مجلة حكمة

عالِم أنثروبولوجي في المريخ – مارتين بريبل / ترجمة: هيفاء الصعب


 

“بينما كنت مسافرًا مستمتعًا بمناظر وأصوات فار نورث كوينز آيلند (Far North Queensland)، سنحت لي فرصة بقراءة كتاب؛ نعم كتاب ورقي حقيقي! و هذه مراجعة للكتاب الذي اخترته.”

      في عام ١٩٩٥م، كتب أوليفر ساكس كتاباً بعنوان “عالم أنثربولوجي في المريخ”؛ وكتابُهُ سلسلة مذهلة من القصص حول الحيوات العجيبة لبعض مراجعيه (مرضاه) على مر السنين. و أوليفر ساكس -لمن لا يعرفه- عالمٌ بريطاني في الأحياء والأعصاب والنفس وكاتب الكتاب الأكثر مبيعًا. و قد بلغ ساكس ذروة الشهرة عندما مثّل الممثل روبن ويليامز  شخصيته في فيلم (الإيقاظ – Awakenings)، وقصة الفلم مستوحاة من كتاب ساكس الذي يحمل الاسم نفسه.

     تحدث ساكس بمقالات متتابعة في أحد كتبه السابقة (الرجل الذي استبدل زوجته بقبعة The  Man Who Mistook His Wife For A Hat) عن الأماكن الغريبة المذهلة التي يستطيع العقل البشري الوصول إليها؛ بعضها مرعب و بعضها جليل و بعضها حماسي بسبب مرض ما، أو عيب خَلْقي في الدماغ. وكتابه (عالم أنثروبولوجيا في المريخ) لا يختلف كثيراً عن هذا، اعتنى فيه بسبع حالات تُظهر غرابة في التوحد ذو الأداء الوظيفي العالي أكثر مما كنت أعي مسبقاً.

       ما يميَّزَ الكتاب أن أكثر من نصف قصصه تضع أهمية خاصة على الرؤية؛ مثل عمى الألوان، العمى الكلي، تصحيح النظر، البصر في الدماغ (كعملية دماغية)، والإبصار الفوتوغرافي. و المفارقة الأولى أن ساكس نفسه يعاني هنا من عَمَه تَعَرُّفِ الوُجوه (prosopagnosia)، و هو اضطراب يُعجزه عن رؤية الوجوه، فلا يستطيع التعرف على الشخص بالنظر في وجهه، بل يعتمد بدلاً من ذلك على الإشارات السمعية أو البصرية لمشية الشخص و وقفته و لباسه. والمفارقة الثانية هي أن ساكس نفسه -كما أعلن مؤخراً- قد فقد بصره تدريجيا، وعينه اليمنى قد عميت تماماً بسبب ورم خبيث.

      الحالة الأولى في الكتاب: “حالة الرسام المصاب بالعمى اللوني” لرجل يكنى بالسيد آي “I”، والذي يعاني من فقدان غريب و كامل لرؤية الألوان، بسبب حادث ارتجاج في الدماغ وقع له جرّاء حادث مروري. كان السيد آي فنانًا تعبيريًا تجريديًا بارزًا قبل الحادث، يملك استحضارًا مدهشًا للألوان، ولكنه بعد الحادثة أصيب بعمى لوني كامل، فهو لا يرى كالتلفاز الأبيض والأسود فقط، ولكنه شيء شبيه بالطريقة الغريبة التي يتلّون بها البشر تحت الضوء فوق البنفسجي، باستثناء اللون الموف بكل تأكيد. كانت الطماطم تبدو له سوداء والموزة تتلون بالرمادي الفاتح و بشرة الإنسان تأخذ لونًا مقاربًا للرصاص، و قد أحزنه ذلك كثيرا في المراحل المبكرة من مرضه. تتبع ساكس تطور هذا الرجل من شعوره بالخسارة العظيمة إلى إحساسه بالتحرر الكبير، مكتشفاً طريقه مجدداً كفنان يتعلم التعايش مع “إعاقته” الجديدة.

      الحالة الثانية: “الهبي الأخير”[1] (The Last Hippie) وهي عن رجل انضم لمذهب تأملي بعد خيبة أمله من عالم الشركات بأمريكا في الستينات. وبينما كان يحاول الوصول للتنوير بالتأمل و التضحية، لاحظ أن بصره بدأ يتلاشى ببطء. أخبره أصحاب المذهب بأن هذا علامة على قربه من بلوغ التنوير الفدائي الكامل، ولكن مالم يعلموه في تلك الأثناء -وبصره يزداد سوءاً- أن ورمًا كان ينمو داخل رأسه. و أخيراً عندما اكتُشف هذا الورم، كان قد نما وأصبح كبيرًا جداً حتى أعاقه بشكل أساسي؛ فغدته النخامية و الفصوص الأمامية للجزء الأكبر من دماغه، ومعظم ذاكرته قصيرة المدى قد تدمرت. ثم نُقل هذا الأعمى الأصلع السمين لمستشفى للأمراض المزمنة، وهناك التقى بالدكتور ساكس وتحدث إليه. أكثر ما يُدهش في قصته أنه كان قادراً على أن يكون اجتماعيًا جداً في تفاعله مع الناس عندما يصادفونه أو يخاطبونه؛ رغم أنه يعيش حياته في الحاضر، لأن ذاكرته طويلة المدى قد تدمرت، فبالتالي، فإن تذكر هذا التفاعل بعد لحظات سيكون أمرا متعذرا. وعلى سبيل السخرية: لو اكتُشف الورم مبكرًا، لأمكنه إدراك عملية إزالة الفصوص بدلاً من أن ينظر إليها على أنه علامة للتنوير الديني.

     والحالة الثالثة: “حياة جراح” و يصف فيها ساكس تفاعله مع الدكتور كارل بينيت، و هو طبيب جراح و طيّار هاوِ يعاني من متلازمة توريت[2] (Tourette’s syndrome)، و كثيراً ما يصاب بالتشنجات اللإرادية، و لكن هذه التشنجات تتلاشى عندما يباشر العمل.

     والحكاية الرابعة: “أن ترى أو لا ترى” تدور حول قصة شيرل جينينقز الذي فقد بصره في صغره و لكنه استعاد جزءًا منه بعد العملية. وهذه واحدة من الحالات المعدودة التي استعاد بها شخص بصره المفقود في عمر مبكر، وكما الحال مع الكثير من الحالات الأخرى، فقد وجد المريض التجربة مزعجة للغاية.

      وأما الحالة الخامسة: “المناظر الطبيعية لأحلامه، فتتحدث عن تفاعل ساكس مع فرانكو ماغناني الفنان المهووس بقريته الأم بونتيتو في توسكانا. بالرغم من أنه لم يزر قريته لسنوات عديدة، إلا إنه شيّد نموذجًا ثلاثي الأبعاد مفصلاً و دقيقًا للغاية لها في ذهنه.

     وفي الحالة السادسة “المعجزات” يصف ساكس علاقته بستيفن ويلتشير عالم الاسترسال العقلي[3] (Autistic Savant) الشاب و الذي وصفه هيو كاسون بأنه “أفضل فنان طفل في بريطانيا.”

     وأخيراً، يصف ساكس في المقالة السابعة “أنثروبولوجي في المريخ” لقاءه بتمبل غراندين، امرأة توحدية، تشغل منصب بروفيسورة في جامعة ولاية كولورادو، لها شهرة عالمية كمصممة لمرافق الماشية الإنسانية. أُخذ عنوان هذه المقالة من عبارة غراندين التي قالتها لتصف ما تشعر به غالباً خلال التفاعلات الاجتماعية.

      وليس المثير في هذه الحالات التأقلم مع ما نسميه بـ “الإعاقة”، بل المثير هنا -كما أشار الدكتور ساكس في مقدمة كتابه- أن هذه الحالات تتشارك بسمة استثنائية، تكاد تكون فوق الطاقة البشرية، ولهذه السمة أعراض جانبية تعدّ جزءا من عملية التأقلم مع الإعاقة. على سبيل المثال، هناك غشاوة ترافقها حدة بصر شديدة، وعجز عن الرؤية بالاختيار أو الضغط يترافق مع قدرة على العمل بتركيز وثبات قويين خلال إجراء عملية جراحية، وقدرة استحضار وذاكرة فوتوغرافيتين، أو التعاطف مع الحيوانات عند رجل قد شُخّص على أنه عاجز عن التعاطف نهائيًا. وهذه السمة المشتركة بين الحالات يشترك فيها الدماغ و العقل بطريقة عجيبة نوعًا ما.

      و بما أن عمر هذا الكتاب ما يقارب العشرين عامًا، فلا أشك أن الكثير من الاكتشافات و التشخيصات المذكورة فيه قد حُدِّثتْ ووُسِّعتْ بشروحات كثيرة. هذه سُنة العلوم؛ تتجدد باستمرار بناءً على ما يطرأ من معلومات على النماذج السابقة. و لكنه أيضًا يُمثل نظرة متلصصة داخل الدماغ البشري؛ خصائصه و ألغازه و آليات التلاؤم (الإشراف) فيه.[4]

 

 

المصدر

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] Hippie : صفة تطلق على من يرفض التقاليد و الثقافة السائدة، وهي في الأصل حركة شبابية نشأت في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة خلال منتصف 1960s وامتدت إلى بلدان أخرى في جميع أنحاء العالم.

[2] خلل عصبي وراثي يظهر منذ الطفولة المبكرة تظهر أعراضه على شكل حركات عصبية لاإرادية متلازمة يصحبها متلأزمات صوتية متكررة.

[3] Autistic Savants: متلازمة يعاني فيها المصاب من إعاقة عقلية كالتوحد في الوقت الذي يظهر فيه قدرات بارعة و استثنائية في مجالات أخرى (كالعمليات الحسابية).

[4] لم يذكر الكاتب Martin S Pribble في مراجعته للكتاب إلا حالتين، وترجمت بقية الحالات (الثالثة-السابعة) من صفحة الكتاب في الويكيبيديا.

https://en.wikipedia.org/wiki/An_Anthropologist_on_Mars