مجلة حكمة
الفيسلوف مارتن هايدجر هيدجر

آخر حوار مع مارتين هيدجر – مجلة دير شبيغل / ترجمة: حميد لشهب

حميد لشهب
المترجم: د. حميد لشهب

 

خصص هيدجر هذا الحوار الطويل للمجلة الألمانية “دير شبيغل Der Spiegel” في شهر شتنبر 1966، قام به صحافيين لهذه المجلة رودولف أوغشتاين Rudolf Augstein و جيورج فولف Georg Wolff. لكن هيدجر أمر ألا ينشر الحوار إلا بعد وفاته. وبالفعل احترمت المجلة رغبته ونشرته أسبوعا تقريبا بعد وفاته، يوم 31 ماي 1976، في عددها الثالث والعشرين (ص 193 إلى ص 219)، وبهذا يعتبر آخر حوار منشور له. طُرح على هيدجر 87 سؤالا، خصص 47 منها لتهم ماضيه النازي، حيث دافع عن نفسه من هذه التهم بتقديم الدلائل والحجج. وبما أن هذا الموضوع لا يهمنا بالخصوص، على الرغم من أنه أسال مدادا كثيرا لمدة طويلة نسبيا، فقد ارتكز اهتمامنا على الأسئلة الأخرى، لأهميتها الفكرية والفلسفية، ولأنها تقربنا أكثر من طريقة تفكير هيدجر المتأخر.

شبيغل: يعتبر مفهوم الديمقراطية مفهوما جامعا، يمكن جمع معاني مختلفة تحت لوائه. والسؤال هو ما إذا كان بالإمكان تغيير هذا الشكل السياسي. فقد عبرتم عن موقفكم بعد 1945 فيما يخص أهداف السياسة الغربية، تحدثتم في إطاره عن الديمقراطية وعن المنظور المسيحي للسياسة وكذا عن دولة الحق والقانون. وقد سميتم كل هذه المحاولات “أنصاف حلول Halbheiten”.

هيدجر: بداية أود أن تقولون لي في أي مكان تحدثت فيه عن الديمقراطية وباقي ما قلتموه. وبهذا أرى فيما قلتم ” أنصاف حلول Halbheiten”، لأنني لا أرى أي اهتمام لهذه السياسة بالعالم التقني، وسبب هذا في نظري هو التمثل الذي يعتقد بأن التقنية تحت سيطرة الإنسان، لكنني أعتقد بأن هذا الأمر غير ممكن. ذلك أن التقنية في جوهرها، لا تترك الإنسان يتحكم فيها.

شبيغل: ما هي الإتجاهات السياسية التي قد تكون مواتية للوقت الحاضر؟

هيدجر: لا أرى أي اتجاه مما يوجد حاليا قد يكون هكذا. لكن السؤال المطروح حاسم. بدء، من الضروري توضيح ما تقصدونه بمواتي للوقت الحاضر، وماذا يعني هنا الوقت. أكثر من هذا التسائل هل ما إذا كانت المواتات مقياس “الحقيقة الداخلية” للسلوك الإنساني، أَوَلاَ يُعتبر المقياس هنا هو التفكير والشعر.

شبيغل: من الواضح بأن الإنسان لم يكف أبدا عن تطوير أدواته في كل العصور. ألا يعتبر الأمر متشائما عندما نقول: لا يمكننا أبدا فهم الآلة الكبيرة للتقنية المعاصرة؟

هيدجر: لا، ليس هذا تشائما. يعتبر التشائم والتفائل في ميدان محاولة التأمل الحالي، مواقف لا توصل بعيدا. وبالخصوص كون التقنية الحالية ليست “أداة” ولم تعد لها أية علاقة بالأدوات/الآلات.

شبيغل: لماذا قد تتحكم فينا التقنية بقوة؟

هيدجر: لا أقول بأنها ستتحكم فينا. أقول بأننا لم نجد بعد طريقا يطابق جوهر التقنية.

شبيغل: قد يعارضكم المرء بطريقة ساذجة: ماذا على المرء التحكم فيه هنا؟ إن كل شيئ يشتغل. يبني المرء بكثرة معامل الكهرباء. يُنتج المرء بوفرة. يُعتنى بالناس الذين يعيشون في الجزء الأكثر تقنية للعالم بطريقة جيدة. نعيش في الرفاهية. ماذا ينقصنا هنا في الحقيقة؟

هيدجر: كل شيئ يشتغل. والعجيب في الأمر أن كل شيئ يشتغل وبأن الإشتغال يدفع أكثر وأكثر للمزيد من الإشتغال وبأن التقنية تُقلع الإنسان أكثر فأكثر من جذوره الأرضية. لا أعرف ما إذا كنتم خائفون، فأنا خائف على كل حال، عندما رأيت صورا من القمر إلى الأرض. لم نعد في حاجة لقنبلة نووية، ذلك أن قلع جذور الإنسان قد حلت. لم تعد هناك إلا علاقات تقنية محضة. لم تعد الأرض التي يعيش عليها الإنسان أرضا. ناقشت في الآونة الأخيرة مع روني شار René Char في البروفانس Provence، فهو كما تعلمون شاعر ومقاوم. يبني المرء في البروفانس حاليا قواعد للصواريخ وتتصحر المنطقة بطريقة لا يمكن تصورها. فقد قال لي هذا الشاعر، والذي لا يعتبر بالكاد عاطفيا ورومانسيا، بأن قلع جذور الإنسان الذي يحدث أمام عينيه هنالك هو النهاية، إذا لم يصل التفكير والشعر إلى السلطة بطرق سلمية.

شبيغل: لابد أن نقول بأننا الآن هنا ولن نضطر للذهاب إلى مكان آخر في وقتنا الحاضر: لكن من يقول لنا بأن الإنسان هو الذي يقرر أن يبقى على هذه الأرض؟ قد نتصور بأن الإنسان لا يمكنه أن يقرر. لكن قد يكون من الممكن وصول الإنسان انطلاقا من الأرض إلى كواكب أخرى. بالتأكيد لن يكون هذا ممكنا في المستقبل القريب، لكن أهناك مكان مكتوب عليه بأن مكان هذا الإنسان هو على هذه الأرض إلى الأبد؟

هيدجر: أعرف انطلاقا من تجربتنا وتاريخنا الإنسانيين، بما أنني موجه على كل حال، بأن كل ما هو موجود وعظيم ظهر فقط لأنه كان للإنسان موطنا Heimat ومتجذرا في إرث ما. يعتبر أدب اليوم مثلا هداما إلى حدود بعيدة.

شبيغل: تضايقنا هنا كلمة الهدم، وبالخصوص لأنكم أعطيتم لكلمة النيهيليزم في فلسفتكم معنى شامل. ولهذا السبب فإننا تفاجئنا لسماع كلمة العدم في علاقته بالأدب، الذي ترون بأنه جزء من هذا العدم.

هيدجر: ما قوله هو أن الأدب الذي قصدته ليس عدميا بالمعنى الذي أعطيته للكلمة.

شبيغل: من الواضح أنكم ترون، وقد عبرتم عن هذا بوضوح، حركة عالمية قد تقود الدولة التقنية أو أنها تقودها بالفعل منذ مدة؟

هيدجر: نعم.

شبيغل: جيد. من طبيعة الحال يطرح سؤال ما إذا كان بإمكان الإنسان الفرد التأثير في نسيج هذه الحتميات وما إذا كانت الفلسفة قادرة على ذلك، أو هما معا، بقيادة الفلسفة للأفراد أو لمجموعة من الأفراد للقيام بعمليات معينة؟

هيدجر: إذا كا بالإمكان أن أجيب باقتضاب، ولربما بعمق، بعد تأمل طويل، فإنني أقول بأنه لا يمكن للفلسفة التأثير المباشر في تَغَيرَات حالة العالم الحالي. ولا ينطبق هذا على الفلسفة وحدها، بل يشمل كل ما له معان وسعي إنسانيين. إن إلاه ما هو الذي باستطاعته إنقاذنا. ليس لنا إلا إمكانية التفكير والشعر لتهييئ ظهور الله أو اختفائه في سقوطنا: ذلك أننا سنهلك في غياب الله.

شبيغل: هل هناك علاقة بين تفكيركم ومجيئ هذا الإله؟ هل هناك في نظركم أية علاقة سببية بينهما؟ أتعتقدون بأنه بالإمكان حث الله في التفكير؟

هيدجر: لا يمكننا هذا، ما قد نستطيعه على الأكثر هو إيقاظ الإستعداد للإنتظار.

شبيغل: أيمكننا أن نساعد؟

هيدجر: إن إستعداد الإستعداد هو أول مساعدة. لا يمكن للعالم أن يوجد كما هو بواسطة الإنسان ولا يمكن أن يوجد بدونه. ولهذا الأمر في اعتقادي علاقة بحاجة الإنسان إلى ما سميته بـ “الكينونة”، وهي كلمة ورثناها منذ زمن طويل ولها معان كثيرة، ويعرف هذا الإنسان حاليا التباسا ما، لكي يتمظهر له العالم ويحافظ عليه ويشكله. أرى جوهر التقنية فيما سميته “الرف Ge-Stell”، وهو تعبير غالبا ما سخر المر منه ولربما يكون أخرقا. تعني ممارسة “الرف” بأن الإنسان مُرصَد، مُضنَى ومُتحدَّى من طرف قوة، تتمظهر في جوهر التقنية، وهي قوة لا يسيطر الإنسان عليها. ويعني هذا بأن الفكر لا يطالب بأكثر من هذا. لقد وصلت الفلسفة إلى نهايتها.

شبيغل: اعتقد المرء في الأزمنة السابقة دائما، والآن كذلك، بأن للفلسفة تأثير كبير بطريقة غير مباشرة، لكن تأثيرها لم يكن مباشرا إلا قليلا، وساعدت في ظهور اتجاهات جديدة. عندما يستحضر المرء أسماء فلاسفة كبار ككنط وهيجل ونيتشه، دون ذكر ماركس، فإننا نلاحظ بأن تأثير الفلسفة كان عظيما، حتى وإن لم يكن ذلك مباشرا. أتعتقدون بأن تأثير الفلسفة قد انتهى الآن؟ وعندما تقولون بأن الفلسفة القديمة قد ماتت، إنها لم تعد توجد، فهل يعني هذا بأن تأثير الفلسفة، إذا كان يوجد، لم يعد له وجود اليوم؟

هيدجر: إن تأثيرالفلسفة عن طريق تفكير مغاير ممكن، لكنه لن يكون مباشرا، تماما كما غير التفكير السببي العالم.

شبيغل: المعذرة، لا نريد التفلسف، لسنا أهلا بذلك، لكن نلمس هنا نقطة تماس بين الفلسفة والسياسة، لذا اسمحوا لنا أن نجركم في مثل هذا الحوار إلى هذا الميدان. قلتم بأن الفلسفة والأفراد لا يمكنهم عمل شيئ آخر، باستثناء …

هيدجر: … إن هذا هو تهييئ الإستعداد للبقاء منفتحين على وصول أو غياب الله. وتجربة هذا الغياب ليست لاشيئ، لكنها تحرر الإنسان مما سميته في “الكينونة والزمن” السقوط في الوجود. ومن أجل التهيئ لهذا الإستعداد، من اللازم تأمل ما يوجد اليوم.

شبيغل: من أجل تحقيق هذا، من اللازم أن تكون هناك بالفعل دفعة خارجية من الله أو من أي شيئ آخر. يعني أن الفكر لم يعد اليوم يستطيع التأثير انطلاقا من ذاته واعتمادا عليها. وقد كان هذا في اعتقادنا موجودا في القديم، طبقا لاعتقاد المعاصرين.

هيدجر: بالفعل، لكن ليس بطريقة مباشرة.

شبيغل: ذكرنا فيما سبق كنط وهيجل وماركس كأكبر المحركين. لكن هناك دفعات أتت من لايبنتز فيما يخص تطور الفيزياء الحديثة، وبالتالي تطور العالم المعاصر بصفة عامة. لكن قلتم فيما سبق بأنكم لا تعتقدون في مثل هذه الدفعات في الوقت الحاضر.

هيدجر: في المعنى الفلسفي لا. فقد تكلفت العلوم اليوم بدور الفلسفة. لنشرح بما فيه الكفاية “تأثير” الفكر، من اللازم أن نشرح باستمرار ما يعنيه التأثير والإشتغال. فعندما نشرح بما فيه الكفاية المبدأ في الأساس، نحتاج إلى تمييز عميق بين المناسبة، الدفع، التشجيع، المساعدة، الإعاقة، الإستخدام. تذوب الفلسفة في تخصصات علمية مختلفة: السيكولوجيا، المنطق والعلوم السياسية.

شبيغل: ومن أخذ مكان الفلسفة الآن؟

هيدجر: السيبرنتيقا.

شبيغل: أو المتقي الذي يكون مهيئا للإنفتاح؟

هيدجر: ليست هذه فلسفة.

شبيغل: وماذا تكون؟

هيدجر: أسمي هذا التفكير الآخر.

شبيغل: أتسمونه تفكيرا آخر؟ هل لكم الشرح أكثر؟

هيدجر: أتعنون الجملة التي أنهيت بها محاضرتي: “إشكالية التقنية”، حيث قلت: “إن التساؤل هو تقوى التفكير”؟

شبيغل: لقد وجدنا في محاضراتكم حول نيتشه جملة أضائتنا. تقولون: “بما أن أعلى ربط ممكن يوجد في التفكير الفلسفي، فإن كبار المفكرين يفكرون في نفس الشيئ. لكن هذا الشيئ جوهري وغني، بحيث لا يمكن لمفكر بمفرده استنفاذه، بل كل واحد يربط الآخر بقوة”. وهذا البناء الفلسفي بالضبط هو الذي يظهر لكم بأنه وصل نهايته.

هيدجر: بالفعل، لقد انتهى، لكنه ليس لاشيئا بالنسبة لنا. على العكس من ذلك، فإنه يصبح مُحَيَّنا من جديد في النقاش. فقد كان عملي كله في محاضراتي وتماريني في الثلاثين سنة الماضية، بالأساس تأويلا للفلسفة الغربية. إن الرجوع إلى تاريخ أسس التفكير، والتفكير في الإشكاليات التي لم يفكر فيها المرء منذ الإغريق، لا يعني التحرر من الإرث الفكري. لكن أقول: إن طريقة تفكير الميتافيزيقا التي ورثنا، والتي وصلت إلى نهايتها مع نيتشه، لا تقدم أية إمكانية للتفكير في خصائص العصر التقني الذي بدأ.

شبيغل: تحدثتم في مقابلة مع راهب بودي قبل سنتين تقريبا عن “طريقة تفكير جديدة كليا”، وقلتم بأن هذه الطريقة الجديدة في التفكير: “لا ينفذ لها إلا قلة قليلة من الناس”. أكنتم تودون التعبير عن كون قلة قليلة من الناس هي التي بإمكانها امتلاك المنظور، الذي يعتبر في نظركم ممكنا وضروريا؟

هيدجر: “الإمتلاك” في معناه الأصلي القديم، بحيث يمكنهم إلى حد ما التعبير عنه.

شبيغل: نعم، لكن الإنتقال للتحقيق، بقي كذلك في مقابلتهم مع هذا البوذي، غير واضح.

هيدجر: لا يمكنني أن أوضح. لا أعرف كيف يمكن لهذا التفكير “التأثير”. قد يكون من الممكن أن يقود طريق تفكير ما حاليا إلى الصمت، للمحافظة على هذا التفكير لكي لا يُجْلَد في سنة. قد يحتاج هذا الفكر لثلاثة مأة سنة لكي “يُؤثر”.

شبيغل: نفهم جيدا. لكن بما أننا لن نعيش ثلاثة مأة سنة، لكننا نعيش الآن وهنا، فلا يُسمح لنا بالصمت. نحن كسياسيون وأنصاف سياسيين ومواطنين وصحافيين إلخ مضطرون لاتخاذ قرارات. لابد أن نجد حلا لمحاولة تغيير النظام السياسي حيث نعيش ونحاول اقتحام الباب الضيق المؤدي إلى إصلاح ممكن، ولما لا المؤدي إلى ثورة. ننتظر مساعدة الفلاسفة، حتى وإن كانت من طبيعة الحال مساعدة غير مباشرة. لكن نسمع هنا: لا أستطيع مساعدتكم.

هيدجر: ولا أستطيع ذلك.

شبيغل: قد يحبط هذا الغير الفليلسوف.

هيدجر: لا أستطيع هذا، لأن الإشكاليات صعبة كثيرا، ولأن مهمة المفكر ليست هي الدخول في نقاش عمومي، وإلقاء خطب وتوزيع ممتنعات أخلاقية. قد أخاطر بالجملة الآتية: يطابق سر السلطة العليا العالمية لجوهر التقنية الغير المفكر فيه الظرفية/الوقتية والضامرة للفكر، الذي يحاول التفكير في الغير المفكر فيه هذا.

شبيغل: ألا تنتمون لأولائك الذين إذا ما استُمع لهم يوجهون لطريق ما؟

هيدجر: لا، لا أعرف أي طريق لتغيير مباشر للوضع العالمي الحالي، حتى وإن افترض المرء بأن مثل هذا الأمر ممكن إنسانيا. لكن يظهر لي بأن محاولة التفكير قد تُمكن من إيقاظ الإستعداد الذي سبقت الإشارة إليه وتوضيحه وتثبيته.

شبيغل: جواب واضح، لكن أيسمح للمفكر أن يقول: انتظروا فقط، في ثلاثة مأة سنة سيخطر ببالنا شيئ قد نعمله لتغيير العالم؟

هيدجر: لا يتعلق الأمر بالإنتظار فقط، إلى أن يهتدي المرء إلى شيئ ما في ثلاثة مأة سنة، بل يتعلق الأمر بالتفكير في الوقت اللاحق دون اللجوء إلى متطلبات نبوية في الخصائص الأساسية للعصر الحالي. إن التفكير ليس هو التراخي، لكن الفعل الحاصل في التناقض مع مهارات العالم. يظهر لي بأن التمييز بين النظرية والتطبيق، الناتج عن الميتافيزيقا وتصور نقل بين الإثنين يقضي على تصور ما أفهمه أنا شخصيا تفكيرا. قد أحيل هنا إلى محاضراتي المعنونة بـ: “ماذا يعني التفكير”، المنشورة عام 1954. وقد يكون هذا مؤشرا على وقتنا الحاضر، لأن هذا الكتاب هو أقل كتاب لي قرأ.

شبيغل: لنعد إلى بداية حديثنا. ألا يمكن اعتبار النازية من جهة كتحقيق “للقاء الكوني” وفي نفس الوقت كأخطر وآخر وأقوى، وفي نفس الوقت أضعف، لقاء “للتقنية التي تحدد الكون” والإنسان المعاصر؟ يظهر بأنكم تحملون في شخصيتكم تناقضا، بحيث أنه لا يمكن شرح الكثير من إنتاجاتكم إلا بفهم سبب التصاقكم الشديد بأشياء مختلفة في أجزاء مختلفة لوجودكم، والتي لا تتعلق بالجوهر الفلسفي، خاصة وأنكم تعرفون كفيلسوف بأن هذه الأشياء ليس لها أي موضوع فلسفي كمفهوم “الموطن/الوطن Heimat” مثلا أو مفهوم “التجذر Verwurzelung” وما شابهها. كيف يمكن للتقنية الكونية والموطن التطابق؟

هيدجر: لن أقول هذا. يظهر لي بأنكم تأخذون التقنية بطريقة مطلقة إذن. لا أرى وضع الإنسان في عالم التقنية الكونية كوضع كارثي معقد لا مفر منه، بل أرى بأن مسؤولية الفكر تكمن في ضرورة مساعدته في حدوده، ليصل الإنسان إلى علاقة كافية بجوهر التقنية. ذهبت النازية في الواقع في هذا الإتجاه، لكن كان هؤلاء الناس جاهلين كثيرا في التفكير، للوصول إلى علاقة واضحة بما يقع اليوم وما هو على الطريق منذ ثلاثة قرون.

شبيغل: هل للأمريكيين هذه العلاقة الواضحة؟

هيدجر: لا، ليست لهم هذه العلاقة كذلك، إنهم لايزالون واقعين في مصيدة تفكير براغماتي يعملون ويتلاعبون بما هو تقني، وحتى وإن كان هذا الفكر يقدم Vorschub، فإنه في نفس الوقت يقطع الطريق لتأمل خاصية التقنية الحديثة. لكن تنشط في أمريكا محاولات من هنا وهناك للتحرر من التفكير البراغماتي-الوضعي. ومن منا يستطيع الحسم في افتراض استيقاظ “فكر” أصيل وقديم في يوم من الأيام في روسيا أو الصين، قد يساعد البشر بتمكينهم من ربط علاقة حرة بالعالم التقني.

شبيغل: حتى وإن لم يكن للكل مثل هذه العلاقة ولا يكون باستطاعة الفيلسوف تقديمها لهم …

هيدجر: لا أدري إلى أين سأصل بمحاولات تفكيري وقرار قبوله في المستقبل وتحويله بطريقة مثمرة ليسا بيدي. حاولت عام 1957 في محاضرة حفل ذكرى جامعة فرايبورغ تحت عنوان: “مبدأ/قانون الهوية” أن أوضح بخطوات فكرية قليلة إلى أي حد تستطيع طريقة تفكير تتأسس عليها خاصية التقنية الحديثة، الإنفتاح على إمكانية استجلاب إنسان العصر العالمي التقني لطموح/مطلب، لا يكتفي فيه بالإستماع، لكن حيث يكون ملكا لذاته. لتفكيري علاقة وطيدة بشعر هولدرلين Hölderlin. لا أعتبر هولدرلين كأي شاعر آخر، يَدْرُسُ مؤرخوا الأدب مؤلفاته كما يدرسون مؤلفات آخرين. إن هولدرلين بالنسبة لي هو الشاعر الذي يوجه إلى المستقبل، الذي ينتظر الله، والذي لا يحق أن يبقى موضوع دراسة في ميدان التصورات الأدبية التاريخية وحسب.

شبيغل: فيما يخص هولدرلين، نستسمحكم في القراءة من جديد: قلتم في محاضراتكم حول “نيتشه”، بأن: “السجال المغاير المعروف الديونيسوسي والأبولوني، للشغف المقدس والعرض الرصين هو أسلوب قانوني مضمر لتحديد التاريخ الألماني، ومن اللازم أن نكون في يوم من الأيام مستعدون ومهيؤون لتشكيله. ولا يعتبر هذا التناقض معادلة ، يمكننا بمساعدتها وصف “الثقافة” فقط. فقد حط هولدرلين ونيتشه بهذا التناقض مسؤولية الألمان محط تسائل للعثور على جوهرها تاريخيا. أسنفهم هذه العلامة؟ هناك شيئ أكيد: سيثأر التاريخ منا، إذا لم نفهمها”. لا نعرف في أية سنة كتبتم هذا. نعتقد بأنكم كتبتموه عام 1935.

هيدجر: أغلب الضن أن هذا الإستشهاد ينتمي لمحاضرة نيتشه: “إرادة القوة كفن” لعام 1936/37. وقد يكون قد قيل في السنوات اللاحقة على هذا التاريخ.

شبيغل: نعم. هل بودكم شرح هذا أكثر؟ يقودنا هذا بالفعل من طريق عام إلى تحديد دقيق للألمان.

هيدجر: قد يمكنني التعبير على ما جاء في الإشهاد كالتالي: إن اقتناعي هو أن تهييئ الرجوع لا يكون ممكنا إلا من نفس المكان الذي قام فيه العالم التقني الحديث، ولا يمكن أن يحدث هذا بتولي التزين البودي أو أي تصور شرقي آخر للعالم. يحتاج المرء لإعادة التفكير لمساعدة الإرث الأوروبي واستعادته من جديد. لا يمكن للتفكير أن يتحول إلا بالتفكير، الذي يكون له نفس الأصل ونفس التحديد.

شبيغل: تعتقدون بأنه في المكان حيث قام العالم التقني …

هيدجر: … الإلغاء في المعنى الهيغيلي، ليس القضاء عليه، بل إلغائه، لكن ليس من طرف الإنسان وحده.

شبيغل: تُنيطون بالألمانيين مسؤولية خاصة إذن؟

هيدجر: نعم. وفي هذا المعنى في حوار مع هولدرلين.

شبيغل: أتعتقدون بأن للألمان كفاءة خاصة لهذا الإنعطاف؟

هيدجر: أفكر في القرابة الداخلية الخاصة للغة الألمانية باللغة اليونانية. ويؤكد لي هذا الأمر الفرنسيون دائما اليوم. عندما يبدؤون في التفكير، فإنهم يتحدثون الألمانية، يؤكدون بأنهم لا ينجحون في ذلك بلغتهم.

شبيغل: أتقولون بهذا بأن لكم الدول الرومانية، على الأقل عند الفرنسيين، تأثيرا قويا؟

هيدجر: لأنهم يرون بأنهم لا يتقدمون بكل عقلانيتهم الكبيرة في عالم اليوم، عندما يتعلق الأمر بفهم هذا الأخير في أصله الجوهري. وبما أن المرء لا يستطيع ترجمة الأشعار، فإنه لا يستطيع ترجمة الفكر كذلك. ما هو ممكن هو إعادة كتابته. يتغير كل شيئ عندما يترجم المرء حرفيا.

شبيغل: فكرة مستاءة.

هيدجر: قد يكون جيدا إذا أخذ المرء هذا الإستياء محل الجد ويتفكر نتائج التغيرات التي عرفها التفكير اليوناني عن طريق الترجمة إلى الرومانية-اللاتينية، وهو حدث يمنعنا إلى اليوم من التفكير الكافي في الكلمات الأساسية للفكر اليوناني.

شبيغل: السيد الأستاذ. لابد أن ننطلق دائما من  التفائل الكامن في إمكانية إبلاغ شيئ ما، وكذا ترجمته، فإذا توقف تفائل إمكانية إبلاغ مضامين الفكر على الرغم من الحدود اللغوية، فإن الإقليمية ستُهدِّد.

هيدجر: أتنعتون الفكر اليوناني بالمقارنة مع طريقة تمثل في العالم الروماني بـ “إقليمي”؟ يمكن ترجمة الرسائل التجارية في كل لغات العالم. يمكن ترجمة العلوم، يعني بالنسبة لنا اليوم العلوم الطبيعية بما في ذلك الرياضيات الفيزيائية كعلم أساسي، إلى جميع لغات العالم. بكلمة دقيقة: لا يترجم المرء، بل يتحدث نفس اللغة الرياضية. ونلمس هنا حقلا شاسعا وصعبا.

شبيغل: قد ينتمي الآتي إلى نفس الموضوع: نعيش اليوم، دون مبالغة، أزمة النظام الديمقراطي النيابي. نعيش هذا منذ وقت طويل. نعيشه بالخصوص في ألمانيا، وليس فيها فقط. توجد كذلك في الدول الكلاسيكية للديقراطية في أنجلترا وأمريكا. ولم تعد تعتبر في فرنسا أزمة حتى. والسؤال الآن هو: ألا يمكن أن تأتي من المفكرين، حتى وإن كان الأمر في شكل منتوج ثانوي، مؤشرات إما لتغيير هذا النظام بنظام جديد وكيف يجب أن يكون هذا الأخير؛ وإما أن هذا النظام قابل للإصلاح، وكيف يجب أن يكون هذا الأخير. وإلا ستبقى الأمور كما هي عليه، بحيث أن الإنسان الغير المتعلم فلسفيا -في العادة هو ذاك الذي يتقلد زمام الأمور (على الرغم من أنه لا يقررها هو بنفسه)- يصل إلى قرارات خاطئة، بل إلى تحالفات مروعة. إذن، أليس من الضروري على الفيلسوف أن يكون مستعدا للتفكير في الطريقة التي يجب بها على الحاكمين قيادة المحكومين في هذا العالم التقني، الذي يتجاوز سلطتهم؟ ألا ينتظر المرء بحق من الفيلسوف مؤشرات على تصوره لإمكانية الحياة، أَوَلاَ يُضيع الفيلسوف جزء، ولو كان صغيرا، من وظيفته ورسالته إذا لم يقل شيئا في هذا الموضوع.

هيدجر: أرى بأن المفكر الواحد لا يستطيع فهم العالم في كليته، بطريقة يكون بالإمكان فيها إعطاء تعليمات تطبيقية وبالخصوص بالنظر إلى مهمة إيجاد قاعدة للتفكير ذاته من جديد. إن التفكير، عندما يأخذ نفسه محل الجد وبالنظر إلى التراث الضخم، قد يُحمل ما لا طاقة له به، عندما يُطلب منه إعطاء تعليمات. بأية سلطة يمكنه ذلك؟ لا يوجد في ميدان التفكير أية تأكيدات سلطوية. إن المقياس/الشرط الوحيد للتفكير يأتي من الشيئ المُفكر فيه ذاته. ويعتبر هذا الأخير بالنسبة للآخرين مشبوه فيه/ملتَبَس. ولشرح هذا الوضع، يكون من اللازم شرح العلاقة بين الفلسفة والعلوم، التي تعتبر نجاحاتها التقنية العملية تفكيرا لا حاجة إليه في المعنى الفلسفي لليوم. إن أصعب وضع، وضع الفكر نفسه فيه بالنظر إلى رسالته تطابق استلاب العلوم اتجاه الفكر في وضعها القوي، وهو فكر أخفق في الإجابة العملية على إشكاليات تصور العالم.

شبيغل: السيد الأستاذ. لا توجد في ميدان الفكر إدلاءات. إذن لا يفاجئ المرء بأنه من الصعب على الفن الحديث الإدلاء بشهادات سلطوية. وعلى الرغم من ذلك تسمون هذا الفن بالفن “الهدام”. يفهم الفن الحديث نفسه كفن تجريبي. وتعتبر أعماله محاولات …

هيدجر: أترك نفسي أتعلم.

شبيغل: … محاولات من وضع عزلة الإنسان والفنانة، ومن بين مأة محاولة يُصيب المرة مرة مرة الهدف.

هيدجر: هذه هي إذن أكبر إشكالية: أي موقع للفن؟ أي مكان يحتله؟

شبيغل: حسنا، لكنكم تطالبون من الفن بما لم تعودوا تطالبون به الفكر.

هيدجر: لا أطالب الفن بأي شيئ. أقول فقط بأن الإشكالية تكمن في موقع الفن.

شبيغل: أإذا لم يكن الفن يعرف موقعه، هل يمكن اعتباره بهذا هداما؟

هيدجر: جيد، شطبوا على هذا الأمر. لكن أريد التأكيد بأنني لا أرى الطريق الذي يقود له الفن الحديث، على الأقل يبقى غامضا أين يرى الفن خصوصيته أو على الأقل أين يبحث عنها.

خاص بموقع “حكمة”