مجلة حكمة
إطلاق النار على فيل جورج أورويل

إطلاق النار على فيل – جورج أورويل

إطلاق النار على فيل

في مدينة موملين في بورما السفلى كنت مكروها من عدد كبير من الناس- إنه الوقت الوحيد في حياتي الذي بلغت فيه من الأهمية تكفي لأن يحدث لي هذا. كنت أعمل ضابط بوليس قسم فرعي بالمدينة. وكان الشعور ضد الأوربيين مريرًا للغاية يجد تعبيرا عنه بطريقة غير هادفة وأسلوب وضيع. ولم يكن أحد يملك من الجرأة والجسارة مايجعله يقدم على إثارة الشغب والإضطراب. لكن إذا حدث أن تجولت سيدة أوربية في الأسواق بمفردها كان من المحتمل أن يعمد أحدهم إلى بصق عصارة أوراق الفلفل على ثوبها. وكنت بحكم وظيفتي كضابط بوليس هدف واضح للإستفزاز والتحرش كل ماسنحت لهم الفرصة لفعل ذلك وهم في مأمن ..

وعندما كان واحد من الأهالي خفيف الحركة يقوم بحركة تجعلني أتعثر فأسقط على أرض ملعب كرة وكان حكم المباراة- وهو من الأهالي أيضًا- يغض الطرف عن هذا ناظرًا على الإتجاه الآخر، كانت صيحات الجمهور المحتشد تدوى مهللة في ضحك بغيض وقد حدث هذا اكثر من مرة.. وفي نهاية الأمر اثيرت أعصابي للغاية من جراء وجوه الشبان الهازئة الصفراء التي كنت ألقاها في كل مكان، والإهانات وصيحات الإستهزاء التي كانت تلاحقني على بعد آمن.

وكان الكهنة البوذيون الشبان اسوأ الهازئين على الإطلاق، فقد زخرت المدينة بعدة الآف منهم وبدا أنه لم يكن لدى أي واحد منهم ما يعمله سوى الوقوف على نواصي الشوارع والتعرض للأوربيين بالسخرية والإستهزاء. كان كل هذا محيرًا للألباب ومثيرًا للأعصاب لأني كنت حين ذاك قد أيقنت أن الإستعمار شر وأنه من الأفضل أن أهجر وظيفتي بأسرع مايمكن. وكنت من الناحية النظرية- وسرًا بطبيعة الحال- شديد العطف على أهل بورما وأناصب البريطانيين الغاصبين العداء.. أما عن العمل الذي كنت أقوم بتأديته فربما كنت أحمل له من البغضاء أكثر من ما استطيع توضيحه، ففي وظيفة مثل التي كنت أشغلها ترى عن كثب عمل الإمبراطورية القذر.. وكان من أشد الأمور إيلاما على نفسي منظر المسجونيين البائسين وهم يتكسدون في زنزانات السجون التي ينبعث منها العفن ورؤيتي وجوه المحكوم عليهم لآماد طويلة وقد اعتراها لون رمادي أغبر وأعتلاها الوجل الذليل كما كان يحز في نفسي أعجاز الرجال المثخنة بالجراح والندوب نتيجة ضربهم ضربًا مبرحًا بعصي الخيزران: كل هذه الأشياء كانت تثير في نفسي إحساسًا بالذنب لا يطاق. لكني لم أكن قادرًا على أن أرى أيًا من الأشياء في نسبها الصحيحة وكنت صغير السن ناقص التعليم وكان علي أن أحصل على حل لمشكلاتي في الصمت المطبق المفروض على كل رجل إنجليزي في الشرق. حتى كون الإمبراطورية الإنجليزية تعالج سكرات الموت كان أمرًا يغيب عن إدراكي.. أكثر من هذا أنني لم أكن أعلم أنها أفضل بكثير من الإمبراطوريات الناشئة التي توشك أن تحل محلها.. كل ماكنت أعلمه أنني شعرت بأني محاصر بين كراهيتي للإمبراطورية التي أسهر على خدمتها وغضبي الذي يغلي على الحيوانات المفترسة الصغيرة الشريرة الروح التي سعت جاهدة أن تعرقل عملي من حيث يصبح مستحيلا. وبجانب من عقلي كنت أفكر في الحكم الإمبراطوري في الهند على أنه استبداد متصل وشيء يضغط على إرادة الشعوب الراكعة المستذلة لآماد طوال ويكبلها ويجذبها إلى القاع.. ولكن بالجانب الآخر من عقلي كنت أفكر في أن أعظم فرحة تتخلص في طعن كاهن بوذي بسونكى البندقية. وهذه المشاعر نتيجة جانبية بطبيعة الحال. وإن شئت مصداقا لقولي فعليك أن تسأل أي موظف من الإنجليز المستوطنين في الهند عن ذلك إذا إستطعت أن تلقاه في وقت لا يقوم فيه بأداء مهام وظيفته. وذات يوم حدث شيء أنار السبيل وأضاءه بطريقة غير مباشرة.. كانت حادثة صغيرة في حد ذاتها ولكنها كانت كفيلة بإعطائي نظرة إلى طبيعة الإستعمار الحقة أفضل من النظرة السابقة إلى الدوافع الحقيقية التي تقع وراء الحكومات المستبدة.. في صبيحة أحد الأيام المبكرة اتصل بي تلفونيًا مساعد المفتش في قسم البوليس الواقع في الطرف الآخر من المدينة أخبرني أن فيلًا يعيث في السوق فسادا ورجاني أن أذهب وأفعل شيء في هذا الأمر.. ولم أكن أعلم مايمكنني القيام به ولكنني أردت أن أرى ما كان يحدث فامتطيت صهوة جواد صغير وبدأت رحلتي.. وأخذت معي بندقيتي وهي قديمة من طراز وينشستر أربع وأربعين، وأصغر بكثير من أن تردي فيلًا صريعًا ولكني إعتقدت أن الضوضاء قد تفلح في تهويشه.. وفي الطريق استوقفني عدد من أهل البلدة وأحاطوني علمًا بما كان الفيل يفعله.

ولم يكن بطبيعة الحال فيلًا متوحشا بل كان فيلا أصابه هياج الفيلة وجنونها الموسمي.. وكان مكبلًا بالسلاسل كما هي العادة المتبعة مع الفيلة الأليفة عند تحيين نوبة هياجها الموسمية.. ولكن الفيل أمكنه في الليلة السابقة أن يحطم أغلاله وينطلق هاربًا.. وكان حارس الفيل- وهو الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يروض الفيل ويسيطر عليه عندما تعتريه هذه الحالة- قد سارع إلى مطاردته ولكنه سلك الطريق الخطأ فأصبح على بعد يقطعه المسافر في أثنتي عشرة ساعة. وفي الصباح عاد الفيل إلى الظهور فجأة في المدينة ولم يكن لدى الأهلين سلاح يذودون به عن أنفسهم فكانوا مغلوبين على أمرهم لاحول لهم ولا قوة أمام الفيل الذي كان قد فرغ من تدمير كوخ من الخيزران يملكه أحد الأهالي وقتل بقرة والهجوم على محال الفاكهة والتهام المخزون فيها. وإلى جانب ذلك قابل الفيل في طريقه عربة القمامة التابعة للبلدية، ولما حاول السائق أن يقفز منها ويخف هاربًا، قلب العربة رأسًا على عقب وأعمل فيها تحطيمًا.

وكان مساعد مفتش البوليس البورمي وبعض الكونستبلات الهنود ينتظرون حضوري في الحي الذي سبق أن شوهد الفيل فيه.. وكان هذا الحي فقيرا للغاية، وعبارة عن تيه من أكواخ الخيزران المسقوفة بالسعف يتعرج على جانب سطح تل منحدر .. وأنا أذكر أن ذلك الصباح كان ملبدًا بالغيوم وخانقًا في بداية موسم انهمار الأمطار.. وبدأنا في سؤال الناس عن مكان الفيل وفشلنا كالمعتاد في الحصول على أية معلومات أكيدة وهذه هي الحال بصورة لا تتغير في الشرق.. تسمع قصة من بعيد فتخال دائمًا أنها واضحة وضوحًا كافيًا، ولكن كلما اقتربت من مكان الأحداث ازدادت القصة غموضًا.. وأفتى بعض الناس أن الفيل قد سلك سبيلًا معينًا وأفتى البعض الآخر أنه سلك سبيلًا مختلفًا، وزعم آخرون أنهم لم يسمعوا عن أي فيل قط.

وكدت أن أقرر أن القصة بأكملها لا تعدو أن تكون مجموعة من الأكاذيب عندما ترامت إلى مسمعي صيحات على مسافة قريبة.. وتعالت صيحات مرتفعة يسيطر عليها الجزع وهي تقول: “إذهب بعيدًا ياولد، إذهب بعيدًا في الحال” وظهرت من وراء ركن كوخ امرأة متقدمة في السن تقبض على غصن في يدها تبعد به في عنف حشدًا من الأطفال العراة. وتبعها عدد أكبر من النساء يطلقن ألسنتهن صائحات.. وبات من الواضح أن هناك شيئًا لا ينبغي للأطفال أن تقع أبصارهم عليه.. ودرت حول الكوخ ورأيت جثة رجل ميت منبطح في الوحل.. وكان الميت واحدًا من الفعلة الهنود، أسود اللون يكاد يكون عاريًا ولا يمكن أن تكون قد انقضت على وفاته دقائق معدودات.. وقال الناس أن الفيل قد أنقض عليه فجأة من خلف ركن الكوخ وأمسك به بخرطومه ووضع قدمه على ظهره وسحقه في الأرض.. وكان ذلك وقت الموسم المطير كما كانت الأرض مبتلة لينة فغار وجهه في الأرض حافرًا حفرة يبلغ عمقها قدما وطولها ياردتين، وكان الميت مستلقيًا على بطنه وقد انعقد ذراعاه على هيئة صليب والتوى رأسه نحو جانب منها إلتواءً حادًا واكتسى وجهه بطبقة من الطين واتسعت حدقتا عينيه وانكشفت أسنانه بصورة تنم عن ألم لايطاق. (وبهذه المناسبة لا تقل لي أبدًا أن منظر الموتى يرفرف عليه السلام فالغالبية العظمى من الجثث التي رأيتها كانت تبدو جهنمية بشعة) .. وتسببب إحتكاك قدم الحيوان المفترس في تسلخ الجلد من ظهره تماما كما يسلخ الإنسان جلد أرنب.. وما أن وقع بصري على الميت حتى أرسلت جندي المراسلة إلى بيت صديق مجاور لطلب بندقية لصيد الفيلة وكنت قد ارجعت الجواد الصغير لإني لم أكن أريد أن يستولي الفزع المجنون عليه فيلقي بي من فوق ظهره إذا إشتم رائحة الفيلة.

وقفل جندي المراسلة راجعًا بعد بضع دقائق حاملًا معه بندقية وخمس طلقات وفي نفس الوقت وصل بعض الأهالي وأبلغونا أن الفيل في حقول الأرز أسفل التل وأنه على بعد لايزيد عن بضع مئات من الياردات لا غير.. .وعندما بدأت في التحرك إلى الأمام خرج أهل الحي على بكرة أبيهم تقريبا من منازلهم وتبعوني فقد رأو البندقية وكانوا جميعا يتصايحون في إنفعال قائلين أني سأطلق النار على الفيل.. ولم يكونوا قد أظهروا كبير إهتمام بالفيل عندما كان يعيث في بيوتهم فسادا.. ولكن الأمر قد أصبح مختلفا الآن فهو وشيك أن يردى قتيلا.. وكان في هذا شيء من التسلية والترفيه بالنسبة لهم تماما كما تجد جمهرة من الإنجليز نفس التسلية والترفيه في مثل هذه الظروف.. وكانوا إلى جانب ذلك يريدون لحمه.. وجعلني هذا أشعر شعورًا غامضًا بعد الإرتياح، فلم تكن لدي نية إطلاق النار على الفيل- لقد أرسلت في طلب البندقية لمجرد الدفاع عن النفس إذا اقتضت الضرورة ذلك..وأنه لمن الأمور المثيرة للأعصاب على الدوام أن تجد نفسك وقد تبعك حشد كبير من الناس.. وسرت إلى سفح التل وأنا اشعر وأبدو كالمغفل حاملا البندقية على كتفي وجيش من الناس يتزايد عددهم دائما يجدون في أثري.. وعند السفح عندما يبتعد الإنسان عن الاكواخ يجد طريقا ممتدًا مرصوفا بالأحجار وراءه قفر من حقول الأرز يغطيه الطين ويبلغ عرضه ألف ياردة لم يتم حرثه بعد ولكنه مبتل نتيجة لتساقط أول الأمطار ويكسوه حشيش خشن في بقاع متناثرة منه وكان الفيل واقفا على بعد ثماني ياردات من الطريق وقد ولانا جنبه الأيسر ولم يعر الفيل اقتراب الحشد منه أدنى التفات فقد كان مشغولا بإقتلاع حزم الحشيش وخبطها على ركبتيه لتنظيفها ثم يحشو بها فمه.

وتوقفت على الطريق وبمجرد أن رأيت الفيل أيقنت يقينا تاما أنه لا ينبغي علي إطلاق النار عليه، إطلاق النار على فيل  وقتله عامل مسألة خطيرة أشبه ماتكون بتدمير آلة ضخمة باهضة التكاليف- من الواضح أنه ينبغي على الإنسان أن لا يقدم على هذا التدمير إذا كان من الممكن تفاديه.. ومن تلك المسافة بدا أن الفيل -وهو يأكل بسلام وسكينة- وهو لايزيد في خطره عن بقرة.. واعتقدت حينذاك كما اعتقد الآن أن نوبة هياجه قد بدأت تزايله بالفعل.. وفي هذه الحالة لن يفعل شيء أكثر من التجول دون إلحاق الأذى بأحد حتى يعود حارسه ويقبض عليه .. أضف إلى ذلك أنني لم أشعر بأدنى رغبة في إطلاق الرصاص عليه، استقر رأيي على مراقبته لفترة وجيزة حتى أتأكد من أن ضراوته لن تعود إليه ثم أنصرف بعدها إلى بيتي.

ولكن في تلك اللحظة نظرت حولي إلى الحشد الذي كان قد تبعني.. كان حشدا غفير يضم ألفي شخص على أقل تقدير يتزايد عددهم في كل دقيقة وسد الحشد الطريق على كل من جانبيه لمسافة طويلة. وتطلعت إلى بحر الوجوه الصفر التي تعلو ملابسهم الزاهية- وجوه تطفح بالسعادة والبشر وتنفعل لهذا القدر من الترفيه وكلهم واثقون من أن الفيل سيلقى حتفه.. وكانوا يرقبونني كما لو كنت واحدا من الهواة يتأهب لعرض أحد حيله. لم يكونوا يحملون لي الحب ولكني والبندقية السحرية في يدي أصبحت لفترة موقوتة شيئا جديرا بالمراقبة والتطلع.. وأدركت فجأة أنني ملزم بإطلاق النار على الفيل بغض النظر عن أي إعتبار فقد كان الناس يتوقعون مني هذا وأصبح لزاما علي أن أفعل ما يتوقعون وأمكنني أن أشعر بألفي إرادة تضغط علي وتدفعني إلى الأمام بشكل لا سبيل إلى مقاومته.

وفي هذه اللحظة فقط أدركت لأول مرة وأنا واقف هناك أحمل البندقية بين يدي، الخواء والعبث الذين تنطويان عليهما سيطرة الرجل الأبيض في الشرق.. هانذا الرجل الأبيض ببندقيته أقف أمام حشد من الأهلين أعزل، وأبدوا من الناحية المظهرية كما لو كنت الممثل الرئيسي في مسرحية ولكني كنت في حقيقة الأمر مجرد لعبة تتقاذفها ذات اليمين وذات اليسار إرادة تلك الوجوه الصفر ورائي. وأدركت في هذه اللحظة الرجل الأبيض عندما يغدو عاتيا مستبدًا إنما يقضي على حريته الخاصة، ويصبح نوعًا من الدمية الجوفاء المصطنعة وصورة «الصاحب»(1) التقليدية المألوفة لأن شرطا من شروط حكمه أن ينفق عمره في محاولة التأثير على أهل البلد وإيهامهم بأشياء يدخلها في روعهم ولذلك فهو يرى لزاما عليه في كل أزمة أن يفعل مايتوقعه أهل البلد منه. وهو يرتدي قناعًا ويمضي الوقت تشكيل وجهه بحيث يتناسب مع هذا القناع.

كان لزامًا علي أن أطلق النار على الفيل. لقد إلتزمت في ذلك عندما أرسلت في طلب البندقية، فالصاحب ملزم بأن يتصرف كصاحب، عليه أن يظهر بمظهر المصمم العاقد العزم المحدد الأهداف الذي يعرف ما استقر رأيه عليه ولا يحيد عنه، أما أن أقطع كل هذه المسافة حاملا بندقية في يدي وورائي ألفا شخص يسيرون في أعقابي وبعدئذ أتكص وأنا أجر أذيال الضعف والوهن فلا..هذا أمر مستحيل، سيخسر الحشد مني ويستهزئ بي وماحياتي بل وحياة كل رجل أبيض في الشرق سوى كفاح طويل الأمد من أجل تجنب السخرية وتفادي الإستهزاء.

ولكني لم أكن راغبا في إطلاق النار على الفيل وجعلت أرقبه وهو يضرب حزمة الحشيش على ركبتيه في تلك الروح الوديعة الدالة على الإنشغال التي تتميز بها الفيلة. وبدا لي أن إطلاق النار عليه ينطوي على جريمة قتل .. .ولم تكن نفسي في ذلك الوقت تعاف قتل الحيوانات ولكنه لم يسبق لي أن أطلقت النار على فيل. لم يسبق أن شعرت بالرغبة في هذا. (وعلى نحو ما يبدو لي دائما أن قتل حيوان ضخم أسوأ من قتل حيوان صغير). وإلى جانب ذلك فهناك صاحب الفيل الذي لابد من إدخاله في الإعتبار.. والفيل الحي كان يساوي على الأقل مئات الجنيهات أما الفيل الميت فلا يساوي أكثر من قيمة سنه ومن الجائز أنها لا تتجاوز خمسة جنيهات.. ولكن كان علي أن أتصرف بسرعة ..وألتفت إلى بعض الأهالي الذين لم ينم مظهرهم على أنهم أصحاب الخبرة وكانوا قد وفدو إلى هناك قبل وصولنا.. وسألتهم عن سلوك الفيل فرددوا جميعا نفس الإجابة : “لم يكن يلتفت إليك إذا تركته وشأنه ولكنه قد ينقض عليك إذا اقتربت منه أكثر مما ينيغي”.

وكان من الواضح لي تماما ما ينبغي علي أن أفعله.. ينبغي علي أن أقترب من الفيل، قل على بعد خمس وعشرين ياردة منه. وأختبر مسلكه فإذا هجم علي يمكنني في هذه الحالة أن أطلق النار عليه، اما إذا لم يلتفت إلي فليس هناك أدنى خطر من تركه حتى يعود إلى حارسه .. ولكني كنت أعلم أيضًا أنني لن أفعل شيئا من هذا القبيل فقد كنت لا أجيد إصابة الهدف بالبندقية وكانت للأرض لينة موحلة يغوص فيها الإنسان عند كل خطوة يخطوها وإذا هجم علي الفيل ولم أصبه بطلقتي فلن يتوفر لي من فرص النجاة أكثر مما يتوافر لضفدعة تحت وابور زلط.. ولكن حتى في ذلك الوقت لم أكن أفكر بالذات في النجاة بحياتي ولكني كنت أفكر فقط بالوجوه الصفراء التي ترقبني من الخلف في تلك اللحظة بينما كان الحشد يرقبني لم أكن أشعر بالخوف بالمعنى المألوف كما كنت سأشعر به لو كنت بمفردي.. ويجب على الرجل الأبيض ألا يعرف الخوف إلى قلبه سبيلًا أمام هذا البلد.. لهذا فالخوف عادة لا يتطرق إلى قلبه.. وكانت الفكرة الوحيدة التي تشغل بالي تنحصر في أنه إذا حدث شيء لي فسيراني أولئك الألفان من الأهالي وأنا أطارد وأمسك وأداس تحت الأقدام وأتحول إلى جثة يتقلص وجهها رعبًا كجثة الهندي أعلى التل.. ولو حدث لي هذا فمن المحتمل جدًا أن يتضاحك علي البعض.. وهذا لن يكون. فكان هناك حل آخر وحيد.. حشوت البندقية يالرصاص ورقدت على الأرض حتى يسهل علي إصابة الهدف.

وساد الحشد صمت وندت حناجر لا يحصى عددها تنهيدة عميقة منخفضة سعيدة كالتي تند عن النظارة وهم يرون ستار المسرح يرفع أخيرًا بعد طول انتظار.. وأوشكوا على الحصول على قدرهم من الترفيه رغم كل شيء.. وكانت البندقية من طراز ألماني، جميلة الصنع ذات أدوات للتصويب خيوطها متقاطعة.. ولم أكن أعلم حينذاك أنه لصيد فيل يتعين على الصياد أن يصوب على خط وهمي يصل بين فتحتي أذنيه..ولذلك كان ينبغي علي أن أصوب مباشرة إلى فتحة الأذن لأن الفيل كان في موضع جانبي ولكن ما حدث في الواقع هو أنني صويت بندقتي عدة بوصات إلى الأمام من فتحة الأذن معتقدا أن المخ موجود إلى الأمام بعيد عنها.

ولما ضغطت على الزناد لم أسمع صوت فرقعة أو أشعر بارتطام- والإنسان لا يسمع فرقعة أو يشعر بارتطام أبدا عندما تصيب الطلقة هدفها.. ولكنني سمعت زئير الإبتهاج الجهنمي يتصاعد من الجموع.. وفي تلك اللحظة وفي وقت أقصر-كما يتراءى للإنسان- من أن يكفي لطلقة أن تصل إلى هدفها.. طرى على الفيل تغير مروع غامض.. ولم يبد حراكا أو يتهافت ولكن التغيير أصاب كل جزء من أجزاء جسمه.. وبدا على حين غرة مذهولا من وقع المفاجأة منكمشا عجوزا للغاية كما لو كان أثر الطلقة المخيف قد أصابه بالشلل دون أن يسقطه على الأرض.. وأخيرا وبعد وقت بدا طويلا رغم أنه قد لا يعدو خمسة ثوان أستطيع أن أقول أنه تهاوى على ركبتيه في ترهل واسترخاء.. وسال اللعاب من فمه وظهرت عليه علامات شيخوخة هائلة حتى ليحسب الإنسان أنه بلغ من العمر ألوفا من الأعوام.. ولم يتهافت عند الطلقة الثانية ولكنه نهض على قدميه في بطء يائس شديد وأنتصب واقفا في وهن وقد خارت قدماه وتدلى رأسه.. وأطلقت للمرة الثالثة، وكانت هذه الطلقة هي التي أجهزت عليه.. وكان بوسعك أن ترى الألم العميق يهز كل جسده وينزع عن قدميه البقية الباقية من القوة فيه.. ولكن بدا في سقطته كأنه قد نهض لحظة واحدة، فعندما تهاوت قدماه الخلفيتان تحته بدا أنه يقع كأنه صخرة ضخمة تتدحرج من عل وقد ارتفع خرطومه كأنه شجرة نحو السماء .. وندت عنه صيحة الفيلة وكانت الأولى والأخيرة. وعندئذ هوى على بطنه في إتجاهي بارتطام بدا أنه يهز حتى الأرض التي كنت أرقد عليها.

ونهضت واقفًا، وكان الأهالي قد سبقوني مسرعين عبر الوحل وأصبح من الواضح أن الفيل لن ينهض ثانية على الإطلاق، ولكنه لم يمت وظل يتنفس بانتظام شديد تنفسا تتخلله شهقات طويلة وظل جنبه الذي بدا كالأكمة يرتفع وينخفض في ألم. وكان الفيل فاغرًا فاه وأمكنني أن أرى داخل فمه أعماق حلقه الشاحب في لون القرنفل. وانتظرت مدة طويلة حتى يسلم أنفاسه الأخيرة ولكن تنفسه لم يضعف وأخيرًا أطلقت الرصاصتين اللتين كانتا في حوزتي في المكان الذي ظننت أنه يحوي قلبه. وانهمر الدم الجامد كالمخمل القاني بيد أنه لم يمت. حتى جسده لم يهتز عندما أصابته الطلقات وكان يموت ببطء شديد وفي ألم عظيم ولكن في عالم ناءٍ بعيد عني لا تستطيع فيه طلقة أخرى أن تلحق من الأذى أكثر مما لحق به وشعرت أنه يجب علي أن أضع حدًا لذلك الصوت الفضيع. وبدا من الفضاعة أن يرى الإنسان الحيوان الضخم مستلقيًا هناك لا يملك أن يتحرك ولكنه في نفس الوقت لا يملك أن يموت ولن يمكنني حتى الإجهاز عليه.

وأرسلت أحدهم لإحضار بندقيتي الصغيرة وأفرغت في قلبه رصاصة تلو الأخرى وإلى أسفل حلقه وبدا أن الرصاصات لا تترك فيه أي أثر. واستمرت الشهقات المعذبة في انتظام تشبه الصوت الرتيب المنطلق من ساعة الحائط.

وفي النهاية لم أستطع أن أتحمل المنظر أكثر من هذا فانصرفت لحالي وسمعت فيما بعد أن موته استغرق نصف ساعة. وكان الأهالي مشغولين في إحضار الأوعية والسلال حتى قبل أن أنصرف وبلغني أنهم قاموا بنزع لحمه حتى قبل أن ينصرم العصر.

وفيما بعد كانت هناك بطبيعة الحال مناقشات لا تنتهي عن إطلاق النار على الفيل. واستولى الغضب على صاحبه ولكنه كان هنديًا لا غير ولم يكن بيده شيء يعمله. وإلى جانب ذلك كنت من الناحية القانونية قد فعلت الصواب فالقانون ينص على قتل الفيل كالكلب المسعور إذا فشل صاحبه في السيطرة عليه.. وانقسم الرأي بين الأوربيين وأيدني المتقدمون منهم في السن أما الشبان فقالوا إن الإقدام على إطلاق النار على فيل لقتله فاعلا هنديًا عمل مشين لأن قيمة الفيل تفوق قيمة أي فاعل هندي لعين وفيما بعد كان سروري بموت الفاعل الهندي عظيمًا لأن هذا أعطاني تعلة كافية أتعلل بها لقتل الفيل وكثير ما كنت أعجب إذا كان أي من الآخرين قد فهم أنني قتلت الفيل لا لشيء إلا لأني لم أحب أن أظهر بمظهر المغفل.

ترجمة: رمسيس عوض – المجلة – 1962


(1) كلمة (صاحب): لقب يطلقه الهنود على الرجل الأبيض