مجلة حكمة

أزمة الفكر والمنهج وأخلاقيات البحث في العلوم الاجتماعية: كتاب خط الكفاية نموذجاً – عبد الرحمن الشقير

[كتاب “خط الكفاية في المملكة العربية السعودية”، إعداد د. سامي الدامغ، نشر: مؤسسة الملك خالد الخيرية بالرياض (ط ١، ١٤٣٥هـ/2014)]


لا أجد تعريفًا جامعًا لمفهوم أزمات: الفكر الاجتماعي، وأخلاقيات البحث، والمنهجية، ولكنه يشمل كل حالة عجز إبداعي، واغتراب عن الفكر الاجتماعي، وتقصير مقصود أو غير مقصود في تصميم البحوث العلمية وأساليب إنتاج المعرفة، والعجز عن ضبط مفاهيم الدراسة، وتحديد مشكلتها البحثية، بما في ذلك العجز عن التنوع المنهجي، والسرقات العلمية، والتدليس العلمي، وضعف تصميم البحوث وسوء تنفيذها والادعاء بأن الدراسة فريدة من نوعها، مما يتسبب في تسطيح علم الاجتماع. ولا يدخل في ذلك التقصير الذي يقع في الحدود الطبيعية ويقبل النقاش حوله.

تأتي مراجعتي لكتاب “خط الكفاية” ضمن مراجعة نقدية لاتجاه الدراسات الاجتماعية في السعودية خاصة، والدراسات الاجتماعية العربية عامة، بهدف تنشيط المراجعات العلمية ونقدها بوصفها الأسلوب الأمثل لتطوير العلوم الاجتماعية، وهو كتاب يعد نموذجاً للأزمات الفكرية والمنهجية، كما أنه يدرس ظاهرة الفقر، ومن ثم فمن المتوقع منه أن يمس الحياة اليومية، ويناقش مشكلة اجتماعية واقتصادية وسياسية عالمية؛ كما أن الدكتور سامي الدامغ يعد من أوائل المتخصصين في الخدمة الاجتماعية في جامعة الملك سعود، وله دراسات منشورة، وأخيراً أن وزارة العمل والتنمية الاجتماعية أعلنت أنها أخذت بعين الاعتبار نتائج الدراسة التي أعدها المؤلف في تحديد “حساب المواطن”، وأنه أحد أعضاء فريق برنامج المواطن (صحيفة سبق الإلكترونية 26 يناير 2017)، وهو تصريح غير محسوب، ولا يليق تدشين مشروع اجتماعي واقتصادي ضخم أن يجامل باعتماد دراسات ضعيفة، ولم تبذل الوزارة جهدًا في التأكد من صحة ما فيها ودقة منهجيتها.

ولعل السؤال البدهي الذي يطرحه المعنيين بظاهرة الفقر هو: لماذا صدر هذا الكتاب والمؤلف يعرف جيداً أن دراسته نابعة من أصل دراسات “الاستراتيجية الوطنية لمعالجة الفقر” (غير منشورة)، وأنها أقرت حزمة معالجات، ومنها “صندوق الفقر” (تغير اسمه إلى الصندوق الخيري الوطني)، ومنها تحديد الحد الأدنى للدخل الذي سماه الكتاب خط الكفاية؟

 

ملخص الكتاب

تضمن الكتاب خمسة فصول، كان الفصل الأول عبارة عن مقدمة مطولة لشرح فكرة الكتاب وأهميته، والفصل الثاني تحدث عن ظاهرة الفقر وأسبابه والنظريات الاجتماعية المفسرة له، والفصل الثالث تضمن الإجراءات المنهجية التي اتبعها الكتاب، والفصل الرابع وهو أطول فصول الكتاب تضمن نتائج الدراسة، ثم الفصل الخامس الأخير وفيه توصيات الدراسة. ويلحظ من هذه الفصول أنها النموذج المعمول به في رسائل الماجستير والدكتوراه المعدة أساساً للتدريب على إعداد البحوث، لسهولة إنجازها ولاعتمادها على توزيع مهامها كجمع البيانات وتحليلها إحصائياً، ولخلوها من أي جهد فكري تحليلي يضمن قراءة اجتماعية تحدد المنظور الاجتماعي أو التربوي أو النفسي الذي تنطلق منه الدراسة. ونظراً لتشتت تركيز الكتاب وكثرة الأخطاء في التفاصيل، فسوف أركز على ثلاث إشكاليات في الفكر الاجتماعي، وفي المنهجية، وفي أخلاقيات البحث، وذلك كما يلي.

 

أولاً: الإشكالية الفكرية (المفاهيم، والأجندة)

مفاهيم الدراسة

أول إشكالية فكرية ومنهجية وقع فيها الكتاب هو عجزه عن تحديد الظاهرة المدروسة بوضوح، فالكتاب متداخل بين قضيتي: الفقر، والكفاية، ويتحدث عنهما بوصفهما مترادفين، مع أن الفرق بينهما كبير وواضح، فقد حدد الكتاب دراسته بهدفين أساسيين هما: تحديد الكلفة الخاصة بالاحتياجات الأساسية للأسرة في المملكة، والثاني هو: تحديد خط الكفاية للأسر في المملكة (ص41). ويتضح أن هذين الهدفين لا يلتقيان في بحث واحد؛ لأن الهدف الأول موجه للأسر الفقيرة، والهدف الثاني موجه للأسر المتوسطة. ونظراً لعدم وضوح هدف الدراسة، فقد تاهت بين هاتين القضيتين، إذ أشار الكتاب في موضع آخر إلى أنه يستهدف تحديد خط الكفاية للأسر الفقيرة في السعودية (ص 40)، وذلك لعدم وجود خط كفاية في السعودية (ص ٣٨). وقد بنى الكتاب استبانته على هذا الأساس المختلط.

أشار الكتاب (ص 39) إلى أن ظاهرة الفقر في ازدياد مستمر، واستند على هذا الحكم لبيان أهمية الدراسة، في حين أنه لا يوجد حتى الآن إحصائيات معتمدة عن الفقر، ولا عن إثبات ازدياده المستمر. والمؤلف يعرف هذه المعلومة، إذ أشار إليها (ص 74)، ولكنه وقع في خطأ كبير عندما ربط معدل البطالة بالفقر، وهذا غير دقيق. وقد توسع الكتاب كثيراً في تعريف الفقر اصطلاحاً وشرعاً وشرح احتياجات الفقراء الإنسانية، ولكنه لم يقدم تعريفاً إجرائياً يخص دراسته، كما أضاف مصطلحات غير معروفة ولم يشرحها ويقدم نموذجه التصوري عنها، أو يقدم مراجع لها مثل: (الفقروقراطية) (ص 134)، و(شيبنة العمل) (ص 136).

يرى الكتاب بأنه استخدم مصطلحاً جديداً سماه: خط الكفاية (ص ٣٦) ومن ثم تناقلته وسائل الإعلام السعودية بوصفه ابتكاراً تنموياً، وسوف أتوقف قليلاً عند المصطلح لنعرف كيف ابتكره، إذ قال ما نصه: “قد لا يكون استخدام مصطلح خط الفقر في الدراسة الراهنة ملائماً في المملكة العربية السعودية، حيث إن الفقر الشديد أو المدقع ربما لا يتناسب مع دولة مثل المملكة العربية السعودية، لما تتمتع به من اقتصاد قوي، ولعل الأفضل استخدام مصطلح جديد هو خط الكفاية” (ص٣٦). ويعرف خط الكفاية بأنه: “الحد الذي يمكن عنده أن يعيش الأفراد أو الأسر حياة كريمة، ولا يحتاجون إلى أي مساعدات إضافية، وهو الحد الذي دونه لا يستطيع الأفراد أو الأسر العيش حياة كريمة…” (ص ٣٦)، وحدد مكونات خط الكفاية بعشر مكونات، وتوصل إلى أن متوسط حد الكفاية هو ٨٩٢٦ ريالاً شهرياً (ص ٢٧٢)، ومن هنا يتضح أن الكتاب انتقل من قضية الفقر الخاصة بالطبقة الفقيرة، إلى قضية الكفاية الخاصة بالطبقة الوسطى، وهي كفاية معيشية، وليست كفاية رفاهية.

يتضح من هذا التعريف أنه يحمل معه تناقضاته وعجزه عن ضبط مفاهيمه، إذ تكلم عن الفقر المدقع (وهو الحد اللازم لإشباع الغذاء)، واستبدله بخط الكفاية، وخط الكفاية يعني بالضرورة الطبقة الوسطى وليس الفقيرة، في حين أن تعريفه له هو في الواقع معروف باسم “خط الفقر المطلق” (وهو توفير الأساسيات كالغذاء والمسكن والخدمات)، وتكمن خطورة تحديد هذا المفهوم في أنه رفع سقف حد الكفاية ليكون تسعة آلاف ريال شهرياً تقريبًا، وليته جادل عن هذا المبلغ وقدم مسوغاته؛ لأنه يمس السياسات المالية التي تعد مفصلية في جميع سياسات الدولة، فمن المهم استشراف مستقبل المجتمع في حال اعتماد هذا المبلغ للأسر الفقيرة وانعكاسه على الحراك الاجتماعي والاقتصادي وتغير الطبقات الاجتماعية، وكذلك تأثيره على قرار اعتماد الدولة مبلغ ٣٠٠٠ ريال شهرياً كحد أدنى للأجور في القطاع الحكومي، ومن المعروف دولياً ارتباط خط الفقر بالحد الأدنى للأجور (الرواتب). وليت المؤلف راجع أدبيات علم الاجتماع، واطلع على حجم النقاشات الحادة بين العلماء واختلافهم في تحديد مفهوم “الطبقة الدنيا”، وخاصة وفق متغيري: البطالة بين الشباب، وارتفاع عدد الأسر ذات العائل الواحد، إضافة إلى التنوع الثقافي والمعرفي المتباين بين أفراد الطبقة الدنيا (سكوت ومارشال، 2011: ج 2 ص 321). كما أن الفقر، وهو ظاهرة حتمية، إلا أنه مرتبط باللامساواة وغياب العدالة الاجتماعية، ومنجم لتوليد الجريمة، ومن هنا يتأكد ضبط مفاهيم الدراسة قبل نشرها.

نتيجة لضياع هدف الكتاب، اضطر المؤلف إلى عرض أدبيات الظاهرة المدروسة كما وردت في مصادرها دون أن يربطها بدراسته، وهذا أحد أشكال اغتراب الفكر الاجتماعي، إذ تضمن الفصل الثاني (ص ٤٣-١٣٣) كتابة بحث مطول عن نظريات الفقر، ومفهومه وأسبابه وآثاره من النواحي التاريخية والدولية والإسلامية، ولكنه لم يربط أي شيء منها بموضوع دراسته، الذي هو في الواقع عن الكفاية، وليس الفقر، فكانت مجرد تجميع نصوص وصفية للظاهرة بشكل عام، وهذا خلل اعتدنا عليه من بعض الأكاديميين الذين اشتهروا بعدم ضبط مفاهيم دراساتهم.

 فتسعة آلاف ريال تقريباً التي حددها الكتاب للأسرة السعودية لم يدرس معها أنواع الأسر (النووية والممتدة والفرد) مكتفياً بالمتوسط العام، وهذا لا يصف الواقع، بل يضلل النتائج، كما أنه لم يحدد متوسط الطبقات الاجتماعية؛ لأنه لا يوجد إحصاء رسمي منشور يحددها، وقد أوهمنا بعموميات الطبقات، ولذلك من الصعب التحدث عن احتياج الطبقة الوسطى الدنيا التي تمتاز بأنها طبقة هشة ومهددة بالنزول للطبقات الفقيرة إذا تعرضت لأي أزمة مالية ولو يسيرة، وبخاصة أن الطبقات الفقيرة تنقسم إلى ثلاث طبقات (فقيرة عليا، وفقيرة وسطى، وفقيرة دنيا)، ولكل طبقة مؤشرات ومعايير دقيقة للحكم على وضعها الاجتماعي لتقدير أحقيتها بالدعم المالي. ويكفي أن نعلم أن الأمم المتحدة أمضت سنوات في وضع تعريف إجرائي لكلمة “غرفة” بوصفها مؤشراً هاماً للرعاية الاجتماعية في مقارنة بين الدول (أونجل، 1983: 44). فإذا كان هذا واقع الدراسات الغربية من حيث الدقة والإتقان نعلم أن الفجوة بيننا وبينهم كبيرة.

عندما تحدث الكتاب عن الرعاية الاجتماعية في السعودية (ص ١٧٠) ذكر من بينها المشروعات الصغيرة (ص ١٧٩) والتمويل المتناهي الصغر (ص ١٨٢)، ولكنه لم يحدد المؤسسات الحكومية أو الأهلية التي تنفذها، مكتفياً بعرض أساسياتها وأهميتها بشكل عام، ومن المعروف أن هذين البرنامجين ليسا موجودين على أرض الواقع ضمن برامج الرعاية الاجتماعية الحكومية حتى الآن، وقد بدأت بوادرهما مؤخرًا.

 

الأجندة

يبدو أن الكتاب يحمل في طياته بذور أجندة مسبقة، إذ إن موقفه من الفقر متناقض منذ البداية، إذ أنكر وجوده لعدم تناسبه مع مكانة المملكة اقتصادياً (ص ٣٦)، وهذا تكلف في عسف الحقائق، إذ إن الفقر الشديد ليس له علاقة بقوة اقتصاد الدول، ويبدو أن الكتاب نسي هذا المبدأ المغلوط، ولم يلتزم به، حيث أعلن أن ظاهرة الفقر في ازدياد مستمر في السعودية (ص ٣٩)، ثم أشار إلى أن الحديث عن الفقر في السعودية لم يعد من المحظورات بعدما كسر الملك عبدالله الحاجز النفسي لتناول تلك المشكلة (ص ٦٩)، وأشار في موضع آخر إلى أن القيادة السعودية أقرت مواجهة الفقر بصورة علنية “بعد أن كان البعض يتعامل معها بتجاهل وإخفاء” (ص ٧٩). وهو ما مارسه المؤلف نفسه في بعض المواضع من كتابه. فالباحث الاجتماعي ينبغي أن يحكمه الضمير العلمي والمسؤولية الاجتماعية، والدول تبحث عن دراسات صادقة، ولا تبحث عن تضليل علمي، فهي تفرق بين الإعلام والعلم.

كما زج الكتاب بالرؤية الإسلامية للفقر وهو، فيما يبدو، يجهل قواعد البحث الشرعي، إذ أرجع سبب التخلف والفقر في أي بلد هو: “الإعراض عن منهج الله” (ص ٨٧)، ولكن يبدو أن الكتاب نسي مزايدته الدينية، إذ سرعان ما نقضها، ونحى باللائمة على تعاليم الإسلام بشكل مختلف، فعند حديثه عن الأسباب الاجتماعية لنشوء الفقر ذكر منها الخطاب الديني (ص ١٣١)، ونظام المواريث (ص ١٣٩). وهذا فيه تجني وإدانة لرؤية الإسلام. وهذا تفسير غير دقيق؛ لأن الفقر ظاهرة اجتماعية مادية محسوسة، ويمكن قياسها والتحقق منها، وإذا كان الباحث يشير إلى قول القرآن: “ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً”، فهذا له تفسير مختلف تماماً، قد يحمل مضامين نفسية وروحية، فهذا يمكن أن يرد عليه بأن الناس ترى أن أكثر من يعيشون رخاء العيش في العالم وفي كل دولة تقريباً هم المعرضون عن ذكر الله غالباً من مسلمين وغيرهم، كما تتحقق السعادة لدى كثير من الذاكرين لله تعالى من جميع الطبقات الاجتماعية والاقتصادية. وهذا نموذج حقيقي لأزمة الفكر وأخلاقيات البحث، فمثل هذا الطرح المنتشر في الدراسات الاجتماعية هو الذي بعث فكرة أن الخدمة الاجتماعية -تخصص المؤلف- مهنة، وليست علمًا، ولذلك طالبوا بضرورة فصلها عن علم الاجتماع؛ ليتفرغ كل علم لمهامه الأساسية.

ومن إشكاليات الأجندة في الكتاب تصديه لنظام الضمان الاجتماعي ومحاولته الدائبة للنيل منه وإظهار عجزه، إذ اعتبر دراسته أنها “تقويمية لنظام الضمان الاجتماعي الحالي في السعودية” (ص ٣٩)؛ لأنه نظام قديم (ص ٣٨)، ولأن تحديد خط الكفاية في السعودية قد يسهم في إعادة صياغة نظام الضمان الاجتماعي والأنظمة المساندة، وربما تحديد مخصصات الضمان الاجتماعي على غرارها، على أن تشمل الحاجات الأساسية جميعها التي لم يشملها نظام الضمان الاجتماعي (ص ٣٨). ولم أجد مسوغاً علمياً لمثل المقارنة، فالضمان كما يعرِّفه هو: ضمان الحد الأدنى لدخل الفرد يتقي به الفاقة (ص ١٧٤)، في حين يتحدث الكتاب عن خط الكفاية، وهو الحد الذي يمكن عنده أن يعيش الأفراد والأسر حياة كريمة (ص ١٣٦)، ولا مجال للمقارنة لاختلاف الهدف والمضمون. وعلى الرغم من أن نظام الضمان الاجتماعي قديم ويحتاج مراجعة، إلا أنه أكثر اتزاناً وأعمق استيعاباً وأدق توزيعاً لحزم احتياجات الفقراء وأصدق معالجة لمشكلة الفقر، ولا يمكن لمثل هذا البحث المعد على عجل أن يقيّم برنامجاً وطنياً مثل الضمان الاجتماعي.

 

ثانياً: إشكالية الادعاء

يستخدم الكتاب عبارات ادعاء كبيرة وحاسمة، وكيل بالمدائح التي يتجاوز بها حدود العلم والعرف، وهذه إشكالية حقيقية في أخلاقيات البحث، على أمور عادية بل صغيرة، ويكفي أن أول سطر من الكتاب بدأ بحكم قاطع: “لم تكن حركة البحث في العلوم الاجتماعية في المملكة العربية السعودية قط أقوى مما هي عليه الآن”. وهذا غير دقيق، بل إن العكس هو الصحيح، ويمكن القول بواقعية: إن حركة البحث في العلوم الاجتماعية في السعودية لم تشهد نهضة قط، وهي الآن تعيش أسوأ مراحلها، وذلك بفضل غزارة الدعم المادي المؤسسي للإنتاج العلمي للدراسات الكمية الهشة، فضلاً عن السرقات العلمية والتلاعب بالإحصاءات للوصول إلى نتائج ترضي الممول، أو نتائج عادية يعرفها رجل الشارع.

كما وصف الكتاب دراسته هذه بأنها: “نقلة نوعية في الدراسات في العلوم الاجتماعية… مما يكسب نتائجها مصداقية عالية، بحيث يمكن الأخذ بها واتخاذ قرارات مؤثرة وحاسمة على أساسها” (ص ٤٠)، وأنها: “بمثابة إنجاز علمي غير مسبوق…؛ لأنه من المتوقع أن تكون الأكثر أهمية والأكثر تأثيراً على مستوى الحياة في المجتمع العربي السعودي” (ص ٤٠)، و”ستكون الدراسة الراهنة خير عون يمكن أن يقدم للجمعيات الخيرية… مما يجعلها أكثر فعالية” (ص39). ولكن الكتاب لم يكشف عن السر الذي يدل على ذلك، ولم يكتشفه غيره، وكان الأجدر بالمؤلف أن يُفرّق أولاً بين خط الكفاية وخط الفقر بدلاً من دراستهما بوصفهما مترادفين ويحملان معنى واحداً، ثم يطلب من الباحثين النقد والمراجعة؛ لأن اكتمال الأعمال لا يكون إلا بتكاتف الجهود، أو يعتذر من القراء عن أي تقصير قد يحصل؛ لأن النقص سمة لازمة في الإنسان، بدلاً من الادعاء بإنجاز لم يصمد أمام النقد.

 

ثالثاً: إشكالية المنهج وأساليب البحث

المنهج

على الرغم من ضخامة الاستعداد لتنفيذ الدراسة كما تشير المقدمة إلى ذلك، وقوة الدعم الذي حظيت به، وأنها تمثل نقلة نوعية في الدراسات في العلوم الاجتماعية، وأنها إنجاز علمي غير مسبوق (ص ٤٠)، إلا أنها لم تكن كذلك من الناحية التنفيذية والمنهجية؛ لأنها سارت وفق ما تسير عليه بقية الدراسات التقليدية، فحملت معها بذور سقوطها. وأعتقد أن الكتاب وقع في خطأ منهجي كبير، وهو اعتماده على منهج المسح الإحصائي، وليس المسح الاجتماعي، وقدم لها مؤشرات احصائية، وليس تحليلاً اجتماعياً، كما أنه اكتفى بعرض النتائج الإحصائية، ولم يقدم أية قراءة اجتماعية لها، وبهذا يصعب تصنيفه بوصفه دراسة اجتماعية.

والخطأ المنهجي الثاني هو تجاهله لتحديد الأطر السليمة لمجتمع دراسته، وأهمها الإطار البشري المتمثل في تحديد تركيبة الأسر ديموجرافياً واقتصادياً، وهي: الأسر النووية، والممتدة، والفرد، مكتفياً بسحب عينته من المجتمع العام، وكان الأولى أن يستعين بالهيئة العامة للإحصاء التي تملك أضخم البيانات عن الطبقات الاجتماعية وأدقها، بدلاً من تبديد الجهد والوقت والمال، ويلحظ كثرة إخلال الكتاب بواحدة من أهم أخلاقيات البحث الاجتماعي التي تؤكد على ضرورة وصف طرق البحث ونتائجها بصورة صحيحة وبالتفصل المناسب في جميع تقارير البحث (الصالح، 1427هـ: 147)، وفيما يلي عدد من الإجراءات المنهجية غير السليمة التي اتبعها الكتاب وتسببت في تضليل نتائج الدراسة:

– وقع في خطأ منهجي يخص متغيرات الدراسة، إذ ذكر في (ص36) مكونات خط الكفاية التي ارتكزت عليها الدراسة غير مفصلة بشكل واضح بالدراسة وغير واقعية على سبيل المثال، إذ تم ذكر الكماليات كأحد هذه المكونات والتي تشتمل على (منظفات، صابون وشامبو، فوط، أدوات تنظيف، مناديل، وأخرى)، وهي بالأصح احتياجات أساسية لكل أسرة، ولا تعد مكوناً كمالياً يمكن الاستغناء عنه.

– ذكر أن منهج الدراسة وصفية تحليلية (ص ١٨٩)، والواقع أنها استطلاعية، وليس فيها أدنى حد من التحليل، فجميع جداول الكتاب عبارة عن إحصاء وصفي (تكرارات ونسب مئوية)، وليس بها أي نوع من الإحصاء الاستدلالي، ولا من التحليل الاجتماعي التي تعد ثمرة الدراسات الاجتماعية، ولهذا يعد الكتاب مجرد إعطاء مؤشرات إحصائية مجتمع الدراسة الذي يُظن أنه مجتمع الفقراء في السعودية، ولم ترق إلى أن تكون دراسة معدة لاتخاذ قرار أو حتى لفهم الظاهرة.

 

عينة الدراسة

– لم تلتزم الدراسة بالأطر السليمة لسحب عينة ممثلة للمجتمع بشكل يضمن تحقيق أهدافها، إذ بلغ حجم عينة الدراسة عشرة آلاف أسرة تقريباً (حسب ما يذكر) مسحوبة بطريقة حصصية من جميع مناطق المملكة (ص ١٩٢)، ويكمن الخلل في إجراءات سحبها، أنها سحبت من الأحياء المتوسطة والفقيرة (ص ١٩٧)، مع أن الكتاب يستهدف الطبقات الفقيرة، ومن المعروف أن تقسيم الأحياء وفق طبقتها الاقتصادية ليست معروفة إحصائياً حتى الآن. وبحكم خبرتي في الأحياء الفقيرة، فقد لاحظت أنها تكتظ بالأسر غير السعودية، والأسر التي تحمل بطاقات إقامة مؤقتة، وأسر مخالفة لنظام الإقامة، وأسر بدون جنسية، مما يعطي عنها انطباعاً بالفقر، وهي ليست كذلك، ولا يمكن معرفتها إلا لمن قام بتعداد شامل. وهذا يؤكد على أن الاعتماد الكامل على الدراسات الكمية بدون ضبط منهجي يوقع في الخلل الذي يسير مع جميع فصول الدراسة ليوصلنا إلى نتائج غير دقيقة، وهذا ما وقع فيه الكتاب كما سيأتي.

– أدخل في (الجدول 4) الأسر غير السعودية في العينة (310 أسرة)، وهذا خلل منهجي وفكري كبير وكافٍ لتقويض نتائج الدراسة؛ لأن خط الكفاية سيترتب عليه تحديد الحد الأدنى والأعلى لرواتب السعوديين، أما غير السعوديين فمصادر دخلهم وكذلك أنماط مصروفاتهم مختلفة عن السعوديين، ولا يمكن أن ندمجهم بدراسة واحدة، كما أن الضمان الاجتماعي لا يخدم الأسر غير السعودية. كما لا يمكن مقارنتها بالأسر السعودية، إذ قد تكون الأسر المقيمة غنية بحسب عملة بلدها، وهذا ما يعرف ب”الحرمان النسبي”.

– حُدد مجتمع الدراسة حسب المناطق الإدارية في المملكة، ولكن هناك نقطة مهمة حيث اختيرت الأسر بشكل عشوائي دون خصائص معينة، فالمفترض عدم الاعتماد على هذه الطريقة بشكل عشوائي، بل من المهم تحديد جميع الأسر الفقيرة والمستفيدة من الضمان الاجتماعي والجمعيات الخيرية لعمل الدراسة عليهم. كما كانت مناطق: نجران، والجوف، والحدود الشمالية، أقل الفئات المسحوبة. وهذا يدل على عدم دقة سحب العينة، حيث كانت النتائج متركزة على منطقتي الرياض ومكة المكرمة.

– اعتمدت الدراسة على ثلاثة عشر فريقاً لجمع البيانات في المناطق الثلاثة عشر في المملكة بحيث يتم توزيع الاستبيان وتعبئته من قبل هذه الفرق؛ لأن العينة اختيرت بشكل عشوائي، فمن الصعب إعطائهم الاستبيان، ومن ثم استعادته. وهنا يلحظ نقطة مهمة، وهي بما أن الفرق هي التي وزعت الاستبيان على كل أسرة؛ لماذا البيانات المفقودة في بعض الجداول، وخاصة جدول الجنس، وجدول رب الأسرة، والجنسية، والعمر، والحالة الاجتماعية، ومخصصات الضمان الاجتماعي، والجداول (9 و12 و21)، وهذا مما يثير الشكوك في طريقة جمع البيانات من العينة.

– في (ص 196) ضلل الكتاب القارئ في عنوان “صدق أدوات جمع البيانات وثباتها”، وذلك لإعطاء هيبة للدراسة، في حين أنه اعتمد على أداة واحدة فقط، فكان الأجدر بأن يكتب صدق أداة الدراسة فقط، أما النقطة الأخرى ذكر الباحث أن هناك ثباتًا للاستبيان، ومن خلال الاطلاع على الجداول اتضح أن الباحث لم يعتمد على مقياس اجتماعي محدد بعبارات لقياس خط الكفاية؛ لذلك الثبات يكون للمقاييس، وليس للاستبيان، فهناك فرق بين الاستبيان والمقياس في التكوين والتحليل الإحصائي لا أظنها تخفى على من يمارس العمل العلمي في الإحصاء والدراسات الكمية.

– أشار الكتاب في (الجدول من 1 إلى20) إلى بيانات عامة للعينة في جميع المناطق الإدارية، ولم يحدد هل هذه البيانات مختصة برب الأسرة أم جميع الأفراد؛ لأن جميع الجداول تفسر أفراداً وليس أسراً؟

 

الإحصاءات المضللة

تكمن خطورة الإحصاءات المضللة في أن النتائج الاحصائية لها جاذبية وتوهم بعلميتها وجديتها، ولذلك تحظى بالثقة الشعبية والقبول العام، ويعد كتاب “خط الكفاية” مثالاً مناسباً للإحصاءات المضللة كما سنلاحظ. إذ تضمنت نتائج الدراسة عدد ٣٠٣ جدول، منها ٤٤ جدولاً يوضح خصائص الأسر الاجتماعية والاقتصادية التي يمكن أن تكون سبباً أو مؤثراً على فقرهم، أو ما يسمى بالمتغيرات المستقلة للأسر مثل: العمر، والحالة الزواجية، والدخل الشهري للأفراد، والوظيفة والتعليم…

ويلحظ أن أسفل كل جدول يذكر نفس البيانات مفرغة منه، دون قراءة اجتماعية واقتصادية، وهنا تكون الملاحظة الأساسية، إذ إن مهمة الباحث هي إبراز انعكاس البيانات الكمية التي جمعها وحللها إحصائياً على شخصيته العلمية مدعومة بملاحظاته ومشاهداته أثناء نزوله لميدان الفقراء وتجولهم في أحيائهم وتحدثه معهم، ثم تحويلها إلى ظاهرة اجتماعية، وهذا ما يفتقده الكتاب، فالبيانات التي جُمعت من عشرة آلاف أسرة تقريباً هي ضد البحث، ولا تحسب لصالحه، إذ لا يمكن أن تحكمنا الأرقام بوصفنا باحثين، ولا أن يرهبنا ضخامة عينة الدراسة، ومن ثم فهي لا تصلح لأن تكون سبباً في اتخاذ قرار سياسي؛ لأنها لم تسحب من المجتمع بأسلوب سليم، كما سيأتي، ولأنها بيانات صامتة، ولم تتعرض للتفسير الاجتماعي، والتقاليد المنهجية تقضي بأنه إذا اتفقت الأرقام الإحصائية مع التحليل الاجتماعي فتكون الدراسة مقبولة منهجياً، وإلا فيفسر التناقض، ثم يعتمد التفسير الاجتماعي، وليس البيانات الإحصائية.

– اعتمدت الدراسة على الأسئلة المغلقة في الدخل والعمر والإنفاق على الخدمات الأساسية والكمالية. وهنا تعد هذه الأسئلة مضللة في استخراج المتوسط الحسابي بشكل صحيح، فكان الأولى أن تكون الأرقام مفتوحة غير محددة بفئات حتى يتم استخراج المتوسط الحسابي بشكل دقيق.

– حلل (جدول 7) على أساس متغير الحصول على مخصصات الضمان الاجتماعي والذي بلغ عددهم 1173 مفردة (نسبتهم 12%)؛ مما يوضح أن هناك خللاً في نتائج الدراسة، حيث يتبين من الجدول أن 8709 مفردة لا يستفيدون من الضمان الاجتماعي (نسبتهم 88%)؛ لذلك هم ليسوا فقراء. وهذا يتضح في (جدول 8) أيضاً حيث أن عدد 8709 مفردة من العينة لديهم الحد الكافي كدخل شهري، لذلك فهم غير مشمولين بالضمان الاجتماعي. كما اتضح من (جدول 10) أن عدد 8960 مفردة لا يحصلون على إعانات من الجمعيات الخيرية، وعدد 922 مفردة فقط هم المستفيدون. كذلك اتضح في (جدول 46) أن عدد 7210 مفردة سكنهم ملك. ومعنى ذلك أن ما نسبته 70% تقريباً من عينة الدراسة يملكون مساكن، ومن هنا نتساءل: هل يمكن أن يعد من يملك منزلاً ولا يشمله الضمان، ولديه الحد الكافي من الدخل الشهري فقيراً؟

– (جدول 14) أيضاً به مشكلة توزيع الفئات في الرواتب لرب الأسرة، حيث تم إدخال متغير من 10 آلاف إلى أكثر من 30 ألف! وهذا خلل كبير باختيار العينة كيف يكون راتب 30000 ريال وأكثر فقيراً، أو يدخل في عينة لدراسة مستوى الفقر؟

– هناك جداول وجدت على سبيل الحشو ولتكثير عدد الجداول، على سبيل المثال (جدول 32) فما علاقة صلة القرابة بعدد الأفراد، فمن المفترض ذكر فقط رب الأسرة للكل، وليس تفصيل من الفرد الأول إلى العاشر فليس لها أي مسوغ علمي أو علاقة بالدراسة.

– يوجد خطأ فادح في (جدول 34)، حيث تم السؤال عن الحالة الاجتماعية لكل فرد بالأسرة. وهنا بعض الأفراد الأسرة متزوجون ولهم أسرهم الخاصة؛ مما يوضح الخلط بين الأسرة الأساسية والفرعية، فما الهدف من هذا الجدول؟

– يلي ذلك تحدث الكتاب عن الاحتياجات وتكلفتها موزعة على نوع الاحتياج وشملتها الجداول من (٤٥-٦٧)، وعدد الاحتياجات عشرة هي: السكن، والأكل، والملبس، والرعاية الصحية، والحاجات المدرسية، وحاجات الأطفال الرضع، والكماليات، والمواصلات، والخدمات الأساسية، والترفيه. ويندرج تحت كل احتياج نماذج منه تمثل مؤشرات الاحتياجات، وتضمنت الجداول متوسطات ما تنفقه الأسر على كل احتياج. وقد أظهر المتوسط العام لاحتياجات متوسطات العينة الكلية أنه ٨٩٢٦ ريالاً شهرياً (ص ٢٧٢)، ومن ثم فهذا المبلغ هو خط الكفاية الذي يبحث عنه الكتاب، ثم أوصى أن يعتمد في سياسات الدولة الخاصة بالرعاية الاجتماعية (ص ٤٩٩). ويلحظ أن الكتاب لم يجادل في آليات اعتماد الاحتياجات العشرة مكتفياً بالعبارة الحادة: “يجب أن …”!!، والمنهج العلمي وأخلاقيات البحث الاجتماعي يفرضان عليه أن يوضح: لماذا اختار الاحتياجات العشرة؟ وكيف انتقاها من بين عشرات الاحتياجات غيرها؟

– وما بين التوصل لخط الكفاية والتوصيات بشأنها أعاد تفصيل الاحتياجات العشرة موزعة حسب المناطق الثلاث عشرة في أكثر من مئتي صفحة (ص ٢٧٣-٤٩٨)، وهي تعد زوائد لا داعي لها، ولا تتضمن ضرورة علمية ولا تنفيذية؛ لأن الكتاب لم يوظفها، ولم يحللها اجتماعياً، ولم يذكر أهميتها العلمية والتنفيذية بالنسبة للظاهرة، وإنما اكتفى بسردها.

 

توصيات الكتاب

نتيجة لهذا الخلل المنهجي، وعجز ضبط مفاهيم الدراسة وأدبياتها، فقد توصلت الدراسة إلى توصيات إما غير منطقية، وإما بدهية، إذ أوصى الكتاب (ص502) بإلزامية التعليم، مع أن التعليم الأساسي في السعودية ملزم ومجاني، والتعليم الجامعي الحكومي مجاني مع تقديم حوافز مكافآت. وأوصى (ص 503) بإلزامية التدريب، وبإلزامية التوظيف لأبناء الأسر الفقيرة. ومن المعروف أن التدريب والتوظيف غير ملزم، وأن برامج التدريب التي تبنتها الدولة في فترة سابقة عن طريق صندوق الموارد البشرية وغيره لم تثمر عن حل حقيقي للمشكلة.

وأوصى الكتاب أيضاً بإبراز جهود الدولة التي تعملها في خدمة المواطن، وفي الدعم الحكومي المختلف الأشكال الذي تقدمه للمواطنين (ص ٥٠٧)، وحقيقة لقد شعرت مع هذه التوصية بعمق أزمة الفكر وأخلاقيات البحث والمنهج، وهنا لا أعتقد أن من أخلاقيات البحث صدور مثل هذه التوصية، فالدولة لديها الرغبة الأكيدة في مساعدة الفقراء، واتخذت إجراءات كبيرة وفاعلة، وهي تحتاج من الباحثين النصح ودعم القرار بدراسات منهجية، ولا تحتاج دراسات مضللة وتوصيات إعلامية. وظاهرة الفقر تعد إنسانية بحتة، ونعرف أن هدف الدراسة هو دعم الفقراء، وليس دعم الحكومة إعلامياً.

 

دراسة حالة

تتبعت الجداول الإحصائية في الفصل الرابع من الكتاب، والتي تمثل نتائج الدراسة (ص ١٩٩-٢٧٢) واستخرجت من كل جدول ما نسبته ٦٠٪ فأكثر، وذلك بهدف كتابة سيرة ذاتية لرجل سعودي ذي أسرة فقيرة من واقع بياناته المنشورة، فكانت النتيجة كالتالي:

رب أسرة، سعودي، متزوج، يسكن في بيت ملك، يتوفر فيه الكهرباء والماء وإنترنت، وبمدينته ملاهٍ ومتنزهات، ولديه سيارة خاصة ملك، وجوال، ولا يحصل على الضمان الاجتماعي، ولا إعانات من جمعيات خيرية، وهو يعمل براتب شهري، وليس لديه مصدر دخل غير راتبه، وليس عليه ديون، وعدد أولاده وبناته من ثلاثة إلى ستة، بعضهم تجاوز عمره ١٨ سنة، وليس لديه ابن معاق، ولا مريض، ويتوفر بمدينته جميع الخدمات الصحية مثل مستشفى ومستوصف ومركز صحي ومركز رعاية أولية وعيادات خاصة، وينفق على الخدمات الصحية أقل من ٥٠٠٠ ريال شهرياً، وينفق على الكماليات أقل من ألف ريال شهرياً، وينفق على المواصلات أقل من ألف ريال شهرياً، ومتوسط ما يحتاجه للصرف على أسرته ٨٩٢٦ ريال شهرياً.

هذا ملخص سيرة حياة شخص فقير سعودي يعيش بحد الكفاف، لديه أسرة، أو خط الكفاية. ولو تتبعت سيرة شخص آخر تبعاً لمنطقته لربما زادت رفاهيته في المناطق الكبرى، وقل دخله في المناطق النائية، وواضح أن حالته الاجتماعية والاقتصادية مستقرة، وتمثل حياة أي أسرة من الطبقة الوسطى، وهذا يدعونا للتساؤل عن جدية الدراسة؛ مما يؤكد أنها لم تقم على أسس منهجية صحيحة التي من أهمها أطار المجتمع المدروس ومكوناته، وتحديد مفاهيم الدراسة بدقة.

 

وماذا بعد

تمثل كثير من الدراسات الاجتماعية أزمات الفكر، والمنهج، وأخلاقيات البحث وللأسف، وهي تعكس دراسات مكتوبة على عجل، وتقدم نتائج مضللة. ومن المهم مراجعة واقع هذه الدراسات وتقييمها، ومدى صلاحية استخدامها في صناعة القرار، أو في تطوير العلوم الاجتماعية، والتعامل مع علم الدراسات الاجتماعية بوصفها قضايا علمية وفكرية وأخلاقيات، وليست تجميع نصوص اجتماعية. ومن المهم أيضاً التشديد على ضبط مفاهيم أي دراسة وتحديد مشكلتها أو مسألتها بدقة ووضوح قادرين على تأسيس دراسة علمية منهجية يمكن أن يتخذ بتوصياتها قرارات تنموية سليمة، حتى لا تكون أبحاث “مقاولات”، وليست علمية، كما يصفها بعض الباحثين. وقد اطلعت على انتقاد عالم الاجتماع محمد شيّا للدراسات الإنسانية والاجتماعية العربية، ضمن مقدمته لترجمة كتاب رايت، بأنها: ضعيفة المضمون، وضعيفة المنهج، وكثيرة الادعاء بالجودة. وعدّ هذه المآخذ الثلاثة أضلع المثلث الفاسد (بحسب تعبيره) الذي يحكم جزءاً كبيراً من التأليف العربي العلمي الراهن (رايت: 1996: 7).

ومع ذلك ما تزال الدراسات الاجتماعية الأكاديمية أو التي تعد لمؤسسات حكومية أو خيرية، متمركزة حول منهج كمي واحد، هو منهج المسح الاجتماعي بالعينة، واستخدام أداة جمع بيانات واحدة هي الاستبيان، منتهية بعرض إحصائي لا يتضمن قراءة اجتماعية ولا فكرة بحثية حقيقية. ورغم تقديري لهذا المنهج وأدواته وأهميته، إلا أنه بدأ يفقد احترامه بسبب الإفراط في تطبيقه على الموضوعات التي تناسبه والتي لا تناسبه، ثم تطبيقه بشكل مشوه لا يلتزم بالإجراءات المنهجية، حتى كثرت حالات التلاعب ببياناته، ولكنها مستورة بإعطاء جداول إحصائية مبهرة شكلياً ومضللة واقعياً، وبعدم وجود ظاهرة نقد الدراسات وللأسف. مما أعطاها الجرأة على ترسخ الجهل، ونشر العلم الزائف؛ لأنها تحمل معها جودة زائفة وشرعية مضللة.

أما ما يخص هذه الدراسة وأمثالها كثير، فأرى أنه آن الأوان لإيقاف تدفق المسوحات الاجتماعية بإحصاءات صماء، والتي تحمل ظلماً مسميات جليلة مثل: ماجستير ودكتوراه ودراسات علمية! وفتح صفحة جديدة لتقديم دراسات مبنية على أسس علمية جديرة بالنقد، وأن ينتهي عصر “التذاكي البحثي” الذي يؤمن بغباء المجتمع، وأنه لا يقرأ، وإن قرأ فإنه لا ينتقد.

 

 

 

 

 


المراجع

أركان أونجل. أساليب البحث العلمي: دراسة مفاهيم البحث لأخصائي العلوم الاجتماعية، ترجمة حسن ياسين ومحمد نجيب، الرياض: معهد الإدارة العامة، 1983/ 1403.

رايت. مبادئ علم الاجتماع، ترجمة محمد شيَّا، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1996، ط1.

سامي الدامغ. خط الكفاية في المملكة العربية السعودية، الرياض: مؤسسة الملك خالد الخيرية، ١٤٣٥هـ/2014، ط1.

جون سكوت وجوردون مارشال. موسوعة علم الاجتماع، ترجمة محمد الجوهري وآخرون، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2011، ط2.

مصلح الصالح. أخلاقيات البحث الاجتماعي، الرياض: دار الفيصل الثقافية، 1427هـ/ 2006، ط1.