مجلة حكمة
هل يحتاج الإسلام إلى إصلاح لوثري ?

هل يحتاج الإسلام إلى إصلاح لوثري؟ – أبو العباس ابرهام


هل يحتاج الإسلام إلى إصلاح لوثري؟

لا يعدمُ المرء اليوم في الخطاب الإصلاحي الحداثي للإسلام مقولة حاجة الإسلام إلى الإصلاح الديني، وبالأخص حاجته إلى الإصلاح اللوثري. وتشقُّ هذه الأطروحة اليوم طريقها عبر المقولات الدِّينية أو المُدَيّنَة والعلمانية على السواء. ففيما يروم الخطاب المقاصدي، والشاطبيّة المُحدَثة، لوثرة الإسلام فإن التأطير العلماني يقوم على مرامِ التخلُّص من الدولة التيوقراطية وخصخصة الدِّين. وقد تنامت هذه الحاجة خصوصاً في عصر ما بعد الوطنية حيث أعادت المشيخيات الدينية إطلاق “الدِّين” في المجال العام، متزامنة مع تسويق ورأسملة الخطاب الدِّيني في ظلِّ طفرة المجتمع المدني واستبدالِه أجهزة الدولة الوطنيّة التقليدية. وسرعان ما أصبحَ الدِّين الاستهلاكي، المسوّق في الخطاب الوعظي المتلفز، حليف النيوليبرالية، البانيّة لذوات تقيّة وصديقة للسوق. وهكذا كسب الإصلاح اللوثري، باعتباره عملية رفض الإكليروس الدِّيني شرعية في الخطاب العربي العلماني ولاهوت التحرُّر الإسلامي المعاصرَيْن. وقد قُدِّمَ الإصلاح البروتستانتي برأي دارسيه البارزين أنه حريّاتٌ ثلاًث: تحرير الكنيسة من طغيان البابا؛ وحرية الناسوت من سطوة الكهنوت؛ وحرية الضمير من جبر القانون الديني.

بيد أن هذا الحنين إلى إلجام رجال الدين عن السيطرة السياسيّة وعن القانون، بغضِّ النظر عن وجاهتِه، لا يسدِّدُ مرامه عندما يعتبر الإصلاح الديني المسيحي، أو نموذج منه، مرجعيتَه أو نبراسه؛ ذلك أن ما يُقصد بنموذج “الإصلاح الدّيني” المسيحي متحقِّقٌ سابِقاً في الإسلام الحداثي: إذا كان الأمر يتعلّق بتحرير الفقه من المشيخيات التّقليديّة والقضاء على فقه الفروع لصالح السلفية وإطلاق الدِّين النظري الخالي من سلطة التقاليد والعرف. ولعلّ طفرة رجال الدين، وما يسمّى بـ”الأصوليّة الإسلامية” الملحوظة حالياً ليست إلاّ نتيجة إصلاح لوثري ما؛ وليست عطشاً له. وثانياً أن هذا التشخيص بحاجة الإسلام للوثرية يخطئ لدى اعتبارِه أن الترتيبات الفكرية والخطابية، دون النظر إلى مترتباتِها المؤسساتية والسياقية عموماً، هي المسؤولة عن تشكلات الدِّين. سننتبِه في هذه الورقة إلى الفكرة الأولى. وسنعود في آخرِها إلى كيف قامت فكرة ارتباط اللوثرة بالعقلنة.

***

وفي الحقيقة فإن فكرة نموذجيّة الإصلاح اللوثري تأتي معها بحمولة مطابقة الإصلاح اللوثري بالعقلنة والعلمنة. وهذا غير صائب، وإن كان يبدو كذلك، ذلك أن الإصلاح اللوثري، ورفيقه الكالفيني، قامَ على نفي حرية الإرادة، الشرط الأول للعقلنة. وبالعكس كانت فكرة “حرية الإرادة” أطروحة من أطروحات الكنيسة الكاثوليكية، التي ثار عليها الإصلاح الديني. وسرعان ما جنّدت الكنيسة الفلاسفة الإنسانويين للدفاع عن هذا المبدأ الذي عُقلِنَ في تأميم الأرسطية الوسيطة. وفي جدالات الإصلاح اللوثري الأولى كان الفيلسوف إراسموس (1466-1536)، المعروف حينَها بـ”أمير الإنسانويين”، مناهِضاً لــ مارتن لوثر (1483-1546) الذي يقول بالجبر والاصطفاء القبلي (predestination). وكالمعتزلة العقلانيين فإن إراسموس، المناصر للكاثوليكيةّ، اعتقد أن العقاب والجزاء والرحمة لا تقوم بمعانيها إلاّ في إطار مقولة “حريّة الإرادة”. وقد خشيّ بأن الإصلاح اللوثري، الناكر لهذا المبدأ التنظيمي، قد يُقوِّضُ المعاني المندرجة في التوبة والاعتناق والتّعميد، الأساسية في المسيحية. ولن تكون ثمّة معانٍ للأوامر والنواهي الإلهية، لأنّ هذه الخواص تفترِضُ ذاتاً حرّة؛ وتسقط بدونِها.

وفي المقابل يبدو لوثر أشعرِياً، ففي ردِّه على إراسموس لا يقتنِعُ بمقولة الأخير أن الله لو شاء لتدخّل في التاريخ وفي الفعل الفردي، ولكنّه لا يفعلُ ذلك، فتكون حريّة الإرادة نابعة من عدم الإقدام، وإن شئت الكرم، الإلهي هذا. ويرى لوثر أن مقولة حرية الإرادة تُصادِرُ سلطة الله، ذلك أن الخلاص هو منحة الله كليّةً للبشر. وعندما يمنحُ الله الخلاص فإنّه يمنحُه مع الإرادة، وليست الإرادة بخارِجة على الخلاص أو الشقاء، بل هي متضمنّةٌ فيهما. فالأفعال البشرية إنما هي تجلٍ مطلق لإرادة الله، بلا توسط أو إرادة من المخلوقات. وقد اضطرّ لوثر لاحقاً إلى ترتيبِ مبدإ شبيه بمبدأ “الكسب” عند الأشاعرة عندما قال بإمكانية المرء “الاختيار” بين بعضِ أفعاله، ولكنّه بيّن أن ذلك يقوم فقط في نفس المقام، لا بين المقامات. فمرتكِبُ الخطئية قد يختار بين الخطايا مثلاً، ولكن حقيقته، وهويتُه المقدّرة إلهياً، كمرتكب خطيئة قد تقرّرت سلفاً في عموميتِها.

***

ولم يكن الإصلاح الديني تحريراً للعقل الفلسفي أو دفعاً له. فقد لاحظَ معظم مؤرِّخي الفلسفة أن الإصلاح اللوثري قد أحبطَ، وإن مؤقتاً، التفلسف. وربما يُظلَم “الإصلاح” هنا في هذه نسبياً؛ ذلك أنّه، وهو ابن عصر النهضة قد تشارك روحاً تبدو أعّمَ منه. لقد حمل عصر النهضة تململاً من اللغة القروسطية المُترعة بعلم المنطق ومقدِّماتِه وقياساته. ولم تعد نقاشات الدومينيكان والفرانسيسكيين والرشديين والأكوينيين تثير الطرب الفكري. وقد قام فرانسوا رابليه (1483-1553) على السخرية من المناطقة، الباحثين عن “القنينة الإلهية”. وكان بانتاغرول، بطل قصة رابليه، “شغوفاً باللذة الفكرية التي لا تُفضي إلى نتيجة”. ومثله مثل دون كيشوت أو حتّى جلفر، فإنّه وهو مسلّحٌ بالمنطق العتيق أو الغريب، لا يصمد، أو يبدو سخيفاً، أمام حقائق وطرِقٍ جديدة في التفكير. ولطالما سخّفَ رابليه وأمثاله، كـمونانييه وقبلهما سرفانتس، من المناطقة بأن صوّر مخلوقات الكِميِّر الأسطورية التي لها رأس أسد وذنب أفعى وجسم معزاة وهي تُطارِد بنات الأفكار والنوايا لتلتهِمها. وقد حمل الانفتاح على الآداب تمييزاً ضدّ الجدالات العتيقة، التي يُقالُ أنّها انشغلت مرة في نقاش كم من مَلَكٍ يُمكِنه أن يرقص على رأس إبرة. وقد كانت الأجواء العامّة للإصلاح اللوثري أجواء فارّة من تعقيد المنطق، وخصوصاً الأرسطي. ولعلّ خصوم لوثر، وأولُّهم إراسموس نفسه، الذي سخرَ من مقولة أفلاطون أن السعادة تأتي تحت حكم الفلاسفة في كتابه “في مدح الجنون“، كانوا مُحبِذِّين للأدب والتراث اليوناني واللغة السلسة شبه الروائية على التحجيمات اللفظية ومقدماتِها وقياساتها. وكانت “يوطوبياتوماس مور (1478-1535) خصم الإصلاح اللوثري، وشهيد البروتستانتية التي أقامها هنري الثامن، تحرُّراً من وهم الأفلاطونية.

بيْدَ أن الإصلاح اللوثري قد اتهِمَ بالقضاء على المنطق مؤقتاً. وهي نفس التُّهمة التي يتحملُّها الغزالي (1058-1111) في الإسلام (مع أنّ الغزالي، عكس ابن تيمية، رأى إمكانيّة منهجية للمنطق في العلوم الدِينية). ويُقال أنّ هذا الإصلاح وتمظهراته في النهضة الإنجليزية هو ما أنتَجَ توماس ويلسون، قاتِلُ المنطق الأرسطي في كتابَيْه “قواعد المنطق” و”الجدل”.

***

ولم يكن الإصلاح اللوثري دوماً نصيرَ للدمقراطية الشعبية. فرغم أن إراسموس، الذي تراسل مع لوثر قبل اشتعال الإصلاح وتحوُّلِه إلى ثورة سياسية، وكان لوثر معجباً به، قد أحجم عن الانضمام إلى حركة لوثر لأنّه اعتقد أنّها ستورِثُ أوروبا الشقاق والحروب الأهلية، محبِذاً الوحدة المسيحية ecumenism إلاّ أنّ لوثر لم يكن دوماً نصيراً الحركات الشعبيّة الانشقاقية وخصوصاً من المزارعين الذين آمنوا بقضيتِه، رغم أنّه عارض الهيمنة السياسية للكنيسة. وكان لوثر تأسيساً في معاداة اليهود والأقليات اللامعيارية.

وإذا كان استدعاء الإصلاح البروتستانتي اليوم في المجال الإسلامي يأتي بحمولاتٍ تنقلُ معها ارتباطات التسامح الديني والغفران العقائدي إلاّ أن الإصلاح البروتستانتي في تجلياتِه الأولى لم يرفَعْ العالم المسيحي مباشرة من روح الاضطهاد الدّيني. وفي الحقيقة فإن أبرَز قضايا الإعدام على الردّة في القرن السادس عشر وحتّى السابع عشر التي أعطَت دفعاً لأدبيات التسامح الدِّيني كانت حالات إعدام بروتستانتي. ففيما أدّى حرق الطبيب مايكل سيرفيتوس في منتصف القرن السادس عشر على يدِ الكالفينيين لإنكاره مبدا التثليث إلى أولى المحاججات الفرنسية النهضوية لصالح التسامح الديني، وهي كتاب سيباستيان كاستيليو، مؤلِّف “فيما إذا كان يجب اضطهاد المهرطقين” فإن إعدام البروتستانت الأنجليكانيين لشاب ألحد في سكوتلندا في 1697 في كان فاتحة لمحاججة جون لوك في التسامح.

***

لماذا إذاً صار الإصلاح البروتستانتي للمسيحية مثيراً للتقليد في الأعراف التي تعتقِدُ أن الإسلام يمرُّ بمشكلة كهنوتية وتأويلية؟

طبعاً لا مفرّ من هنا الأدلجة والهيمنة وأن النظريات اللاهوتية عموماً كانت مفعولاً بها في عملية نشوء وتوسُّع الرأسمالية وصناعتها للدين على صورتِها. وفي هذا الإطار أخذذت المسارات التأويلية والتنزيلات الاجتماعية للإصلاح الدّيني طرائق شتّى وأوصلت المسيحية الأوروبية، وإن بعد مسارٍ تاريخي طويل، لمّا يكتمل بعد، إلى النسخة المعلمنة نسبياً. وهي طريقة التحقت بها الكاثوليكيّة في مسارات متشعبّة عدّة، ليس أقلّها ما عرِف بـالإصلاح المضاد، وإن كانت البروتستانتيّة الراضيّة عن نفسها طالما سخرت من العجز الكاثوليكي، وخصوصاً الاسباني، عن الالتحاق بالتقدم البروتستانتي. ولعلّ من مفارقات هذه التحوُّلات أن مبدأ الجبر، الواضِح في الاصطفاء القَبلي الذي بشّرَ به كلٌّ من مارتن لوثر وجون كالفن قد ولّد أكثر الحركات فردانيّة. فكما هو معروفٌ من الصياغة الفَيْبَريّة الشهيرة فإن مبدأ الجبر والاصطفاء القَبلي، الذي حمَل معه مقولة علامات السعادة في الدُّنيا، قد ولّد الأخلاق البروتستانتية المتنافسة على السعادة الدُّنيوية والقائمة على العمل الجهيد، وهو ما نتجَ أكثر الشعوب فردانية وثراءً ورأسمالية. وقد انتقِدَت الصِّياغة الفيّبرية كثيراً، وإن كان الاتفاق أن مصالحة الرأسمالية والبروتستانتية ما زال قائماً.

وبنفسِ الطّريقة فإن المبدأ البروتستانتي التأسيسي، القاضي بحجب وساطة الكنيسة وترك الفرد ينفذُ إلى الدِّين من خلال قراءة شخصيّة يدعمُها الإيمان، قد ولّد أولاً حركة أصولية. ذلك أن قراءة الكتاب المقدّس دون وساطة من الكنيسة ودون قدرة السلطة الدِّينية على إبطال قراءات وتفسيرات معيّنة أنتج مباشرة للنص ولّدت أكثر الحركات حرفيّة وأصولية. ولم تكن حركة “اللاتعميديين” (ِAnabaptists)، التي خلصت إلى مبدأ تعدُّد الزّوجات ومبدأ الحرابة غير إمكانية من إمكانيات القراءة الحرفية التي أتاحتها فتوحات لوثر. على أنّ الترتيبة اللوثرية بتحرير النّص من الوصاية المؤسّساتية أتت أيضاً معها بمطلب القراءة ومعرفة الآداب والتاريخ لتسهيل فخلقت القارئ المنفرد بفهمه. وهي عملية كانت النهضة قد بدأتها، وسرعان ما أخذت مدّا ذاتياً بما سمّاه بنديكت أندرسون بـ”الرأسمالية الطباعيّة“.

وعلى نفس المنوال تحرّف المنهج اللوثري من منهج لا قانوني ولا سلطوي، يقومُ على سحبِ القانون من الاهوت إلى مبدإ تأسيسي للقانون، وقدماً تيوقراطي. هذه العملية الأخيرة أقلّ ذيوعاً، وإن كانت قد شغلت دارسي اللوثرية طويلاً، بين نُقادٍ يرون أن لوثر قد انقلبَ على عقبيْه في التزامه بالمبدأ “العلماني” الفاصل للدين عن الدولة، إلى مناصرين اعتقدوا أن لوثر اضطرّ في أزمة عشرينيات القرن السادس عشر إلى إعادة التفكير في مبادئه فنسج تصوراً جديداً أكثر تعقيداً لعلاقة اللاهوت بالقانون. هذه العملية شرحها بجلاء دارس جدي للوثر هو جون ويت الأصغر في كتابه “القانون والبروتستانتية” الصادر 2004. فبرغم معاداة لوثر للفقهاء والقساوسة إلاّ أنه سرعان ما أدرك أن تنظيراته التفكيكية للاهوت والقانون الدِّيني تحتاجُ إلى فقهاء لتأطير تعاليمه نفسها. فالإصلاح لم يكن زعماً تجريدياً، بل احتاج إطاراً مؤسساتساً ليتشكّل. وعموماً لم تكن المقولات البروتستانتية، كأي مقولات أخرى، لتأخذ معنى اجتماعياً دون تحولات سياقيّة أكبر منها هي ما أعطتها معانيها وتمظراتها.