مجلة حكمة
كلايست

كلايست في ثون – روبرت فالسر / تقديم وترجمة: أحمد الحقيل


فالسر روائي وقاص نمساوي يكتب بالألمانية. ولد 1878 ومات 1956

كلايست شاعر وروائي ألماني ولد 1777 ومات منتحرا 1811 برفقة صديقته التي يذكر أنها كانت مصابة بالسرطان والاكتئاب.

ثون هي بلدة صغيرة في سويسرا، بقرب نهر الآر، عند مدخل جبال الألب البرنية. تعد وجهة لكثير من السياح.

الرابط

لماذا يكتب فالسر عن كلايست؟

فالسر عاش آخر سنوات حياته في اضطراب ذهني، قاده إلى دخول مصحّات عقلية كثيرة. فالسر الذي تصفه سوزان سونتاج بأنه الحلقة المفقودة بين كلايست وكافكا، حيث أن الأخير كان من أكثر المتأثرين به، اختلق سردا يقوم على تفكيك التراتبية السردية في خدمة الصورة واللغة والجرْس. فالسر الشاعري، ذو الحساسية الرومانتيكية. هذا الصنف يجب ألا يخدعكم، إنه دائما ينتج أكثر الناس كآبة وعرضة للألم. ولهذا فالسر يحب كلايست ، ويكتب عن كلايست: الجمال في الألم، والألم في الجمال. لماذا انتحر كلايست؟ نظريات كثيرة، لا جدوى منها. المهم هو أن كلايست كان مهيئا للموت، حسب ما يكتب فالسر. الوحدة، لا شك عنصر أساسي. ولكن الأهم، هو الجمال. الجمال هو دافع كلايست لأن ينتحر، إن الجمال في حد ذاته ألم، تذكير بانعدام وشيك يورث نشوة صلاتية، بفراغ من الممكن أن يفيض على السطح. الجمال الذي لشدة ما يبدو جميلا يكاد يبدو مصطنعا، مزيفا، لاحقيقي، ” ألبوم رسمه هاوٍ حصيف “. يصف فالسر مراقبة كلايست لصورة جمالية “يجلس هناك، وجهه ينتَـأ إلى الأمام، وكأنه يجب أن يكون مستعدا لقفزة الموت في صورة ذلك العمق الفاتن. إنه يريد أن يفنى في تلك الصورة”. ولذا بالنسبة لـ كلايست ، فالانتحار ليس موتا، وإنما فناء في الحياة المتلاشية، فناء في صورة الجمال الذي يهمُّ بالاندثار، الجمال الذي يعقبه دائما ضمور مشبع ببلادة رتيبة ويكاد يخالطه كمال يُشبه التأليف المتعمد. الأسباب المحسوسة التي تقف وراء انتحاره، هي مجرد الشكل، وهو مهم بلا شك، ولكن السبب الرئيسي هو الجمال، ولذا أي حياة كان سيعيشها كلايست وأي خيارات كان سيتخذها، كلها ستؤدي إلى انتحاره، عاجلا أما آجلا، حسب ما يكتب فالسر … مرحبا بك في عصر رومانتيكيي القرن الثامن عشر!

أسلوب فالسر

فالسر يلقب بالمراوغ، لا يُفهم دائما. أحيانا يمنحك جملا مكركبة لامفهومة، ولكن فيها كلمة واحدة كفيلة بالإيحاء – إما إلى شيء سابق أو شيء لاوجود له في النص – الذي يجعلك تفقد تركيزك وتتشتت. هذا كل ما يريده، أحيانا بالطبع، أن تتشتت، أن تشعر أنّ النص يذهب بك إلى مناطق غامضة، مكركبة، متداخلة، يتسرب من يديك وأنت تحاول الإمساك بتراتبية جمله. وغالبا، تصل تلقائيا وسريعا – لأن فاولسر كاتب جيد – إلى تركيب المعنى من الجملة المراوغة، ولكنه معنى إيحائي لغوي صوري. ولذا ستلاحظ عدة فجوات أحيانا، قفزات أو مناطق فراغ. هذه اللغة تشبه عملية المونتاج، حيث التقطيع والتداخل. وفالسر في هذا رائد أصيل، حيث أنه سبق كافكا وبروست وفوكنر. لغته فيها ذلك الغموض المكركب اللذيذ.

ولهذا قررتُ في ترجمته ألا أغيّر شيئا، ألا أحاول أحيانا وضع كلمة أو ترتيب قد يشرح الرابط أو يجعل الجملة أكثر تماسكا مع ما قبلها وبعدها، فمن المهم أن يأتي النص تماما كما أراده فالسر، مكركبا، متداخلا، تشتبك أفعاله وأسماؤه أحيانا، صفاته وضمائره، لتشكل هذا الجسد السردي الغامض اللاواعي الذي ينبض بجرس يتجاوز مطلب الفهم المجرد، إلى الشعور نفسه، الحدس نفسه، الذي تحسه بقدر ما تفهمه. ولهذا ففالسر في هذا النص حسي تماما، نصه العبقري يخاطب الجوارح بقدر ما يخاطب العقل، الأذن بقدر العين.

كما أن فالسر من أوائل من اعتمدوا “الميتا فيكشن”. وهي دخول الكاتب في قصته. إذ يخرج فالسر في نهاية القصة، وينهيها بطريقة مقطوعة وكأنها يوميات.

الترجمة

عبر الترجمة الإنجليزية للشاعر كريستوفر ميدلتون، المتخصص في الأدب الألماني، وتحديدا في أدب جوته وفالسر وهولدرلن وسيلان، وهو الذي اعتمدت عليه أكثر في الترجمة، مع مراجعة النص الألماني.

Heinrich_Von_Kleist_The_Major_Works_
غلاف لكتاب “أبرز أعمال هاينريش فون كلايست”

كلايست في ثون

وجد كلايست نزلا وخوانا في فيلا قريبة من ثون، على جزيرةٍ صغيرة عند نهر آر. من الممكن القول اليوم، بعد أكثر من مائة عام، دون قطعية بالطبع، أنه لابدّ قد مشى عبر جسر صغير، بطول عشرة أمتار، وسحب حبل جرس. حينها، لابد أن أحدا ما أقبل منزلقا من الدرج، مثل حية، ليرى من هناك. “هل لديك غرفة للإيجار؟” بعد برهة استرخى كلايست في الغرف الثلاثة – منخفضةِ السعر بشكل مفاجئ – التي كانت قد أُفردت له. “فتاة محلية برنيّة جذابة ترعى البيت لي” قصيدة جميلة، طفل، مَحمدة بطولية، هذه الأشياء الثلاثة تحتل تفكيره. علاوة على ذلك، إنه نوعا ما معتلّ. “الله وحده يعلم العلة. ما الذي حاق بي؟ كل شيء جميل جدا هنا”

يكتب، بالتأكيد. من وقت لآخر يتجه بالعربة إلى مدينة برن. يقابل أصدقاء أدب، ويقرأ لهم كل ما كان يكتبه. بالطبع، يشيدون به إلى السماوات، ولكن يجدون شخصيته بالأحرى غريبة الأطوار. يكتب “الإبريق المكسور”. ولكن لماذا كل هذا الاضطراب؟ الربيع قد أتى. الحقول حول ثون كثّة بالزهور، الأريج في كل مكان، طنين نحل، شُغْـل، أصواتٌ تهبط، أحدٌ يتبطل هائما. في حرارة الشمس من الممكن أن تُجن. كأن موجاتِ حُمرةٍ متوهجة مخدِّرة تثب عاليا في رأسه كلما جلس وراء طاولته وحاول الكتابة.

يلعن حرفته. كان قد عزم أن يكون فلاحا حينما أتى إلى سويسرا. فكرة لطيفة، كانت. سهلٌ أن تعتزم أمرا في مدينة بوتسدام. الشعراء عموما يعتزمون أشياء كهذه بسهولة كافية. غالبا يجلس قبالة النافذة.

الساعة العاشرة صباحا، تقريبا. إنه وحيد للغاية. يتمنى أنّ صوتا كان بجانبه، أي نوع من الصوت؟ يد، طيّب، وبعد؟ جسد؟ ولكن لمَ؟ هناك تستلقي البحيرة، محجّبة ومبددة في أريج أبيض، مؤطرة بالجبال الساحرة اللاطبيعية. كيف تُـغشِّي كلُّها وتُربك. الريف بأكمله – منحدرا إلى الماء – حديقةٌ نقية، تبدو أنها تفور وتتهدل في زرقة الهواء بجسور مليئة بالزهور وشُرفات مليئة بالأريج. طيورٌ تغني بوهن تحت كل هذه الشمس، كل هذا الضوء. إنها نشوانة، ومليئة بالنوم. مرفقه متكئ على حافة النافذة، يُسند كلايست رأسه على يده، يحدق ويحدق ويرغب في أن ينسى نفسه. صورة بيته الشماليّ النائي تدخل فكره، يستطيع رؤية وجه والدته بوضوح، أصواتٌ عتيقة. اللعنة على كل هذا — كان قد قفز وركض خارجا إلى الحديقة. يركب هناك زورقا ويجدف خارجا فوق صباح البحيرة الناصع. قبلةُ الشمس لا تتجزأ، لا تخمد. لا نسمة. لا حركة. الجبال تمويهٌ بارعٌ لرسامِ مناظر حذق، أو تبدو كذلك، وكأن الجهة بأكملها ألبوم، الجبال رسمها هاوٍ حصيف على صفحاتٍ فارغة لصالح السيدة التي تملك الألبوم، كتذكار، مرفقة بآية شعر. تغطي دفّتي الألبوم أغلفةٌ خضراء باهتة، وهو ما يبدو مناسبا. سفوح الجبال على حافة البحيرة شديدة الاخضرار من المنتصف السفلي، فارعة، عطرة جدا. لـا لـا لـا! كان قد تعرى وانغمس في الماء. كم هو جميل كل هذا بشكل يفوق الوصف. يسبح ويسمع ضحك النساء على الشاطئ. القارب يتجول بفتور على الماء المخضر المزرق. العالم حوله كعناق رحب. أيُّ نشوة هذه، ولكن أي كرب من الممكن أن تكونه أيضا.

أحيانا، وتحديدا في أمسيات رائقة، يشعر أن هذا المكان هو نهاية العالم. جبال الألب تبدو له بوبات لامدرَكة تفضي إلى فردوس متسنم فوق قنن الجبال المتسلسلة. يسير على جزيرته الصغيرة، يخطو متأنيا، يصعد ويهبط. الفتاة تستحم بين الأحراش، حيث يومض فيها ضوءٌ نغميّ، أصفر، جميلٌ بإيحاء عدمي. أوجهُ الجبال بقشرة الثلج ممتقعة جدا، الصفةُ المهيمنة في كل الأشياء جمالٌ نهائي لامحسوس. بجعاتٌ تسبح إلى ومِنْ، تبدو وسط تهافُـتها عالقةً في تعويذة الجمال وضياء الغسق. الهواء غثيانيّ. كلايست يريد حربا وحشية، أن يقاتل في معركة، يبدو لنفسه مسحة من شخص بائس وفائض.

يذهب ليتمشى. لماذا، يسأل نفسه بابتسامة، لماذا يجب أن يكون هو الذي بلا شيء يُـفعل، لاشيء يُضرب، لاشيء يُردى؟ يشعر أن عصارة وقوة جسده تشتكيان بخفوت. روحه بأكملها ترتجف رغبة في كدٍّ جسدي. يصّعّد ما بين جدرانٍ عتيقة فارعة، متجاوزا منحدر الجبل المحجّر بالحصى الرمادي حيث يتثنى اللبلاب الأخضر الداكن بحميمية. عاليا هنا، في كل المنافذ، يبدو ضوء المساء متقدا. على حافة واجهة الصخر يقف سرادقٌ بهيج، يجلس كلايست هناك، ويترك روحه تحلق، صعودا وهبوطا في المَطَـلّ الخامد القدسي البراق. سيكون متفاجئا إن هو أحس الآن بأنه معافى. تقرأ جريدة؟ كيف يفيد ذلك؟ تدير مناظرة سياسية حمقاء أو مفيدة بشكل عام مع مسؤول محترم ظريف نسبيا أو مع غيره؟ نعم؟ إنه ليس غير سعيد. فبشكل سري، يفترض أن السعيد لوحده هو الرجل الذي لا عزاء له: لا عزاء له غريزيا وعنفوانيا. الحالة بالنسبة له أسوء دائما بظلٍّ فاتر صغير. إنه أكثر حساسية من أن يكون سعيدا، ممسوسٌ بمشاعره المترددة المتحفظة اللاموثوقة. إنه يريد أن يصرخ عاليا، أن ينتحب. يا إله السماء، ما الخطب الذي يحيق بي، ويركض مسرعا إلى أسفل التل المعتم. الليل يناسبه. يجلس قافلا في غرفته، مصرا على أن يعمل إلى أن يعتريه السُعار، عند طاولة كتابته. ضوء المصباح يُغشّي رؤيته لمحيط جلوسه، ويُفرغ عقله، ويكتب الآن.

في الأيام الممطرة، الأشياء باردة وخاوية بشكل مخيف. المكان يقشعرّ فوقه. الشجيرات الخضراء تئنّ وتنشج وتريق دموع مطر في تمنّي لطخة شمس. فوق رؤوس الجبال تترسّب غيومٌ وحشية قذرة مثل أيادٍ ضخمة قاتلة وقحة تحوم فوق الجباه. الريف يبدو وكأنه يريد أن يزحف بعيدا ويختبئ عن هذا الطقس الشرير، أن ينكمش سريعا. البحيرة رصاصية وموحشة، لغةُ الأمواج غليظة. ريح العاصفة تترنح مثل توبيخ غريب، لا تجد تدفقا، تتحطم من جُرف إلى الآخر. إنه ظلام هنا، وضيق، ضيق. كل شيء ملتصق تماما بأنف الشخص. الشخص الذي سوف يرغب في أن يستحوذ على مطرقة ويضرب له منفذا وسط كل هذا. أُهرب من هنا، أهرب!

الشمس تُـشعّ من جديد، واليومُ هو الأحد. نواقيسٌ ترن. الناس يغادرون كنيسةَ قمة التل. الفتيات والنساء بصدريات سوداء ضيقة مخرمة مع تِرترات فضية، الرجال مهندمون ببساطة ووقار. يحملون كتب صلاة في أيديهم، أوجههم مطمئنة، جميلة، وكأن كل القلق قد تلاشى، كل تجعّدات الاضطراب والتنافر قد ترققت، كل المشاكل قد نُسيت. والنواقيس. كيف تدوّي عاليا، تقفز بجلجلاتِ وأمواج صوت. كيف تتلألأ وتتقد بزرقةٍ وجَرْسٍ فوق أحَـدِ القرية الصغيرة المتحممة بالشمس. الناس يتفرقون. كلايست ، مُهَـوّاً بمشاعر غريبة، يقف فوق عتبات الكنيسة وعيناه تتابعان حركة الناس التي تنزل. يرى نسخا عديدة لطفلِ مزارعٍ يهبط من العتبات مثل أميرٍ بالولادة، الجلالةُ والانعتاق منحوتة بأصالة في العظم. يرى شبابا وسيمين عضِلين من الريف، وأيُّ ريف، ليست أرضا مسطحة تافهة، ليسوا سكان سهول صغار، ولكن فتيانٌ اندلعوا من وديان سحيقة مقوَّرة بدقة في الجبال، ضيّقة غالبا، مثل ذراعِ رجلٍ طويلٍ وحشي. إنهم فتيان الجبال حيث حقول الذرة والكلأ تهبط منحدرة إلى الأخاديد، حيث العشب العطريّ الحار ينمو في رُقعات مسطحة صغيرة على شفير الشِّعاب المرعبة، حيث المنازل عالقة مثل بقع على المروج حينما تقف بعيدا في الأسفل على الطريق الريفي الواسع وتحدق عاليا أمامك، لترى إن كان لا يزال ثمة منازل للناس هناك.

الآحاد يحبها كلايست ، وأيام التسوق أيضا، حينما يتموّج كل شيء ويحتشد بتطريزات الرجال الزرقاء وأزياء الفلاحات، على الطريق، وفي الشارع الرئيسي الضيق. هناك، في ذلك الشارع الضيق، عند الممشى المرصوف، السلعُ مكدسة في أقباء حجرية وعلى أكشاك واهية. البقّالون ينادون لكنوزهم الرخيصة بهتافات ريفية مداهنة. وعادةً في مثل يوم التسوق هذا، تُشع أكثر شمس متألقة حارقة بليدة. كلايست، يحبّ أن يدفعه هنا وهناك أُنس الحشد الريفي المتوهج. في كل مكان تفوح رائحة الجبن. في الداخل، حيث الدكاكين الأفضل، تمر نساء الريف الجادات، الجميلات أحيانا، يتسوقن، بحذر. كثيرٌ من الرجال يحملون غلايين في أفواههم. خنازير، عجول، وأبقار مجرورة إلى الوراء. ثمة رجل واحد يقف هناك، يضحك ويضرب خِـنَّوصه المتورد بعصا ليجبره على السير، يرفض، ولذا يأخذه تحت ذراعه ويحمله صاعدا. روائح الأجساد البشرية ترشح من خلال ملابسهم، بينما تندلق هناك خارج الحوانيت أصوات العربدة. رقصٌ وأكل. كل هذا الاهتياج، كل حرية الأصوات هذه! العربات أحيانا لا تستطيع العبور. الخيول مطوقة تماما برجال متاجرين مثرثرين. والشمس تُشعّ وهّاجة بدقة فوق الأشياء، الأوجه، الملابس، السلّات، والبضائع. كل شيء يتحرك، ووهج الشمس لابد أن يتحرك أيضا إزاء كل شيء آخر. كلايست يريد أن يُصلّي. إنه لا يجد موسيقىً جلاليةً جملية للغاية ولا روحا دقيقة غامضة تماما مثل موسيقى وروح كل هذه الحركة الإنسانية. إنه يريد أن يجلس على إحدى العتبات المؤدية إلى الشارع الضيق. إنه يواصل السير، يتجاوز امرأة بتنورة مرفوعة عاليا، يتجاوز فتيات يحملن سلات فوق رؤوسهن، بهدوء، بنبل، مثل امرأة إيطالية تحمل أباريق كان قد رآها في لوحة، يتجاوز رجالا يهتفون ورجالا يسكرون، يتجاوز رجال شرطة، يتجاوز تلاميذ مدرسة يتجهون إلى ما يتجه إليه تلاميذ مدرسة، يتجاوز مظلاّتِ حديقة مجوفة تبعث رائحة منعشة، يتجاوز حبالا، قضبانا، موادا غذائية، مجوهرات مقلدة، أنوف، جباه، قبعات، خيول، خُـمُر، بطانيات، جوارب صوفية، نقانق، كراتُ زبدة، شرائح جبن، يتجاوز كل هذا خارجا من اللغط نحو جسرٍ على نهر آر، حيث يتوقف، وينحني فوق السياج ليحدق في الماء الأزرق العميق يتدفق بعيدا بشكل بديع. من فوقه أبراج القلعة تلمع وتتوهج مثل نار سائلة مُسمرَّة. هذه تكاد تكون إيطاليا.

أحيانا، في أيام أسبوع عادية، القرية الصغيرة بأكملها تبدو له ممسوسة بالشمس والسكون. يقف بلا حراك أمام مبنى دار البلدية القديم الغريب، بأرقامه المنحوتة بحوافٍّ حادة على لمعان الجدار الأبيض. إنه بأكمله يتعذر استرجاعه، مثل جَـرْس أغنية شعبية نسيها الناس. حيٌّ بالكاد. لا، ليس حيا بتاتا. يتسلق سلالمَ الخشب المسيَّجة إلى القلعة حيث عاش الإيرلات الغابرون، الخشب العتيق ينفث رائحة دهرٍ ومصائر بشرية مندرسة. يجلس هنا على مقعد أخضر مقوس ليستمتع بالمنظر، ولكنه يغلق عينيه. كله يبدو مرعبا جدا، وكأنه نائم، مدفونٌ تحت غبار، بحياة منزوعة منه. أقرب شيء له يلوح كأنه في ضبابِ بُعدٍ حلمي سحيق. كل شيء مُغـمدٌ في سحابة حارة. الصيف، ولكن أي نوع من الصيف؟ أنا لست حيا، يهتف، ولا يعرف أين يلتفت بعينيه، يديه، ساقيه، وأنفاسه. حلم. لا شيء هناك. لا أريد أحلاما. يخبر نفسه في النهاية أنه يعيش وحيدا أكثر من اللازم. يرتعد، مُكرهٌ على الإقرار بأن بلادة لامبالاته تمثل علاقته بالعالم حوله.

ثم تأتي أمسيات الصيف. كلايست يجلس على جدار مقبرة الكنيسة الفارع. كل شيء لزج، ولكن مالحٌ أيضا. يفتح قميصه ليتنفس بحرية. تتمدد تحته البحيرة عند الغروب، وكأن إلها قذفها إلى الأسفل بيده العظيمة، متأججةٌ بظلال صفراء وحمراء، كل أجيجها يبدو متقدا من أعماق الماء. إنها تبدو كبحيرة من نار. جبال الألب انبعثت للحياة لتغمس بإيماءة خرافية جباهها في الماء. بجعاتُه هناك في الأسفل يطوّفون بجزيرته الهادئة، حفيف الأشجار في العتمة، ببهجتها المترنمة العطرية تطفو فوق – فوق ماذا؟ لا شيء، لا شيء. كلايست يشرب كل هذا. بالنسبة له، البحيرة المتلألئة الظلالية هي عنقود الألماس على انحناءات جسد امرأة ناعسة غامضة. أشجار الليمون وأشجار الصنوبر والأزهار تمنح عطورها. ثمة أصوات ناعمة مُدركَة بندرة هناك في الأسفل، إنه يسمعها، ولكنه لا يستطيع أيضا رؤيتها. هذا شيء جديد. إنه يريد اللامُدرَك، المستغلق. على البحيرة قاربٌ يتأرجح، لا يراه كلايست، ولكنه يرى الفوانيس التي ترشده، تميس جيئة وذهابا. يجلس هناك، وجهه ينتَـأ إلى الأمام، وكأنه يجب أن يكون مستعدا لقفزة الموت في صورة ذلك العمق الفاتن. إنه يريد أن يفنى في تلك الصورة. إنه يريد أعينا لوحدها، أن تكون عينا واحدة مفردة فقط. لا، شيء مختلف تماما. الهواء يجب أن يكون جسرا، وصورةُ المنظر بأكمله كرسيا يسترخي عليه، سعيدا، حسيا، منهكا. الليل يحل، ولكنه لا يريد النزول. يرمي نفسه على قبر مختبئ تحت الدغل، الخفافيش تئزُّ حوله، الشجر المدبَّب يهمس إذ يتخلله الهواء الناعم. رائحة الزرع شهية جدا، تُـدثّر هياكل الرجال المقبورين. إنه سعيد بألم، سعيد للغاية، حيث منها يتكوّن اختناقه، قحطُه، أساه. وحيد للغاية. لماذا الأموات لا يمكنهم أن ينبعثوا ليتحدثوا نصف ساعة مع الرجل الوحيد؟ في أمسية صيفية يجب أن يكون للشخص امرأة تحبه. صورةُ شفتين ونهدين أبيضين براقين رشقت كلايست إلى أسفل التل نحو شاطئ البحيرة، ثم إلى الماء، بكامل ملابسه، يضحك، ينتحب.

أسابيعٌ تمر. أتلف كلايست كتابا، اثنان، ثلاثة كتب. إنه يريد أرفع مراتب الإتقان، الامتياز، الامتياز. ما هذا؟ لست متأكدا؟ مزقه إذاً. شيء جديد، أكثر سُعارا، أكثر جمالا. يبدأ “معركة زيمباخ”، بطلها المركزيّ هو ليوبولد دوق النمسا، الذي يثير قدرُه الغريب فضول كلايست . وأثناء ذلك، يتذكر بطل مسرحيته الشعرية غير المكتملة “روبرت جيسكارد”. إنه يريده أن يكون باهرا. يرى حسن الحظ – في أن تكون رجلا متزنا بعقلانية ومشاعر هادئة – ينفجر إلى أشلاء، يتحطم ويتحشرج مثل جلاميد تتساقط في الانهيار الأرضي لحياته. يساعده ذلك على أية حال، الآن هو مصمم بوضوح أكثر. إنه يريد أن يتنازل عن نفسه لكارثةِ أن تكون شاعرا: أفضل خياراتي هو أن أُباد بأسرع وقت ممكن.

ما يكتبه يجعله متجهما: إبداعاته تُجهض.

قبل الخريف، يصاب بالمرض. إنه مشدوه من الرقة التي تتخلله الآن. تسافر أخته إلى ثون لتعيده إلى البيت. ثمة تغضنات عميقة في خديه. وجهه يحمل تعابيرَ وسحنةَ رجل تآكلت روحه. عيناه أكثر انعداما للحياة من حاجبيه المتهدلين. شعره يتدلى في خصلات كثيفة مسننة فوق صدغيه، متعرجة بفعل الأفكار التي تخيلها وهي تجرّه إلى بُؤَر قذرة وأشكال من الجحيم. آيات الشعر التي تجلجل في عقله تبدو له مثل نعيب الغِـربان. إنه يريد أن يجتـثَّ ذاكرته. إنه يريد أن يسفك حياته، ولكن يجب أولا أن يهشم قواقع حياته. سُخطه يحتدم تجاه صرير ألمه، إزدراؤه لأزيز شقائه. عزيزي، ما الأمر، تحتضنه أخته. لا شيء، لا شيء. هذا كان الضرر المطلق، أنه كان يجب أن يصرّح أي ضرر ألمّ به. على أرضية غرفته تتبعثر مخطوطاته، مثل أطفال نبذهم أبٌ وأم بفظاعة مرعبة. يضع يده على أخته، راضيا بأن ينظر فيها، طويلا، وبصمت. من الآن، هي تحديقةٌ خاوية لجمجمة متفسخة، فترتعد الفتاة.

ثم يرحلان. الفتاة التي رعت البيت لـ كلايست تقول وداعا. إنه صباحُ خريفٍ وضّاء، العربة تتدحرج فوق الجسر، تتجاوز المارّين، من خلال أزقة ثملة خشنة. الناس يتأملون من خلال النوافذ، السماء فوق الرؤوس، تحت الشجر يلوح اصفرار النباتات المزخرفة، كل شيء نظيف، خريفيّ، ماذا بعد؟ وقائد العربة يحمل غليونه في فمه. كل شيء كما كان. كلايست يجلس كئيبا في زاوية من العربة. أبراج قلعة ثون تتلاشى خلف تل. لاحقا، في البُعد القصي، أخت كلايست تستطيع أن ترى مرة أخرى البحيرة الجميلة. الجو يزداد برودة. تظهر منازل ريفية. تماما، تماما، يا لها من مقاطعات نبيلة كهذه في ريف جبلي كهذا؟ بلا انقطاع. كل شيء يحلق متجاوزا وأنت تنظر من الجانب، ثم ينحسر إلى الوراء، كل شيء يرقص، يحوم، يتلاشى. الكثير مختبئ أصلا تحت غطاء الخريف، بينما كل شيء مذهَّب قليلا تحت شعاع الشمس الناعم الذي يثقب الغيوم. يا له من ذهب ناصع، كيف يلمع هناك، وهو الذي يوجد فقط في التراب. تلال، منحدرات، وديان، كنائس، قرى، أناس يحدقون، أطفال، أشجار، ريح، غيوم، ممتلكات وتوافه — هل في كل هذا شيء مميز؟ أليس كله هراء، منظرٌ يوميّ، أشياء؟ كلايست لا يرى شيئا. إنه يحلم بغيوم وصور وأياد تواسيه وتلاطفه برفق. بماذا تشعر؟ تسأله أخته. فم كلايست يتجعد، يريد أن يمنحها ابتسامة صغيرة. ينجح، ولكن بجهد. وكأنّ في فمه حاجزُ حجارة عليه أن يرفعه ليبتسم.

أخته تستحضر الشجاعة الكافية لتتحدث عن إمكانية أدائه لمهام عملية قريبا. يومئ، إنه يتفق حقا مع هذا الرأي. تومض في حواسه موسيقى وأعمدةُ ضوءٍ مشعة. في الحقيقة، إذا اعترف لنفسه بصراحة، إنه يشعر بتحسن الآن، يتألم، ولكن يتحسن أيضا. شيء ما يرشقه، نعم، بالفعل، صحيح تماما، يرشقه، ولكن ليس في الصدر، ليس في الرئتين أيضا، أو في الرأس. إذاً أين؟ لا مكان محدد؟ ليس تماما، شيء قليل، في مكان ما مجهول، لئلا يستطيع الشخص معرفة أين بالضبط، وهو ما يعني: إنه شيء لا يمكن الحديث عنه. إنه يقول شيئا ما، وتحلّ لحظات يكون سعيدا تماما مثل طفل، ثم طبعا تقابله أخته بوجه متزمت عقابي، فقط لتريه كم هو غريب كيف يلهو مبددا حياته. الفتاة كلايستية وحظيت بتعليم جيد، التعليم ذاته الذي أراد أخوها أن يتخلص منه ويرميه جانبا. في قرارة نفسها هي سعيدة بالطبع لأنه يتحسن أكثر.

بغير انقطاع. باستمرار.

إذاً إذاً. يا لها من رحلة. ولكن أخيرا لابدّ للشخص أن يترجل من هذه المركبة. يستطيع بعد ذلك أن يجيز لنفسه ملاحظةَ أنّ في واجهة الفيلا، حيث عاش كلايست ، تتدلى لوحةٌ رخامية توثّق من عاش وعمل في هذا المكان. المسافرون الذين ينوون التجوال في منطقة الألب يستطيعون قراءتها، أطفال ثون يقرؤونها ويتهجّونها، حرفا بحرف، ثم يحدقون بتساؤل في بعضهم. اليهودي يستطيعون قراءتها، والمسيحيّ أيضا، إذا كان لديه ما يكفي من الوقت وإذا كان قطاره لن يرحل هذه اللحظة، التركي كذلك، كاظما غيظه بقدر ما هو مستثار الاهتمام، وأنا أيضا، أستطيع قراءتها مرة أخرى إن أردت. ثون تقف في مدخل أوبرلاند الألب البرنية، ويرتادها سنويا آلاف السياح الأجانب. ربما أعرف المنطقة قليلا، لأنني عملت كموظف في مصنع للجعة هناك. المنطقة تعتبر أكثر جمالا مما استطعتُ وصفه هنا، البحيرة أكثر زرقة مما وصفت بمرتين، السماء أكثر جمالا مما وصفت بثلاث مرات. ثون كان فيها معرض تجاري، لا أستطيع تحديد متى ولكن أظن قبل أربع سنوات.