مجلة حكمة
فكر هيدجر

“الغائب” “الحاضر” على ضوء فكر هيدجر – حميد لشهب

فكر هيدجر
مارتن هيدجر ، فيلسوف ألماني

فكر هيدجر

يعتبر هولدرلين في نظر هيدجر الشاعر الذي سيلتقي به الألمان، لأنه فهم شعره على ضوء „الكينونة والزمن“، وهو شعر يغير كلية خاصية الزمن الماضي. فإذا تأملنا الماضي وما لم يُفهم، فإننا سوف لن نفهمه كشئ غير حاضر، لكن كشئ غير حاضر بعد، على الرغم من أنه موضوعيا يكون قد مر بالفعل. وقد قادت اللغة والشعر هيدجر في الثلاثينيات من القرن الماضي على خطى اليونان. فإذا كان اهتمامه قبل „الإنعطاف Kehre“ قد ركز على أرسطو، فإنه قد اهتم بعده بالماقبل السقراطيين وبموضوع بداية الفكر. ويكمن منطلقه الأساسي في هذا الإطار في فرضية ضرورة كون كل ما هو حقيقي كان مُعطى بطريقة ما منذ البداية ولم يظهر فقط بعد تطور التاريخ، أو كما يقول بيت شعري لهولدرلين اهتم به هيدجر: „كما بدأت ستبقى Wie du anfingst, wirst du bleiben“. من هنا فإن هيدجر لا يفهم هولدرلين كشاعر „يتغنى“ بالبداية“، لكن كشخص يقول الحقيقة. وما علينا إلا أن نفهمه ونفهم هذه الأخيرة.

يعتبر هذا الأمر غير سهل، فعوض تحليل أدبي محض أو تأويل فلسفي متخصص، فإنه عمد إلى بداية تأويل متناقض لأشعار هولدرلين. وهذا ما نلمسه في نص طويل له تحت عنوان: „المحادثة الغربية Das abendländische Gespräch“ (1946 – 1948). فبالنظر إلى المأساة النازية، حيث كان لـ هيدجر نصيب، استحضر هيدجر عظمة شعر هولدرلين في كل معانيه المزدوجة. وكما أكد هابرماس على هذا، يمكن اعتبار التطور المتأخر لـ فكر هيدجر كمحاولة لتجنب الحكم على فلسفته. فكما أن الكينونة والحقيقة توجدان بعيدا عن التمييز بين ما هو صحيح وما هو خاطئ، فإن الشعر والفكر يوجدان في الجهة الأخرى لما يمكن فهمه ذاتيا. من هنا فإن المعنى يُنفى في الكلام الهيدجيري، وعن طريق هذا تصبح كل التأويلات المتعلقة بهولدرلين كلاما مغايرا بالمرة.

إلى جانب موضوع الطبيعة الحاضر بكثافة في أشعار هولدرلين، هناك موضوع آخر يتمثل في علاقة اللغة والمعنى. ففي «الكينونة والزمن» حاول هيدجر فهم المرور من المعنى إلى اللغة الإمبريقية. وقد ارتكزت أطروحته في مسألة كون المعنى سابق على اللغة الإمبريقية، مؤكدا بأن المعنى لا يأتي من الكلمات، لكن العكس. ومن ثم يفهم الفكر ذاته كسيرورة متناقضة لجعل ما كان سابقا لغة ذات معنى. وما على المرء إلا البحث عن الكلمات المناسبة للتعبير عن الفكر. ويشترط البحث، ضمنا أو صراحة، بأن للمرء فكرة عما يبحث عنه. بمعنى أنه على المرء البحث عما لديه/يمتلكه. وفي هذا الإطار فإن التأويل هو عموما هذه المحاولة. ففي عملية التأويل، لا نحاول خلق المعنى، بل جعله واضحا. يكون المعنى إذن مخفيا/مختبئا في معنى ما، لكنه يتمظهر في نفس الوقت في هذا المعنى. ويوضح هذا بأن هيدجر لم يبارح قط موقفه الفينومينولوجي الأول.

يعتبر هيدجر تأويل قصيدة ما بمثابة تفكير، ويحدد هذا الأخير كـ «تلحين». ويعني هذا بأنه من المحتمل أن هيدجر ينطلق من كون الغناء، الذي تقدمه قصيدة ما، هو إعلان عن شيئ تجلى ضروريا بطريقة من الطرق مسبقا. وبهذا فإن للشعر وللفكر علاقة بالماضي. يجب أن يكون بإمكانه المحافظة على ما يود قوله بطريقة خاصة، ويؤول طبقا لهذا كتذكار من طرف هيدجر . فالشعر والتفكير كشكل من أشكال التأويل/إعطاء معنى لا يقدمان معناهما مسبقا، لكنهما يكثفانه.

انطلاقا من هذا يمكن أن نفهم الطريقة الخاصة التي تعامل بها هيدجر مع اللغة. لم يكن تأكيده بأن: «تأويلنا [المقصود هنا تأويل الشعر] هو نضما تقريبا» اعتباطيا أو قولا عابرا. فقارئ هيدجر ، وبالخصوص المطلع على نصوصه المتأخرة، يجد نفسه سجين صراع المعنى. فمن جهة لا يمكنه تأويل نصوصه بدقة، ومن جهة أخرى يشعر بأنه منقاد بالحركات البهلوانية اللغوية لنصوصه، ويتجلى هذا في لعبه المحكم بالكلمات والمفردات وحبكته لأسلوب كتابة خاصة به، لا يمكن لأي كان تقليدها. ولعل سر هذا يكمن في ما أكده هيدجر باستمرار في كون المعنى يبقى دائما مفتوحا، قد يحيل إلى شئ معين، لكن لا يمكنه تسمية هذا الشئ بدقة.

في الزيارتين اللتين قام بها هيدجر لليونان، كان من بين أمتعته بعض أشعار هولدرلين، المجموعة في كتاب. ومن خلال النصوص التي كتبها بعد هاتين الزيارتين، نستشف بأن اهتمامه بجذور وأصل الثقافة الغربية كان جد كبير. إذا استحضرنا إلى الذهن بأن مثل هذه الأسفار كانت تتم أساسا بالحافلات والبواخر، ويكون المرء مضطرا فيها إلى قطع مئات الكيلومترات ومشاهدة الكثير من الأشياء، يعني إحلال البطء محل السرعة، فإننا نفهم كذلك ما كان يعنيه هيدجر بـ Gelassenheit ومدى عمق نقده لروح التقنية للثقافة الغربية. كان الهم الفكري الأساسي الذي حمله هيدجر معه في هذين السفرين، والذي شغله طويلا بعدهما، هو محاولة فهم الإنزلاق الذي عرفته الحضارة الغربية من حضارة تأن وتأمل في أصلها، كما نجدها عند اليونان، إلى حضارة تقنية، سريعة ومدمرة للكثيرة من القيم الأصلية. وعندما نتمعن بتأن ما كتبه هيدجر عن سفره لليونان، نستشف التناقضات والصراعات التي أسست الفلسفة المتأخرة له. ذلك أن اللجوء/الرجوع إلى «المهارة Geschick“، الناتجة عما يسمى عنده „الإنعطاف Kehre“ تظهر وكأنها نتيجة حتمية، بحيث إن هذا الرجوع هو الذي سمح له بتأويل التقنية الحديثة كظاهرة لاضمحلال/سقوط الغرب، „كخراب للدازاين الحديث Verödung des modernen Daseins“ وقبول التشنج الكامن في كون هذا الدازاين ساهم في هذا الخراب. أصبحت اليونان عنده مبدأ يقود نفسه بنفسه وغير متأثر بيد الإنسان. يتعلق الأمر إذن بمعنى آخر „للكينونة“، يهدد بالإنسحاب باستمرار. فليس اليونان وحدها هي التي أصبحت المكان الأفضل للغياب وسط الميولات التحديثية، لكن هولدرلين كذلك، الذي أصبح عَرَضا لنقص ما. وللتعبير عن هذا النقص، على المرء تغيير المصطلحات، وهذا ما باشره هيدجر إلى الحدود القصوى. وهذا بالضبط ما انتقده ياسبرس في فلسفته، مؤكدا بأن هيدجر يفكر إستطيقيا فقط، لأن ميول التنبؤ عنده غالبة على الخلق. على كل حال، تبقى اليونان عند هيدجر المنتظرة: „يبقى اليوناني منتظرا Das Griechische bleibt ein Erwartetes“.

انطلاقا من هذا، فإن موضوع „الغياب“ أو „الغائب“ حاضر بكثافة عند هيدجر على كل المستويات. وتجدر الإشارة إلى أنه أكد في أكثر من موضع بأن قلة قليلة من الناس هي القادرة على معرفة هذا الغائب، ولربما الوصول إليه. والإشكال الحقيقي، طبقا لـ هيدجر ، هو أنه لا يمكن فهم والتعبير عن الفكر أو التفكير تاريخيا ولا يمكن النزول به إلى مستوى الإنسان. وجملة القول هو أن هيدجر ، في كل محاولاته، لم يعثر على هذا الغائب بطريقة قطعية واضحة، لا بالبحث عنه عن طريق هولدرلين ولا بمساعدة الإغريق. وبهذا يبقى „الغائب“، متجسدا بقوة في „الكينونة“ غائبا، بمعنى أن التفكير يبقى غائبا، على الرغم من حضوره شبه الأزلي. والغياب ليس قيمة سلبية في ذاتها، طالما أنه يعبر عن لحظة مؤقتة، ستتحقق في المستقبل، بتجليه الواضح في المستقبل.

يعتبر „الغياب/الضمور“ أو „التجلي/الظهور“ من الميكانيزمات الوجدانية المعرفية في الميدان السيكولوجي، وهو في العمق آلية مرتبطة ارتباطا وثيقا بقدرة العقل الإنساني على استشراف المستقبل، تحت وطأة الضغط النفسي للتعويض عن نقص مادي أو نفسي، يجد جذوره في ظروف العيش والمعاناة الوجودية للإنسان. يوجد هذا الميكانيزم في قرارة النفس الإنسانية ونلمس حضوره في ثقافات مختلفة، وبالخصوص في ثقافات الديانات التوحيدية الثلاثة. ففكرة «انتظار» «الغائب» متجذرة في الثقافة الإنسانية، يرمز لها عادة بظهور شخص منقذ، مخلص، ينتشل البشرية من الظلم. فأفلاطون مثلا، في الجمهورية، وبالخصوص في تقسيمه للمهام فيها: الحرفيون، الجنود، الفلاسفة، «ينتظر» «غائبا» لم يحضر بعد، مُتمثلا في «العدل»، كهدف أسمى لتنظيم المجتمع وطبقاته. ونلتقي بنفس الفكرة في التأويل الشيوعي للماركسية، الذي كان يطمح إلى مساعدة وصول «الغائب»: مجتمع العدالة والمساواة القائم على أساس شيوع الملكية الجماعية وارتقاء المجتمع إلى مستوى يحكم فيه نفسه بنفسه، دون طموح تركيز الخيرات المادية في يد مجموعة أو أقلية، لأن ذلك هو سبب «غياب» العدالة.

على نفس الخط مشى برتراند راسل واينشتاين وفرويد وغيرهم كثير. فـ «الغائب» هو قيمة إيجابية بديلة عن «حاضر» سلبي، ومهما اختلفت تسمية هذه القيمة الإيجابية (عدل، مساواة، تحرر من اللاوعي إلخ)، فإن مهمتها الأساسية هي تغيير «الحاضر» المأساوي، بمحاولة التعجيل بقدوم «الغائب». وقد تكون فكرة «الغائب المنتظر» في الإرث الديني أحسن تعبير عن الحاجة في إحلال وضع إنساني جديد، أحسن من الوضع الحالي، حيث لا وجود للجوع والألم الفيزيقي والنفسي والإجتماعي ولا صراعات وإكراهات وضغوط نفسية واجتماعية ومادية، أي نوع من تحقيق وضع مثالي للإنسان، يشبع فيه كل حاجياته دون عناء ولا عمل. ففكرة «الغائب المنتظر» هي المؤسسة لفكرة «الجنة» دينيا، بل هي مرحلة سابقة حتمية عليها، لا تتحقق إلا بحدوثها، وهو حدوث يوغل في «الغيب»، بما أن لا أحد يعرف بالضبط متى سيصل أو سيحضر هذا «الغائب». ويقدم الدين طريقة الإستعداد لاستقبال هذا الغائب، ومن بين أهم نقط هذا الإستعداد هو الإيمان بـ «الغيب»، الذي يساعد في العمق على قبول ظروف الحياة «ها هنا» في كل تجلياتها والصبر على مكائدها وأهوالها، بل عدم الثقة بها، لأنها مخادعة وخادعة، بل مزيفة وزائلة.