مجلة حكمة
أكيلا

أكيلا: قصة ملهمة أم خطاب عنصري؟ – ترجمة: بثينة الإبراهيم

8SwqO6FXtJM.movieposter
غلاف الفلم

 


برز مصطلح “مابعد العنصرية” بازدياد في الخطاب الإعلامي والوطني، وأشار الكثيرون أنه بانتخاب “باراك أوباما” ليكون الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة، تكون هذه البلاد قد تجاوزت الإرث البغيض للتمييز العنصري. يلخص خطاب ” ما بعد العنصرية” في هذه المرحلة التاريخية بانتخاب رئيس البلاد الأفرو أمريكي الأول منجزين رئيسين على يد الأفرو أمريكيين بشكل خاص والأمريكيين بشكل عام: (1) يمكن للأفروأمريكيين أن يحققوا  ما يعقدون العزم عليه بلا شك، وهي شهادة على ذكاء الأفرو أمريكيين، وأخلاقيات العمل الجاد و قدرات القيادة وغيرها لديهم.   (2) قدرة الأمريكيين على تجاوز النظر إلى الألوان والاهتمام بالكفاءة وحدها.

بالرغم من هذا التصور المتفائل للعنصرية في الولايات المتحدة، لكننا نرى أنها ما تزال حية وتندس في أماكن لا يمكن توقعها. سنناقش في هذا المقال الفيلم الملهم “أكيلا ومسابقة التهجئة الوطنية” “Akeelah and The Bee” الفيلم الذي يلقي الضوء على الأفكار نفسها التي نشأت بانتخاب أوباما للرئاسة:  قصة الأفرو أمريكي الذي يواجه كل التحديات لتحقيق النجاح على نطاق أوسع. وصف فيلم “Akeelah and The Bee” بأنه فيلم عائلي ملهم وبأنه فيلم ناجح يمنح السعادة، كما أثبت أنه محفز للعديد من المشاهدين، إذ يلقي الضوء على ذكاء أكيلا وتماسكها وتصميمها على الفوز بالمسابقة الوطنية للتهجئة. بالرغم من أن هذا الفيلم يبدو بسيطًا فإننا نحاول هنا تقديم تحليل نقدي للخطاب في هذا الفيلم (CDA) (تحليل هوكين 1995،Huckin) لعرض ما نرى بأنها دلالات عنصرية واضحة أو خفية، وخطابات عنصرية تعزز الحبكة وتتخللها لتصور الأفروأمريكيين من منظور العجز والشذوذ و الاضطراب.

 

 التحليل النقدي للخطاب:

سنستخدم تعريف هوكين للتحليل النقدي للخطاب باعتباره هيكلًا لتحديد الخطابات العنصرية السائدة التي تُضمّن غالبًا في نص أو حوار أو صورة أو مقطع فيديو وتحليلها. يعرف التحليل النقدي للخطاب بأنه منهج أخلاقي لتحليل النصوص بهدف الكشف عن اختلال القوى الخفية في النصوص التي تعمل على توليد البنى العنصرية، و إبقاء الوضع كما هو عليه. يصف بيمنتل وفيلاثكيث _ في تحليلهما النقدي للخطاب في فيلم “شريك 2 Shrek “_ يصفان عملهما بأنه تحليل للنصوص “المكتوبة والمنطوقة” للكشف عن الأسس المنطقية للقوة والهيمنة واللا مساواة والانحياز، وكيف بدأت هذه الأسس واستمرت و كيف أعيد توليدها وتحولت في سياقات تاريخية وسياسية واجتماعية اقتصادية محددة.

ما يهم هنا هو أن الخطاب العنصري مبني على حوارات مستخدمة في الحياة اليومية، لهذا يمكننا القول بأن الخطاب العنصري في فيلم “Akeelah and The Bee” لا يبدو من مجتمع مختلف غير عنصري، بل هو انعكاس للعنصرية التاريخية والمستمرة إزاء الأفروأمريكيين. هذه الخطابات العنصرية التي تظهر في الفيلم، بالإضافة إلى ظهورها في مواقع أخرى، تستخدم باستمرار وتوظف بعد ذلك لتعزز النظرة الخاطئة حول دونية الأفروأمريكيين.

عمومًا، لقد حددنا أربعة خطابات عنصرية في الفيلم محل الدراسة:

1- يمثل الأفرو أمريكيون طبقة متدنية اجتماعيا ودراسيا وهم بحاجة للإنقاذ.

2- تقوم المجتمعات الأفرو أمريكية على العنف والجريمة.

3- نادرا ما يحقق الأفر أمريكيون نجاحا في مجالات غير الرياضة.

4- يجب أن يهجر الأفرو أمريكيون الناجحون مجتمعاتهم، الفكرة التي عززها مجازيا مفهوم الرحلة أو الطيران.

**

 الأفرو أمريكيون والتخلف الاجتماعي والدراسي

هناك عدة خطابات عنصرية أساسية ترسم الأفرو أمريكيين باعتبارهم طبقة متدنية اجتماعيا ودراسيا وبحاجة إلى مساعدة:

أ- الأفروأمريكيون معدمون، كما أنهم يخربون مجتمعهم ويهينونه.

ب- لا يتمتعون بالذكاء.

ج- لا يمتلكون أي مهارات للنجاح بمفردهم، وينتظرون المساعدة من الآخرين.

يبدأ تحليلنا لهذه الخطابات العنصرية بعنوان الفيلم حيث تبدو أكيلا منذ البداية شخصًا يعاني دراسيًا. فالعنوان يوضح أن أكيلا ( فتاة أفرو أمريكية) والمسابقة ( ميدان للذكاء والمنافسة الدراسية ) ليستا متساويتين ولاتبدو إحداهما مكملة للأخرى. بل يلمح العنوان إلى كون أكيلا تقاوم المسابقة، على نحو يشبه المقاتلين في بطولة ملاكمة ( دي لا هويا ضد كامشو )، بالرغم من أن أكيلا في الفيلم لم تكن في مباراة متكافئة الطرفين كما هي الحال حين يتبارى ملاكمان من فئة الوزن نفسه. وتبدو أكيلا في صورة الضحية، المحروم الذي يتوجب عليه أن يكافح باستمرار ويتخطى كل المصاعب على نحو أشبه بالمعجزة لتحقيق الفوز. وقد قال منتج الفيلم ومخرجه “دوج آتشينسون” في حديث عن فيلمه أنه أراد أن يصنع فيلمًا يذكر المشاهدين بـ “روكي” حيث يتعين علينا أن نشجع أكيلا التي تعاني دراسيا واجتماعيا عند اجتيازها لمراحل التدريب المختلفة إلى أن تحقق الفوز أخيرا في مسابقة التهجئة الوطنية.

يستمر الخطاب العنصري الذي يظهر الأفرو أمريكيين طبقة متخلفة اجتماعيا ودراسيا في المشاهد الأولى من الفيلم والتي تركز على شوارع كرينشو، حيث يرى المشاهد الكتابات على الجدران، والأفنية المسورة بالسلاسل التي تعلوها الأسلاك الشائكة، والقضبان على النوافذ و عربات التسوق المملوءة بعلب الصفيح، و باعة متجولين ونفايات من علب البيرة الفارغة وأكياس القمامة الملقاة على الأرض، ورجلًا أفرو أمريكي يشرب البيرة ويتسول بعض المال من أكيلا وصديقتها. تبدو هذه المشاهدة كنافذة يطل منها المشاهدون، الذين هم ليسوا من الأفرو أمريكيين غالبًا، على حياة الأفرو أمريكيين التي تقوم على التشرد والفقر و الجريمة والبطالة ونشاط العصابات.

نتعرف في المشهد الأول من الفيلم إلى أكيلا، من خلال الإبقاء على الفكرة التي تكرس الأفرو أمريكيين في هذا المجتمع بأنهم متخلفون دراسيا واجتماعيا، ولن تكون شخصية أكيلا أكثر إقناعا ما لم  تظهر بأنها حالة شاذة عن مجتمعها. في الواقع نتعرف إلى أكيلا من خلال صوتها الراوي حين تقول:” هل تعرف الشعور حين لا يبدو أي شيء مما تفعله أو أي مكان تذهب إليه مهمًا لأنك ببساطة غير مناسب؟!” وتمضي في سيرها في الوقت الذي نشعر فيه بعدم انسجامها في المجتمع واغترابها وإقصائها.

ينتقل التركيز في المشهد التالي إلى صف في مدرسة كرينشو المتوسطة، وتماشيًا مع الافتراض بافتقار الأفرو أمريكيين إلى الذكاء والمهارات الدراسية نرى طلابًا ينامون على طاولاتهم في الوقت الذي توزع فيه المدرسة أوراق اختبار التهجئة بعد تصحيحها بالقلم الأحمر العريض،  وتظهر الدرجة على الورقة الأولى وكانت 71% وتبدأ الدرجات بالتناقص على الأوراق الأخرى، ولكن كانت ورقة أكيلا الاستثناء الوحيد، حيث تسأل المدرّسة أكيلا عن عاداتها الدراسية بنوع من الازدراء وتعيد إليها ورقتها، وتنظر أكيلا خجلى إلى ورقتها سرا لتجد أنها أحرزت 100%. ومرة أخرى يرسم هذا المشهد أكيلا بأنها حالة شاذة من نوع المغترب الذكي الذي يتوجب إنقاذه من المجتمع الفاشل.

كما تتقدم فتاتان أفرو أمريكيتان من أكيلا وتسخران من ذكائها، وتنعتانها بالـ “عبقرية” ومن ثم تأمرانها بأن تلتزم بإنهاء واجباتهما المنزلية. وكما لو أن تصوير الفتاتين بأنهما فاشلتان في التعليم لم يكن كافيا، بل يتدخل المدير الأبيض السيد ويلش ، الذي كان يتحدث إلى د. لارابي الأستاذ في جامعة كاليفورنيا الأفرو أمريكي الغني، لإنقاذ أكيلا من زميلتيها.

تخلل فكرة حاجة أكيلا، بالإضافة إلى أفرو أمريكيين آخرين من مجتمعها، إلى الإنقاذ كامل الفيلم، وتبدو المسابقة نفسها وسيلة إنقاذ لمدرسة كرينشو المتوسطة من حالتها المزرية كونها مدرسة ذات موارد قليلة وإنتاجية متدنية. ويعمل د. لارابي على تدريب أكيلا وفي الوقت نفسه يبدو هو مخلصها من “الجيتو الأسود”، فهو يؤكد حاجة أكيلا إلى تمثّل قيم البيض الثقافية من خلال تأكيده على ضرورة تعلمها الأصول الأوروبية ( الإغريقية واللاتينية ) للكلمات، ولم يطرح تساؤلا حول غياب الكلمات ذات الأصول الأفريقية أو التي تنتمي إلى أصول أخرى عن هذا النوع من المسابقات، كما أنه علاوة على ذلك يرى إنجليزيتها العامية الأفرو أمريكية شكلا ناقصا من الإنجليزية، ونجده يكرر على أكيلا باستمرار بضرورة هجر طريقة الجيتو في الحديث في المنزل، وهو بهذا يرفض البحث الثقافي الاجتماعي واللغوي الذي يعرف العامية الإنجليزية الأفروأمريكية بأنها رمز لغوي صحيح ومعقد يجب ألا ينظر إليه بازدراء ( سيميذرمان 2006). ولكن من وجهة نظر د. لارابي يمكن للأشكال السليمة للذكاء أن تتحقق عبر المنظور الأوروبي التمركز، وبالتالي فهو يمرر رسالة بوجوب إنقاذ أكيلا من أسلوبها الأفرو أمريكي في المعرفة لتعتبر ذكية ومثقفة.

 

 المجتمعات الأفرو أمريكية مجتمعات عنف وجريمة:

يظهر خطاب عنصري آخر في الفيلم الأفروأمريكيين على أنهم عنيفون بالفطرة وأن مجتمعاتهم مرتع للجريمة، وقد بنيت هذه الدلالة العنصرية على الاعتقاد بـ :

أ- افتقار الأفرو أمريكيين إلى الذكاء ولهذا السبب يلجؤون إلى العنف للحصول على ما يكتسبه عليه غيرهم بالعمل الجاد.

ب- يشكل الأفرو أمريكيون خطرا على المجتمع المدني لذا من الأفضل احتواؤهم في بيئات منظمة.

ج- يميل الأفرو أمريكيون إلى الكسل لذلك يسعون إلى تحقيق النجاح بطرق غير مشروعة.

يعد المشهد الثاني في الفيلم الأكثر تمثيلا للخطاب العنصري، إذ نرى في المشهد لجوء اثنتين من زميلات أكيلا في الصف إلى العنف  عندما تعتديان عليها جسديا في محاولة لتجنب إتمام عملهما، ويؤكد المشهد على افتقار الأفرو أمريكيين للذكاء والحافز للتفوق دراسيا، ولتعويض ذلك يلجؤون إلى العنف.

ولعل مشهد تسلق طلاب مدرسة كرينشو المتوسطة للسلالم للوصول إلى فصولهم، هو المشهد الأكثر سوداوية في الفيلم والذي يبدو مؤشرا على مستقبل الشباب الأفرو أمريكيين، وتظهر كل المساحات المفتوحة _ بشكل متناقض_ مسورة بالسلاسل، وهو ما يجعل المرء يتساءل إن كان ذلك لحماية الطلاب من مجتمعهم أو لاحتجازهم، لذا لا يبدو استخدام المؤثرات الصوتية لصافرات سيارات الشرطة والمروحية غريبا، إذ إنها تذكير صارخ للمشاهد بأن المجتمعات الأفرو أمريكية مجتمعات موبوءة بالعنف والجريمة فطريا.

يمثل تيرانس أخو أكيلا فكرة ميل الأفرو أمريكيين للكسل ولجوئهم إلى الكسب غير المشروع لتحقيق النجاح. تظهر أكيلا في أحد مشاهد الفيلم مع أخيها الأكبر ديفون يناقشان أفعال تيرانس أثناء تناولهما الطعام، معبرين عن ذعرهما لكونه “يتسكع” مع “تي” وهو رجل عصابة من الجوار. ثم يدخل تيرانس في المشهد التالي غرفة أكيلا مرتديا سترة حمراء وقبعة رياضية، اللباس الذي يرتديه أعضاء عصابة “الدم Blood”، وفي مشهد لاحق يعيد رجال الشرطة تيرانس إلى المنزل ويسلمه إلى والدته التي تعنف ولدها المتمرد لانتسابه للعصابة وتطالبه بأن ينزع الساعة الذهبية الثمينة من معصمه. ولما كانت الانتقادات المباشرة لأفعال تيرانس أو سبب إعادة الضابط له إلى المنزل مهملة، يشجع ذلك الجمهور على تخمين تهمة تيرانس وافتراض أنه سرق الساعة. هذه اللقطات بالإضافة إلى أخرى في الفيلم تعطي المشاهد انطباعا بتورط تيرانس بأفعال إجرامية. وهو ما يعطي بالتالي مثالا آخر على المعتقد العنصري بأن الذكور الأفرو أمريكيين كسولون ويميلون إلى الأنشطة غير المشروعة لتحقيق مكاسب مادية والنجاح.

 

الأفرو أمريكيون والرياضة:

قد يكون أحد الخطابات العنصرية السائدة في أمريكا اليوم الإشارة الضمنية بعدم قدرة الأفرو أمريكيين على تحقيق النجاح في مجال غير الرياضة، وعلى الرغم من أنهم يشكلون نسبة كبيرة من الرياضيين المحترفين في الفرق الرياضية، إلا أن السبب في القدرة الرياضية الهائلة التي يتمتع بها قطاع كبير منهم يساء تأويله إلى حد بعيد. ويمكن تعليل ذلك من خلال ربطه بعدة دلالات عنصرية منها:

أ- أن الأفرو أمريكيين لا يمتلكون مهارات دراسية تعينهم على النجاح.

ب- لا يحسن الأفرو أمريكيون ترتيب أولوياتهم لذا يحبط المجتمع التفوق الدراسي.

ج- على خلاف الأعراق الأخرى يبدو الأفرو أمريكيون مهيئين _جسديًا_ للتفوق في الرياضة والموسيقى.

ونجد في مقطع من الفيلم مثالا واضحا على الاعتقاد بافتقار الأفروأمريكيين للمهارات الدراسية وبالتالي فإنهم يعتمدون على الرياضة لتحقيق النجاح، وذلك حين تتنافس أكيلا وطلاب آخرون في مسابقة للتهجئة في مدرسة كرينشو المتوسطة. يتقدم طالب الصف الثامن شانكي جونسون ،صبي أفرو أمريكي، للمنافسة، وقبل أن يستمع إلى الكلمة التي يفترض به تهجئتها يسأل عن شباك كرة السلة في المدرسة، وكأن ذلك إلماحة حاذقة إلى تقدم الرياضة على الدراسة في عالمه. تتجاهل المنسقة تعليق شانكي حول كرة السلة وتوجه انتباهه إلى المسابقة وتطلب إليه تهجئة كلمة (Grovel) يتذلل، بحيث يستحضر المرء هيئة المعدم الوضيع المفتقر للذكاء، ولكن شانكي يخلط بين الكلمتين (Grovel, Gravel) ويفشل في تهجئتها بشكل صحيح ثم يقول ” ومن يهتم بذلك؟”. وهكذا يجعل سلوك شانكي، بشكل غير مباشر، من أكيلا حالة فريدة ويدفع خط القصة إلى الأمام.

كما نجد مثالا آخر على تلميح الفيلم على نجاح الأفرو أمريكيين في الرياضة فقط في المشهد الذي توبخ الأم أكيلا لغيابها عن حصص التربية البدنية في مقابل تشجيعها على سعيها للتفوق في التهجئة. كما يظهر دليل آخر على هذا الخطاب في الافتراض بأن شبكة الرياضة (ESPN) هي القناة المفضلة في المنازل الأفروأمريكية، وتظهر أكيلا في بداية الفيلم تبحث عن قناة (ESPN) وتجد إعلانا للمسابقة الوطنية  للتهجئة، وكانت تراقب بفضول كما لو أن هذا الإعلان هو أمر شاذ “مناقض” لما تبثه القناة الرياضية عادة.

في مشهد آخر في مكتب السيد ويلش يظهر المدير وهو يحاول إقناع أكيلا بالاشتراك في مسابقات التهجئة، مشيرا إلى أنها كانت نادرا ما تخطئ في تهجئة الكلمات، ومن ثم يسألها إن كانت قد سمعت قبلا عن المسابقة الوطنية للتهجئة، فتجيب بأنها قد شاهدت إعلان المسابقة الأسبوع الماضي، ويعلق السيد ويلش قائلا بأنها تعرض على قناة (ESPN) سنويا. يقلص الفيلم نطاق اهتمامات المراهقين الأفروأمريكيين ويحصرها بالرياضة على نحو واضح على خلاف المراهقين من المجموعات الأخرى التي تهتم بسلسلة من الأنشطة والبرامج الترفيهية.

ويؤكد الفيلم علاوة على ذلك على الخطاب العنصري الذي يحدد نجاح الأفرو أمريكيين في الرياضة دون غيرها عندما يربط بين قدرة أكيلا المذهلة على التهجئة ومهاراتها الإيقاعية، ولم يقتصر ذلك على مشهد أو اثنين لكنه تكرر في عدة مشاهد، حيث نرى أكيلا تنقر بأصابعها على ساقها لتحصي عدد مقاطع الكلمة المراد تهجئتها، وقد ركزت عدة لقطات قريبة على يد أكيلا وهي تنقر، ففي أحد المشاهد في جلسة تدريب في فناء منزل د. لارابي نرى أكيلا تنقر بأصابعها على ساقها بينما كانت تقوم بتهجئة إحدى الكلمات وينبه د. لارابي أكيلا أن نقرها هو وسيلتها المعينة على التذكر أوبعبارة أخرى حيلتها في حساب المقاطع. وبالمقابل يشجع د. لارابي مهارات أكيلا الإيقاعية حين يقدم لها حبل القفز الخاص بابنته المتوفاة، وفي مقطع لاحق تظهر أكيلا على المنصة وهي تحاول تهجئة كلمة صعبة فتتظاهر بقفز الحبل وتنجح في إتمام الكلمة ومن ثم تنتقل إلى مستوى أعلى من المسابقة. ومن الملاحظ أنه لا أحد من المتسابقين الآخرين يظهر آليات واضحة تساعده على التهجئة، مما يجعلنا نستنتج أن الاختلاف بين أكيلا والمتسابقين الآخرين يكمن في اعتمادها على المهارات الرياضية والإيقاعية للنجاح في ميدان أكاديمي.

 

الناجح يهجر مجتمعه:

يظهر المنظور الأخير والأكثر أهمية في افتراض أن الأفروأمريكي ينجح إن تمكن من الفرار من مجتمعه، ونجد هذه الدلالات الضمنية العنصرية على النحو الآتي:

أ- يهجر الأفروأمريكيون الناجحون مجتمعاتهم الفقيرة.

ب- يعتمد الأفروأمريكيون من أصحاب المهارات على الآخرين لمساعدتهم في الخروج من مجتمعاتهم التعسة.

ج- تعيق المجتمعات الأفروأمريكية أبناءها الواعدين من تحقيق النجاح.

ويبدو المشهد الذي تظهر فيه أكيلا دهشتها عند معرفتها مكان سكن د. لارابي في حديث بينها وبين السيد ويلش_ عندما كان يحاول إقناعها بطلب المساعدة من لارابي_ بأنه يسكن قريبا من المدرسة، يبدو هذا المشهد داعما للفرض العنصري بأن الأفروأمريكي الناجح يهجر مجتمعه، ومن ثم تقود دهشة أكيلا الجمهور إلى تصديق ذلك الفرض.

وبالرغم من تصوير الفيلم لذكاء أكيلا النموذجي وقدرتها على النجاح لكنه يوحي للجمهور بأن أملها الوحيد هو في الهرب من قدرها المحتوم بمساعدة مدير مدرستها الأبيض السيد ويلش وصديقه د. لارابي. وعدا مسابقة كرينشو للتهجئة سيتوجب على أكيلا أن تسافر للمشاركة في مسابقات تقام في مناطق راقية مثل بيفرلي هيلز و وودلاند ويرافق السيد ويلش أكيلا في كل المسابقات، وأخيرا يقرر د. لارابي تدريبها إلى أن تحقق الفوز.

يوحي لجوء أكيلا إلى حيلها السرية في التهجئة أمام أصدقائها الجدد في المناطق الثرية للمشاهدين بأنه من النادر أن يعثر المرء على ناجحين في مجتمع أفروأمريكي، ويظهر ذلك في ذروته في التفاف المجتمع حول أكيلا عندما تنجح في المسابقات ( رجل العصابة وساعي البريد و المدرّسة و صاحب المحل الآسيوي و وزملائها في مدرسة كرينشو وحتى الرجل الثمل الذي رأيناه في بداية الفيلم ) وتبدأ بالاستعداد للمسابقة النهائية فيكرسون طاقاتهم لمساعدتها على الاستعداد للمسابقة الوطنية. هذه الرسالة تقلل من قسوة التقسيم الذي ينتشر في بعض المجتمعات أحيانا ( ليس في المجتمعات الأفرو أمريكية فقط ) في ظل اعتبارات عنصرية واقتصادية و سلوكية. إن تصوير نجاح أكيلا بأنه مذهل وخارج عن المألوف بحيث يحشد كامل المجتمع لتشجيع أكيلا وإعدادها.

ويزداد التركيز على فكرة عدم قدرة المرء على النجاح في مجتمعه الأفروأمريكي بحيث يمكن أن يكون أفراد الأسرة أو المجتمع الأفرو أمريكي عقبات  أمام هذا النجاح، ففي أحد المشاهد ترفض أم أكيلا  السماح لها بالمشاركة بمسابقات التهجئة بسبب غياب أكيلا عن حصص التربية البدنية، كما أنها تظهر في مشهد لاحق من الفيلم وتسحب أكيلا من المنصة أثناء المسابقة الإقليمية، ولو لم يعمل السيد ويلش و د. لارابي _ سرا وعلنا _ على إنقاذ أكيلا من إعاقة والدتها لها لكانت ستمنى بالفشل حتما، وينجح الفيلم في إظهار والدة أكيلا بأنها شخصية أفروأمريكية تعيق نجاح ابنتها وتهدده.

 

الرحلة:

يؤكد الفيلم فكرة الهرب أيضا من خلال الرحلة “كاستعارة”، فهو يطرح الرسالة “بشكل غير مباشر” حول هجر الأفروأمريكيين لمجتمعهم لتحقيق النجاح في عالم بعيد عن قبضته الضاغطة عبر تضمين فكرة “الرحلة” ببراعة في النص، وعلى الرغم من أن هناك مشاهد كثيرة تلمح إلى هذه الفكرة، لكن يبرز منها ثلاثة:

* يصور الكاتب أكيلا في مشهد في بداية الفيلم الأخ الأكبر لأكيلا “ديفون” كطالب في كلية الطيران الحربي، ويربط هذا التصوير بوضوح بين مهنة ديفون وفرص النجاح وفكرة تمكنه من الهرب من مجتمعه الأفروأمريكي من خلال الطيران. قد تقدم مهنة ديفون كطيار _ المهنة التي ستأخذه بعيدا عن مجتمعه وعائلته_  الدليل الأوضح على استخدام المؤلف المجازي للطيران للتأكيد على أن الأفروأمريكيين يهجرون مجتمعاتهم لتحقيق النجاح.

* في مشهد تالٍ تصر صديقة أكيلا المقربة “جورجيا” على أنها ستكون مضيفة طيران في المستقبل، أثناء سيرهما  في شارع موحش في كرينشو، كما تشير جورجيا إلى “ديفون” باعتباره طيار المستقبل وتصر على أنها ستكون مرافقته يوما ما.

* يكشف المنتج في المشهد الأخير والأكثر أهمية عن قدر كل من شخصيات الفيلم الرئيسة حيث يوزع د. لارابي تذاكر الطيران لعائلة أكيلا وصديقتها إلى واشنطن العاصمة، وفي نهاية الفيلم تحصد أكيلا النجاح بالفوز في مسابقة التهجئة الوطنية في العاصمة، المدينة التي تبعد عن مقاطعة كرينشو وعن قبضات المجتمع الأفروأمريكي الضاغطة. وسواء أكان ذلك متعمدا أم لا فقد أكد استخدام المنتج المجازي للطيران في هذا المثال على التصور العنصري بأن الأفروأمريكيين الواعدين لا بد أن يعتمدوا على الآخرين لمساعدتهم في الهرب من مجتمعاتهم.

 

خاتمة:

إن آثار الخطابات العنصرية التي تمررها أفلام مثل فيلم “أكيلا” ليست تافهة أو وحيدة، ففي عام 2009 ظهرت عدة أفلام من هوليوود تركز على فكرة حاجة الأفروأمريكيين لمساعدة الآخرين للنجاح أو الإنقاذ من مجتمعاتهم أو أسرهم المسيئة و المعدمة أو المتصارعة من مثل ( Precious ثمين) و The Princess and the frog) الأميرة والضفدع) The blind side) الجانب الأعمى) ظهور الخطاب العنصري المتكرر الذي يصور عوز الأفروأمريكيين وحاجتهم إلى الإنقاذ والهروب من مجتمعاتهم، تشكل تصور مجتمعنا ومؤسساتنا التعليمية حول الموارد والخدمات التعليمية المناسبة للأفروأمريكيين بالإضافة إلى التمثيل المناسب لهم في البيئة الأكاديمية.

لننظر فقط إلى الأحداث العنصرية الأخيرة في جامعة كاليفورنيا، سان دييجو لنفهم كيف يشكل الخطاب العنصري تصور الجزء الأكبر من الطلاب البيض، حيث قام بعضهم بالدعوة إلى حفلة في “كومبتون” تتركز فكرتها حول الجيتو وكان ذلك من أجل الاحتفاء ” بشهر التاريخ الأسود”، وجسدوا مجتمع “كومبتون” الأفروأمريكي، و لم يركزوا على ذكاء الأفروأمريكيين أو جمالهم أو إنجازاتهم لكنهم ركزوا الخطاب العنصري المسيطر المستمر من خلال تشجيع الحضور على ارتداء ملابس “الجيتو” والتصرف مثلهم. تسأل دعوة الفيس بوك الحضور، والتي تعكس خطاب وسائل الإعلام، المدعوين أن يتحدثوا بفظاظة ويأتوا مسلحين ويفتعلوا النزاع ويشربوا الكحول إلخ..

لقد أصبح من الواضح أن طبيعة الخطاب العنصري الحوارية باقية ومتصاعدة، وقد دللت على ذلك حفلة “كومبتون” بالإضافة إلى مظاهر عنصرية أخرى في أنحاء البلاد. ونأمل من هذا التحليل أن نوضح كيف يمكن أن تؤثر أفلام بريئة و ملهمة عميقا في مجتمعنا أكثر من كونها للتسلية. ومن خلال التحليل النقدي للخطاب أردنا أن نبين أن فيلم “أكيلا” بالإضافة إلى كثير مما نشاهده عبر وسائل الإعلام تعزز المفاهيم العنصرية ما يعني ديمومة المجتمع المتعنصر.