مجلة حكمة

إنسان الانثروبوسين – روي سكرانتون / ترجمة: زياد الأتاسي

إنسان الانثروبوسين

يمكنك أن تمشي إلى الشاطىء من حيث نقيم. إنها قشرة طويلة من الرمل الداكن تحدها بيوت صيفية أنيقة بألوان قوس قزح، وشقق بيضاء وسوداء رتيبة، ومنازل زرقاء ضخمة McMansions تنتثر كالبثرات على طول شبه جزيرة ديلمارفا. في الناحية الأخرى من الرمل هناك المياه المتلاطمة، اللجية، الرماديةلخضراء، التي ما يقرب من ثلاثة أرباع الكوكب، وكانت مرةً حداً بين المعلوم والمجهول، منطقة فاصلة من الغموض والرعب، تم ترويضها الآن، أو هذا ما نعتقده، إلى منطقة مسلية لقضاء العطلات. هناك منقذون، وكذلك أطفال الصيف النحاف بسمرتهم الخفيفة، وإلى الشمال، ترتفع من بين الأشجار المنخفضة، أبراج بنيت للدفاع عن الساحل الأمريكي من الغواصات النازية.

على بعد عشر دقائق، يوصلك الطريق العام إلى مجمع تجاري، وسوبرماركت، وسينما تعرض آخر أفلام الأبطال الخارقين. نمشي جيئة وذهاباً من الشاطىء إلى البيت،نواجه   اندفاعة الأطلسي الباردة والذباب القارص، نعد العشاء، نضع الطفل الرضيع في سريره، نلعب لعبة الألواح، ونغوص أخيراُ في شاشاتنا، كل واحد منا مُسْتَكِنّفي زاوية مظلمة مختلفة من غرفة المعيشة. أضواء الحاسب اللوحي والهاتف المتحرك واللاب توب تومض في نظراتنا المستغرقة والمتراخية.

قبل خمسمائة سنة، لم يكن الناس الذين عاشوا هنا يؤمنون بالتقدم. لم يؤمنوا بحرية الفرد، أو بالذات المستقلة، أو بحرية الأسواق، أو بحقوق الإنسان، أو الدولة، أو فكرةالطبيعة كشيء مختلف عن الثقافة. عاشوا لأجيال بدون كهرباء، أو تبريد، أو سيارات، أو واي-فاي، أو بث حسب الطلب، أو شرطة، أو حليب متجانس، أو مضادات حيوية، أو صحيفة النيويورك تايمز، وقد تم القضاء عليهم جميعاً تقريباً في حملة تهجير وإبادة جماعية دامت قروناً تشكل الخط الرئيس لتاريخ أمريكا الشمالية من عام 1492 إلى نهاية حروب الأباتشي في عشرينات القرن العشرين.

إن ندرة الأدلة التاريخية والقضاء على ثقافة الشعوب الأصلية بأيدي المحتلين الأوروبيين يجعل من الصعب إعادة بناء حياة السكان الأصليين في مرحلة ما قبل الاتصال بكل تفاصيلها. ما يوجد من دليل، مضموماً إلى الرؤى الأنثروبولوجية عنالثقافات ما قبل الحديثة المماثلة، يشير بقوة إلى أنه على الرغم من أنه كان عليهم الدأب والمثابرة بدون    وسائل الراحة المعجزة والأجهزة والجُرُعات التي نعتمد عليهابدون تفكير، إلا أن من شبه المؤكد أنهم عاشوا حياة ذات مغزى، ومعقدة، وغنية، وممتعة، مثل حياتنا على أقل تقدير.

في الواقع، يجادل بعض المؤرخين والأنثروبولوجيين مثل جيمس سي.سكوت James C.Scott، في كتابه Against the Grain بأن الحياة قبل الحداثة كانت أفضل من حياتنا، بأوقات فراغ أكبر، وأمراض وآفات أقل، وبانخراط أقوى فينومينولوجياً وروحياً مع العالم من حولنا. سواء أكان ذلك صحيحاً أم لا، يبدو الحجاج محقاً، وخاصة عندما أجد نفسي جالساً إلى جانب نار المخيم بعد التنزه عبر الغابة طوال النهار، أو عند التسكع على الشاطىء متفرجاً على الأمواج المتلاطمة.

ثم أعود مرة أخرى إلى عاداتي: الكومبيوتر الذي أكتب عليه؛ موقد الغاز بشعلته الموثوقة التي لا دخان لها والتي أسخن عليها قهوتي؛ المرحاض الدافقفي الداخل!- الذي يحمل الفضلات بعيداً؛ المصباح الكهربائي الذي أستضيء به للقراءة؛ التدفئة ومكيف الهواء الذي ينظم مناخ منزلنا. ولا أستطيع إلا أن أشعر بإحساس دائم من الراحة. أنا متكيف، سواء أأحببت ذلك أم لم أحبه، مع بيئة مبنية معينة، مع إحساس معين بالمكان، مع نظام اجتماعي معين.

نحن، بشر عصر الانثروبوسين ، سكان حضارة رأسمالية عالمية مبنية على الوقود الأحفوري والعبودية والإبادة الجماعية، معتادون على الحياة مع ثمرات هذه الحضارة. نحن متعودون على المشي على الخرسانة بالأحذية المنتجة بالجملة. عندما تمطر نذهب إلى الداخل أو نفتح مظلاتنا المصنوعة من النايلون، البوليمر الاصطناعي،الذي صمم لأول مرة عام 1930. عندما يكون علينا أن نسافر، نستعمل القطار، أو الحافلة، أو السيارة، أو الطائرة، مرتحلين مئات من الأميال في بضع ساعات، بسرعات لم يكن تخيلها ممكناً قبل 250 عاما من الآن. عندما يصبح الجو حاراً، نشغل مكيف الهواء أو نذهب إلى الشاطىء.

إن المناطق الحضرية الساحلية المتسعة حيث يعيش الآن ما يقرب من أربعين المائة تقريباً من البشر، مسْعَدِين ببركة القرب من البحر، بما في ذلك هذه البلدة الشاطئيةالتي أكتب منها، كانت ستكون غريبة على نحو لا يمكن فهمه، وحتى بشعة، للناس الذين اعتادوا العيش هنا. لكننا لسنا مختلفين عنهم جوهرياً، فقط نحن معتادون على أسلوب حياة مختلف، على بيئة مبنية مختلفة، على مجموعة سرديات ومفاهيم مختلفة تشكل فهمنا للواقع.

الشيء الذي نشترك فيه نحن، بشر الانثروبوسين ، مع شعب النانتيكوكNanticoke وشعب لينابي Lenape المتحدث بالاونامي Unami الذين اعتادوا العيش في شبه جزيرة ديلمارفا، ومع شعب كونغ Kung في كالاهاري، وشعب اليوكاغير Yukaghirفي سيبيريا، وفرس القرون الوسطى، وشعب المايا القديم، وشعب البيكت Pictsالمدهونين بالأزرق، وشعوب البيلغانغ Peilgang الصينية من العصر الحجري الحديث، وبدو العصر الحجري القديم من العصر الجليدي الأقرب Paleolithic ، هو تحديداً قدرتنا على التكيف مع الظروف المتغيرة، في المقام الأول من خلال الاستخدام الجماعي للتفكير الرمزي والسرد. الإنسان العاقل Homo sapiens يمكنه العيش تقريباً في أي مكان على وجه الأرض، تحت أية ظروف تقريباً؛ وكل ما نحتاجه هو قصة تخبرنا عن السبب الذي يجعل حياتنا مهمة.

في الفترة الانتقالية من حقبة الحياة الوسطى Mesozoic إلى حقبة الحياة الحديثةCenozoic، قبل حوالى 65 مليون سنة من الآن، عندما بدأت قارة أمريكا الشمالية بالتشكل، كان كثير مما ندعوه الساحل الشرقي (للولايات المتحدة) تحت الماء. لم يوجد بشر آنئذٍ؛ وستكون ملايين من السنين قبل أن يتطور أي من أسلاف الإنسان hominids .

في يومنا هذا، إن أعلى نقطة في ديلمارفا هي بالكاد فوق مستوى البحر، هضبة منخفضة على شاطىء شبه الجزيرة الغربي حيث يمكنك الجلوس ومشاهدة خليج تشيزبيك Cheaspeake Bay يرتفع ببطء فيما تذوب القارة القطبية الجنوبيةوغرينلاند، وفيما ترتفع حرارة الكوكب عُشر درجة إثر أخرى، ويتغير العالم الذي تكيفنا معه إلى شيء آخر. الشاطىء سوف يختفي، والبيوت الكبيرة McMansions سوف تمتلىء بالماء، والمنقذون سوف يشيخون ويموتون، وحتى الأبراج المبنية لمراقبة النازيين سوف تتداعى وتسقط.

في مستقبل مجهول، على شاطىء غريب وجديد، سوف يتكيف أناس أمثالنا مع عالم جديد تماماً. يمكنك أن تراهم جالسين متحلقين حول النار على الشاطىء، والضوء يومض على وجوههم المنتشية، وأحدهم يروي قصة عن حضارة عظيمة هلكت بعجرفتها، في عصر روائع مضى منذ زمن بعيد.

المصدر