأثاروا مشكلاتٍ وحقّقوا أهدافاً، وحدَّدوا حدوداً، ونافسوا فلاسفةَ الإسلام الأوائل (الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد). لكنهم أخطأوا في الانحياز للسلطة فيما يُعرفُ بأحداث المحنة، والتي حاول خلالها الخليفة المأمون أن يفرض عقيدةً معيَّنةً على العلماء والعامة. ولذلك فقد أَعرض عنهم الناس، وفقدوا بالتدريج أهميتهم ودورَهم. فلنَسْتَعرِضْ البحث اللاهوتي في فترة ازدهار في القرنين الثاني والثالث للهجرة (الثامن والتاسع للميلاد).

الفصل الأول: المتكلمون كما يرون أنُفَسهم، الاختلاف والزندقة في الإسلام. يذكّر المؤلف بمسائل لتكفير لدى المسلمين اليوم: كيف فَرِّق القضاء بين نصر حامد أبو زيد وامرأته، ثم أولئك الذين سمِّوا أنفسهم بالتكفير والهجرة من المتشددين المسلمين الذين كفَّروا كلَّ الآخرين وهجروهم أو هاجروا من بينهم تشبُّهاً بهجرة النبي من مكة. ويعود فان أس إلى العصور الوسطى الإسلامية فيقول إنّ التكفير كان شائعاً أيضاً بين المعتزلة العقلانيين. فأبو هاشم الجبُاّئي كفِّر أباه، وأُخت أبي هاشم كفِّرت أخاها وأباها! وأبو حيان التوحيدي (أديبٌ من القرن الرابع) يذكر ذلك بأسى، ويصرخ: متى سينتهي هذا الأمر بين هؤلاء الناس الأفاضل؟!

الابتداع أو الكفر (بالله أو بالأعراف الدينية التي عليها إجماع) يُسمّى هَرسَي (heresy)، وهي كلمة إغريقية كانت تعني (اختيار)، وأعطاها آباءُ الكنيسة الأوائل (في القرنين الثاني والثالث بعد المسيح) الجانب السلبيَّ عندما اعتبروا أنّ المخالفين لهم إنما اختاروا (خياراً) خاطئاً، أو كما يمكن أن يقول المسلمون تبعاً للقرآن: اتبعوا أهواءَهم (من الهوى)! والهوى هذا يمكن أن يتمثّل في ترك العقيدة أو بعض بنودها التي اتفق عليها اللاهوتيون، وفاعلُ ذلك يمكن أن يُسمَّى أبوستات أو مُرتد، أي تارك للعهد والعقد مع الله. والواقع أنّ هذه الأمور مسيحية بحتة وليست موجودةً في الأصل لدى اليهود والمسلمين، ومع ذلك فقد وجُدت بينهم الاتهامات بالكفر وبالارتداد. ليس في الإسلام طبقة من رجال الدين هي التي تملكُ (الخَلاص) أو تدُيرُهُ، وتُدخلُ فيه أو تخرجُ منه. كما أنه ليست في الإسلام بنود اعتقادية ينبغي الالتزامُ بها، شأن ما هو في العقيدة المسيحية (قانون إيمان). في الإسلام الشهادتان، والإيمان بالله الواحد والنبوات واليوم الآخر، هكذا بشكل عام. لكنّ النقاشين الأول والثاني (واللذين تسبّبا في الظهور علم الكلام) دارا حول الإيمان بالذات. المسلمون أمةٌ واحدةٌ متآخية كما في القرآن، وقد حققوا انتصارات مُذْهلة في العالَم خلال القرنين السابع والثامن للميلاد. لكنهم اختلفوا ودارت بينهم فتنٌ وحروبٌ، فهؤلاء المتحاربون (عثمان وخصومه وعلي ومعاوية) وكلهم من أصحاب النبي الكبار، هل بقوا جميعاً مؤمنين وناجين رغم أنَّ بعضَهم قَتَل البعضَ الآخر؟ وبالتالي ما علاقةُ الإيمان بالعمل؟ على ذلك اختلف واصل بن عطاء مؤسِّس الاعتزال مع شيخه الحسن البصري، أي على إيمان أو عدم إيمان (مرتكب الكبيرة) كبيرة القتل لمؤمنٍ آخر. أمّا المسألة الثانية التي جرى التكقير على أساسٍ منها فهي: القضاءُ والقدر، أو ما هي طبيعةُ علاقة الله بالإنسان؟ مَنْ المسؤول عن أفعال الإنسان، وعن ولادته؟ ما كان هناك خلافٌ كثيرٌ حول الولادة والموت (وإن يكن المعتزلة يقولون إنّ المقتول ميتٌ بغير أَجَلِه)، لكنّ الخلاف انصبَّ على أفعال الإنسان والمسؤولية بشأنها. فإن كانت مقدَّرةً من الله، فكيف يُحاسبُهُ عليها؟ وإن كان الإنسانُ مستقلاً بها، فهذا يعني أنّ الله لا يعلمُها، وهذا قصورٌ يُنزِّهُ اللهُ عنه. الإيمانُ والقَدَر كانا إذن الموضوعين الأُولين اللذين جرى الخلاف حولهما، وهما الموضوعان اللذان تأسس عليها علم الكلام. لكنْ: هل هما مشكلتان داخليتان أم تأثر فيها المسلمون بالنصارى الذين كانوا يملكون تراثاً ضخماً من الجدال في الموضوعين السالفي الذكر. فان أس يميل إلى أنَّ التأثر إنْ كان ففي الطريقة والمنهج وليس في الموضوعات، لأنها تَرِدُ بداهةً في كل ديانات التوحيد، ولأنّ هنالك غموضاً قرآنياً بشأنها.

أما السببُ الثالثُ للتكفير غير مفهوم الإيمان، ومفهوم القضاء والقدر وحرية الإنسان؛ فهو الزندقة. وهي كلمةٌ إيرانيةُ الأصل وتعني الشرح والتفسير. وقد أطلقها الزرادشتية على دين ماني (220-274م) الذي اعتبروه ابتداعاً وشرحاً محرَّفاً لكتبهم المقدَّسة. وماني ذاته اعتبر نفسَه نبياً، وتراوح بين الإعجاب بشخصية المسيح وشخصية زرادشت. لكنه لم يخرج على مبدأ الثنُائية الإيرانية القديمة: الخير والشر، وأنّ لكل منهما جوهراً ومبدأ، وهما في حالة صراع إلى أن ينتصر الخير في النهاية (أهورامزدا ضد أهرِمَنْ). ماني صعَّبَ انتصار الخير، وقال بالاختلاط بين الظلام والنور، أو أنّ الظلام (المادّة) الكثيف يهُاجم النور ويتداخَلُ معه، ولا بد لتخليص النور من الظلام (الروح من الجسد في الإنسان) من احتقار الجَسَد بالصوم وتقليل الطعام والبُعد عن الدنيويات (ومنها أكل اللحم وذبح الحيوان)، والانصراف إلى التبتُّل. والطريف أنّ هذا المذهب أو الدين نجح نجاحاً باهراً منذ المسيحية في القرون الأولى. ثم إنه فيما يبدو اخترق جهاز الكُتَّاب ذوي الأصل الإيراني في إدارة الدولة الإسلامية والماغوية لا يؤمنون أبداً بنبوة محمد. وقد أنشأ المهدي العباسي (الخليفة العباسي الثالث) ديواناً لمكافحة الزندقة. وكانت هذه التهمة خاصةً بالمانوية، ثم صارت تُطلقُ على كل المنحرفين في نظر المتكلمين أو الفقهاء أو السُلُطات. والسببُ الرابعُ والأخير للتكفير هو الصراعُ بين الفِرَق وبداخل الفِرَق، مثلما حصل ويحصُل بين السنة والشيعة. ويعتقدُ فان أس أنَّ أَوَّلَ مَنْ كفَّرَهُمُ الخوارج المتطرفون الذين اعتقدوا أنهم على الدين الحق وحدهم.

الفصل الثاني يخوض المؤلّف فان أس فيه في موضوع (تنزيه الله). ويعتبر ذلك المشكلة الثالثة في الأهمية في علم الكلام المبكّر لدى المعتزلة بعد الإيمان والقَدرَ. وهو يذكر حديث المعراج الذي عُرج فيه بالنبي إلى نتيجة مؤدَّاها أنّ المسلمين الأوائل فهموا أنَّ النبيَّ رأى الله –سبحانه- في المعراج: ﴿لقد رأى من آيات ربِّه الكبرى﴾. والرؤيةُ تعني أنّ الله –سبحانه- ذاتاً لا كالذوات، ولا تُحيطُ به الأبصار الإنسانيةُ المحدودة: (لا تُدركهُ الأبصار). وقد دار صراعٌ عنيفٌ بين المعتزلة والمحدِّثين استمرَّ عشرات العقود، وانتهى بفوز الاتجاه الذي يقول إنّ الله –سبحانه- لا يمكنُ تجسيمُهُ ولا تشبيهُ الإنسان أو أي كائنٍ آخر به. في حين روى المحدِّثون (وبخاصة الحنابلة) أحاديث تُشعر كلُّها بالتشبيه أو التجسيم. وعندما ظهرت الأشعرية السنية وافقت المعتزلة في التنزيه، لكنها قالت إنّ رؤية الله بالأبصار جائزةٌ يوم القيامة وليس في هذه الدنيا: (وجوهٌ يومئذ ناضرَة، إلى ربِّها ناظرة)

في الفصل الثالث يدرس فان أس الفلسفة الطبيعِّة لدى المعتزلة، أو كيف تَحدَّد العالَم الطبيعي في نظرهم. في القرن الثامن الميلادي ما كان المسلمون يعرفون الكثير عن الفلسفة اليونانية والهندية. لكنهم كانوا يعرفون أنّ أرسطو يقول إنّ العالم قديم مثل المبدأ الأول أو الله لدى المسلمين، وإنما انتقل العالم (الطبيعة) من القوة إلى الفعل بأنَّ المبدأ الأول أو المحرَّك الأول حَرَََََّكه. وقد تبنَّى هذا الرأيَ أو التوجُّه النظري الفلاسفة منذ الكندي، وحاولوا الاحتيال عليه حتى لا يتهمهم المسلمون بالخروج على الإسلام؛ لأنَّ القرآن يقول بوضوح إنّ الله أوجد العالَمَ من العَدَم. المتكلمون الذين كانوا مفتونين بالمعلِّم الأول (أرسطو) باستثناء النظّام (من الجيل الرابع من المعتزلة) ما استطاعوا الأَخْذَ برأْيه في أصل الطبيعة والعالم. بل لجأوا لبعض التوجهات التي كانت تُعارضُ أرسطو مثل ديمقريطس وهيرقليطس وابيقور؛ وأضافوا إليها بعض الأشياء لتتلاءمَ مع الإسلام أكثر. الذي أخذوا به نظرية الذَرّية أو الجوهر أو الجزء الذي لا يتجزّأ. فالعالَمُ بحسَبهم إذا تجزَّأَ يصل إلى جُزيءٍ صغير لا يتجزأ. ومن المفروض أنّ الله أوجد هذا الجوهر أو الجزء من العدم، والبقية أتت من طرائق تراكُب الذرّات، والتولُّد أولُ مَنْ قال بذلك من المتكلّمين أبو الهُذيل العلاّف (مطالع القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي)، وناقضَهُ تلميذُهُ أبو إسحاق النظّام الذي قال بالطَفْرة، أي وُجد العالَم كما هو بطريقة البيغ بانغ تقريباً. لكنّ كل المتكلمين، حتى أعداء المعتزلة من الأشاعرة أخذوا بالنظرية الذَرّيّة. وطوال ثلاثة قرون كانت هناك تأملات كثيرة حول تركيب الذرّة، وهل تتركب الأجسام من ست أو أربع أو ثمان ذرْات؟ ثم كيف كان الإيجادُ من العَدَم بفعل (كُنْ) الإلهي أو أنّ للعَدَمِ وجوداً من نوعٍ ما للتقارب مع أرسطو في وجود العالمَ بالقوة..الخ.

في الفصل الرابع بعنوان: علم الكلام والواقع الإنساني، الصُوَر التاريخية والأفكار السياسية، يعالج فان أس المسائل السياسية من وجهة نظر اللاهوتيين، الذين يبدون غُرباء عن الواقع بعض الشيء. يذهب المؤلّف إلى أنّ المعتزلة بنوا أفكارَهم السياسية من حول أُطروحة: الراشدين الأربعة. وهو يذهب إلى أنّ تلك الأُطروحة ما سادت إلاّ في النصف الأول من القرن الثالث الهجري (200-250هـ). صحيح أنه كان بين مبادئ المعتزلة الخمسة مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنْ يبدو أنهم لم يمارسوه إلاّ مرة واحدةً عندما دعموا يزيدَ بن الوليد ضدَّّ ابن عمّه الخليفة الوليد بن يزيد. وبالفعل بعد أن قُتل الوليد، صعد يزيدَ بن الوليد على المنبر وقال إنه مستعدٌ للتنازل عن السلطة إن رأت الأكثريةُ ذلك. وفيما عدا تلك الحادثة لا نرى تدخلاً للمعتزلة في المسائل السياسية بشكل مباشر. لكنْ عندما مات هارون الرشيد واستخلف ابنيه الأمين والمأمون، نشِب الصراعُ بينهما. وقتلت جيوش المأمون أخاه الأمين عام 198هـ. ولأنَّ المأمون كان في مرو بخراسان، فقد بقيت بغداد بدون سلطان لمدة ست سنوات 198-204هـ.

وخلال تلك الفترة قام الناس بزعامة رجل اسمه سهل بن سلامة يبدو أنه كان ذا ميولٍ معتزلية، فنظّموا سلطةً شعبية للحفاظ على الأمن، وتأمين معيشة الناس. وظهرت حينها أفكار كلامية وفقهية بشأن السلطة والخلافة ماهيتها وأدوارها. وبرز أمثال ضرار بن عمرو الغطفاني وأبو بكر الأصمّ والعلاّف والنظّام وبشْر المريسي. من هؤلاء مَنْ رأى أنه لا مصلحة في بقاء السلطة في قريش، ومنهم من اشترط الإجماع لشرعية السلطة، ومنهم مَنْ رأى أنه (إذا تكافَّ الناس عن التظالُم استغنَوا عن السلطان). ووصل المأمون إلى عاصمته عام 204هـ وكان صديقاً للمعتزلة والعلماء، لكنه لم يُعطهم أيَّ دورٍ في السلطة أو الإدارة. وقد أحبَّ المأمون المثقف أن يربي الناس، وأن يصطنعَ لنفسه صورة الحاكم المثالي الذي يعرفُ مصلحةَ الرعية أكثر منها. وسار بعضُ المعتزلة في ركابه حتى عندما أراد أن يفرضَ على الناس القولَ بخلْق القرآن. لكنْ حدثت ردّةُ فعلٍ لدى جماعة سُمُّوا (صوفية المعتزلة) روَّعهم انتشارُ الحرام في كل ناحية، وأرادوا الابتعادَ عن السلطة وحتى عن بغداد. وهؤلاء عادوا للسلوك الزاهد والمثالي لعمر بن الخطّاب. وكانت لدى المأمون ميول شيعية ومعتزلية. لكنّ عهدَه انتهى بالإعراض عن الطرفين. وبعد قليل في عهد المتوكّل ابن أخيه المعتصم، ما عادت السلطة ترى ضرورة التدخل في عقائد الناس وتوجُّهاتهم. تركت للفقهاء المسائل التشريعية والقضائية، وأبعدتْهم عن الأُمور السياسية والإدارية. وأُخرج المعتزلةُ من البلاط نهائياً، وفقدوا تدريجياً الاهتمام بالشؤون العامة. وبخاصةٍ أنّ الفلاسفة دخلوا على المشهد، وراحوا منذ أيام الفارابي يرسمون صُوَراً ونماذجَ أُخرى للسلطة المثالية، بخلاف نماذج المعتزلة، وبخلاف نموذج الفقهاء. وجرت تطوراتٌ أخرى تمثّلت في ظهور تفرقة بين الشرعية والقوة. إذ مع البويهيين والسلاجقة ضعُف الخلفاء الشرعيون، وتركّزت القوةُ في أيدي السلاطين. وما عاد هناك مكانٌ لتأملات المعتزلة، الذين انصرفوا للموضوعات اللاهوتية والطبيعية شأن النظرية الذَريّة السالفة الذكر.

وفي الفصل الخامس والأخير من الكتاب بعنوان: التأويل والمعرفة. بدأ المؤلِّفُ هذا الفصل بنظرية واصل بن عطاء مؤسِّس الاعتزال في المعرفة، إذ قال: الحقُّ يُعرفُ من وجوهٍ أربعة: كتاب ناطق، وخبر مجتَمَع عليه، وحُجّة عقل، وإجماع. وقد افترض فان أس أنّ الأصلين: الكتاب الناطق، وحجة العقل، هما الأساسان اللذان كان عليهما إجماع لدى المعتزلة وأنَّ الواصلَ بينهما آلية التأويل. وراحوا يتجادلون في الأصلين الآخَرَين: الخبر المجتمع عليه، والإجماع.

تدخَّلَ الإمام الشافعي (-204هـ) فاعتبر الخَبَر هو السُنة النبوية، وراح يضعُ لها آليات لا تشترط الاجتماعَ عليها، بل يكفي فيها خَبَرُ الواحد الثقة في الإسناد إلى النبي: تابعي – صحابي – الرسول –صلى الله عليه وسلم-. واعتبر الإجماعَ عملياً من لواحق الأصلين: الكتاب والسنة. أما المعتزلة فاختلفوا اختلافاً شديداً طوالَ النصف الأول من القرن الثالث الهجري. فمنهم مَنْ أنكر السنة كلَّها، ومنهم مَنْ لم يعترف إلاّ بما اعترف به واصل: الخَبَر المتواتر. والذين أنكروا السنة أو قلَّلوا من شأنِها لجأوا إلى الإجماع أو أنكروا الإجماعَ أيضاً وأبقوا على مرجعيتي الكتاب والعقل. ومن هؤلاء الراديكاليين كان النظّام (-232هـ). ووقتَها ظهر صوفيةُ المعتزلة الذين قلّلوا من شأن العقل أيضاً، ودعَوا إلى التقليل من الجدال، ومن الاقتراب من السلطة. وفي النصف الثاني من القرن الثالث الهجري ظهرت نزعاتٌ نقديةٌ في أوساط المعتزلة وبالذات بعد إبعادهم من البلاط. صاروا يفرّقون بين الاستدلال (البرهان) وبين القياس (الجزئي المستعمل في الفقه بحسب إدراك الشافعي).

كتاب فان أس هذا كتابٌ مهمٌّ لكنْ له حدود. فهو تقديمٌ وتلخيص لكتابه الكبير في علم الكلام المعتزلي. والرجل بارعٌ في التحليل، لكنه ليس بارعاً في التركيب. ولا يمكن تلخيصُ 4000 صفحة في مائتي صفحة من الحجم الصغير. وقد بدا الضعف بوضوح في فصلهن السياسي (الرابع) فهؤلاء المتكلمون بعقليتهم اللاهوتية تناولوا حتى الشؤون العامة من وجهة نظر لاهوتية. وبذلك فقد كانت مباحثُ الإمامة عندهم فرعاً على تأمُّلاتهم في موضوعي الإيمان والقَدَر. وقد تأثر المبحثان طبعاً بما حدث من خلافات في عهد الراشدين الأربعة. لكنّ صورة الراشدين ما كانت أصلَ مباحثهم السياسية. وما نجح المؤلِّف في أمرٍ آخَر وهو الربطُ بين علم الكلام لدى المعتزلة ومباحثهم في أُصول الفقه وأُصول الُّلغة. والمعروف أنّ للمعتزلة إسهامات كبيرة في علم المنطق والتفلسف أيضاً، وهذا لم يظهرْ أيضاً في مقدمة فان أس. لكنّ الواقع أنّ الكتاب أظهر جوهر علم الكلام، والحدود التي أوصل إليها هذا العلم، وهذا ليس بالشيء القليل.