مجلة حكمة
إبراهيم في أفق الختم المحمدي: محاولة في استئناف الدرس القرآني - صالح عبدالنور

إبراهيم في أفق الختم المحمدي: محاولة في استئناف الدرس القرآني – صالح عبد النور

صالح عبد النور، باحث من الجزائر
صالح عبد النور، باحث من الجزائر

تمهيد:

تلقى آدم (ع) من ربه كلمات فتاب عليه، وابتلي إبراهيم (ع) بكلمات فأتمهن..، وبين تلقي الكلمات والابتلاء بهن يكمن تحول جوهري في وعي الانسان بذاته وبالعالم من حوله..، ذلك ما عبر عنه بشكل أعمق تتالي النبوءات والرسالات من لدن آدم إلى إبراهيم الذي جسد بوعيه الراشد ذلك التحول إذ وسع وعمق تلك الكلمات فأخرجها من مجرد التلقي الفطري إلى الإتمام الواعي، فكانت بثقل مؤداها في ذاته (ع) مشروع إمامة أمةٍ مفتوح على فجاج عميقة وآماد قصيّة، أسس للتحول الأخير كما جسده الخاتم محمد (ص).

 

إبراهيم (ع) في أفق الختم

محورية إبراهيم (ع) في تاريخ النبوات لا تتعلق فحسب بالمضمون التوحيدي لرسالته، فذلك ديدن كافة النبوات والرسالات، وإنما أيضا بسبقها وبفرادة مسلكها في وجدان ذلك التوحيد والحياة به..، ذلك الذي تتبَّعَه القرآن من بواكير وعي إبراهيم إلى إتمامه كلمات الابتلاء إذ وفَّى فجُعل للناس إماما..، إمامة تجاوزت التلقي الشكلي إلى التأسي المنهجي المقوم لإمكان الأمة المشروع قبل وبعد الختم المحمدي، فإبراهيم كان في النهاية أمة.

ولقد أعاد محمد (ص) فتح ذلك الأفق بشكل أوسع إذ ختم بنبوته النبوة، فغدت تجربة إبراهيم في القرآن وبشكل مركزي حدثا مُستعادا ينتظر التأويل ضمن دلالات الختم المصدق والمهيمن ذاته..، الختم الذي أوجز الفيلسوف محمد إقبال فكرته بمقولته الجامعة: “إن النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها”[1]، وهذه الفكرة لها مقتضيات ثورية خطيرة كان إقبال قد حاول التأسيس لها بشكل مُركَّز في “تجديد التفكير الديني في الإسلام”، وقد توالت حولها الدراسات، كما تم استلهامها بشكل ملفت في تأسيسات فلسفية عميقة ورائدة، بيد أنها مع ذلك لا تزال خارج التأثير في الزخم الفكري الديني منه خاصة، بل وتعرضت أحيانا إلى اختزال وسوء فهم لكونها –ربما- قد تأسست على ذات ما أرادت الوصول إليه من مقتضى منهجي جديد في الدرس القرآني والديني عامة.

إن القول بأن فكرة ختم النبوة هي قول بختم الدين كما ذهب إليه بعض منتقدي إقبال فيه سوء فهم لما طرحه الرجل، وقد انتبه هو نفسه إلى احتمال مثل ذلك الفهم فنبه أنه لا يقصد إليه؛ “فمثل هذا ليس ممكناً ولا مرغوباً فيه”[2]، وإنما المقصود هو خلق نزعة حرة في نقد التجارب الدينية تجاوزا لأي سلطان روحي يمكن أن يدعي وصلا خاصا بالسماء، بل وتجاوزا لأي نزعة ترقب وتطلع إلى ظهور مثل ذلك السلطان في مصلح منتظر[3].

إن ذلك الاختزال الذي تعرضت له فكرة إقبال عن الخاتمية ناتج -في الغالب- عن الذهول عن ذات ما قام إلى نقده في كتاباته..، وهو امتداد أثر الفلسفة القديمة في الفكر الاسلامي وما انجر عنه من تناف بين النقل والعقل، فما يعنيه إقبال بالعقل الاستقرائي الذي اقتضى ختم النبوة لا يخرج عنده عن العقل التجريبي المتحرك مقابل العقل الجوهراني الحتمي الساكن عند اليونان. ولذلك عارض بشدة “الفكرة الخاطئة التي تزعم أن الفكر اليوناني شكل طبيعة الثقافة الإسلامية”.

 

تأويل تجربة ابراهيم بين التنافي والتوحيد

مما لاحظه إقبال أن ذلك التعارض فات المتقدمين حين قرأوا القرآن على ضوء الفكر اليوناني الذي بهرهم، وهو ما اقتضى منهم قرنين من الزمن ليتبينوا تعارضهما ولو “في وضوح غير كاف”..، على أن إقبال تحدث تاليا عن ثورة عقلية شاملة تجلت واضحة في تفكير الأشاعرة المثالي التي انتهت إلى ثورة الغزالي الأولى، لكنها تحددت بشكل أوضح وأوفى في نقد المسلمين للمنطق اليوناني نقدا علميا منظما مكّن من قيام “المنهج التجريبي القائل بأن الملاحظة والتجربة هما أساس العلم وأصله لا التفكير النظري”.

وهذا الأثر الخطير هو ذاته الذي لابس أكثر تأويلات المفسرين لتجربة إبراهيم (ع) في الكتاب، والتي جاء الختم أصلا كـ”حنيفية محدثة”[4] لينتشلها منه..، أي من ثنايا التحريف، إذ جعل إبراهيم بمقام المؤسس والممهد للختم بجعله ممكنا. وهذا ما يمكن استشفافه من القرآن فيما انفرد به من استفهامات جوهرية[5] كانت قد حصلت لهذا النبي في بواكير حياته ثم بعد نبوته، والتي أبانت عن رشد عال وتوثب صادق إلى اليقين. كان منها استفهامان معرفيان أسسا لفرادة تجربته ضمن من سبقه؛ تمثل أحدهما في قصته مع الكواكب، وتمثل الآخر في طلبه من ربه معاينة كيفية إحياء الموتى.

ولقد أشكل على جل التفاسير السائدة ذينك الاستفهامين فأوّل بعضها نظر إبراهيم (ع) في الكواكب وحوَّله من مقام الناظر إلى المُناظر مطلقا، نافيا عنه أي حيرة أو استفهام وجودي، بل وجعل اصطفاءه بالنبوة أثرا لذلك..، وأوّل بعضها الآخر نظره ذاك فجعله في مقام الناظر مطلقا، نافيا عن إيمانه أي وثب وجودي. وكذلك تراوح الأمر في تأويل طلبه (ع) رؤية كيفية إحياء الموتى.

والمتأمل في هذا التنافي الذي حصل ولا يزال بين هذه التأويلات يجد أنه ليس من التفصيل الذي ينتهي بمجرد الزج به في دائرة المختلف فيه من الاجتهادات، بل لابد من الاستمرار في تمحيصه وفهم علله التي لا تتعلق بجوهر الكتاب إلا من حيث كونه علاجا لها..، وهذا طبعا إذا تجاوزنا استقراءاته العضينية نحو التحليل والاستنتاج.. ذلك الذي قد يوقفنا فيه على كم غير يسير مما يناقض التوجهات الكبرى للكتاب ذاته، بل ولما يتقوم عليه الاجتهاد نفسه..، خصوصا في تعلقه بمبحثي الانسان الأساسيين؛ الوجود والمعرفة وبمقتضياتهما.

والمتمعن في جوهر النبوة سيجد في تلك التأويلات ما ينتقص من إبراهيم (ع) ونبوته من حيث يراد بها تنزيهه وتوقيره، ذلك أن الأنبياء ليسوا مجرد سعاة بين الله وعباده بتهويمات إيمانية وطقوس روحية مبهمة، ولا هم من جهة أخرى سعاة بينهما باستدلالات عقدية أو كلامية جاهزة وأشكال تكليفية باهتة، فذلك كله مما يتعارض مع طبيعة الايمان الذي جاؤوا به وبمقتضياته من الشرائع -كما سيأتي-.

إن الأنبياء أسوة حسنة أساسا في تدرجهم من مقامات الحيرة الوجودية الصادقة إلى مقامات الابتلاء بالإيمان تحت عين الله ووحيه، وكونهم معصومين لا يعني نفي أي حيرة وجودية عنهم، أو حتى إمكان الخطأ عن تجربتهم الفعلية في تجسيد إيمانهم وتطبيق مقتضياته، بل هو تثبيتهم وإحاطتهم بعناية الله في مآلات تجاربهم الوجودية الصادقة، ونفي إمكان إقرار وحيه -سبحانه- لهم على الخطأ في حركتهم الفعلية بالدين، وإلا فما معنى أمر الله لهم بتذكير الناس بكونهم بشرا ويوحى إليهم في آن؟

 

إبراهيم وسؤال الوجود

جاءت قصة النظر في الكواكب استفهاما وجوديا استهلها الكتاب برفض إبراهيم عبادة الأصنام، فهو لم يشرك قط؛ (وما كان من المشركين) (67:3)..، غير أن الحيرة الوجودية لا تعني الشرك، بل لعلها مدخلٌ أساس إلى التحرر منه. وكذلك كان حواره مع أبيه حول تأليهه وقومه الأصنام؛ (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة ۖ إني أراك وقومك في ضلال مبين) (74:6). وتأكيد إبراهيم الفطري على ضلال أبيه وقومه دون توجيههم إلى الهدى هنا، فيه دلالة نفيه ألوهية الأصنام حتى قبل إثباته غيرها التوحيدي في نفسه، وذلك من حيرته واستفهامه الصادق الذي استحق به إراءة ملكوت السموات والأرض ليتدرج في مقامات الإيمان..، وليكون من الموقنين.

وانتقال سياق القصة من الأصنام إلى الكواكب ليس انتقالا بين مشهدين لا رابط بينهما إلا إبراهيم وإيمانه، بل فيه تتال موضوعي يقوم على فهم العلاقة بين الأصنام والكواكب في معتقدات أولئك القوم،. وبذلك يترجح عطف مشهد الكواكب على مشهد الأصنام لا على إراءة الملكوت، كما ذهب إليه الزمخشري.

ومما انتهى إليه الرازي أن “هذا يدل على أن دين عبدة الأصنام حاصله يرجع إلى القول بإلهية هذه الكواكب وإلا لصارت هذه الآية متنافية متنافرة”[6]. غير أن ذلك لا يعني–حسب الرازي-  كون الصنم خالقا للسماء والأرض، بل لا بد وأن يكون لهم فيه تأويل، وهو ارتباط تغير أحوال العالم بتغير أحوال الكواكب الذي غلب فيهم الظن بأنها مبدأ الحوادث، فاشتغلوا بعبادتها وتعظيمها، ثم إنهم لما رأوا غيابها عن أبصارهم أكثر الأوقات اتخذوا لكل منها صنما..، ثم أقبلوا على عبادة هذه الأصنام وغرضهم هو عبادة تلك الكواكب، والتقرب إليها.

وتذكر مصادر العراق القديم أن “أور” كانت من أهم مراكز عبادة الثالوث “الشمس والقمر والزهرة” وبذلك -كما يذكر العقاد- “كانت هياكلهم المبنية ترصد للأرباب السماوية، وتنصب فيها التماثيل بأسمائهم، ومن هنا عبادة الأصنام”[7].

ولذلك فإن مما يمكن استشفافه ضمنيا من الربط بين مشهدي الأصنام والكواكب في تلك الآيات هو احتمال دفع آزر اعتراض ابنه على عبادة الأصنام  بأنها ليست معبودة لذاتها وإنما هي تماثيل تجسد ألوهية الكواكب حين أفولها، ولذلك انتقل السياق إلى الكواكب، وما يعزز هذا المعنى أكثر تعبير إبراهيم عنها هنا بالأصنام لا التماثيل كما هو في موضع متأخر آخر.

ثم إن ورود جملة (وكذلك نري إبراهيم) (75:6) الاعتراضية بين مشهدين ماضيين، ومجيئها بصيغة المضارع (نُري)، فيه إشارة إلى استمرار الإراءة وتجددها في تجربة إبراهيم الأولى من رفض الأصنام إلى رفض تبرير ما تمثله من كواكب أيضا.

لقد مثل مشهد الكواكب الاستفهام الأخير لإبراهيم، وقد انتقل فيه من المتناهي إلى المطلق، فاستهلّه بتأمل استقصائي عميق عن طبيعة المدبر للكون المحسوس من حوله وأنهاه بوثبة وجودية إلى ربه. ذلك أنه وعلى فرض رجحان أن قوله: “هذا ربي”، كان على وجه الاستفهام الذي تقديره: أهذا ربي؟ كما ذهب إليه البغوي[8]، والذي يراد به الانكار على القوم في لحظة من لحظات تعبدهم..، -على فرض رجحان ذلك- فإن ذلك لا يمكن أن يكون مجرد نفي شكلي غير مؤسس، وهو من ثم لا ينفك عن كونه أيضا نتيجة نظر واستدلال ذاتي، فقد أضاف إبراهيم الرب إليه (الإضافة إلى ياء المتكلم)، أي ليس هو ربي الذي أعيه وأجده.

إن في علاج قوم إبراهيم لمشكل أفول الكواكب بتجسيدها في تماثيل دائمة الحضور ما ينم عن توق الإنسان إلى الكمال، فتصور الكائن المتناهي (الآفل) يحمل في أصله ما هو متجاوز له وهو فكرة اللامتناهي (غير الآفل)، غير أن إسقاطهم  لوجود غير الآفل على الآفل في الزمان والمكان جعلهم يتصورون فعل الخالق ماديا مشابها لفعل الإنسان في اقترانه بالأسباب وتوالدها (كما دل عليه الشكل البشري لتماثيلهم)، فوسّطوا أسباب الإله الخالق بينه وبين خلقه إذ افترضوا أنها تفعل بذاتها، فنسبوا التأثير إلى حركة أفلاك السماء في اقترانها بالظواهر الطبيعية.

ولذلك نجد أن تعدد الآلهة في الأساطير العراقية القديمة، كما في ملحمة الخلق البابلية “إنوما إليش” قائم على فكرة الإخصاب والتوالد المنافي للأحدية وهو ما أثار تنازع السلط بين هذه الآلهة، وبهذا أصبح “الخلق نتيجة الحركة المادية والفعالية الحياتية للآلهة، لا نتيجة الكلمة الخالقة والأمر الإلهي”[9] ،

إن بحث إبراهيم لم يتعلق بوجود الرب المدبر، بل بفهم طبيعة تدبيره. ذلك أن الأفول مناف للربوبية من حيث هي ديمومة التدبير (القيومية)، فهو لم يواجه قوما يدعون الإلحاد[10] بل “كانوا يؤمنون برب عظيم خلق الآلهة الصغار وقدر لها منازلها في السماء”[11]، بل هو حاول تجاوز إشراكهم ليس في قدرة الخالق على الخلق، وإنما في إشراكهم في ربوبيته (أي في تدبيره لخلقه)، وهذا ما اقتضى منه تحريرا لطبيعة فعل الخلق من حيث هو تدبير، فقرر الانتقال تراتبيا من التماثيل إلى ما تمثله من كواكب ينشد اللامتناهي الذي افترضه بأنه: غير الآفل زمانا ضمن الأكبر مكانا.

غير أن البحث عن غير الآفل عبر الآفل لا ينتهي إلى شيء، فالمتناهي لا يصدر عنه إلا متناه مهما طالت آماده زمانا، واتسعت امتداداته مكانا، وهذا ما أدركه إبراهيم بعد انتهائه إلى أفول الأكبر (الشمس). ذلك أن قطع تسلسل الارتقاء نحو غير الآفل زمانا، والأكبر مكانا..، قطعه في أي مستوى كان لن يكون إلا تحكميا ولذلك فهو لن ينتهي إلا إلى آفل.

إلا أن تعذر إدراك اللامتناهي بهذا المعنى ليس مبدئيا وإنما يتعلق بالأداة، أي بطبيعة الإدراك، ولذلك فإن المسلك إلى اللامتناهي لا يمر عبر المتناهيات إلا من حيث هي آيات (علامات) دالة عليه، وذلك معنى قول ابن خلدون: “وعلمنا به إنما هو من حيث صدورنا عنه [الله] لا غير”[12]، ذلك أنه مسلك يبدأ باستقصاء اللامتناهي في تلك المتناهيات ولكنه لا ينتهي إلى ذلك اللامتناهي بذات الاستقصاء (البحث النظري) وإنما بتعذره الذي يقتضي تكميلا بإدراك ذي طبيعة أخرى (البحث العملي)، وذلك معنى قولهم: “العجز عن الإدراك إدراك”[13].

إن في تعبير إبراهيم عن رفضه المبدئي للأفول بـ”لا أحب”، إشارة إلى أن غير الآفل (الكائن الكامل) محبوب ابتداء، ورغم أن الحب إرادة عملية تتجاوز الاستدلال والنظر، إلا أن إبراهيم استهل اختبار محبوبه بالنظر فانتهى إلى تأسيس عميق لطبيعة الوعي بالربوبية وجوديا.

ولذلك شكّل أفول القمر بالنسبة إليه لحظة يأس من كفاية الأداة مع تعلقه بالغاية..، لحظة رهن فيها الهداية في بحثه عن حقيقة ربه بربه الذي يجده في وجدانه، (لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين) (77:6)، فكانت بذلك لحظة إدراك لحدود الإدراك اقتضت منه تحولا كيفيا في مسار البحث أشاح فيه بوجهه عن إمكان بوتقة الوجود في الإدراك وبالتالي الإحاطة بالربوبية، ليجد نفسه أمام مفازة العبور بينهما، وتلك هي نقلة الإيمان التي انقدحت شرارتها في قلبه بأفول الشمس (الكوكب الأكبر حسب معتقد زمانه)، وبذلك سما فوق ذاته في عبور تلك المفازة، وذلك عبر وثبة وجودية حرة إلى مطلوبه الذي وصفه هنا بـ (الذي فطر) للدلالة على طبيعة ربوبيته لخلقه (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) (79:6).

وتعبير إبراهيم بـ”الذي فطر” في تحديد وجهة وثبته الوجودية صادر عن وعيه الجديد بالرب في علاقته بالوجود.. وعي نافذ بعمق إلى الشرك كما وجده في معتقد البابليين الذين  “كانوا يؤمنون برب عظيم خلق الآلهة الصغار وقدر لها منازلها في السماء”[14]، ولهذا واجه فيهم إبراهيم الشرك تحديدا، وكما تقدم فقد “…افترضوا لكل ظاهرة طبيعية ربا أو ربة”[15]. وهذا الافتراض ناتج عن إسقاطهم لوجود الله على أحوال العقل الانساني،  فهم إما باينوا بينه وبين خلقه ثم افترضوا لفعله وساطات في التدبير الربوبي للكون. وإما وحدوا بين الرب وخلقه فافترضوا حلوله فيه أو في بعض ما كبر منه في صدورهم.

وجعْلُ العقل مبدأً وجوديا هو نقيض الفطر… إنه افتراض مثال للخلق يغدو به الخالق مجرد صانع يصدر عنه الوجود ضمن مثال سابق (جبرية خَلقية)، بينما الفطر إيجاد مبدع… وليس مطلق الإبداع إلا تعبيرا عن إرادة حرة غير محكومة بمثال سابق.

الخلق تعبير عن القدرة المرجحة للوجود على العدم، والخالق ليس مرجحا للوجود على العدم فحسب بل هو أيضا مقدر لهيئة الإيجاد (اصطفاء الكيف الماهوي)، ومن تضايف قضاء الخلق (الإيجاد على العدم) وقدر الخلق (هيئة الإيجاد) ينتج الفطر، ذلك أن الفاطر لا يحاكي إذ يخلق، بل هو مبدع بإطلاق، وعبارة “موجد على غير مثال سابق” لا ينبغي أن تؤخذ هنا بمعنى زماني يقتضي له أسبقية لمثال ضمن صيرورة انصرام وتعاقب، ولو كان الأمر كذلك للحقه الأفول، وإنما هو سبق كيفي المثال فيه عين الإيجاد، والإيجاد هنا لحظي مستمر لا صيرورة فيه، وهو بذلك إيجاد دافق ينبجس عن تلك الإرادة الحرة..، وعن تأويل الفكر لهذا الانبجاس ينشأ الزمان والمكان وليس العكس. والانبجاس والسيلان من معاني الفطر أيضا عند البحث التأمل.

ولهذا فإن اللاتناهي الذي انتهى إليه إبراهيم لم يكن لا تناهي مدة وامتداد كما يكون قد افترضه حسَّا بداية حين حدده بـ “لا أحب الآفلين” زمانا، و بـ”هذا أكبر” مكانا، وإنما وجد فيه معنى لا تناهي إمكانات القدرة على الخلق (الامكانات الماهوية) من حيث صدوره عن إرادة، وما السموات والأرض اللائي وجه إبراهيم وجهه إلى فاطرهن إلا تجلٍّ لإمكان من إمكانات لا تحصى، يصطفيها الفاطر في كل لحظة اصطفاء إرادة حرة لا “عقل فعال”.

والشرك ينشأ عادة من هذا التفكيك العقلي للفعل الإلهي في الوجود بتوهمه مماثلا للفعل الانساني ذي الطبيعة المتحيزة زمانا ومكانا، ولهذا فإن العقل لا ينفك يفكك فعل الله إلى قبل وبعد ضمن حيز وامتداد، ذلك لتصوره أن فعله –سبحانه- محكوم بنفس هذه الملكة الانسانية (العقل)، ولذلك فهو يفترضه متحيزا إن مفارقة للعالم، وإما محايثة له وهاتان هما الإشكاليتان الأساسيتان المؤديتان إلى الشرك، والتي أعلن إبراهيم أنه حنيف عنهما غير مشرك.

وإذا كان “الحنف” هو الميل فإن “حنيف” صيغة مبالغة فيه، وفي شدة الميل دلالة على أن الأمر يتجاوز التوسط الهندسي بين انحرافي المفارقة والمحايثة إلى المغايرة التامة التي لا تقبل التعارض والتفكيك وجوديا إلى متقابلات من صنف ماهية ووجود أو مثال وواقع، ولذلك بات الميل والانجذاب إلى فطرة الفاطر جوهر الحنيفية ، (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها) (30:30).

إن الشرك الذي تبرأ منه إبراهيم هنا (وما أنا من المشركين) هو العجز عن تحقيق تلك الوثبة الوجودية بالاستغراق في التفكيك العقلي للوجود بتوسط الذات دونما محاولة تكميله بالسمو فوق إرادة الذات وتوجيهها وفق مراد تلك الإرادة الحرة والتخليق المبدع، استسلاما وخضوعا بشكل يقود إلى مخاللة تلك الإرادة (واتخذ الله إبراهيم خليلا) (125:4).

وتوجيه الوجه (إني وجهت وجهي)  صلة عملية فيها معنى الدخول في الصلاة من حيث هي أجلى مظاهر التعبد، وقد كان من دأب النبي (ص) تلاوة ذِكر (وجهت وجهي..) عند قيامه للصلاة، والصلاة صورة أخرى من صور طلب الحقيقة الوجودية القصوى المستعصية عقلا على الانسان، إنها بتعبير إقبال: “تكملة ضرورية للنشاط العقلي لمن يتأمل في الطبيعة”[16]، وهي بمثابة الوثبة التي تتخلى فيها الذات عن تحكماتها أمام تلك الحقيقة التي هي في المبدأ إرادة حرة مطلقة (إرادة الله)، وليس الاستسلام والخضوع لها بالركوع والسجود مَهَانَة بل هو نزوع إلى مخاللتها لمعرفةٍ أوفى وأعمق، معرفة يصف طبيعتها د. أبو يعرب المرزوقي بأنها: “تنقية الإنسان من الإرادة المتناهية، فبين الله والإنسان ينتأ الانسان كحاجز يمنع الاتصال. وفي تجاوز المتناهي ذاته يرتقي إلى اللامتناهي”[17]. والتجاوز وثبة تتحقق بالصلاة التي هي “تعبير عن مكنون شوق الإنسان إلى من يستجيب لدعائه في سكون العالم المخيف”[18]، وكذلك فعل إبراهيم بعد إذ جن عليه الليل، فأشرق نهاره بتوجيه وجهه للفاطر ليكون من الموقنين.

 

إبراهيم وسؤال المعرفة:

أما النظر الثاني لإبراهيم فقد دار حول كيفية إحياء الموتى، وهذا سؤال معرفي يبدو متأخرا زمانا عن الحوار الأول، وسؤال الكيف سؤال آخر من أسئلة إبراهيم الانسان النازع نحو المطلق المعرفي، وقد طلبه لمداراة حالة عدم الاطمئنان كما في نص القرآن (ولكن ليطمئن قلبي).

لقد حاول إبراهيم من خلال هذا المبحث استقصاء أفق المعرفة الانسانية والوقوف على مطلقها عبر الوحي، غير أنه أوقف على الإمكان الظاهري لهذه المعرفة دون النفاذ إلى حقائقها (مطلقها)، أي إلى كنه وجوهر أسبابها الذي رامه سؤال الكيف (رب أرني كيف تحيي الموتى).

ولذلك اقتضى طلب إبراهيم –بتعبير صاحب الظلال- توجيها إلهيا لطيفا إلى أن مثل هذا السر “يعلو على التكوين البشري إدراكه..، إنه من أمر الله. والناس لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. وهو لم يشأ أن يحيطوا بهذا الطرف من علمه، لأنه أكبر منهم، وطبيعته غير طبيعتهم. ولا حاجة لهم به في خلافتهم..”[19].

لقد كان هذا التوجيه الإلهي بمثابة صياغة عميقة لطبيعة المعرفة الايمانية لدى إبراهيم (ع) وورثته من بعده، ولذلك لم يتعلق سؤال؛ (أولم تومن؟) بإيمان إبراهيم فهو لم يطلب القدرة وإنما طلب الكيف. والكيف “استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر”[20]، ولذلك فلا صلة للسؤال هنا بالإيمان من عدمه بل هو اقتراب من طبيعته..، فرغم أن ما أبداه إبراهيم من شوق إلى مزيد معرفة هو من طبيعة هذه المعرفة من حيث هي تطلع ارتقائي لا نهائي..، فإنه لم يخل أيضا من تشوُّف ما بعدي مناقض لهذه الطبيعة أي من التطلع اللانهائي ذاته.

وقد رجح البعض أن الألف في قوله “أو لم تومن؟” ليست للاستفهام بل “للإيجاب والتقرير، يعني: أولست قد آمنت؟”[21]  فكأن في ذلك فكا للارتباط بين الإيمان وهذا التشوف الغيبي بالتنبيه إلى كفاية الايمان عنه، “أي إن الإيمان كاف لا يحتاج بعده إلى تنقير وبحث”[22]. ذلك أن الإيمان لا يتعلق بهذا التطلع الغيبي إلا من حيث هو ضديده، إذ ما معنى للإيمان إذا انكشفت أمام الانسان حجب الغيب؟ عندئذ سيفقد الإيمان معناه كما سيفقد الوجود بالنسبة للإنسان حيويته وخصوبته إذ يغدو مسألة حتميات مقررة وثابتة. فـ”الغيب لا نخبر عنه إلا للإعلام بوجوده دون بيان كيفه”[23].

ولذلك أجيب إبراهيم إلى سؤاله..، لكن لا بما طلب حيث مقتضى العزة، بل بما هو متاح حيث مقتضى الحكمة. (واعلم أن الله عزيز حكيم). ولذلك أيضا لم تزد تجربة جعلِ إبراهيم أجزاء من الطير في الجبال ومجيئهن إليه سعيا..، -لم تزد تجربته تلك- عن رؤيته ذلك كما قد رآه ليبقى لديه الكيف مجهولا عزة وحكمة من الخالق.

هو أولا عزة باعتبار الكيف هنا غيبا يختص بالرب وهو مجال يقين إيماني لا معرفة علمية، وهو ثانيا حكمة باعتبار أن تعذر الكيف هو المقوم لإمكان المعرفة والتطور الانسانيين، ذلك أن العقل يستمد فاعليته من وعيه بحدوده، ولهذا أحيل إبراهيم إلى التجربة دون أن يظفر بالكيف، وهذا ما اقتضي له دفعا نحو أفق معرفي قائم على ممارسة اختبارية ضمن معقولية إجرائية مدركة لحدودها.

إن سؤال الكيف كما طلبه ابراهيم هو سؤال في طبيعة الأسباب وكيفية تأثيرها، (ما يحصل به أو منه قوامها)، ومبدأ السببية مما يقوم عليه العقل باعتبار زمانيته ومكانيته، فاقتران الأسباب بمسبباتها معطى لا يُنكر، إلا أن الجدل يظل في طبيعة هذا الاقتران المطرد؛ هل هو ضروري (حتمي) أم عادي؟ إنه رغم كون السببية مبدأ طبيعيا إلا أن طبيعة هذه السببية تقوم على أساس ما بعدي (أي غيبي).

والواقع أن إعراض إبراهيم قبل ذلك في حجاجه مع الذي آتاه الله الملك في مسألة إحياء الموتى جاء من تعلق هذا الأخير بظاهر أسباب الإحياء والإماتة وهما عنده القتل وعدمه (قال أنا أحيي وأميت)، بينما إبراهيم لم يحاججه في ظاهر الأسباب وإنما فيما وراءها من فعل الإحياء الذي هو بث الروح في المادة والذي هو اختصاص ربوبي، “فالقاتل لا يُخرج الروح ولكنه يَهدم البنية بأمر مُحسّ؛ …والروح لا يسكن في بنية مهدومة.”[24]

فالإحياء والاماتة ظواهر لها أسبابها الظاهرة أيضا كما هو معروف بالتجربة العادية، بينما معرفة كيفية عمل هذه الأسباب في ذاتها هو ما تطلع إليه إبراهيم بطلب معاينة حقيقة العلاقة بين المادة والروح المنتجة للحياة، وهذا مبحث غيبي متعذر وتشوُّف ما بعدي لا قبل للإنسان به ولو كان نبيا.

وعن هذا التعذر ينتج أن العلائق بين الأسباب ومسبباتها عادية وليست حتمية، والواقع أن انتهاء طموح إبراهيم إلى ذلك التعذر من استحالة جعْلِ الحقائق الكونية معقولة ومدركة في ذاتها لم يكن إلا تأسيسا للانهائية الطموح الانساني والاشرئباب إلى معانقة ومعرفة المطلق دون إمكان بلوغه، وبات من الحكمة أن تنتهي المعرفة الانسانية عن الغرق في أوهام الإحاطة بجوهر الوجود والشروع في إدراكه لا بتحكمات عقلية منفصلة عنه وإنما بانغماس عملي متواصل فيه. وإذا كان إبراهيم قد اطمأن إلى شيء بعد تجربة الطير فهو قد اطمأن إلى أن لا اطمئنان إلى معرفة نهائية إلا عبر اجتهاد النظر وجهاد العمل المستمرين.

إنه لا شيء في ثبات النظام الكوني يجعل مجراه ضروريا بالتصور، بل هو محض إرادة حرة ومطلقة متعالية لا يحاط بها، وليس المعلوم منها سوى “اعتقادا في العادة”[25] بتعبير أبي حامد الغزالي، ذلك أن خرق هذه العادة ليس من التناقض العقلي في شيء، و ليس في هذا تخريق للكون بقدر ما هو تعليل لانتظامه بالإرادة لا بالعقل. وفي هذا تنسيب حكيم لعقل الانسان وبيان لوظيفته لا لمجرد التنسيب، بل فيه تكميل له عبر الدفع به نحو المكابدة الحية في اكتشاف كونٍ ما فتئ يتخلق بدل القبوع في أتون تصورات مابعدية تحكمية ساكنة تتوهم بأنها وجودية فعلية..،.. إنه اتجاه نحو فهم أعمق لجملة الفعالية الإنسانية أسَّس بقوة لعلاقة انغماس لها بالكون، تسمى التجربة لحصول المعرفة سواء كانت طبيعية أم تاريخية.

 

إبراهيم في أفق الختم:

وبالعودة إلى ما تقدم؛ ما علاقة تجربتي إبراهيم بالختم المحمدي؟

التجربة الأولى (تجربة الكواكب) ابتدأت بالنظر فشارفت العمل، النظر في فعل الله من حيث صدوره عن إرادة لا عن فيض عقل، فيكون الإيمان بالله هو إدراك حدود الإدراك لا غير، وبذلك تنتفي الوساطات الروحية التي تدعي اتحادها بالمطلق الوجودي (علم الغيب) بدعوى الوراثة أو العلم اللدني..، ليصبح الإيمان تجربة حية مفتوحة أمام الإنسان من حيث هي تناغم متجدد مع فطرته، وذلك هو التمهيد للختم بجعل فعل الإيمان الحقيقي نتيجة جهد وجودي حر يتجاوز الوساطات الروحية نحو الصلة المباشرة بالله، تأسيسا للجهاد الإنساني المستمر من حيث هو اشرئباب الإرادة المتناهية إلى مخاللة الإرادة المطلقة. ولهذا لم يعطَ إبراهيم الإمامة في ذريته (ومن ذريتي) إلا بمعيار الإيمان (قال لا ينال عهدي الظالمين) (124:2) فلم ينل عهد الله الظالمين منهم ولو كانت ذلك دعوة من نبي.

التجربة الثانية (كيفية إحياء الموتى) ابتدأت بالعمل فشارفت النظر، النظر في فعل الإنسان من حيث صدوره عن إرادة تحتوي عقلا، فتكون المعرفة بالكون هي تشريع لإرادة الله فيه، وبذلك تنتفي السلط الزمانية التي تدعي اتحادها بالمطلق المعرفي (العلم المحيط)، لتصبح المعرفة (طبيعية كانت أو تاريخية) تجربة حية مفتوحة أمام الإنسان من حيث هي وعي متجدد بفطرته، وذلك هو التمهيد للختم بجعل فعل المعرفة (في الطبيعة والتاريخ) نتيجة جهد معرفي حر يتجاوز الإطلاقات المعرفية نحو الصلة المباشرة بالكون، تأسيسا للاجتهاد الإنساني المستمر من حيث هو اشرئباب العقل المتناهي إلى الوعي بالإرادة المطلقة. ولهذا لم يُر إبراهيم كيفية إحياء الموتى إلا بمعيار التجربة (خذ أربعة من الطير) (260:2)، فلم يُطلع على الكيف (الغيب) ولو كان ذلك طلبا من نبي.

غير أن هاتين التجربتين المتقدمتين في تاريخ الوعي البشري، لم يكونا مجرد تجربتين ذاتيتين (فرديتين) لإبراهيم فحسب بل كانتا مقدمة لتجربتين تارخيتين (اجتماعيتين) أوليتين وتجربة استعادة خاتمة، فإبراهيم النبي كان من أولي العزم من الرسل، بل وجعل للناس إماما..، ولذلك فقد شكلت تجربته مصدرا لتلك التجارب الثلاث بدلالات خمس[26]:

 (1) التجربة اليهودية الغاية (المحرفة): وهي تجربة نكوص خلقي إذ حاولت القفز على حدود الإدراك إثباتا (أرنا الله جهرة) فانتهت إلى أنسنة الإله وهو أنها استغنت بالقانون الطبيعي عن الخلقي وأخلدت إلى الأرض، فأسست بذلك لظهور (2) التجربة المسيحية البداية (غير المحرفة):  وهي التي كانت محاولة إصلاح روحي خلقي (الانجيل من حيث هو في الأغلب رقائق وعظات).

(3) التجربة المسيحية الغاية (المحرفة): وهي تجربة نكوص طبيعي إذ حاولت القفز على حدود الإدراك نفيا (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين) فانتهت إلى تأليه الإنسان وهو أنها استغنت عن القانون الخلقي (ورهبانية ابتدعوها)، فأسست بذلك للحاجة لظهور التجربة اليهودية البداية (غير المحرفة): وهي محاولة إصلاح دنيوي طبيعي (التوراة من حيث هي في الأغلب وصايا وتشريعات).

(5) التجربة الإسلامية الخاتمة: وكان يمكن الاستغناء عن هذه التجربة الأخيرة لو تمكنت التجربتان المتقدمتان عليها زمانا من تحقيق إصلاح بعضهما البعض، لكن ذلك لم يكن ممكنا ليس لأن التوازن والوسطية كانت تعوزهما، بل لأن الإطلاق لا يؤدي إلا إلى إطلاق، ولذلك اقتضى الختم استعادة جديدة، لأن الحنيفية لم تكن يوما وسطا بين إطلاقين، بل كانت أصيلة قبلهما ومصدقة ومهيمنة بعدهما بنقد الشرك من حيث هو جذر ذينك الإطلاقين؛ المفارق منه والمحايث. فـ(ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانيّاً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين) (67:3).

رغم أن إبراهيم (ع) كان بتجربته تأسيسا أولا ممهدا لمحمد الخاتم (ص)، فإن الختم وحده الذي جعل استعادة إبراهيم ممكنة.. تصديقا وهيمنة..، تصديقًا باستعادة تجربة إبراهيم الوجودية والمعرفية، وهيمنةً بنقد جحوديها التاريخيين عبر نفي الوساطات الروحية والزمانية تحفيزا للاجتهاد والجهاد الانسانيين في شق طريقهما بداية بقصة إبراهيم (ع) ذاتها وانتقالا إلى عموم التاريخ الانساني..، وكما هو في الأنفس هو في الآفاق أيضا، وذلك هو جوهر الختم.

 


هوامش:

[1]– د. محمد إقبال – تجديد التفكير الديني في الإسلام – مركز الناقد الثقافي/ دمشق- ط2.

[2]– د. محمد إقبال – المرجع السابق.

[3]– وذلك في معرض مناقشته لما ذهب إليه شبينغلر من محاولة إضفاء للثقافة المجوسية على الاسلام باعتبارها ثقافة انتظار لأبناء زرادشت.

[4] – استعمل د. أبو يعرب المرزوقي هذا المصطلح وعرفه في كتابه “وحدة الفكرين الديني والفلسفي” دار الفكر- ط1/2001.

[5] – وقد ذكر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير (نسخة إلكترونية) عن حوار ابراهيم مع أبيه والكواكب: (ولم يرد في التوراة ذكر للمحاورة بين إبراهيم وأبيه ولا بينه وبين قومه).

[6] – التفسير الكبير، مفاتيح الغيب- فخر الدين الرازي- نسخة إلكترونية.

[7] – أ. عباس محمود العقاد- إبراهيم أبو الأنبياء- دار نهضة مصر- ط8/2009.

[8] – معالم التنزيل- الحافظ البغوي- نسخة إلكترونية.

[9]– فراس السواح- مغامرة العقل الأولى- ط11.

[10]– وتجدر الإشارة هنا أن في بعض أساطير السومريين والبابليين كما في ملحمة “إنوما إليش” ما يشير إلى تأثرها ببعض الرسالات السماوية في قصة بداية الخلق من مثل الميلاد المائي وانفتاق السماء والأرض بعد التصاق، فيكون ذلك نتيجة استعارات كهنوتية من رسالة نوح أو هو أصلا تحريف لرسالات سماوية (رسالة نوح على الأرجح). كما ذهب إليه د. رشدي البدرواي- قصص الأنبياء والتاريخ- مكتبة ومطبعة المجلد العربي القاهرة- ج2- ط3/2010.

[11] – أ. عباس محمود العقاد- مرجع سابق.

[12] – عبد الرحمن بن خلدون- المقدمة – نسخة إلكترونية.

[13] – هو شطر بيت ينسب إلى أبي بكر الصديق (ض): (العجز عن دَرَكِ الإدراك إدراك/ والبحث في سر ذات الله إشراك) ونسبه ابن خلدون لبعض الصديقين.

[14] – أ. عباس محمود العقاد- مرجع سابق.

[15]– د. رشدي البدراوي- مرجع سابق.

[16] – محمد إقبال- مرجع سابق.

[17] – نقد الميتافيزيقا بين الغزالي وابن رشد- أبو يعرب المرزوقي- الدار المتوسطية للنشر تونس- ط1/2007.

[18] – د. محمد إقبال- مرجع سابق.

[19]– في ظلال القرآن- سيد قطب- نسخة الكترونية.

[20]– القرطبي نفسير الآية 260

[21]– الوسيط في تفسير القرآن المجيد- أبو الحسن علي الواحدي- نسخة إلكترونية.

[22]– المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز- ابن عطية الأندلسي- نسخة إلكترونية.

[23] – د. أبو يعرب المرزوقي- التفسير الجلي- ج1- الدار المتوسطية للنشر تونس- ط1/2010.

[24]– تفسير الشعراوي- محمد متولي الشعراوي- نسخة إلكترونية.

[25]– يقرر أبو حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة أن: (هذه علوم يخلقها الله بمجاري العادات نعرف بها وجود أحد قسمي الإمكان، ولا نبين بها استحالة القسم الثاني).