مجلة حكمة
ابن رشد واختلاف الفقهاء – رضوان السيد

ابن رشد واختلاف الفقهاء – رضوان السيد

د. رضوان السيد
د. رضوان السيد ابن رشد

I

يذكر ابن رشد في تمهيده لبداية المجتهد الغرضَ من تأليفه له فيقول: (.. إنّ غرضي في هذا الكتاب أن أُثبت فيه لنفسي على جهة التذكرة مثن مسائل الأحكام المتفق عليها والمختلف فيها بأدلّتها، والتنبيه على نُكَت الخلاف فيها – ما يجري مجرى الأصول والقواعد؛ لما عسى أن يَرِدَ على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشرع. وهذه المسائل في الأكثر هي المسائلُ المنطوقُ بها في الشرع، أو تتعلق بالمنطوق به تعلقاً قريباً – وهي المسائلُ التي وقع الاتفاق عليها، أو اشتهر الخلافُ فيها بين الفقهاء الإسلاميين من لدُنِ الصحابة -رضي الله عنهم-، إلى أن فشا التقليد)(1).

وظيفة فنّ (اختلاف الفقهاء) إذن استعراض المسائل المختلف فيها بين مشاهير المجتهدين، وكذا المسائل المتفق عليها فيما بينهم، وذلك على سبيل المقارنة والمعارضة من أجل التدرُّب والاستعداد لبلوغ رتبة الاجتهاد(22). فرتبة الاجتهاد تقتضي نظراً في المسائل المسكوت عنها؛ وذلك ما لا يقدرُ عليه المتفقّه إلاّ إذا كان قد عرف آراء الفقهاء ومناهجَهم في الاتفاق والاختلاف؛ وفي الاختلاف على الخصوص أكثر مما هو في حالات الاتفاق(3).

ويعني ذلك من ضمن ما يعنيه أنّ ابن رشد يمسك هنا بطرف الخيط من جهتين: جهة تاريخ الفقه، وظهور مجتهديه ومذاهبه، وجهة فنون الأدلّة والمناهج. وقد عبَّر عن المسألة الأولى ضمناً عندما اعتبر استعراضَ آراء الفقهاء والمجتهدين إعداداً ضرورياً للمتفقّه، بينما استعرض فعلاً جوامع مسائل الخطاب الشرعي قبل أن ينصرف لاستعراض آراء الفقهاء على أبواب الفقه كما هو معروفٌ في كتب الاختلاف الأخرى في شتّى المذاهب(4).

والواقع أنَّ الإمامَ الشافعيَّ (-204هـ/819م) كان رائداً في المسألتين. ففيما يتعلق بالمسالة الأولى، وأعني بها تاريخ الفقه، وما تطور إليه من وجوه اتفاقٍ واختلاف، نجد أنّ الشافعيَّ احتفظ لنا في طوايا كتاب الأمّ بالوثائق الضرورية لتتبع ذلك ودراسته. فضمن أبواب الأمّ المختلفة حسب موضوعات الفقه نجد الوثائق التالية: كتاب اختلاف العراقيين وهو كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى (لأبي يوسف)، وكتاب اختلاف علي وعبد الله بن مسعود، وكتاب اختلاف مالك والشافعي، وكتاب جماع العلم، وكتاب إبطال الاستحسان، وكتاب الردّ على محمد بن الحسن الشيباني، وكتاب الرد على سِيَر الأوزاعي لأبي يوسف(5). ومن تفحُّص تلك الكتب أو الرسائل يتبين لنا أنّ الشافعيَّ أخذ بعضها من العراقيين من تلامذة أبي حنيفة، بينما جمع بنفسه بعضاً آخر، وقد قام بمناقشتها ونقدها تمهيداً للخروج باجتهاداته الجديدة في هذه المسائل كلّها – وقد كان من حسن الطالع بقاؤها ضمن كتاب الأم لتُطلِعَنَا على الوثائق المبكّرة في الاختلاف بين الفقهاء من جهة، وعلى طريقة الشافعي في التأليف والاجتهاد من جهةٍ ثانية(6).

أما المسألة الأخرى، والتي كان الشافعيُ رائداً فيها مما يتعلق باختلاف الفقهاء، بل باتفاقهم فتتصل بعلم الأدلّة الشرعية. فالمعروف أنَّ الشافعي الذي عرف فقه الحجازيين، وفقه العراقيين وخاض نقاشاً مع الأوائل، وجدلاً مع الأواخر، قام بعملٍ آخر قبل صياغة مذهبه القديم، بل ربما أثناء صياغته، تمثّل في تأليف كتاب الرسالة الذي قعّد فيه لعلم الأدلّة الشرعية: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس(7). وبسبب نشأة ذلك العلم في جوٍّ جداليٍّ أو خلافي؛ فقد ظهر ذلك في الرسالة مثلما ظهر في الأمّ(8).

على أنّ البيئة الخلافيّة التي تظهر لدى الشافعيّ في المستويين: مستوى الفروع والجزئيات، ومستوى مناهج الأدلة، لا يظهرُ منها لدى ابن رشد غير المستوى الأول، مستوى الفروع والجزئيات. ويرجعُ ذلك إلى المسافة الزمنية التي تفصلُ الشافعيَّ وفقهَه وخلافياته أواخر القرن الثاني الهجري، عن ابن رشد أواسط القرن السادس الهجري. فنحن نعلمُ اليوم أنّ علم الأدلّة الشرعية استقرّ إلى حدٍّ بعيدٍ منذ أواسط القرن الرابع الهجري -مع استثناءاتٍ ضئيلة-،فما عادت هناك نقاشاتٌ خلافيةٌ إلاّ على مستوى القواعد الخاصّة بكل مذهب، والخلافات الجزئية الأُخرى المتعلقة بالـدلالات اللغوية (مباحث الألفاظ)، ودلالات المفاهيم المتصلة بتنزيل النصوص على الوقائع(9). وهذا معنى ذهاب ابن رشد إلى أنّ دراسة (اختلاف الفقهاء) في عصره إنما هي دراسةٌ تدريبيةٌ، ودراسةٌ مقارنة؛ ذلك أنّ الخلفية التأصيلية كانت قد صارت واحدة: هناك اتفاقٌ على الأدلّة في سائر المذاهب، بل وهناك اتفاقٌ على أكثر القواعد التي تبلورت في ظلّ علم الأدلّة – فيكونُ على المتفقّه الذي يريد أن يخطو باتجاه الاجتهاد في المذهب أو في الفقه بشكلٍ عامٍ أن يقوم بالأمرين معاً أياً يكن مذهبه: دراسة علم الأدلّة دراسةً معمَّقةً، والاطّلاًع على القواعد اللغوية والأصولية في سائر المذاهب، وهذا كلُّهُ يدخل في باب المنطوق به. وهو الذي يمكّنُ الفقيه من الخطو باتّجاه المسكوت عنه؛ ذلك أنّ المقصودَ بالمسكوت عنه الوقائع الجديدة التي يستطيع الفقيه الطالع الذي أتْقن علوم المنطوق به أن ينظر فيها ويصلَ إلى رأيٍ أو اجتهادٍ بشأنها استناداً إلى الثقافة والتدريب.

II

اختار ابن رشد لكتابه مدخلاً مختلفاً إذا ما قارنّاه بكتب الاختلاف الأخرى في شتّى المذاهب. وأعني بالمدخل المختلف إجمالَهُ لمسائل الحكم أو الخطاب الشرعي قبل تتبُّع مسائل الاختلاف التفصيلية(10). لكنّ تجديده -إذا صحَّ التعبير- لا يقتصر على ذلك، بل إنه في كلّ بابٍ من الأبواب يبدأ بذكر جوامع الباب وأُمَّهات مسائله(111)، على أنّ الأمر الثاني هذا رغم فائدته له سببٌ خاصٌّ يتصل بالمنهج الذي حدّده لنفسه في التمهيد السالف الذكر، وسوف أعود إليه.

حدَّد ابن رشد طُرُق تلقّي الأحكام عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنها ثلاث: لفظٌ وفعلٌ وإقرار، أمّا ما سكت عنه الشارع فالجمهور بنوا فيه على القياس الذي يشهد له دليل العقل؛ لأنّ الوقائع غير متناهية والنصوص متناهية(12). ثم صنّف الألفاظ التي تُتلقّى منها الأحكام إلى أربعة، ثلاثة متفق عليها؛ وهي: عامٌّ يُحمل على عمومه، وخاصٌّ يُحمل على خصوصه، وعامٌ يُرادُ به الخصوص، أو خاصٌّ يُراد به العموم. وأما القسم الرابع من الألفاظ، المختلف فيه، فهو دليل ُالخطاب. ثم ذكر صيغ الأمر والنهي والخلاف في معناها، وقسّم الألفاظ إلى ما هو نصٌّ في معناه وما ليس كذلك بأقسامه المجمل والمشترك. ثم أجمل مباحث القياس قاصداً من وراء ذلك الردّ على الظاهرية بالتفرقة بين القياس، واللفظ الخاص الذي يُرادُ به العامّ(13).

ثم أجمل مباحث الطريقين الأخريين للحكم وهما الفعل والإقرار. واستطرد معتبراً الإجماع مستنـداً إلى إحدى الطرق الأربعة وليس أصلاً مستقلاً، وإلاّ لزم إثبات شرعٍ زائدٍ بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-. ولم ينس تصنيف المعاني المستفادة من الطرق الأربع إلى أمرٍ ونهيٍ وتخيير(14).

وقد كان يمكن الاكتفاء بذكر دليل الخطاب باعتباره ذا صلةٍ مباشرةٍ بمسائل الاختلاف دون القضايا الأخرى، لكنّ ابن رشد أراد فيما يبدو وضع دليل الخطاب في سياق مباحث الحكم. ولهذا فإنه ختم هذه المقدمة بتصنيف أسباب الاختلاف بين الفقهاء وهي عنده ستة(15): الأول: تردد الألفاظ بين تلك الطرق الأربع، أي لفظ عام يُرادُ به العامّ أو الخاصّ، ولفظ خاص أريد به الخاصّ أو العامّ، أو يكون له دليل خطاب أو لا.

والثاني: اشتراك اللفظ بأقسامه.

والثالث: اختلاف الإعراب.

والرابع: تردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز.

والخامس: إطلاق اللفظ وتقييده.

والسادس: التعارُضُ بين الأدلّة بأقسامها.

لقد ذكرتُ أنّ هذا الإجمال لعلم الأصول، ومباحث الحكم، غير مألوفٍ في مقدمات كتب الاختلاف، وقدَّرْتُ أنه ربما فعل ذلك توصـلاً لذكر (دليل الخطاب) الذي هو أهمّ أسباب الاختلاف. أما ما اعتبُر طريقةً مبتكرةً في إجمال مباحث الأصول والحكم فغيرُ مسلّمٍ إذ استعار أكثـر ذلك من (المستصفى) للغزالي، الذي وضع له مختصراً عام 552هـ قبل وضعه (بداية المجتهد) بين العامين (560 و564 هـ)(16). لكنْ تبقى له فضيلةُ إجمال أسباب الاختلاف أو حصرها في البنود الستة التي ذكرناها.

على أنّ ابن رشد لا يختلف عن زملائه وسابقيه من كتّاب الاختلاف الفقهي في هذه المسألة وحسْب؛ بل، كما سبق أن ذكرت، يبدأُ كلُّ بابٍ من أبواب الفقه بذكر جوامعه أو مسائله الهامّة وهو ما لا يفعَلُهُ الآخرون. وأرى أنّ ذلك راجعٌ للمنهج الذي ذكره في التمهيد، فهو لا يريدُ استقصاء مسائل الاختلاف، بل يريد ذكر أهمّها للتنبيه والتعليم، ولذلك فإنه بتحديده للجوامع، يكون قد حدَّد المسائل التي يريد استعراض الاختلافات فيها في كل بابٍ من أبواب الفقه. لكنْ في حين لم يذكر لنا مصدره أو مصادره في مقدمته الأصولية، واستظهرتُ أنا أنه اعتمد على (المستصفى) عمد لتحديد مصدره الرئيسي لمسائل الاختلاف في أبـواب الفقه كلّها حينما قال(177): (..وأكثر ما عوَّلْتُ عليه فيما نقلتُهُ من نسبة هذه المذاهب إلى أربابها هو كتابُ الاستذكار..). والاسم الكامل للكتاب: (الاستذكار لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار) لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البرّ (-463هـ/1070م). وهذا المصدر -كما سبق- هو المصدر الرئيسي ويعود ابن رشد إلى مصادر ثانوية أخرى كثيرة من بينها المقدّمات لابن رشد الجدّ، وكتب السنة المشهورة.

III

لا يختلف ابن رشد عن كُتّاب الاختلاف الآخرين في طرائق معالجة الموضوعات. فهو يـذكر المسألة المختلف فيها، ثم يذكر آراءَ مختلف العلماء، ودليل كلٍّ منهم. وفي أحيانٍ كثيرةٍ يقتصر الأمر على ذلك دونما ترجيحٍ لرأْيٍ على رأي. والملاحظُ أنّ الذين يُذَكَرون في غالب الأحيان هم فقهاءُ مجتـهدون بغضّ النظر عن انتمائهم المذهبي، مثل أن يقال: قال مالك كذا، وقال ابن الماجشون كذا، وقال الثوري والأوزاعي كذا، وقال الشافعي وأبو يوسف كذا. وقال أبو حنيفة وأحمد كذا(18). فالمعتبَر في الاختلاف هنا الاجتهاد أو التميز برأيٍ مستندٍ إلى دليل، وليس الانتماء إلى مذهب. فابن الماجشون فقيهٌ مالكيٌّ، لكن لأنّ له اجتهاداً مستقلاً في مسألة فإنه يُذَكرُ مستقلاً عن مالك شيخ المذهب. ولا يعني ذلك أنّ كلَّ كتب الاختلاف تفعلُ ذلك؛ ولكنّ هذا هو الأعمّ الأغلب، وهو صنيعُ ابن رشد في (بداية المجتهد). فهل يعني هذا أنَّ كتب الاختلاف الفقهي هي كتبٌ في (الفقه المقارن) شأن الدراسات الحديثة(199)؟ والجواب أنّ كتب الاختلاف تختلف عن كتب الجدل الفقهي، فكتب الجدل الفقهي تركّز على نُصرة المذهب أو الشيخ بكلّ سبيل لكنّ هذا لا يعني أنّ كُتّاب الاختلاف يتميزون جميعاً بالحياد أو هم غالباً كذلك. فابن عبد البرّ يستقصي أدلّة المذاهب كلّها في كلّ مسألة، لكنه ينتهي في 90% من الحالات إلى نُصرة مذهب الإمام مالك الذي ينتمي إليه. وكذا الأمر مثلاً لدى الطحاوي الحنفي (-321هـ/ 933م) في 80% من الحالات(20). على أنّ الطريقة الغالبة استيفاء المسائل والأدلّة دونما تعليقٍ واضح، بل يكونُ التوجيه غير مباشرٍ مثل ذكر رأْي أحد الفقهاء في آخر الباب والإطالة في الانتصار له. أمّا ابن رشد فقد تتبعتُ أكثر أبواب (بداية المجتهد) فوجدْتُ أنه يصمتُ في 60% من الحالات، ويفضّل آراء فقهاء آخرين على رأي مالك مباشرة أو موآربةً في20% من الحالات، ويوردُ آراء مستـقلةً لنفسه في 100% من الحالات. لكنه يبقى متميزاً عن كُتاّب الاختلاف الآخرين في أمرين اثنين: تحديد جوامع الباب، ورؤوس مسائل الاتفاق والاختلاف في البداية، ومحاولة التقعيد للاختلاف أو إيضاح أسبابه استناداً إلى العلل الستّ التي ذكرها في مقدمة (البداية).

وأودُّ في هذه العجالة أن أذكر مثلاً لمعالجات ابن رشد، ثم أعودُ فأدرس تمايزه أو تميّزه. ففي كتاب الزكاة، يبدأ ابن رشد هكذا(21): (المواضيع المحيطة بهذه العبادة تنحصرُ في خمس جُمَل: في معرفة من تجب عليه، وفي معرفة ما تجب فيه من الأموال، وفي معرفة كم تجب ومن كم تجب، وفي معرفة متى تجب ومتى لا تجب، وفي معرفة لمن تجب وكم يجبُ له؟ فأمّا معرفة وجوبها فمعلومٌ من الكتاب والسنة والإجماع. وأما على من تجب؟ فإنهم اتفقوا أنها على كل مسلمٍ حرٍ بالغٍ عاقلٍ مالكٍ للنصاب ملكاً تاماً. واختلفوا في وجوبها على اليتيم والمجنون والعبيد وأهل الذمة والناقص المِلْك مثل الذي عليه الدَين، ومثل المال المحبَّس الأصل…

فأمّا الصغار؛ فإنّ قوماً قالوا: تجب الزكاةُ في أموالهم؛ وبه قال عليٌّ وابن عمر وجابر وعائشة، من الصحابة. ومالك والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم من فقهاء الأمصار. وقال قومٌ: ليس في مال اليتيم صدقةٌ أصلاً؛ وبه قال النخعي والحسن وسعيد بن جبير من التابعين … الخ). ويصل ابن رشد إلى التقعيد لهذا الاختلاف فيقول: (وسببُ اختلافهم في إيجاب الزكاة عليه أو لا إيجابها هو اختلافُهُم في مفهوم الزكاة الشرعية؛ هل هي عبادةٌ كالصلاة، أم هي حقٌ واجبٌ للفقراء على الأغنياء؟ فمن قال إنها عبادةٌ اشترط فيها البلوغ. ومن قال إنها حقٌ واجبٌ للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء، لم يعتبر في ذلك بلوغاً من غيره.. الخ)(22). ثم يتابع بالنسبة لإيجاب الزكاة على أهل الذمة فيقول(23): (إنّ الأكثر أن لا زكاة على جميعهم إلاّ ماروت طائفةٌ من تضعيف الزكاة على نصارى بني تغلب، أعني أن يؤخذ منهم مثلاً ما يؤخذ من المسلمين في كل شيء؛ وممن قال بهذا القول: الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري. وليس عن مالك في ذلك قول. وإنما صار هؤلاء لهذا لأنه ثبت أنه فعلُ عمر بن الخطاب بهم؛ وكأنهم رأوا أنّ مثل هذا توقيف؛ ولكنّ الأصول تُعارضه).

إذا تأملْنا هذا النموذج، نجد أنّ ابن رشد ذكر جوامع كتاب الزكاة، ثم ذكر المواطن التي كان فيها انفاق. وأخيراً بدأ بذكر رؤوس المسائل الخلافية فذكَرَ الخلاف في تزكية أموال الصغار وبيّن أنّ أصل الخلاف لا يكمُنُ في رواية هذا الراوي للحديث المتضمّن الحكم أو عدم روايته، بل في الاختلاف في مفهوم الزكاة ووظائفها، وهي عبادةٌ أو حقٌ واجبٌ للفقراء. وانتهى في مسألة زكاة أهل الذمة إلى أنّ رأي الفقهاء القائلين بجواز أخذ الزكاة منهم مخالفٌ للأُصول، ويعني بذلك أنّ النصوص تدل على أنّ الزكاة عبادةٌ للمسلم، فلا يجوز أن يزكّي المسيحي أو اليهودي الذمي. وهكذا فإنّ هذا يعني من طرفٍ خفيٍّ أنه لا يرى فرض الزكاة على الذمّيّ رغم ما فعلهُ عمر مع نصارى بني تغلب(24).

وقد أحصى أحدُ الباحثين الحالات التي أورد فيها ابن رشد رأياً مستقلاً لنفسه فبلغت العشرين(25)؛ في المسائل التالية: الموقف من تارك الصلاة عمداً، والحكم الواجب في ضبط القبلة، وكيفية تحديد شهر رمضان، وأوصاف المسكرات، ومفهوم الجزية ومدلولها، وإسقاط الزكاة في أموال المدين، وإجازة شهادة المرأة، وحظّ المرأة من الغنيمة، ودور الإمام في قسمة الغنيمة، ومانع المرض في الزواج، وتحرر القاضي في إصدار الأحكام، وضمّ الذهب إلى الفضة لاكتمال النصاب في الزكاة، وإجازة ذبائح أهل الكتاب للمسلمين، والقدر الأدنى للمهر، وتأخير دفن الميت المصاب بانطباق العروق، وميراث الجدّ وأنه لا يحجبُ الإخوة، وجواز نكاح المرأة بغير ولي.

* * * *

بقي ابن رشد فقيهاً مالكياً بالمعنى المتعارف عليه لذلك؛ والدليل على ذلك سكوته أو موافقته لآراء مالك في أكثر الحالات. أمّا الحالات التي يختلف فيها مع المالكية فهي محدودةٌ من جهة، ثم إنها ناجمةٌ في الأغلب عن اكتشافه أنّ المالكية خالفوا قواعدهم هم. بيد أنّ الأهمّ من ذلك أنه على الرغم من حيويته الفكرية، ووضوحه المنهجي، وتقسيماته المنطقية؛ ظلَّ ملتزماً بالسُنَن والطرائق الفقهية ولم يُحدثْ قطيعةً معها(26). وأوضحُ مَثَلٍ على ذلك موقفُهُ من الظاهرية. فعلى عكس الفقهاء الآخرين يعتبر ابن رشد خلافَهم، ويُوردُ آراءهم (يعني آراء ابن حزم من المُحَلَّى)؛ لكنه يقف مع التقليد الفقهي في قضيتي الإجماع، والمسكوت عنه. فهو يرى أنَّ الاجتهاد هو بذل الجَهد في موافقة مُراد الله تعالى. ومعنى ذلك أنّ لكل واقعةٍ حكماً ظاهراً أو مسكوتاً عنه يُستنبطُ أو يُكتشفُ بالقياس؛ بخلاف قول الظاهرية إنّ المسكوت عنه لا حُكْمَ له. والأمر نفسه مع الإجماع. فالإجماع عنده مثلما هو عند الشافعي ليس دليلاً مستقلاً، بل هو من لواحق القرآن والسنة مثل القياس، أي أنه من طُرُق اكتشاف الحكم، وليس من طُرُق إنشائه(27).

لقد انطلق ابن رشد في (بداية المجتهد) كما في (فصل المقال) و (مناهج الأدلة) من قناعتين، رأى أنهما تمثلان جوهر الإسلام؛ الأولى أنّ الدين يُسْرٌ لا عُسْر – فهو دينُ رفقٍ بالإنسان، ورعايةٍ لحرماته(288). والثانية أنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما بُعث ليتمّم مكارم الأخلاق، ويُزيلَ الخلاف. أمّا وظيفة الفقيه والعالم فهي دائماً كما يقول نصاً(29): (طلب الحقّ لا إيقاع الشكوك وتحيير العقول). على أنّ (طلب الحقّ) في الأحكام الشرعية يكون بالتماس الدليل واتّباعه وحسْب؛ فإذا اقتضى الأمر اجتهاداً في المسكوت عنه فإنّ ذلك يكون عن طريق القياس، الذي هو بدوره شأنه في ذلك شأن الإجماع – كاشفٌ للحكم وليس مُنشئاً له(300). ولا شكّ أنّ ذلك ينطلق لديه من قناعةٍ عميقةٍ مؤداها أنّ حكم الشرع لا يخالف حكم العقل؛ فـ (المصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسباباً للعبادة المفروضة(31) لكن إذا حدث تناقضٌ ظاهريٌّ فالتقدمة لحكم الشرع لأنّ (مُراد الله تعالى)الذي يكشِف عنه (الاجتهاد) يقصُرُ (التعليل) عن إدراكه في كثيرٍ من الأحيان(311). ففي مسألة الولاية في عقد النكاح يوردُ ابن رشد أدلّة الأكثرية التي تشترط الوليَّ في صحة النكاح، ثم يوردُ أدلّة من لم يشترط الولاية، ويميلُ إلى ترجيحها، لكنه لا يعلّل ذلك برُشد المرأة أو مساواتها للرجل أو ما شابه؛ بل بأنه (لو قصد الشارعُ اشتراط الولاية لبيَّنَ جنس الأولياء وأصنافهم ومراتبهم؛ فإنّ تأخُّرَ البيان عن وقت الحاجة لا يجوز…)(33). وكذا الأمر في ذهابه إلى إسقاط الزكاة في مال المَدين؛ فإنه علّله بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الزكاة إنها صدقةٌ تؤخَذُ من أغنيائهم، وتُردُّ على فقرائهم)، والمَدينُ لـيس بغني(34).

فيبقى أنّ ابنَ رشد في (بداية المجتهد) نهج منهج الفقهاء ولا غير، واعتبر أنّ ضبط المنهج والانضباط به، كفيلٌ بالتصدّي للنوازل ومتغيّرات الظروف. أمّا النهج العقلي الذي سلكَهُ في معـالجة المسائل العقدية في (فصل المقال)و (مناهج الأدلّة) فمختلفٌ لقيامه على مبدأ التحسين والتقبيح العقليَّين؛ وأمّا هنا في (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) فإنّ الحسن هو ما حسَّنَه الشرع، والقبيح ما قبّحه الشرع.


الحواشي:

1- ابن رشد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد. تحقيق وتعليق ودراسة الشيخ علي محمد معوض والشيخ عادل أحمد عبد الموجود. دار الكتب العلمية ببيروت 1996م، م1، ص325.

2- قارن ببداية المجتهد، م1، ص325.

3- بداية المجتهد، م1، ص325.

4- أهمّ كتابين في الاختلاف الفقهي عند المالكية قبل (بداية المجتهد) هما: الإشراف على نُكَت الخلاف للقاضي عبد الوهّاب البغدادي المالكي (-422هـ/1030م)، والاستذكار لابن عبد البرّ (-463هـ/1070م).

5- ما تزال سائر هذه الكتب والرسائل ترد في طبعات كتاب (الأم) المختلفة. لكنّ كتابي اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، والرد على الأوزاعي، نُشرا أيضاً مستقلين بتحقيق أبو الوفا الأفغاني، بمصر عام 1357هـ.

6- قارن بمقدمة أحمد شاكر على نشرته لكتـاب الرسالة للشافعي (1940م)، وبكتاب محمد أبو زهرة: الشافعي (1968م). ويرى Norman Calder أنّ كتاب الأمّ جُمع في عصر الجيل الثاني من أجيل أتباع الشافعي؛ لكنّ مجموعات الفقه المبكّرة لم تلق في الحقيقة حتى الآن دراسةً نقدية مقارنة لمخطوطاتها وأشكال ظهورها وروايتها.

7-8- قارن بمقدمة شاكر على الرسالة، وبكتاب (جماع العلم) الموجود في (الأمّ)، والمطبوع على حدةٍ أيضاً.

9- لا يرى الدكتور مصطفى ديب البغا صاحب (أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي) – للطبعة الثانية، 1993م) هذا الرأي. لكنه يقصد بالأدلة المختلف فيها ما يُعرف بالأدلة الفرعية وهي الاستصلاح، والاستصحاب، والاستحسان، والعُرْف، ومذهب الصحابي، وإجماع أهل المدينة، وشرع من قبلنا، وسدّ الذرائع، والاستقراء. وانظر عن أثر القواعد في اختلاف الفقهاء محمد الروكي: نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء، الرباط 1994م.

10- تبدأ كتب الاختلاف عادةً بمقدمة قصيرة، أو بدون مقدمة. ولأنها من (فقه الفروع) فإنها لا تُعنى بعلم الأصول إلاّ ما يُذكَرُ عَرَضاً في الأبواب الفقهية المختلفة. وقارن بدراسةٍ عن الاختلاف الفقهي والثقافي ومعناه لطه جابر العلواني: أدب الاختلاف في الإسلام، الطبعة الرابعة، 1991م.

11- التزم ابن رشد بذلك في كلّ أبواب الكتاب، وحتى في كتاب الحج، الذي أدخله على (بداية المجتهد) بعد نيفٍ وعشرين سنة.

12- بداية المجتهد، م1، ص325.

13- بداية المجتهد، م1، ص327-328. وقارن بحسن القرواشي: المنطوق به والمسكوت عنه في فقه ابن رشد الحفيد. تونس 1993م، ص25-28، ومحمـد الواعظ الخراساني: ابن رشد الفقيه المالكي والفقه المقارن؛ في: ابن رشد الفقيه، الكويت 1995م، ص367-369.

14- بداية المجتهد، م1، ص332-335. وقارن بالقرواشي، ص36-37.

15- بداية المجتهد، م1، ص332. وقارن بالقرواشي، ص60-62، والخراساني، ص368. وقارن بسالم بن علي الثقفي: أسباب اختلاف الفقهاء، القاهرة 1996م، ص147 وما بعدها، ووهبه الزحيلي: أسباب اختلاف الفقهاء، 1999م، وعبد الله التركي: أسباب اختلاف الفقهاء، الرياض 1977م. بيد أنّ الأقرب لما ذكره ابن رشد ما ورد في دراسة محمد الروكي: نظرية التقعيد الفقهي، مرجع سابق، ص223-225.

16- قال ابن رشد في آخر كتـاب الحج (بداية المجتهد، م3 ،ص 404): (وكان الفراغ منه.. عام أربعة وثمانيين وخمسمائة، وهو جزء هذا الكتاب الذي هو نهاية كتاب) بداية المجتهد (الذي كنتُ وضعتُهُ منذ أزيد من عشرين عاماً أو نحوها..). وكان قد ذكر طبيعة اختصاره للمستصفى في خاتمته فقال: (يشبه المختصر من جهة حذف التطويل، والمخترع من جهة التتميم والتكميل)، الضروري في أصول الفقه، تحقيق جمال الدين العلوي، دار الغرب الإسلامي ببيروت 1994م، ص146.

17- بداية المجتهد، م2، ص36.

18- قارن على سبيل المثال: بداية المجتهد، م6، ص40-41.

19- الخراساني، ص363-364، ومقدمة بداية المجتهد، م1، ص318-319.

20- قارن بالطحاوي: مختصر اختلاف العلماء، 1-4، تحقيق عبد الله نذير أحمد، بيروت 1995م، م1، ص91-93. وقارن عن الجدل: مفتاح السعادة، م2، ص599، والتعريفات للجرجاني، ص66.

21- والآراء المستقلة التي يوردها قد تكون موافقةً لفقه مجتهدٍ آخر ، إنما التركيز على الاحتجاج. فعلى سبيل المثال تتوافق بعض اجتهاداته مع الحنفية أو مع بعـض الصحابة؛ لكنّ التعليلات مختـلفة؛ قارن بأبو سريع محمد عبد الهادي: اختلاف الصحابة وآثاره في الفقه الإسلامي؛ بمجلة أضواء الشريعة، الرياض 1403هـ ، العدد الرابع عشر، ص89-120.

22- بداية المجتهد، م3، ص58.

23- بداية المجتهد، م3، ص59. وعدم إيجاب الزكاة في مال اليتيم هو مذهب الحنفية؛ قارن بمحمد بن نصر المروزي: اختلاف العلماء، بيروت 1985م، ص110. وانظر عن رأي المـالية الذي خالفه ابن رشد: الإشراف للقاضي عبد الوهاب، بيروت 1999م، م1، ص388.

24- بداية المجتهد، م3، ص59.

25- بداية المجتهد، م3، ص59.

26- القرواشي، ص61-62.

27- قارن بمحمد عابد الجابري: ابن رشد، سيرةٌ وفكر، دراسةٌ ونصوص، مركز دراسات الـوحدة العربية، بيروت 1998م، ص89-92، والقرواشي، المنطوق به والمسكوت عنه، ص100-101.

28- بداية المجتهد، م1، ص328-329:(.. وليس الإجماع أصلاً مستقلاً بذاته … لأنه لو كان كذلك لكان يقتضي إثبات شرعٍ زائدٍ بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ كان لا يرجع إلى أصلٍ من الأصول المشروعة …).

29- القرواشي، مرجع سابق، ص59،65.

30- بداية المجتهد، م1، ص325-326: (وأما ما سكت عنه الشارع من الأحكام، فقال الجمهور: إنّ طرق الوقوف عليه هو القياس. وقال أهل الظاهر: القياس في الشرع باطل، وما سكت عنه الشارع فلا حكم له. ودليل العقل يشهد بثبوته …). وانظر عن ذلك، ابن رشد: الضروري في أصول الفقه (مختصر المستصفى للغزالي)، ص127-129.

31- بداية المجتهد، م1، ص393.

32- بداية المجتهد، م1، ص372.

33- بداية المجتهد، م4، ص223. وقد خرق ابن رشد برأيه هذا إجماعاً مالكياً مستقراً؛ قارن بالإشـراف على نكت مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب، م2، ص686-687. وجواز النكاح من كفءٍ بدون ولي هو رأي الحنفية؛ قارن باختلاف العلماء لمحمد بـن نصر المروزي، ص121، والإفصاح لابن هبيرة، م2، ص88-90. وقارن برأي مختلف لمنى أبو زيد في: المدينة الفاضلة عنـد ابن رشد، 1999م، ص136-137.

34- بداية المجتهد، م3، ص61. والحنفية لا يرون الزكاة في مال المَدين إن كان ما يبقى منه لا يبلغ النصاب؛ لكنهم يعللون اجتهادهم هذا بتأويل معينٍ لقولٍ لأمير المؤمنين عثمان بن عفّان؛ قارن بفتح القدير للكمال بن الهمام، م1، ص486. والمسألة خلافيةٌ منذ القديم؛ قارن بأبي يوسف: اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، ص122. وانظر أدلة سائر الأطراف في ابن هبيرة: الإفصاح عن معاني الصحاح، بيروت 1996م، م1، ص170.