مجلة حكمة
طريق الحقل - مارتين هيدجر الفيلسوف

طريق الحقل عند مارتين هيدجر – حميد لشهب


فكرة “الطريق” كمادة وموضوع فلسفيين متجذرة عند هيدجر، الذي لم يعتبر “أعماله الكاملة” هكذا، بل كـ “طرق، وليس أعمال “Wege, nicht Werke“”. وقد خصص مجلدا قائما بذاته في أعماله الكاملة الضخمة إلى دراسات فلسفية، نلتقي فيها بكلمة “الطريق”: “علامات الطريق Wegmarken”، “طرق الحطب Holzwege”، “في الطريق إلى اللغة Unterwegs zur Sprache “، وهذا ما حذى بأوطو بوغيلير Otto Pöggeler الحديث عن “طريق تفكير Denkweg” هيدجر. يقول هيدجر في مقدمة أعماله الكاملة، التي لم تكتمل أبدا: “من اللازم أن يُظهر مجموع الأعمال الكاملة بطرق مختلفة التالي: المشي في طريق الحقل للإشكاليات/الأسئلة المتغيرة لإشكالية الكينونة ذات المعاني الكثيرة …”

بغض النظر عن حقيقة وجوده الجغرافي الفعلي، فإن “طريق الحقل” هو استعارة من الإستعارات التي استعملها هيدجر في كتاباته الفلسفية المختلفة. وبما أنه استعارة، فإنه يُضمر رموزا، لا يمكن فك ألغازها، إلا بالتوغل في أقصى “غاباته الفكرية”. قال هيدجر بتاريخ 14 يوليوز 1974، عند استدعائه لإلقاء كلمة بمناسبة إعادة افتتاح الثانوية التي درس فيها (1899/1902) بعد ترميمها، والتي سميت باسمه بعد موته (ينتهي “طريق الحقل” في جانبها الشرقي. كان يحمل اسما آخر، قبل تغييره باسم: “على طريق الحقل Am Feldweg”، إشارة إلى نص هيدجر “طريق الحقل”): “أصبح طريق الحقل بالنسبة لطالب، كان يمشي عليه غالبا قبل عشرات السنين، طريق تفكير، حاول التفكير في فكر مفكرين كبار، لكي يتعلم منهم”. وربط “طريق الحقل” هذا بفيلسوف ألماني كبير “كنط”، مشيرا إلى أن أصله من جهة والدته من منطقة الشفاب كذلك، قائلا بأنه يريد إيصال: “حقل الفكر إلى التساؤلات الثلاثة: “ماذا يمكنني معرفته؟”، “ماذا يجب علي عمله؟”، و “ماذا يمكنني أمله؟” للوصول إلى السؤال الأخير: “من هو الإنسان؟”.

“طريق الحقل” هو تأمل فلسفي بامتياز. إذا ربطناه بالنجمة الثمانية أضلاع التي أمر هيدجر بوضعها على قبره بعد موته (للإشارة فإن قبره يوجد بين قبر والديه وأخيه المرصعان بالصليب)، فإننا نلمس تأثير الفلسفة البوذية في فكره. فقد اهتم بها أيما اهتمام وكانت له صداقة حميمة مع راهب بوذي كان يسكن ميسكيرخ ويتيه معه في نقاشات فلسفية عميقة حول الحياة والوجود والإنسان؛ سواء مشيا في الحقول أو جلوسا أثناء احتساء الشاي الأخضر، الذي كان يعتبره منشطا للفكر والتفكير. فالطريق النبيل الثماني هو أحد التعاليم الرئيسية للبوذية، يُرمز له كوسيلة تؤدي إلى وقف المعاناة وتحقيق صحوة الذات. يستخدم لتطوير نظرة ثاقبة في الطبيعة الحقيقية للظواهر (أو الواقع) والقضاء على الجشع والحقد والوهم. الطريق النبيل الثماني هو الحقيقة النبيلة الرابعة لبوذا. للعناصر الثمانية للطريق صفة “السليم” أو “الحق”. و هي دلالة على الاكتمال والعمل الجماعي والترابط، وقد تعني “الكمال” أو “المثالية”. من هذا المنطلق تعتبر كل ما هو سليم (النظر، الفكر،الكلمة، العمل، كسب الرزق، الجهد، الذهن،التركيز إلخ).

سوف لن ندخل في تأويل موسع للنص، بل نترك القارئ الكريم يسبح على جنباته، علَّ تيارا من تياراته الجارفة يجره له ويحتضنه ويفصح له عن ذاته، ما نود الإشارة له هو أن الطريف، أو ما قد يعتبر تعبيرا واضحا عن طريقة استعمال هيدجر الخاصة للمفردات، هو أن ما أثار انتباه مترجمي نصه: “طريق الحقل” هو كلمة ?Kuinzige?. إذا لم يكن المرء سباحا ماهرا في اللغة الألمانية، وبالخصوص في شقها الدارج، فلن يستطيع فهم هيدجر إلا جزئيا. تستعمل هذه الكلمة في اللهجة الدارجة لمدينة ميسكيرخ Messkirch، حيث ولد ودفن هيدجر، ونلتقي بها في قاموس منطقة الشفايب في الجنوب الألماني لصاحبه فيشر (الجزء الرابع، توبينغن 1914). أصلها هي كلمة “keinnützig”، التي تعني “عديم الفائدة” أو “العفونة، الفساد، الإتلاف”. إلى جانب هذا المعنى السلبي/القدحي للكلمة، فإنها تحتوي على معنى إيجابي، عندما ترمز لكلمة “neckisch” (الإثارة/الهزل) أو “mutwillig” (التعمد). وفي معناها الواسع تعني المتميز، المتحفظ المُضْمَر، شيئ لا يمكن التنبأ به، ويُستهزء به ويُضحك عليه، لأنه يرى وراء الأشياء ويعي اللعبة في عمقها وخفيتها.

“طريق الحقل”

“يبدأ من باب حديقة القصر إلى إينريد Ehnried. تنظر له أشجار الزيزفون لحديقة القصر من خلف الحائط، أكان مضيئا في وقت عيد الفصح عندما تبدأ البذور تنبث وتستيقظ المراعي أو في أعياد نهاية السنة عندما تعصف الثلوج لتغيب وراء أقرب هضبة. يلف عند وصوله إلى صليب الحقل اتجاه الغابة. يحيي في تنحنح شجرة بلوط كبيرة، يوجد تحتها مقعد خشبي عتيق.

كانت على هذا المقعد مؤلفات مفكر أو آخر من المفكرين الكبار، كان شاب يحاول سبر أغوارها. وعندما كانت ألغاز هذه المؤلفات تضايق بعضها البعض ولم يكن هناك أي مخرج، كان طريق الحقل يساعد. كان يقود القدم على مسلك فطن في صمت في شساعة تلك الأرض الشحيحة. كان الفكر يذهب دائما مجددا في نفس المؤلفات أو في المحاولات الشخصية في نفس الاتجاه، الذي يجره طريق الحقل على الأرض. يبقى هذا الطريق قريب من خطوة المفكر تماما كخطوة البدوي، الذي يذهب في الصباح الباكر لقطع العشب.

كانت شجرة البلوط الموجودة على الطريق تقوده مع السنوات، وفي الغالب، إلى التفكير في لعبه القديم و انتخابه/اختياره الأول. عندما كانت شجرة من أشجار البلوط تسقط من حين لآخر وسط الغابة تحت ضربات الشاقور، كان والده يبحث بسرعة بين الأخشاب وفوق الأغصان ما هو مخصص له لمعمله الخشبي. كان يراقب بطريقة متروية أثناء استراحات وقت عمله ساعة الصومعة والأجراس، التي كان لكل منها علاقة خاصة بالوقت و الديمومة/الاستمرار الزمني.

كان الطفلان يقطعان قشرة شجرة البلوط ليصنعا منها قوارب بمقاعد جذف ومقود لتسبح في الميتنباخ Mettenbach أو في نافورة المدرسة. كانت ألعاب عبور العالم بهذه القوارب تصل إلى مقصدها/هدفها بسهولة وتعود إلى المرسى من جديد. ظلت أحلام هذه الأسفار مختفية في نصاعتها، التي كانت في ذلك الوقت غير مرئية تقريبا، والتي كانت موجودة في كل الأشياء. كانت مملكتهما تحاذي عين ويد الأم. كانت وكأنها ترعى قلقهما غير المعلن/غير المعبر عنه على كل ما يوجد. لم تكن ألعاب أسفارهم هذه تعرف بعد النزهات الجبلية، التي تترك وراءها كل المراسي. فيها بدأت صلابة ورائحة شجرة البلوط باتفاق بينهما الحديث عن البطء و الاستمرارية، اللذين تكبر بهما الشجرة. تتحدث شجرة البلوط بنفسها، قائلة إن ما يدوم ويثمر هو ما يتأسس على هذا النمو، وبأن النمو يعني: الانفتاح على شساعة السماء وفي نفس الوقت رمي الجذور في ظلام الأرض وبأن كل جليل لا ينمو إلا إذا كان الإنسان هما معا في نفس الوقت: أن يكون مستعدا للتتوق إلى السماء العليا و أن يكون واقفا في/على رعاية/حماية الأرض التي تحمله.

تقول شجرة البلوط هذا باستمرار ـ لطريق الحقل ، الذي يمر مسلكه بالكاد بجانبها. يجمع ما له جوهرا حول الطريق ويحمل كل من يمشي عليه كينونته das Seine. ترافق طريق الحقل نفس الأراضي ونفس المراعي باستمرار وفي كل الفصول بدنو/بقرب مغاير باستمرار. فسواء غابت جبال الألب وراء الغابات في دماسة المساء أو صعدت شجرة الصنوبر في صباح الصيف هنالك، حيث يتأرجح طريق الحقل فوق موج الهضبة، أو من الناحية التي يعصف منها ريح الشرق، حيث توجد القرية الأصلية للأم، أو حَمَل حطاب في الليل حزمة حطبه للموقد، أو ميل حافلة حمل المحصول في طريقها للمنزل على طريق الحقل ، أو قطف الصبية لأزهار الربيع الأولى في الفيزينراين Wiesenrain، أو جر الضباب لأيام طوال عتمته و ثقله على الأرض، فإن تشجيع طريق الحقل يكون دائما وفي كل مكان نفس التشجيع:

إن البسيط يحفظ لغز الدائم والعظيم. إنه يرجع عند البشر دون وساطة، لكنه يحتاج إلى نمو طويل. يخفي بركته/نعمته في ما لا يُرى لما يبقى هو هو دائما. إن شساعة الأشياء التي تنمو، والتي تبقى حول طريق الحقل ، تقدم/تمنح العالم. إنها في لغتها غير المنطوقة/غير المتكلمة كما قال مايستر القراءة و الحياة إيكاهارت: الله وحده الله Gott erst Gott.

لا يتحدث تشجيع طريق الحقل إلا بالقدر الذي يمكن للناس الذين ولدوا في هوائه سماعه. إنهم عبيد لأصلهم، وليسوا خدما لما يُصنع. يحاول الإنسان دون جدوى، من خلال خطط بعينها، تنظيم الكرة الأرضية طبقا لنظام معين، عندما لا يكون خاضعا لتشجيع طريق الحقل . وهنا يتمثل خطر إمكانية بقاء بشر اليوم صما للغته. لا تصل إلى آذانهم إلا ضوضاء الآلات، التي يعتبرونها صوت الله تقريبا. وبهذا يصبح الإنسان مبعثرا ودون طريق. ذلك أن ما هو بسيط يظهر للمبعثَرين في شكل واحد/بنفس الشكل. ذلك أن ما هو على نفس الشكل يُمِلُّ المرء. ولم يعد العابسون يجدون إلا الرتابة. لقد هرب البسيط. فقد نبضت قوته الصامتة.

بالفعل، يتقلص عدد الذين يعتبرون البسيط كَمُلْك حصلوا عليه بسرعة. لكن هذه القلة في كل مكان هي التي ستبقى. تستطيع بفضل العنف اللطيف لـ طريق الحقل تجاوز القوة الباهرة للطاقة الذرية، التي صنعها الحساب الإنساني والتي جعل منها أصفادا لما يقوم به/يمارسه.

يوقظ تشجيع طريق الحقل معنى ما، يحب ما هو مستقل/حر ويتجاوز الآلام في أقسى مكان لها إلى البهجة/البشاشة/الحبور/الطرب Heiterkeit الأخير. يدافع عن الأذى/السوء للعمل فقط، والذي عندما يمارس من أجل ذاته، لا يشجع إلا عديم الجدوى/الملغى Nichtige.

تـنمو البهجة العارفة في الهواء المتغير طبقا للفصول لطريق الحقل ، والتي يظهر محياها ( أي البهجة إ.م) بئيسا/حزينا في غالب الأحيان. و هذه المعرفة البشوشة هي »Kuinzige«. لا يمكن لأي كان الحصول عليها، إذا لم يكن يمتلكها في ذاته. ومن يتوفر عليها، يحصل عليها من طريق الحقل . تلتقي على مسلكها عاصفة الشتاء ويوم الجني، يلتقي فيها المثير بحيوية لفصل الربيع والموت الهادئ/الحليم للخريف، يتبادل فيها لعب الشباب وحكمة الشيخوخة النظرات. لكن في تناغم فريد، يحمل طريق الحقل صداه معه في صمت من هنا إلى هناك، كل شيئ مبتهج.

إن البهجة العارفة هي البوابة إلى لأزلي. تدور بابها في صنارة، صنعت في قديم الزمان من ألغاز الدازاين Dasein (الوجود/الكينونة/الكيان/الحياة) عند صائغ عارف.

يرجع الطريق من إينريد إلى بوابة حديقة القصر. تقود حافته الضيقة لآخر هضبة فيه إلى منعرج منبطح، ومنه إلى حائط المدينة. يضيئ بشحب في ضوء النجوم. وراء القصر ترتفع صومعة كنيسة القديس مارتين. ببطئ، بتردد تقريبا، تتلاشى الدقات التي تعلن الحادية عشر ليلا. يرتجف الجرس القديم، الذي يحك حبله أيادي الصبية إلى حد الحرارة، تحت ضربات مطرقة الساعات، لا يمكن لأي كان أن ينسى وجهه المكفهر-البهيج. يصبح الصمت بعد آخر ضربة له أصمتا. يصل إلى أولائك الذين ضُحي بهم أمام الوقت في حربين عالميتين. أصبح البسيط أبسطا. يخيف ما يوجد دائما في ذاته ويحرر. والآن أصبح تشجيع طريق الحقل واضحا بالكامل. أيتحدث عن الروح؟ أيتحدث عن العالم؟ أيتحدث عن الله؟

كل شيئ يتحدث عن الاستغناء عن الكينونة. لا يأخذ الإستغناء أي شيئ. إن الاستغناء يعطي. إنه يمنح القوة غير المنتهية للبسيط. إن التشجيع يجعل المرء في وطنه، ذي الأصل التليد.”