مجلة حكمة
الرسائل العالمية

مقدمة ترجمة ” أشهر الرسائل العالمية” – المترجم القدير: محمد بدران

20737196
غلاف الكتاب

إذا كانت السير أكثر فروع الأدب ظرافة ومتعة فإن أكثر ما في السير من طرافة ومتعة الرسائل الشخصية. ذلك أن رسائل الشخص هي روحه سافرة، ومرآة قلبه الصادقة، ينعكس عليها ما يدور بخلده وما يخفيه في قرارة نفسه، فيظهر فيها واضحاً على حقيقته غير مشوّه ولا معكوس، يظهر فيها حتى في أثناء تكونه قبل أن يستكمل عناصره ويتخذ شكله النهائي.

فالرسالة تسجل الحياة العقلية لكاتبها، وتعين على تحليل غرائزه وعواطفه، والأسس الحقيقية التي تقوم عليها أعماله. والرسالة تنم عن أخلاق كاتبها، وعن الأسباب الخفية لسلوكه وأعماله عَرَف ذلك أو لم يعرف، وتظهر الأمور الصغيرة التافهة الكامنة وراء الحقائق العظيمة، وتذكرنا بأن التاريخ كان في يوم من الأيام حياة حقة، وأن أشخاصه كانوا رجالاً ونساءً أحياء.  وإن كنزاً من هذه الرسائل لهو في الحق كنز من العواطف الصادقة الحية، ظهرت للعالم صريحة غير مكبوتة. وما أصدق ما قيل في وصف الـرسائل: “إن للرسائل أرواحاً، وإنها لتتكلم، وإن فيها من القوة ما يعبر عن نشوة القلب، وليس ينقصها شيء من حرارة العواطف، وإنها لتبعثها في القلب كما يبعثها الكاتب نفسه، وفيها كل ما للكلام من رقة وحنو، وقد يكون فيها أحياناً من الجرأة على التعبير مالا يستطيعه الكلام”.

وإذا كان أكثر ما يهتم به المؤرخون هو أخبار الملوك وحروبهم فإن الرسائل الشخصية هي التي يجب الرجوع إليها لمعرفة الناس على حقيقتهم، والكشف عما كانوا يخفونه من أخلاقهم وأعمالهم عن أعين غيرهم في الحياة العامة. ذلك أن صندوق الـرسائل، كما قال شيشرون، “مستودع مقدس” يضع الناس فيه أسرارهم وهم واثقون من أنهم قد ألقوا بها في مكان أمين، وأن ما حوته من الأسرار لن يطلع عليها إلا المرسلة إليهم.

من أجل هذا عنينا بترجمة الرسائل التي يحويها هذا الكتاب، ولم نقتصر على نوع واحد بل حاولنا أن ننوعها بقدر المستطاع، فذكرنا منها ما يصف عواطف كاتبها من حب واستعطاف، وما يعنى بالحاذثات الهامة التي غيرت مجرى التاريخ، أو بالشخصيات البارزة التي كان لها أعظم الأثر في هذا العالم ملوكاً كان أصحابها أو فلاسفة أو رجال دين، رجالاً أو نساء، شيباً أو شباناً. وكثير منها رسائل خاصة لم يكن كاتبوها يظنون أن أحداً سيطلع عليها في يوم من الأيام.

ولم نقتصر في هذا الكتاب على إيراد الرسائل وحدها، بل قدمنا لكل رسالة ببيان واف عن الباعث على كتابتها، وأوضحنا بعض ما حوته من إشارات غامضة. نعم إن الرسالة في بعض الأحيان تقص قصتها بنفسها، ولكنها حتى في هذه الحال تصبح أشد وضوحاً وأكثر متعة إذا عرف القارئ شيئاً عن كاتبها، وعن الباعث على كتابتها، وما كان يحيط به من الظروف وقت أن كتبها؛ ومن أجل هذا يرى القارئ في بعض الأحيان أن رسائل قصيرة سبقتها مقدمات طويلة. وقد أتبعنا كل  رسالة بالرد عليها تارة وبخلاصة هذا الرد تارة أخرى، أو بما كان لها من أثر وما أعقبها من نتائج إن لم يكن لها رد.

والرسائل منقولة بنصها الكامل فلم يحذف من هذا النص إلا القليل النادر، وقد أشير فيها إلى أجزائها المحذوفة، وهي مرتبة حسب أقدميتها ولكن في نيتنا متى تم ما نريد ترجمته منها أن نزتبها كلها حسب موضوعاتها، وأن نتبعها بفهرس يحوي أسماء كتابها ومن كتبت إليهم، ومن وردت أسماؤهم فيها كما هي في الأصل الأنجليزي.

وليست الـرسائل التي أثبتناها هنا هي خير الرسائل العالمية على الدوام، ولكن الذي روعي في اختيارها أن تمثل أكثر ما يمكن تمثيله من ألوان الأدب، أو أن تلقي أكثر ما يمكن إلقاؤه من الضوء على أهم أحداث التاريخ. وقد اختير بعضها لغرابته، واختيرت كلها بوجه عام لما فيها من متعة وظرافة. كذلك ليس كاتبوها كلهم من عظماء التاريخ، فمنهم العظيم، ومنهم غير العظيم، بل إن منهم من لا يمت إلى العظمة بسبب مثل نيرون وهنري الثامن. وقصدنا من ذلك أن تمثل الرسائل ما يمكن تمثيله من مناحي الحياة الإنسانية.

وستلقي هذه المجموعة متى تمت ضوءاً ساطعاً على أهم حوادث تاريخ الإنسانية: على بداية المسيحية، وعلى النهضة الأوروبية، والثورة الأمريكية، والثورتين الفرنسية والروسية، والانقلابين النازي والفاشي، وعلى حياة العلماء الأعلام أمثال دارون وهكسلي ومدام كوري.

وكل هذه الرسائل منقولة عن اللغة الإنجليزية، حتى ما كتب منها في الأصل بغير هذه اللغة، فهو منقول عن ترجمته الإنجليزية. ولم نشأ أن نضم إليها شيئاً من الرسائل العربية لأن الذي نهدف إليه هو أن نطلع قراء لغتنا على نماذج من الأدب الغربي. أما الرسائل العربية ففي وسعهم أن يطلعوا على ما يريدون منها في كتب الرسائل المعروفة.

 

ولعلنا بهذا نكون قد أدينا بعض الواجب علينا للغتنا وأبناء وطننا.

محمد بدران