مجلة حكمة

مقدمة كتاب (في المرض وفي القوة) – ديفيد أوين / ترجمة: يوسف الصمعان

كتاب (في المرض وفي القوة) - ديفيد أوين
مقدمة كتاب (في المرض وفي القوة) – ديفيد أوين

يمكنك شراء نسخة كندل من الكتاب عبر هذا الرابط


unnamed (16) في المرض وفي القوة

يا رب نجنا من عدم القناعة بما هو ناجع، ومن الحماسة الزائدة للجديد واحتقار القديم، ومن وضع المعرفة قبل الحكمة،والعلم قبل الفن، والمهارة قبل الحس السليم، ومن معاملة المرضى كأشياء، ومن جعل العلاج أشد ألما من المرض.

السير روبرت هوتشيسون (1871-1960)، ” دعاء الطبيب”


مقدمة

لقد شعرت دائمًا أن دعاء هذا الطبيب يصلح للسياسيين وذلك باستبدال الناخبين بالمرضى. فالسياسيون، كذلك، يمسكون بأرواح الناس في قبضة أيديهم. وهذا يبدو جليا في حالة الحرب، ولكن ليس في حالة الحرب فقط؛ فالسياسيون، وخاصة رؤساء الحكومات، يتخذون العديد من القرارات التي لها آثار بعيدة المدى على حياة الناس الذين يحكمونهم. وفي الحالات الأكثر تطرفًا، تؤدي هذه القرارات إلى حياتهم وموتهم.

يشير دعاء هوتشيسون إلى أن الأطباء يجب أن يتذكروا أن واجبهم الأول هو عدم جعل الأمور أكثر سوءًا. وعلى السياسي أن يتدخل إذا كان من الراجح أن تدخله سيحسّن الوضع الراهن فحسب، كما أن عليه يقاوم نداءات الفعل لأجل الفعل فقط. ومقولة بسمارك الشهيرة القائلة بأن السياسة هي فن الممكن، تعبر عن الفكرة نفسها، التي تدعو إلى التواضع في الطموح. ما يميز السياسي والطبيب على حد سواء من حيث الجوهر هو الكفاءة والقدرة على اتخاذ قرارات واقعية حيال ما يمكن وما لا يمكن تحقيقه؛ وأي شيء يتسبب في افساد القرار قد يؤدي لقدر كبير من الضرر.


لقد فتنت طوال سني رشدي بتداخل العلاقة بين السياسيين والأطباء، وبين والسياسة والطب. ومما لا شك فيه أن خلفيتي الشخصية كطبيب وسياسي في نفس الوقت، أثرت على اهتمامي وانعكست على وجهة نظري؛ لا سيما وأني مهتم بتأثير مرض رؤساء الحكومات على مسار التاريخ. هذا المرض الذي يثير العديد من القضايا الهامة: كتأثيره على عملية صنع القرار، والأخطار الكامنة في إبقاء المرض سرا، وصعوبة إزالة القادة المرضى في الديمقراطيات وكذلك في الديكتاتوريات، وأخيرا المسؤولية التي يضعها المرض على عاتق أطباء رؤساء الحكومات؛ فهل يجب أن يكون ولاء هؤلاء الأطباء لمرضاهم فقط كما هو معتاد، أم أنه من الواجب عليهم أن يضعوا في اعتبارهم العافية السياسية لوطنهم؟

على مرّ الأجيال، عمل العديد من أعضاء عائلتي في مجال الطب أو في مهن متعلقة به. كذلك شارك العديد منهم في ممارسة السياسة أيضًا، غالبا على المستوى المحلي. وتمكن بعضهم من ممارسة المجالين في آن واحد. وربما لهذا السبب وجدت أنه من الطبيعي في حياتي أن يلعب الطب والسياسة معا دورا متداخلا. وعلى الرغم من مزاحمة السياسة للطب في الكثير من الأحيان، فإن ذلك لم يضعف من حبي للطب؛ فحتى عندما كنت وزيرا للخارجية، كنت أصف نفسي في الوثائق الرسمية – بتحذلق – أني طبيب، كما لو أنني اعتبرت مسيرتي السياسية مجرد عمل مؤقت. وبالتأكيد فإنني لم اعتبر السياسة مهنة على الإطلاق. وقد عشت من انتخابات إلى أخرى، يراودني الشك في إعادة انتخابي والحفاظ على مقعدي كممثل في دائرة بليموث المهمشة للغاية. في النهاية، تنحيت عن السلطة عام 1992، بعد أن قضيت 26 سنة في مجلس العموم، وقد أصبحت النائب الأطول فترة في تمثيل المدينة عبر تاريخها.

بدأت في الجمع بين الطب والسياسة عندما اعتمدت كمرشح للانتخابات البرلمانية التي جرت سنة 1962، حين كنت مجرد طبيب مبتدىء وعضوا في مستشفى سانت توماس، الواقع على ضفاف نهر التايمز، مباشرة قبالة قصر وستمنستر في لندن.

وبشكل ما, فقد اقحمني الطب في السياسة. ففي عام 1959 عندما كانت طالبًا بكلية الطب، اخترت أن أنضم لحزب العمال بسبب الفقر ورداءة السكن الذي رأيته في منطقة جنوب لندن. حيث كنا نعالج حالات المرضى لكنهم ما إن يعودوا إلى الرطوبة والشقق المزدحمة نفسها، يعاودهم الوجع ويعودون إلى المستشفى. وبعدما أصبحت طبيبا سنة 1962، طُلب مني أن أضع اسمي على قائمة مرشحي حزب العمال عن دائرة ريفية كان احتمال فوز الحزب بمقعدها ضئيلا. ولا يزال سبب اتخاذي هذه الخطوة لغزًا يحيرني حتى اليوم، ولكن أعتقد أنه ربما لردع نفسي من أن أصبح “نبتة طبية”، كما اعتدت تسميته؛ أي شخصا مهووسا بالطب فقط. وكنت قد رأيت الكثير من معاصري وهم ينهمكون في الأمور الطبية، ما إن يصبحوا أطباء، وذلك على حساب جوانب أخرى كثيرة في الحياة؛ إذ توقفوا عن مطالعة الصحف ولم يعودوا يجدون وقتا لمشاهدة التلفاز أو الاستماع إلى المذياع.

عندما حان الوقت لخوض الانتخابات العامة لعام 1964 أخذت إجازة ثلاثة أسابيع من غير أجر. وتمكنت من الحصول على أصوات كافية تكفل لي عدم التنازل وديعتي المالية فحسب. حينها عدت إلى المستشفى، وصار الطب في واجهة اهتماماتي وتنحت السياسة إلى الخلف. فتخصصت في سانت توماس في مجال طب الأعصاب، الذي يشمل أيضًا بعض أوجه الطب النفسي. وكانت بالفعل بيئة محفزة. وسرعان ما عملت باحثًا في مجال كيمياء الدماغ.

في صيف 1965، طلب مني حزب العمال، بشكل غير متوقع، ادراج اسمي في المجلس المحلي للحزب في الدائرة الانتخابية لبليموث، القريبة من مسقط رأسي: بليموث ساتون. كان هناك اعتقاد سائد أن انتخابات عامة ستجري عام 1966، وكان هذا المقعد هامشيًّا. وبالنظر إلى الوراء، كان ينبغي أن أعرف أنني عندما اخترت مرشحا انتخابيا أن اختياري هذا قد يغيّر مجرى حياتي. ولكن على الرغم من صعوبة تصديق ذلك، فلم أكن أعي احتمالية أن أصير نائبا في البرلمان.

ومع ذلك كنت أمام خيار من نوع ما، اذ كنت أريد على الأقل أن تتاح لي فرصة اتخاذ مسار عملي أرحب. إني لم أتخذ خيارا حاسما في أن أصبح سياسيا، لكني كنت منفتحًا حيال إمكانية أن يختار الناخبون السياسة مهنة لي. ورغما عن ذلك، فوجئت بأن وجدت نفسي عضوًا في مجلس العموم بعد انتهاء يوم الاقتراع لسنة 1966.

وطيلة سنتين، عبرت جسر وستمنستر لمواصلة العمل على كيمياء الدماغ في مختبري في سانت توماس، بينما كنت أحضر أيضًا جلسات البرلمان على الجانب الآخر من النهر. وكانت النهاية مفاجئة عندما عُيّنت وزيرًا للبحرية في عام 1968 وتفرغت للعمل السياسي؛ فالتقليد السياسي لا يسمح للوزراء بالعمل في مهنة أخرى.

وبقيت في البرلمان عام 1970، بعد خسارة حكومة حزب العمال للانتخابات العامة. وكنائب برلماني عاودت العمل بدوام جزئي. وشمل ذلك وضع نماذج حاسوبية لعملية صنع القرار في شركات كبرى، بعضها كان يعمل في مجال الصيدلة. ومنذ سنة 1995 خدمت في مجلس إدارة مختبرات أبوت، إحدى كبريات الشركات الأمريكية العاملة في مجال الرعاية الصحية.

فاز حزب العمال في الانتخابات العامة في عام 1974، ومرة أخرى تنافس الطب والسياسة عندما تسنمت منصب وزير الصحة لمدة سنتين ونصف السنة. وهي فترة عادت علي برضى شخصي لا مثيل له في أي من الأعمال التي قمت بها، بدءًا من عملي كوزير للخارجية من 1977 حتى 1979، مرورًا بزعامة الحزب الاشتراكي الديموقراطي (SDP) من 1983 حتى 1987 ومن 1988 حتى 1990، وانتهاء برئاسة المؤتمر الدولي حول يوغوسلافيا السابقة من 1992 حتى 1995.

وعمومًا، مارست الطب لمدة ست سنوات وتعلمت الكثير من تجربتي الرائعة، هي عصارة هذا الكتاب. ولكن جانبًا واحدًا بقيت له أهمية خاصة، يتعلق بالاستشاريين وأطباء الأعصاب والأطباء النفسيين الذين عملت لهم في مستشفى سانت توماس، في علاج عدد من السياسيين البارزين، حيث رأيت توترات وضغوط الحياة السياسية، في إطار العلاقة السرية بين الطبيب والمريض.

كما ساعدت في علاج سياسي بارز أصبح مدمنا على الكحول، وآخر كان يعاني من الاكتئاب الشديد. ورأيت حجم الضغط الذي كانوا يرزحون تحته، وبدأت أتساءل عن عامل الضغط وانعكاسه على أمراضهم. وعالجت مرضى آخرين يعانون من الإدمان على المخدرات، سواء الأمفيتامينات أو الهيرويين أوالمهدئات. وتمت إحالة مرضى من جميع أنحاء البلد إلى مستشفانا، وغالبًا ما كانوا يعانون من حالات نادرة، أسهمت في منحنا المزيد من الفهم. حينها أصبحت مختصا جدا، وبدأت أمزح بقولي أني مختص بالرأس وما فيه؛ حتى أني قضيت الدورة الجراحية الإلزامية جراحا للعيون، وهي خبرة لا ترتقي للشروط القانونية والفنية للجراحة العامة حاليًّا. ولو كتب لي البقاء في مجال الطب أظن أنني سأحاول أن أكون أستاذًا للطب النفسي العصبي.

1

وخلال تلك السنوات الطبية بدأت اهتمامات حياتي تتركز على كيفية اتخاذ القرارات الحكومية، ولا سيما على أعلى المستويات. فقد عاصرت افتتان الجمهور في 1962 بأزمة الصواريخ الكوبية وتطوراتها، وبعد ثلاث سنوات تجليات حرب فيتنام في عام 1972. وبعد عملي في وزارة الدفاع، كتبت كتابًا عن قرارات الدفاع، وأوجه قصورها، وتعقيداتها ومخاطرها.

كثيرون هم الذين يعرفون مقولة اللورد اكتون الشهيرة، “السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة”. لكن أكتون كذلك قال قبل هذا أنه يجب أن يحاسب أصحاب السلطة بنفس المعايير التي يحاسب بها من ليس بيده سلطة: “إني لا أقبل قانونك الذي يقول أن علينا ألا نحاسب البابا والملك كما نحاسب غيرهم، باعتقاد أنهم معصومون. بل علينا أن نحاسب أصحاب السلطة أكثر من غيرهم”. وكما كتبت المؤرخة الحائزة على جائزة بوليتزر باربرا توتشمن: “أننا أقل إدراكًا لحقيقة أن السلطة تغذي الحماقة؛ وأن القدرة على إعطاء الأوامر تعطل القدرة على التفكير، وأن مسؤولية السلطة غالبًا ما تتلاشى أثناء ممارستها. ومسؤولية السلطة هي الحكم بشكل معقول ومقبول لضمان مصلحة الدولة ومواطنيها. والواجب في هذه العملية هو الحصول على المعلومات، والتمتع بالعقلانية، ومقاومة الانغلاق. وإذا كان العقل منفتحًا بما فيه الكفاية ليدرك أن اتباع سياسة معينة يضر بدلا من أن يخدم، فإن التمتع بالثقة يجعل الشخص يعترف بفشل هذه السياسية، ويسعى لتصحيحها. وهذه قمة فن السياسة”.

وقد واجهت عندما أصبحت وزيرًا للخارجية عدد من المناسبات أوضحت لي مدى تأثير المرض على عملية صنع القرار لرؤساء الحكومة، لدرجة الحماقة والغباء والتهور. فتنت أيضا بالقادة الذين لم يعانوا من المرض، حيث كانت قدراتهم النفسية والذهنية في قمتها، ولكنهم أصيبوا بما أسميته: (Hubris Syndrome) متلازمة الغطرسة. وتصرفات الغطرسة أكثر شيوعًا في رؤساء الحكومات، سواء كانت ديمقراطية أو ديكتاتورية، مما يُعتقد في كثير من الأحيان. والغطرسة هي المرادف الرئيسي في تعريف باربرا توتشمن لمفهوم الحماقة: “الاستمرار في سياسة من الجلي أنها غير مجدية وذات نتائج عكسية”. وتتابع بربارا: “إن الذهنية الخشبية وخداع الذات، هي إحدى العوامل التي تلعب دورًا كبيرًا في الحكم. وذلك من خلال التعاطي مع الأمور من خلال أفكار مسبقة، وتجاهل أو رفض أي مؤشرات معاكسة… وكذلك رفض التعلم من التجارب”. ومن مظاهر الغطرسة عدم تغيير المسار، لأن هذا أعتراف بالخطأ.

كتب برتراند رسل ذات مرة: “إن مفهوم “الحقيقة” كشيء يعتمد إلى حدّ كبير على حقائق خارج سيطرة الإنسان كان واحدًا من الأسباب التي جعلت الفلسفة تهتم بغرس عنصر ضروري، هو التواضع. وعندما يزول هذا التواضع الذي يكبت الغرور، يكون الانسان في طريقه باتجاه ضرب من الجنون، هو: الانتشاء بالسلطة”. وكثيرًا ما وصفت حالات انتشاء القادة بالسلطة من طرف العوام بأنها “انفصام” أو “خبل”، وحتى “جنون”، على الرغم من أن مثل هذه العبارات ليست مستخدمة في مهنة الطب لتوصيف حالاتهم.

لقد وضعت المجتمعات الديمقراطية، خاصة تلك التي تطوّرت من الملكية المطلقة، أنظمة لفصل السلطات، لتحمي أنفسها من هؤلاء القادة. لكن هذه الآليات، مثل مجلس الوزراء والبرلمان ووسائل الإعلام، ليست فعالة دائمًا. أما في حالة الزعماء الدكتاتوريين، حيث لا وجود لضوابط وآليات ديمقراطية داخلية تسمح بازالتهم، سوى الإنقلاب العسكري ربما. أما إزالتهم بوسائل خارجية، فلقد أثبتت التجربة أن الإدانات والعقوبات الدولية ليس لها إلا أثر محدود، بينما الإسقاط بالقوة فنجاحه مشكوك فيه.

في المرض وفي القوة
هارولد ويلسون- جيمس كالاهان

ولقد كنت محظوظًا حين عملت في حكومتين تحت قيادة رئيسي الوزراء البريطانيين هارولد ويلسون وجيمس كالاهان، اللذان لم يصبح أيًّا منهم ثملا بالسلطة، وكلاهما كان منسجما إلى حدّ كبير. وكنت معهما حينما ازحا من السلطة من طرف الناخبين على التوالي سنوات 1970 و1979. لم أشعر حينها بإيجابية ما حدث. لكنها كانت تجربة مفيدة للغاية، محصلتها أنه في ظل الديمقراطية، السياسي هو “خادم للشعب”، وأن السلطة يمكن إعارتها وسحبها كذلك.

خلال رئاسته الأولى منذ سنة 1964 إلى 1970، كان ويلسون في صحة جيدة، على الرغم ممن أنه في مطلع سنة 1970 واجهته بعض المتاعب الصحية في الأوعية الدموية للقلب جعلته مترددًا في البقاء لفترة أطول. وعندما عاد إلى السلطة عام 1974، اكتشف أن ذاكرته القوية بدأت بالضمور. بالإضافة إلى ذلك، استمرت المشاكل السياسية والاقتصادية عالقة كما كانت، ولم تعد لديه طاقته وهمته السابقتين. حينئذ، فاجأ ويلسون الجميع بتنحيه الطوعي عن السلطة سنة 1976. وفي بضع سنوات لاحقة ظهرت عليه أعراض متقدمة لمرض Alzheimer الزهايمر مع تدهور تدريجي خطير في عمل دماغه.


جاء جيمس كالاهان خليفة لويلسون على الرغم من أنه يفوقه في العمر. وكان قد أجرى عملية لاستئصال البروستاتا في عام 1972، عندما كان في المعارضة، لكنه تعافى بشكل جيد وأصبح وزيرا للخارجية في عام 1974. واستمر في الحكومة بصحة جيدة كرئيس الوزراء، وتعامل مع صندوق النقد الدولي بقوة ومهارة سياسية. وخسر الانتخابات العامة سنة 1979 لكنه ترك الرئاسة لمارغريت تاتشر بكرامة وأريحية.

وتميّز بأنه كان أطول رئيس وزراء أسبق عمرا. وفي محادثة طويلة لي معه في صيف 2004، وجدت أنه لا زال يتذكر الأسماء والأحداث بصورة بارزة. وتوفي كالاهان بعد فترة قصيرة من عيد ميلاده الثالث والتسعين في عام 2005.

في المرض وفي القوة
هيث-تاتشر-ميجور-بلير

وتمكنت أيضًا، عن كثب، من متابعة أربعة رؤساء آخرين للحكومات البريطانية المتعاقبة هم: إدوارد هيث، مارغريت تاتشر، جون ميجور، توني بلير. هذه الخلفية غير العادية لأكثر من أربعين سنة قضيتها ما بين الطب والسياسة، جعلتني أحاول دراسة الأحداث الماضية واعتلال صحة رؤساء الحكومة في جميع أنحاء العالم، ووضع مرضهم جنبًا إلى جنب مع الأحداث السياسية في حينها، على أن أترك للقُرّاء إمكانية الحكم بأنفسهم على العلاقة بين المرض والسلطة.


إن مناقشة عامة لمرض القادة السياسيين ممكنة إذا كانت علته جسدية، لكنها تتورى وتكون غير مُدركة إذا تمّ توصيفها بأنها تتعلق بأمراض عقلية. والسبب يعود إلى اختلاف المصطلحات اللغوية التي يستخدمها العوام مقارنة بالممارسين المهنيين عندما يتحدثون عن الأمراض العقلية.

هناك أيضًا عدم تطابق بين ما تتحدث عنه الصحافة والجمهور بخصوص المرض العقلي، وما تصنفه المهنة الطبية في تشخيصها على أنه استعداد لمرض عقلي، فعندما تستخدم الصحافة مصطلحات مثل “Psychopath مختل عقليًّا”، “Megalomania جنون العظمة” أو”Hubris” الغطرسة، فإن بعض هذه العبارات، أو كلها، استخدمت لوصف طغاة مختلفين مثل أدولف هتلر، عيدي أمين، ماوتسي تونغ، سلوبودان ميلوسيفيتش، روبرت موغابي، صدام حسين من جهة؛ ومن جهة أخرى لوصف زعماء ديمقراطيين مثل تيودور روزفلت، ليندون جونسون، ريتشارد نيكسون، تاتشر، بلير، وجورج بوش.

وبعبارة أخرى، فالصحافة والجمهور يستخدمون هذه العبارات التي تم التخلي عنها منذ زمن بعيد في الممارسة الطبية، أو تم إعادة تعريفها أو حصرها في استخدام مقيد جدا. فالجنون والخبل مصطلحات تم استبدالها عند الأطباء باضطراب عقلي محدد. والاختلال العقلي أصبح نوع ضيق من اضطراب الشخصية. وجنون العظمة صارت أوهام العظمة. وغالبا الرؤساء الذين يعتبرون مجانين من قبل العامة، ليسوا كذلك باعتبار مهنة الطب.

 الاكتئاب والمرض العقلي لا يمكن اعتبارهما صفات تنزع الأهلية عمن هم في المناصب العامة. فإبراهام لينكولن هو الحالة الأكثر إثارة للاهتمام من وجه أنه يمكن أن تتشكل صفات زعيم من خلال تجربة الاكتئاب. قلة من الرؤساء عانوا مشاق الاكتئاب لفترة أطول من لينكولن، الذي رفض الانحناء أمامه.

وقد واجه عندما كان شابًا تقلبات عميقة في مزاجه، أكثرها حالات إحباط عميق، حتى أنه كتب مقالًا عن الانتحار. يقول: “يبدو لي أني أستمتع بالحياة عندما أكون مع رفقة. ولكن عندما أكون وحدي، فكثيرًا ما تغمرني الكآبة لدرجة أني لا أتجرأ على حمل سكين في جيبي”. ونشرت مجلة Sangamo في 25 آب/أغسطس 1838 قصيدة غيرموقعة، بعنوان “منتحر يناجي نفسه”، تشير الدلائل بقوة إلى انها قد كتبت من قبل لينكولن.

هناك إجماع على أنه كان من أعظم رؤساء الولايات المتحدة، وأنه خلال ضغوطات الحرب الاهلية “كان يحمل إيمانا لا يهتز في قضية وطنه”. ومن المحتمل أن تكون محاولته للتغلب على الاكتئاب قد ساهمت في تشكيل طبيعته كرئيس للجمهورية. لقد تعرض لانهيارين كبيرين عشرينياته، وأصبح الإكتئاب أكثر وضوحًا وتاثيرًا في الثلاثينيات من عمره. ولكن مؤلف كتاب حول هذا الموضوع لم يجد أية أدلة على وجود Mania هوس عند لينكولن، على الرغم من أنه يعتقد أن من الممكن أن يكون قد عانى من Hypomania هوس خفيف، يتميز بطاقة زائدة. هذا الهوس الذي تم تشخيص بتيودور روزفلت به، وكان ذات التشخيص أيضًا لحالة نيكيتا خروتشوف.

 بينما يقوم المهنيين بتشخيص حالة الزعماء السياسيين، بأثر رجعي، بصفتهم مصابين بمرض عقلي، يبقى الجمهور أقل استعدادًا في كثير من الأحيان لقبول التشخيص، لا سيما أن القادة المعنيين أصبح ينظر إليهم كأبطال قوميين. مثلا، تكمن صعوبة تشخيص الاضطراب ثنائي القطب في أن من يعاني منه يجب أن يكون قد أصيب بنوبة هوس واضحة المعالم، يظهر فيها الاكتئاب والقلق والاضطراب العاطفي. كذلك صعوبة التشخيص تنبع من أنعدام وجود علاج لها، وعندما تم اكتشاف الليثيوم كعلاج فعال لاضطراب ثنائي القطب، صار الأطباء أكثر استعدادا لإجراء التشخيص.

في تشخيص نوبة الهوس فإن أطباء الاضطراب الثنائي القطب ينظرون لعدد من العلامات والأعراض التي يمكن لمحصلة تراكماتها أن تحدد التشخيص. وبالنسبة للطبيب النفسي فإن المرحلة المبكرة من الهوس تسمى الهوس الخفيف، ويشبهها بعضهم بحالة الوقوع في الحب، وميزتها ابتهاج وحماس وطاقة زائدة وثقة عالية بالنفس.

نادرا ما يؤدي الهوس الخفيف إلى الاضطراب الثنائي القطب، بعكس الاكتئاب وهوس القطبين، وكلاهما يجتمعان في حالة الهوس والاكتئاب. تتفاوت التقديرات، لكن أكثر من أربعة عشر مليون شخص في الولايات المتحدة يعانون من اضطرابات المزاج والاكتئاب والقلق. هذا إضافة إلى مليوني شخص من المرجح أنهم يعانون من اضطراب ثنائي القطب، لتمييزه عن اضطراب الاكتئاب أحادي القطب. وكانت هناك العديد من الدراسات الجينية والبيوكيميائية عن موضوع الاضطراب الثنائي القطب، ولكن الدعامة البيولوجية له لا تزال غير مؤكدة.


وتلعب الأعراض التالية دورا مهما في تشخيص نوبة الهوس:

1. زيادة الطاقة والنشاط والأرق.

  1. مزاج مفرط البهجة.

  2. التهيج الشديد.

  3. تسابق الأفكار والتحدث بشكل سريع جدًّا، والقفز من فكرة إلى أخرى.
5. التشتت وعدم القدرة على التركيز.

  4. قلة النوم اللازم.

  5. أفكار غير واقعية حول القوة والقدرات الذاتية.

  6. سوء تقييم الأمور.

  7. سلوكيات غريبة الأطوار تستمر طويلا.

  8. زيادة الرغبة الجنسي.

  9. تعاطي المخدرات، لا سيما الكوكايين والكحول وأدوية النوم.

  10. الاستفزازية، والتطفل والسلوك العدواني.

  11. إنكار وجود أي خطأ.

  12. التبذير.


ولقد زعمت ورقة بحثية تمّ إعدادها مؤخرًا من قبل ثلاثة أطباء نفسيين أميركيين أن ثيودور روزفلت وليندون جونسون كانا يعانيان من الاضطراب الثنائي القطب إبّان رئاستهم. مما لا يقبل الجدل أنهما على حدّ سواء كانا مرضى بالاكتئاب. إنما شكك البعض في التشخيص، بما أنه لا تتوفر المزيد من الأدلة على حالات محددة من نوبات الهوس.

ومما يثير الاهتمام حول التشخيص بأثر رجعي للاضطراب الثنائي القطب لدى الزعماء السياسيين، هو ما يبدو من استعداد الجمهور لقبول أن أبطالهم كانوا يعانون من نوبات من الاكتئاب ولكن الجمهور أقل استعدادًا للاعتراف بأن أبطالهم مرضى هوس وأن لديهم مؤشرات مرض عقلي.

وقد قيل، على سبيل المثال، بأن ونستون تشرشل كان يعاني من اضطراب ثنائي القطب، ولا ينكر أحد أنه كان قد تعرض كثيرًا لحالات عميقة من الاكتئاب، يصفها هو نفسه بمزاج “الكلب الاسود”.  لكن هناك مقاومة كبيرة لقبول تشخيصه بالهوس، إما بسبب شعور بأنه لم يكن بيّنًا في التشخيصات السريرية، أو لأن آثاره غير مشاهدة؛ أو لأن الناس يفضلون مشاهدة تشرشل كشخصية فريدة من نوعها، وهكذا يفعل الأمريكيون إزاء ثيودور روزفلت.


من العادي أن يتوقع الناس ما هو غير مألوف من القادة، بل إنهم يريدون أن يكون قادتهم متفوقون على المعايير العادية؛ يملكون مزيدًا من الطاقة، ويعملون لساعات أطول، ويظهرون البهجة فيما يقومون به من أعمل، ويتمتعون بالثقة؛ وباختصار، أن يتصرفوا بشكل يظهر للطبيب كعلامة من علامات الهوس. وما دام هؤلاء القادة يحاولون بجد تحقيق رغبات الجمهور، فلن يقبل أن يقال عنهم بأنهم يعانون من أي نوع من الاختلال العقلي، ولكن ما إن يفقد هؤلاء القادة دعم جمهورهم حتى تنقلب الآية. حينها يكون الجمهور على استعداد لاستخدام تلك الكلمات التي تمّ صرف النظر عنها في مهنة الطب لوصف المرض العقلي، وذلك كوسيلة تعبر بها الجماهيرعن معارضتها للطريقة التي يتصرف بها القادة.

من هنا تصبح الأمور أكثر إثارة للاهتمام، ربما، على الأقل فيما يتعلق بصحة الجسم السياسي، حتى عندما لا يعاني القادة من أي مرض. فتتجلى ردة فعل الجماهير عندما يتصرف الزعيم بطرق تتعارض مع رغبتها فيفسر التغير غريزيًّا على أنه تغير في الحالة العقلية للقائد: لقد “ضل”، أو “فقد توازنه” أو “انفصل عن الواقع”، أو لم يعد “مسيطرا على نفسه”، حتى مع إنعدام أي دليل طبي على إصابة الزعيم بأي مرض عقلي. ويقتنع الناس بأن القائد لا يقوم فقط بمجرد أخطاء، بل أسوأ من ذلك، إنه عاجز عقليا عن اتخاذ قرارات حكيم. هنا يصبح استخدام اللغة الطبية متعذرا، مما يجعلنا في مضطرين للتحدث باستخدام مصطلحات تقليدية، حتى يتاح لنا، إن اتيح لنا أصلا، امتلاك فهم طبي لما يحدث.

من تلك المصطلحات التي تعد لم جزءًا من المعجم المهني، ولكن يبدو لي أنها مصطلحات مشروعة الاستخدام من طرف الجمهور، “جنون العظمة”. ولقد كنت أنا شخصيا متهمًا بأعراض “جنون العظمة” من قبل صديق صحافي في صيف 1987. وباستخدامه هذا المصطلح فإنه لا يريد أن يقول فقط إنه يعتقد أن ما كنت أفعله كان خطأ (في مقاومة اندماج الحزب الديمقراطي الاجتماعي مع حزب العمال) ولكن ذلك كان نتيجة للحالة النفسية التى تعرضت لها، بعد استقالتي من منصبي كزعيم سياسي، عندما انهار الحزب الديمقراطي الاجتماعي. قد لا تستخدم المهنة الطبية مصطلح “megalomania جنون العظمة”، ولكن هذا لا يعني أن أحدًا آخر لن يفعل. ويمكن أن يكون جنون العظمة كأحد المخاطر المهنية للسياسيين، وتجلياته لاحقًا في شكل من أشكال الغطرسة، موضوع دراسي مشروع لمهنة الطب.

“الغطرسة” ليست مصطلحًا طبيًّا. ويعود معناها الأساسي إلى اليونان القديمة، حيث توصف ببساطة: بأن التصرف يكون متغطرسا عندما تُظهر قيادة قوية فخرا وغرورا وثقة زائدة في نفسها، وتتعامل بوقاحة واحتقار مع الآخرين. ويبدو أن القائد المتغطرس يجد لذة في استخدامه للسلطة بهذه الطريقة المسيئة. وكان مثل هذا السلوك غير المشرف محل إدانة قوية في اليونان القديمة. وفي محاورة فايدروس لأفلاطون فإن التغطرس يحدث: “عندما تدفعنا الرغبة بشكل غير عقلاني اتجاه الملذات والأهواء، فإننا نصبح مفرطين (متغطرسين)”. ويرى أفلاطون أن “تحكم الرغبة” كشيء غير عقلاني يدفع الرجال إلى الوقوع في الأخطاء. ويستلهم أرسطو في كتابه البلاغة أفكار أفلاطون فيقول إن الغطرسة تنبع عن الاستعلاء، لذلك “يميل الأغنياء واليافعين إلى إهانة الآخرين، لأنهم يعتقدون أن فعلهم هذا يجعلهم يظهرون بشكل متعال”.

ولكن يعود فضل استكشاف مفهوم الغطرسة وأشكاله وأسبابه وانعكاساته إلى المسرح أكثر منه إلى الفلسفة. والغطرسة عادة ما تأخذ المسار التالي: يكسب البطل المجد والتزكية عندما ينجز نجاحًا غير مالوف، ويسيطر هذا عليه، فيبدأ بمعاملة الآخرين باحتقار وتقزز، ويظن أنه قادر على كل شيء.

وتقود تلك الثقة المطلقة صاحبها إلى سوء تقدير الواقع والوقوع في فخ الأخطاء. وأخيرًا مواجهة “العقاب” الذي يقضي عليه. و“العقاب” هو اسم ربة الجزاء، وغالبا في في المسرح اليوناني تنزل الآلهة العقاب بالمتغطرس، لأنه يتحدى الواقع الذي قدرته الآلهة. ويهدف البطل المتصف بالتغطرس إلى تجاوز الحدود الانسانية، متخيلًا نفسه متعاليًا عليها، ممتلكا لقدرات تشبه تلك التي تملكها الآلهة. ولكن الآلهة تعترض فعله، وتهلكه. والحكمة هي أن نبقى متيقظين حتى لا تثملنا السلطة والنجاح، فيصيبنا الغرور.

ومما لا شك فيه أن افتتان الكتاب المسرحيين بموضوع الغطرسة يعود لما يقدمه من فرصة سانحة لسبر أغوار النفس البشرية في إطار مسرحي مثير، كما في دراسة شكسبير له من خلال عمله كويولانس. إنما تظهر الغطرسة فورًا لكل من يدرس تاريخ القادة السياسيين.

لقد وصفت الغطرسة من طرف الفيلسوف ديفيد كوبر كنوع من المبالغة الزائدة في الثقة بالنفس، يتخذ صاحبها موقفًا ازدرائيًّا للسلطة، ويصرف النظر عن أي تحذير أو نصيحة قد تقال حتى قبل أن تقال، لأن القائد يعتبر نفسه نموذجًا في حدّ ذاته. وكتب فيسلوف آخر هي حنة أرندت، المعروفة بإعجابها بأثينا القديمة، عن أوجه القصور في حاكمها بركلز، الذي كان مأخوذا “بغطرسة السلطة”، مقارنة إياه بشكل سلبي مع مشرِّع أثينا صولون. كما اختار المؤرخ آين كرشاو بذكاء عنوان “الغطرسة” و “العقاب” لسيرة حياة هتلر التي كتبها في جزئين.

ما أثار اهتمامي في متابعة القادة السياسيين وغطرستهم التي توصف بأنها كنوع من فقدان التوازن، ويتميز هذا الطراز عادة في القادة السياسيين حين يعميهم نجاحهم على الواقع ويشعرون بثقة ذاتية زائدة تجعلهم يحتقرون النصيحة المنافية لطرحهم، وأحيانًا النصيحة بشكل مطلق، وهم يتصرفون بتصرف يتحدى الواقع نفسه والنتيجة في غالب الأحيان هي العقاب كالعادة.

وأريد أن أكشف ما إذا كان هذا النوع من سلوك الغطرسة بين أوساط القادة السياسيين له علاقة معينة بنوع الشخصية التي تجعل أحدهم ميالًا إلى السلوك المتغطرس، وما إذا كانت طبيعة الشخصية تخلق القابلية لأولئك الذين يحملونها وهم على أبواب دخول معمان السياسة. ومن زاوية أهم، هل القادة السياسيون من أصحاب الشخصيات المختلفة سيكونون عرضة للسلوك المتغطرس كنتيجة شبه حتمية لممارسة السلطة؟ وبتعبير مغاير، هل تجربة دخول السلطة وممارستها في حدّ ذاتها تحدث تغيّرات في الحالة العقلية تظهر لاحقًا في سلوك متغطرس؟ أعتقد أنه من الممكن أن نتحدث عن الحالة كنوع من أعراض الغطرسة تؤثر على سلوك من هم في السلطة وتظهر الأعراض على أحدهم من خلال طبيعة عمله ومجموعة المميزات التي تميزه سواء، كانت علامات أو مجموعة أعراض من المحتمل جدًّا ظهورها مجتمعة أكثر منها منفصلة.

إن الأعراض السلوكية التي قد تستدعي فحوصات هي متلازمة الغطرسة وقوتها لدى رئيس الحكومة كلما امتدت فترة بقائه في الحكم، وأعتقد هنا أن وجود ثلاث أو أربعة أعراض يجب أن تتوفر في سلوك الحاكم قبل أن نحكم على سلوكه أو أن نمعن النظر في تشخيصه وفقًا للمواصفات التقريبية التالية:

∙       النرجسية التي ترى العالم كميدان لممارسة السلطة والبحث عن المجد، أكثر منه مكانًا يعاني من مشاكل تستدعي حلولًا عملية.

∙       الميول إلى القيام بتصرفات تضعهم تحت دائرة الضوء من أجل تفخيم وتحسين صورتهم.

∙       القلق من التباين غير المتكافئ بين الصورة والأداء.

∙       التحدث بطريقة تبشيرية عن إنجازاتهم.

∙       تعريف أنفسهم بأنهم هم الدولة، لدرجة أنهم ينظرون إلى وجهة نظرهم ومصالح الدولة كشيئين متشابهين. وميل للحديث عن أنفسهم بصيغة الغائب، أو استخدامهم لـ “نحن” التفخيمية الملكية.

∙       الثقة الزائدة لدرجة المغالاة في طريقة قدرتهم على تقييم الأشياء واحتقارهم للنصائح والنقد من طرف الآخرين.

∙       ثقتهم المطلقة بأنفسهم، حيث يعتقدون فيها أنهم يسيطرون على كل شيء وقادرون على كل شيء.

∙       اعتقادهم أنهم لا يحاسبون أمام محاكمة دنيوية من لدن زملائهم أو الرأي العام، لكن المحكمة الحقيقية التي يجب أن يمثلوا أمامها أعظم بكثير، إنها التاريخ أو الله.

∙       إيمان راسخ لا يتذبذب بأنه سيتّم تبرئتهم أمام المحاكم.

∙       صفات سلوكية، منها أنهم قادرون على المواصلة من غير انقطاع، وأنهم متهورون واندفاعيون.

∙       فقدانهم للاتصال بالواقع لارتباطهم بعزلة تتعمق باستمرار وميولهم إلى مسامحة أنفسهم من خلال رؤية أشمل فيما يتعلق بقناعاتهم باستقامة آرائهم أخلاقيًّا لتحاشي الحاجة إلى الرأي مخالف حتى وإن كان سديدًا وعمليًّا ودقيقًا لتفادي ما لا تُحمد عقباه.

ولكن من هم في السلطة ويعانون من هذه الغطرسة يحملون رؤوسًا خشبية ويرفضون التغيير أو الاستجابة للرأي السليم، ونتجية لعدم قدرتهم على تنفيذ السياسة التي يمكن أن نسميها بالعجز حتى على تنفيذ سياسة الغطرسة تخرج الأمور عن السيطرة في إطار الخطإ نتيجة لتلك الثقة الزائدة والمغالية بالنفس التي تدفع القادة إلى عدم الاهتمام بأي كان وتجاهل مزالق السياسة.

وتظهر عادة أعراض الشخصية في سن مبكرة، عند الثامنة عشرة، وتبقى لصيقة بصاحبها طيلة حياته، لكن ملازمتها لحالة الغطرسة قد تختلف ولا يجب أن ترى كنوع من أعراض الشخصية المتغطرسة للقائد عند ممارسة السلطة لفترة معينة، وقد تتلاشى تلك الخاصية حينما يفقد القائد سلطته لأي من الأسباب. ومن هنا يمكن أن ننظر إليها كمرض ملازم للسلطة أو مرض في شخص من يمارس السلطة، وبالتالي فإن الظرفية المحيطة بممارسة السلطة قد تؤثر هي الأخرى على مسار وشخصية القائد ومدى استسلامه في حالة فقدانه للسلطة. وأما العوامل الخارجية فستكون بمثابة التبجح بنجاح زائد في الإنجازات، ونهج ممارسة السلطة في سياق سياسي لا يكبح الحاكم فيه نفسه عن السلطة، لأنه يمارس سلطته الشخصية ضمن الإطار والزمان والطريقة التى تحلو له.

إن مهنة الطب ليست مستعدة بعد للتحليل المرضي لنوعية الخسائر الناجمة عن سلوك الغطرسة، والذي يصفه الجمهور بأوصاف غير دقيقة باستخدامه لمصطلحات مثل أحمق ومجنون ومخبول، لكن للمهنة الحق في رغبتها في السيطرة على استخداماتها للغتها. لكن ذلك لا يعني عدم إثارة الأسئلة من طرف الفلاسفة والمحامين والمهنة الطبية على حدّ سواء. ولا أدعي في هذا الكتاب الإجابة على الأسئلة إطلاقًا، ففي الفصل السابع تحدثت عن كتاب “أعراض الغطرسة” استنادًا إلى ورقة بحثية نشرت في بريطانيا سنة 2007 فيما حذفت بعض من تفاصيلها لدعم حجة تتعلق بقضية العراق.

وبالنظر إلى مرض رؤساء الحكومة في القرن العشرين وفي الفترة الممتدة من 1901 إلى2007 تحديدًا، في الفصلين الأول والثاني يتمّ نقاش عديد الحالات من مرض رؤساء الحكومات إبّان تلك الحقبة الزمنية. وهناك خمسة فصول تعرض حالات تاريخية محددة كالفصل الثالث عن مرض رئيس الوزراء البريطاني السير انتوني إيدن خلال أزمة السويس سنة 1956. والفصل الرابع يقارن سلوك جون كيندي سنة 1961 خلال إخفاقه في أزمة خليج الخنازير إبّان اجتماعه مع نيكيتا خروتشوف، وما نتج عن ذلك في السنة اللاحقة من أزمة الصواريخ الكوبية، وعلاقة ذلك بحالته الصحية والتغيرات التاريخية إبّان تلك الأحداث. والفصل الخامس يتعلق بصحة شاه إيران في السنوات الخمس الأخيرة من حكمه، والفصل السادس ينظر إلى حالة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران الذي عانى من سرطان البروستات في معظم الفترة الممتدة من 14 سنة قضاها في الحكم، 11 سنة منها لم يطلع عليها العموم، ويناقش الفصل السابع السلوك المتغطرس للرئيس الأميركي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير حياا العراق وافغانستان. وأخيرًا يتناول الفصل الثامن بعض أوجه الوقاية التي يحتاجها المجتمع للتعامل مع انعكاسات مرض رؤساء حكوماتهم على حياتهم اليومية.

لقراء الفصل الأول من الكتاب