مجلة حكمة
المسخ كافكا الحداثة

وحوش الحداثة: المسخ عند المائة – ألكساندر بيليت / ترجمة: محمد محفوظ


“عندما استيقظ جريجور سامسا في أحد الصباحات من كوابيس، وجد نفسه في سريره وقد تحول إلى حشرة عملاقة.”

عد مرة أخرى واقرأ ذلك السطر الافتتاحي. حاول، إذا استطعت، ألا تتآلف نفسك معه. تخيّله في عقلك. اسمح لنفسك أن تتفاجأ بالتخيّل. استيقظ -وأنت في سريرك -بعد حلمٍ تمنيت ألا تعود إليه أبداً، فقط لتكتشف بأن هنالك شيء مخطئ للغاية.

 اجعل الاستدراك الذي توصلت إليه الآن، بدون أن تفسره، عبارة عن مخلوق زاحف عملاق، يذكرك بالصرصور، بالخنفساء أو قملة الفِراش. دع حقيقة هذا الإدراك تغوص بك في: الحيرة، والخوف، والعجز، والرعب المطلق المذلّ. أن تعلم بأن أشد المقربين والأعزاء منك، عندما يرونك، فإنهم سوف يشمئزون في قرف، ومن المحتمل أن يحاولوا تدميرك. أن تصبح الآن خارج الإنسانية بشكل حاسم.

 من الجيد أن يكون هذا السطر والصفحات التي تلته قد أصبحوا بعضاً من أهم رموز الأدب الغربي في القرن العشرين. وهنالك نقاشات معتبرة حول مقدار صحة ما تم ترجمتهم إليه، ولكن هاتان الكلمتان الأخيرتان -سواء قرئتا “حشرة عملاقة” أو “هامّة ضخمة شنيعة” -تولّدان بشكل مباشر معنىً مقلق بشكل عميق، وساحر لا يمكن مقاومته.

 لقد انقضت قرابة المائة عام منذ ظهور النسخة المطبوعة الأولى لـ “المسخ”. كتبها فرانز كافكا في عام 1912 كتشتيت لحالة معذبّة من الإحباط المؤقت الذي يمر به الكتّاب حينما يعملون على رواية جديدة. تسببت كثرة المراجعات، مع نشوب الحرب العالمية الأولى، في تأخير النشر لثلاثة أعوام حتى أُكتوبر في عام 1915.

بعد تسعة أعوام توفي كافكا الذي لم يكن مشهوراً بعد. تاركاً صديقه المقرب ماكس برود مع تعليمات بحرق جميع اعترافاته الأخيرة، والتي تضمنت أغلب الأعمال التي نعرفها لكافكا. قام برود مشكوراً بعصيان وصايا صديقه -والبعض أصروا بأن تلك الوصايا لم تكن نوايا جادة بطبيعة الحال. تزامناً مع بقية أعمال المؤلف، تم حظر “المسخ” في ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي. وخلال ربيع براغ في تشيكوسلوفاكيا، شهدت قصص كافكا طفرة جديدة من الاهتمام، قبل أن تعبر وتسحق الدبابات الروسية المطامح الديموقراطية والراديكالية للمدينة، كافكا أصبح أيضاً محظوراً في بلد نشأته .

 سيقال الكثير الذي لا يمكن حصره حول فرانز كافكا، وحول “المسخ” بالتحديد. لكن التاريخ الغامض والمضطرب للمؤلف، يوضح سبب أهميّة قصته ونفوذها في الخيال الشعبي. لقد كانت متفرّدة، وعاطفية، وبالأخص، صورة مؤثرة عن العالم الحديث الذي نُسج وراء سيطرتنا، والضرر الذي أحدثه على الروح البشرية.

آراء كافكا السياسية وإرباك حالة الإحباط المؤقت في حكايته الرمزية:

 من المغري أن ينظر لـ “المسخ” كعمل لحكاية رمزية سياسية، فمسلمات كافكا الراديكالية ترجّح من كفّة هذا الرهان، وسمحت للبعض بأن يعتبروا جريجور ممثلاً للبروليتارية، وعائلته هي الجماهير، وهكذا دواليك . هنالك العديد من التفسيرات بنيّة حسنة من الراديكاليين والماركسيين، والذين يصرّون بأنها لا تعني إلا هذا التفسير. لكن هذا النوع من التحليل، يحصر بشدة منظار التفسير، ومن المحتمل أن يعيفنا عن مقاربة تقدير الصورة الفنية الكاملة لمؤلف مثل كافكا، وقصة مثل “المسخ”.

هذا لا يعني بأن نقول إن آراء كافكا السياسية لم يكن لها دور في القصة. بالتأكيد يجب أن يكون لها أثر. ففي الوقت الذي كتب “المسخ” فيه، كان فرانز كافكا -بشكل حماسي جداً -معتنقاً لأقصى اليسارية، ولمبادئ الأناركية الشيوعية. فقد حضر العديد من اجتماعات مكافحي العسكريتارية ومكافحي الدولتية، ومجلته كانت مليئة بالبيانات مثل “دائماً تذكر كوربوتكين.”

 هذه الآراء السياسية -التي يعرّفها مايكل لوي في كافكا بـ “الرومانسية الليبرالية الاجتماعية” -وضعت المؤلف في معزل بمقدار كاف عن ذلك النوع من الميكانيكا الخام التي قد تُخضِع أي حليل لأعماله لما يمكن اعتباره بأنه نوع من الروتين المتناظر. بوضوح وحدّة أكثر، كان كافكا واسع الخيال إلى حد بعيد جداً ليصنّف هكذا. إنه لذو مغزى كبير أن السوفييت وكتلة الأنظمة الشرق أوروبية؛ الذين قضوا فترة طويلة منذ أن حظروا أي نوع من الديالكتيكية المادية الصادقة والمطواعة والمرتكزة على الماركسية الحقيقية، أن يكونوا مرعوبين من كافكا، وأن يصنّفوا أعماله بـ “المنحلّة”. فمواضيعه الرئيسية -كان الاغتراب فيها حقيقي جداً، للدرجة التي أحدث أموراً فظيعة ومرعبة للحالة البشرية، دون ذكر اتهاماته اللاذعة لكل الأشياء البيروقراطية -لا يمكن لها أن تنعكس بشكل جيد على النقص الهائل في “الاشتراكية القائمة.”

 مثلما قال الناقد الأدبي الماركسي إيرنست فيشر خلال كلمته في مؤتمر عن كافكا معقود في تشيكوسلوفاكيا في عام 1963 (قبل خمس سنوات من حظر ورقة المؤتمر رسمياً):

 إن كافكا شاعر يهمنا جميعاً. فاغتراب الإنسان الذي صوره بكثافة قصوى، قدّر درجات الفظاعة في العالم الرأسمالي. رغم ذلك، لم يكن بأي حالٍ من الأحوال أن يبرز في العالم الاشتراكي. فلكي تتغلب على “هذه الظاهرة” خطوة بخطوة -من خلال مجابهة الدغمائية والبيروقراطية من أجل الديموقراطية الاشتراكية ومبادرتها ومسؤوليتها -فإن هذه طريق طويلة ومهمة عظيمة… سيجد القارئ الاشتراكي آثاراً لمشاكله متضمنة في أعمال كافكا، وسيُجبر الموظف الاشتراكي لأن يتفكّر المسائل اليقينية بتدبّر أكثر وبنسق متباين.

 يتحدى هذا “النسق المتباين” عمليات تفكيرنا كي تذهب لأبعد من المجاز المبسّط. كانت ديفا يسن بلتر أول صحيفة تنشر الرواية، وأحد أهم ناشري المدرسة التعبيرية الألمانية. بشكل مشابه لماركسية فيشر وغيره من الراديكاليين المنشقين المساعدين لـ كافكا، كانت التعبيرية ثورة تصحيحية لمواجهة الواقعية “الرسمية” لتلك الحقبة. لقد لفتت الانتباه إلى الزوايا المهملة والمخفية من الوجود الإنساني، والتي دعت إلى مساءلة المفاهيم الإيجابية كالحرية والسعادة والتحيين الذاتي للمجتمع. ومع جنون الحرب العالمية الأولى، كُنتُ قاب قوسين أو أدنى من الحق، وتساءلٌ مثل هذا سيكون مناسباً جداً.

كانت “المسخ” مطابقة لمشروع ورسالة عمل التعبيريين للفن. فهي تخبرنا قصته من وجهة نظر موضوعية حادة، تغوص بعمق أكثر وأكثر في داخل ارتباك جريجور الشخصي، في الألم والأسى. من النادر أن نغامر أبعد مما يراه ويشعر به. فقط عندما تصبح الرواية في أقصى نهايتها، فنحن نغادر سجن شقته العائلية نهائياً. توصيف الشخصيات ومحيطها غالباً ما كان دقيقاً ولكن لم يكن مفرط الدقة، كما لو كانوا مجرّد مكون واحد لحركة جارفة وكأنها تصرخ ليتم التعاطي معها كلياً.

ما الذي -مهما كان -يتم في الحقيقة وصفه؟ إنه لمن السهل بصراحة أن يُترك العمل كما لو كان “اغتراباً” ويتغاضى عنه. وهذا ليس بالمقدار الهائل لعدم الواقعية بقدر ما هو غير مُرضي. يمكن أن يكون للاغتراب مفهوم داخلي وخاص به، ولكن من أجل “المسخ” فهنالك الكثير، أكثر مما يحدث، أكثر بكثير مما يعطى مثلاً ويُدرك. ما الكثير هنا ليخبرنا بهِ كافكا؟

 الإجابة عن هذا السؤال تستلزم الإجابة عن سبب استعارة كافكا من القوى فوق الطبيعية. فأكثر من ذلك كله، هو لم يحكي قصة مجرّدة عن جريجور سامسا، ذلك الرجل الذي استيقظ ذات يوم مع حالة سيئة من الملل. إنه يحكي لنا عن جريجور سامسا الإنسان السابق الذي تحول إلى حشرة قذرة وبغيضة وعملاقة. ففي صميمها، كانت “المسخ” قصة عن وحش. ولذلك، يقول تشاينا ميفيل:

 أظن أن ما يحدث هنا، أن هنالك شيء ما عن الحداثة والرأسمالية، التي لا يمكن لك ببساطة أن تفكر بها بطرق “واقعية”. عوضاً عن استمرارية معاودة ظهورها على هيئة “عودة المقموع”، فأنت لا يمكن لك أن تتصورها إلا في قالب فظيع.

 تخصيص ميفيل قوي بذكره للحداثة. فعالم كافكا كان أحد تلك التي يمكننا أن نقول عنها “التجربة الحديثة”، والتي اكتسبت قوة دافعة لا مثيل لها وأصبحت شبه مهيمنة على القارة الأوروبية. جُرف والده من حالة الركود للمدن الصغرى والمتجانسة للإمبراطورية النمساوية-المجرية، وقُذِف في إثارة وإذهال تمدّن مدينة براغ. كانت تلك حياةٌ لم يكن للمنطق المقبول “السبب-الأثر”؛ أن يتشبث فيها بخيطٍ نحيل كهذا في أي وقتٍ مضى.

 يبدو أن كافكا قد تصارع بنفسه مع طبيعة زلقة للهوية في هذا السياق. بخلاف مطامح والده الاستيعابية، سعى فرانز لاستعادة نوع من تصوّف الشتيلت¹ اليهودي ودمجه في داخل التجربة الكوزموبوليتانية. مع ذلك؛ سنكون جهلاء لو اختزلنا راديكاليته السياسية في محاولته لتزوير هوية، فقد يبدو أن كلتيهما متجذرتان في رغبته للانسجام وتسخير الإمكانيات المتناقضة للحياة المتطورة. ما هو أكثر تأكيداً، هو إدراكه التام لهذه المساومة الشيطانية التي تقدّم هذه الإمكانيات لمتقاسميها: من أجل أن يجد المرء الهوية الجديدة، عليه أن يكون مستعداً للحصول عليها مدمرةً ومنحرفةً بشكلٍ أسوأ من كل الإدراك البشري.

 الوحوش والوحشية

 من الحقيقي أن نصيغ بأن “المسخ” لم تكن مجرد قصة عن الوحش، وإنما قصة عن “الوحشية”. فقبل كافكا، روى العديد من المؤلفين كل أساليب القصص عن التحول الحرفي للبشر. والعقيدة الأدبية لأوروبا الشرقية بالتحديد مليئة بالقصص عن العرافات والمخططات فوق الطبيعية التي فُرِضت على الناس، وانتزعتهم من بشريتهم وحولتهم إلى ما يشبه الحيوان القذر أو المخلوق المنفّر.

 لكن هذه القصص في العادة تتضاعف كحكايات أخلاقية أو أن تؤدي ما يشابه الدور التحذيري. إذا ما تحول شخص ما إلى جرذ، فإن ذلك بسبب تجسيده لما يشابه الخطأ باتجاه شخص آخر. أو إذا كان المتحول بريئاً، إذاً فقد كان هنالك ما يشابه الفاعل الآخر في القصة، والذي كان دوره إما للتأكيد بأنهم سيعودون بعد التحول، أو أن الذي قام بفعل التحويل قد استبصر بحقهم القصاص العادل. وفي العادة فقد كان هنالك حس عظيم إما بالعدالة أو الظلم التي يتمثّل في التحوّل بحد ذاته.

لم يوجد في “المسخ” شيء من ذلك. بالتأكيد نحن نشعر بالتعاطف مع جريجور ونقاتل مع ما كان قد أصبح عليه، ولكن لم يكن هنالك أي نقاش حول الصحيح أو الخطأ. تحوله جوهرياً فاقد لخصيصة الحس الأخلاقي، والأداة المترية الوحيدة للقياس التي نمتلكها في مقابل ما نقدّر به الأحداث للرواية، هي في أغلب مداها انفعالات جورج.

بالتأكيد فإن القصة تمتلك كليّة سردية، بالرغم من كل شيء. على الأقل فهناك كليّة ما؛ يمكن البناء عليها من تجربة جريجور وعائلته، بالرغم من كونها أبعد من إدراكهم. وهنالك العديد من الأسباب للإيمان بأن هذا التكتل للتجارب المتشابهة هو في حقيقته وراء مأزق جريجور.

أشار العديد من المحللين لوظيفة جريجور بأنها هي المذنبة، وهنالك بالتأكيد ما يشير إلى ذلك. تصف العديد من الصفحات الأولى للعمل شيئين ذوي علاقات مترابطة: هيئته شبه-الحشرية الجديدة، والمتطلبات الفيزيائية والعاطفية لوظيفته كمندوب مبيعات متنقل. كان هذا بدون شك متعمدا من جانب كافكا. فالمروء يذكّر بالطريقة التي يتم بها وصف عمل على أنه عملية تحول شنيعة في الأعمال الأدبية المختلفة، على سبيل المثال: “الأدغال” لـ أبتون سنكلير.

طريقة كافكا هنا ملحوظة بشكل مختلف عن سنكلير في العديد من الأساليب الواضحة. بينما يروجيس ومساعديه في اتحاد الجمعية انمسخوا مجازياً -تم تكسير أجسادهم وامتهانهم بطريقة مذلة حقّرتهم لشيء أقل مماثلةً لما هو بشري -فإن تحوّل جريجور كان حرفياً. بخلاف الحكايات الخرافية التي تروى في السابق، فإن تحول جريجور لم يكن التواء في حبكة الرواية ليطرأ لاحقاً في القصة، بل كان الحبكة الرئيسية للرواية. فقد استمر جريجور في الشعور بتحوّله طوال الكتاب. كان الاكتشاف الفارق متمثلاً في عدم قدرته على الكلام، وإدراكه لذلك جعله الآن يفضّل القمامة المتعفّنة كطعام، مع التلاشي في قدرته لأن يستشعر عواطف معينّة كلما استمر في صراعها في وجود إحساسه بالعزلة والوحدة. إذا كان التغيّر الفيزيائي قد طرأ قبل الصفحات الابتدائية للكتاب، فإن الانفساخ الحقيقي هو في حياة جريجور الداخلية.

إن أكثر اختلاف بارز هنا بأي طريقة كانت، لم يذكر بشكل واضح الرابط بين العمل والتجرّد من البشرية في “المسخ”. فبالكاد تمت الإشارة إليه، منذ بداية الصفحتين الأوليتين للقصة.

“أوه، يا إلهي” هكذا فكّر، “يا لها من وظيفة مرهقة تلك التي اخترتها! السفر يوماً بعد يوم. العمل وكأنه سيأخذ جهداً أكبر من ذلك الذي تبذله لعملك الخاص في المنزل، وفوق كل هذا هنالك لعنة السفر. الخوف من إنشاء علاقات في القطارات، الطعام السيء والغريب، الاتصال بمختلف الناس طوال الوقت، حتى تصبح غير قادر على معرفة أحد أو أن تصبح صديقاً معهم. فليذهب كل ذلك إلى الجحيم!” كان يشعر بحكة طفيفة على بطنه، ودفع نفسه ببطء على ظهره باتجاه اللوح الأمامي للسرير، كي يستطيع أن يرفع رأسه بشكلٍ أفضل؛ ولكي يعرف أين كانت الحكة، ووجد حينها أن بطنه مغطاة ببقع بيضاء صغيرة لا يعلم مما صُنِعت، وحينما حاول أن يستشعر المكان بواحدة من أقدامه، قام بإرجاعها بسرعة، لأنه في نفس اللحظة التي لمسها بها، خضع كلياً لقشعريرة باردة.

 وبقدر ما إذا كان هنالك رابط ما، ففي أفضل الأحوال فإنه قد تم التلميح به. لقد كان مبنياً للمجهول، ومستقل وعسير الوصف. إن توظيف كافكا لصوت سردي كالذي يمكن وصفه اليوم بـ “الواقعية السحرية” أو “مجرى الأثر الجارف ²” هو توجيهي هنا: ذلك الذي نقول عنه غريباً بالنسبة لنفس الانطباع عن الممكن تمييزه والمبتذل، والخيالي يصبح دنيويا والعكس صحيح. إن عرض هذا النوع من مكافحة-الوضعية الذي تمثله المدرسة التعبيرية، والسببية بين إنهاك جريجور وتحوّله، هو أمر غير قابل للوصف. ممكن وغير ممكن، وبقدر ما هو ممكن، فإن هنالك قوى أوسع توحي به.

في الحقيقة، فقد تم التأكيد علانيةً بأن جريجور هو مجرد عمل منهك ومتطلبّ على والديه المتورطين بدينٍ ماليٍ عظيم. فمن خلال الكتاب، نحن نسمع محاولات عائلته لإيجاد سُبلٍ للتعويض عن الخسائر في الدخل: التخلي عن الخادمة، وعرض إحدى غرف الشقة للإيجار. وفي الحقيقة، فإن أحد هؤلاء المستأجرين هو من ساهم للمشاركة في موت جريجور. عندما خرج المستأجرون الثلاثة من غرفتهم ليسمعوا أخته جريت وهي تعزف بكمانها، كانت محاولة جريجور أن ينسلّ من خلال الباب حتى يسمع بشكل أفضل؛ أن آلت به ليتم اكتشافه بواسطة أحدهم. لقد أُحبطوا، وفزعوا، وخرجوا مباشرةً بعد أن هددوا والد جريجور باتخاذ إجراء قانوني بحقه. أصبحت عائلته، اليائسة والخجلة، تفكّر محبطةً -أمام جريجور -بالطريقة التي سوف تخلصهم منه. كان قد أصبح عِبئاً عاطفياً، وبشكل نهائي، عائقاً مادياً.

 جريت، كانت قبل هذا المحامية الوحيدة لجريجور، الوحيدة التي كانت تجلب له طعامه الآسن وتناشد والدهما أن يحفظ حياة أخيها، اصبحت الآن تشير إليه بـ “it” (هذا/هذه لغير العاقل): “يجب عليها أن ترحل… تلك هي الطريقة الوحيدة، يا والدي. يجب عليك أن تتخلص من الفكرة القائلة إن تلك هي جريجور. نحن فقط نؤذي أنفسنا بالإيمان بها لفترة طويلة. كيف يمكن لتلك أن تكون جريجور؟ إذا ما كانت هي جريجور، فإنه سيدرك منذ مدة طويلة استحالة عيش البشر مع حيوان مثل ذلك، وكان ليرحل من تلقاء نفسه.”

 ومع ذلك، فإنها جريجور. فهو ما يزال لديه الوعي، بالرغم من فقدانه القدرة على التواصل به. هو يحاول أن يسترد أدنى جزء ثمين من إنسانيته المفقودة، وفي خضم محاولته، يخسرها نهائياً. إن مشهد موته المفجع والكئيب، هو ما ترتّب عند انهزامه عائداً لغرفته:

 “ما الذي أعمله الآن إذن؟” يسأل جريجور نفسه وهو محاصرٌ في الظلام. اكتشف بعدها بقليل بأنه غير قادر على الحركة نهائياً. وهذا لم يكن مفاجئاً له، فقد بدى له العكس، بأنه من غير الطبيعي، أن يكون قادراً حتى ذلك الحين على التحرك الفعلي في الأرجاء على تلك الأقدام المنحنية والضعيفة، وشعر أيضاً أن ذلك مريح نسبياً. صحيح أن كامل جسده يحكّه، ولكن بدى أن الألم يخبو ويخبو ببطء، وقد يختفي كاملاً بشكل نهائي… عاد ليفكّر في عائلته بحبٍ وعطف. لو كان ذلك ممكناً، فقد شعر بوجوب مغادرته بشكل أقوى حتى من شعور أخته. ظل بعد ذلك في حالة من الخواء والتأمل المسالم حتى سمِع ساعة البرج وهي تشير إلى الثالثة فجراً. ظلّ يشاهد بينما بدأ ببطء كل شيء حوله يصبح مضيئاً، وفي خارج نافذته أيضاً، حينها، وبطريقة خارج سيطرته، تدلّى رأسه إلى الأسفل كلياً، وفاضت آخر أنفاسه واهنةً من مناخيره.

كانت أفكار وأحاسيس جريجور الأخيرة عبارة عن المرحلة النهائية في تحولّه. فقد استطاع أن يشاهد نفسه خارجياً، وكان مرتاحاً مع خسارة السيطرة على أي جزء من جسده. أصبح بشكل صادق يرى نفسه كسلعة فقدت كل قيمتها الاجتماعية، ومن الأفضل أن يتم التخلص منه بكل بساطة. مرةً أخرى، إن الالتقاء بين الخيالي وغير الملاحظ يصنع خليطاً -من نوعٍ غريب -من العواطف الجيّاشة والجنائزية، وتسمح لنا أفضل الترجمات الإنكليزية كفاءةً أن نجرّب هذا الخليط غير المريح بأنفسنا. ففي آخر لحظات حياة جريجور، نحن نتعاطف معه بالتزامن مع الرعب لما قد أصبح عليه، وبالكيفية التي تعامل معها.

 في صورة متناقضة -مع ذلك -نجد أيضاً أنه من الصعوبة أن نقاوم الارتباط بالراحة التي استعرتها عائلة جريجور بعد موته، بالقدر ذاته من الراحة بالنسبة لجريجور نفسه. نحن لا نستطيع أن نمد له يد العون ولكن نستشعر أيضاً إحساسهم بالحرية من العبء الذي أصبح عليه، إنها خاتمةٌ مقلقة: أن ندرك بأننا أيضاً نشارك في تشيؤ بطل الرواية. إذا ما كانت إنسانية أحدهم قابلة للقياس من خلال الطريقة التي سيُتذكّر بها، فإن جريجور سامسا قد محي تماماً. حتى في موته، فإنه قد توحّش كلياً وبشكل قطعي. لن يحسم السبب مطلقاً، وبالتأكيد فإنه ثانوي للمكيدة التي تحاك بها.

 مسخٌ حديث

 في السابع عشر من أكتوبر، ظهر مقالٌ طويل في النيويورك تايمز بعنوان “الميتة المنعزلة لجورج بيل.” كان موضوع التسمية عن اكتشاف جسد ميّت لرجُلٍ مُسنّ بعد قرابة الأسبوع من موته في شقته القذرة في كوينز. كان بيل مُكتنِزاً، تكدّس في جسده عبر سنين حياته الاثنتبن وسبعين ما يكفي من مُتعٍ لم يستطع الاستغناء عنها، كما لو أنها فاضت جزئياً في مأوى معيشته. ولكن مذ أنه لم يكن له أقرباء وأصدقاء معروفين، فتركّز المقال حول الآلية الطويلة والشاقة للتعرف على جسده، على الرغم من أن معظم المنخرطين في التعرّف على تلك الكومة المتحللة من اللحم والعظام الذابلة، “يعلمون” بأنها كانت -في أغلب الظن -جثة جورج بيل.

 أسئلةٌ كثيفة يتم تقيُؤها تلقائياً بواسطة هذا المقال، والعديد منها مثيرٌ للأعصاب على نحو تام. كيف أمكن -في واحدة من أكثر مدن العالم كثافة بالسكان -ألا يوجد أحد قادر على “معرفة” شخص ما من دون ريب؟ إذا كان المجتمع الحديث يقدّر قيمتنا من خلال المقدار الذي نمتلكه، فلماذا إذاً أمكن نسيان رجلٍ كاد أن يغرق حرفياً في متعته، واستُقبِل موته بهذا القدر من اللامبالاة الباردة؟ بقدر ما هي مزعجة، فإن هذه الأسئلة حول كيفية قدرة المجتمع اللامتناهية لنبذ حياة إنسانٍ ما فإنها أيضاً تعكس كيفية التناقضات المادية والروحية التي أشعلت خيال كافكا الذي ما يزال مستمراً معنا بشكلٍ كبير.

إنه من الحقيقي أيضاً أن تجد نفس هذه المضايقات والمقلقات وقد انتقلت إلى داخل ثقافتنا الشعبية بهذه الطريقة المتنافرة. فأفلام الرعب الجسدية -سواء كانت العمل الأول لديفيد كرونبيرق أو التصوير الفوري الأكثر فظاظة لسلسة حريش³ الإنسان -كانت الأمثلة الوحيدة الأكثر مباشرةً والتي يستحضرها الذهن. بشكلٍ جليّ، لا يمثّل أي منها الانمساخ المعاصر في الطبيعة كقوة غير طبيعية. بالرغم من أن بعض أفلام كرونبيرق تمتلك طابعاً أكثر شبحية، إلا أن أخرى مثل الذبابة وفيديودورم تصوّر التشوّه للشكل البشري كطفرة علمية أو تكنولوجيّة. كيانات كان من المفترض أن تجعل حياتنا أفضل، إلا أنها اُختُلست بواسطة أولئك الذين يؤمنون بِالخطو قُدماً في بُعدين من التقدّم. نفس تلك الواقعية المُتخشّبة التي ثار ضدها كافكا ومعاصروه، ما تزال تنتقد اليوم بشكل متكرر.

ما الذي يضع هذه النوعية من الأفلام في ظل “المسخ” بشكل راسخ، وبشكل أقل منها، لنقول، فيلم “فرانكشتاين” لماري شيلي؟ بينما تجترّ الأخيرة الكيفية التي تعيد فيها الحداثة تعريف إحساسنا بماهيّة ما يصنع إنسانيتنا، فإن قصة كافكا تكرّ وتفرّ وجودياً حول كيفية الالتواء والانحراف الحاد التام لنفس هذه الإنسانية، وهو اختلافٌ منطقيّ. مع أن كافكا وشيلي كانا راديكاليين سياسياً في زمانهما وموطنهما، إلا أن كافكا كان يكتب انعكاس الرؤية من مرآة خلفية لديها ما يقارب الأكثر من مائة عام في التجربة الاجتماعية الحديثة. وعلى الرغم من أن المذبحة المصنّعة والسلعية عرضاً من الحرب العالمية الأولى يمكن لها أن تغدو السبب وراء شحوب شيلي، إلا أن القدرة التكنولوجية لغاز الخردل، ودبابات مارك خمسة، والأسلاك الشائكة، كانت جميعها محبوكة بقدر كبير في زمن كافكا ومكانه.

لا يحتاج المرء بشكل تلقائي لأن يدمج ما له صلة برأس المال والإمبراطورية وجهاز الدولة القمعي لينخرط في مثل هذا النوع من النقد للاغتراب والنفور، ولا شيء منهما علني بهذا القدر في المسخ. لكن إذا كانت هذه الاعتبارات غير ظاهرة للعلن، فإنها أيضاً ستصبح واضحة منذ لحظة الإشارة إليها. لقد تمت مواراتها من خلال الرعب والخزي لعائلة جريجور، وثقل الدين الساحق، وإرهاق عمله، وما لا يمكن تفسيره حين يجمع كل ذلك ليحوله إلى منبوذ حقيقي.

إن الفن المنفّر، والمشابه لجريجور إلى حدٍ كبير، هو ما تم استخدامه كأداة في المسخ. إنه يقدم نوعاً من مجرى الأثر الجارف ²، بين ما يمكن أن يصنّفه بيرتولت بيرتشت، بالعاطفي والملحمي، والشخصي بصفة وثيقة، والتاريخي بشكل رائع. قد تكون القوى التي تستطيع تحويلنا بعيدة المنال عن إدراكنا الشخصي، ولكنها أيضاً عادية بشكل جوهري.

 قد يكون هذا هو الإرث الأكثر أهمية من حكاية فرانز كافكا. إنه تذكير في عالمٍ يسيطر عليه رأس المال أن الرعب مألوفٌ جداً، كما لو كان شبه متخفٍ في مدى النظر الصريح. لأجل ذلك، فإنه قادرٌ على تحويل الحالة البشرية إلى شيء لا يمكن وصفه.


¹ شتيلت (يديشية) “مدينة صغيرة” بلدة أو مجتمع يهودي صغير يوجد في أوروبا الوسطى والشرقية قبل الهولوكوست.

² أصل الكلمة “slipstream” ولا يوجد لها مرادف أو معنى في العربية. فهي تصف أثر الهواء المندفع من محرك نفاث، أو الهواء الذي تخلفه وراءها سيارة مسرعة، فيجر في سبيله ما يجاوره. كأن يتحسن اقتصاد دولة ما، فيتحسن تباعاً لذلك اقتصادات الدول المجاورة، فيما يمكن وصفه بأنه slipstream = مجرى الأثر الجارف.

³ دابة صغيرة ذات أرجل كثيرة تعرف عند العامة بأم أربعة وأربعين.