مجلة حكمة

مراسلات الإسكندر الأكبر ودارا الثالث: النزاع حول سيادة العالم – ترجمة: محمد بدران

20737196
غلاف الكتاب

رسائل ترجمها المترجم القدير محمد بدران في كتاب (أشهر الرسائل العالمية)


تتكون سيرة الإسكندر الأكبر كما نقرأها في كتب التاريخ من مزيج من الحقائق والأوهام لا يسهل التفريق بينها. وليس في المدارس تلميذ لا يعرف ما يعزى إلى الإسكندر في شبابه من أعمال حربية مجيدة، بعضها على الأقل مما لا يقبله العقل. فهو يتلقى من معلميه الشيء الكثير عن شجاعته الشخصية وجرأته منقطعة النظير، وعن سيره السريع في القارات الثلاث أوروبا وآسيا وإفريقيا، وعن مباغتته أعداءه، وعن فنونه الحربية المبتكرة، وعن رفضه أن يهاجم عدوه ليلاً أو “يختلس منه النصر اختلاساً”، وعن دراسته على أستاذه أرسطوطاليس، وعن قراءته الدائمة لهوميروس، وعن فتح بيت المقدس وتأسيس الإسكندرية، وعن زيارته لمعبد الإله آمون في الصحراء، وعن أبهته الشرقية، وقسوته البالغة، وعن حياته القصيرة وموته المبكر في الثالثة والثلاثين من عمره.

وقد بدا في السنين الأخيرة ميل من جانب بعض المؤرخين إلى الشك في بعض ما يروى عن الإسكندر من قصص، وليست الرسائل الواردة هنا مما تبادله الإسكندر ودارا الأكبر الذي هزم في سهل مرثون* عام 491 ق.م. والذي ورث عرش دولة كورش الفارسية، بل كانت بينه وبين دارا الثالث الذي ارتقى العرش في نفس السنة التي ارتقى فيها الإسكندر عرش مقدونية (336 ق.م.). وهي منقولة عن كتاب (روضة الصفا) للمؤرخ الفارسي المسلم ميرخوند (1433-1498م)*.  ذلك أن قصصاً عن الإسكندر ومجده وعظمته انتشرت بين الناس في العصور الوسطى، وقد جمع ميرخوند طائفة منها في كتابه سالف الذكر، ووصف صاحبها في هذا الكتاب بأنه جمع بين الرحمة والقسوة، وبين الوعد والوعيد….، وقال عنه “إنه عاد من حروبه منتصراً ظافراً”.

وكان مولد الإسكندر نفسه في مدينة بلا* عاصمة مقدونيا في عام 356 ق.م.، وتربى على يد أرسطوطاليس، وناب عن والده في حكم بلاده حين هاجم هذا بوزنطية.

ولم يكن الإسكندر قد بلغ سن العشرين حين اعتلى العرش بعد موت أبيه، وبعد سنتين من توليته أي عام 334 ق.م. عبر مضيق هلسبنت* (الدردنيل) على رأس ثلاثين ألف من المشاة، وخمسة آلاف من الفرسان، ونال أول نصر على جيوش الفرس في موقعة نهر غرانيكوس*. وعلى إثرها فتحت مدن آسيا الصغرى أبوابها له. ويقول ميرخوند إن دارا هاله تقدم جيوش الإسكندر فكتب إلى عامله على طرطوس يقول: “وصلت إلى مسامعنا …. أخبار عن لص جمع حوله طائفة كبيرة من اللصوص أمثاله، واتخذ طريقه إلى بلادنا. وقد كتبت إليك لآمرك أن تلقي القبض على جميع من معه، وتلقي بهم هم وأسلحتهم وماشيتهم في البحر. أما زعيمهم فأرسله إلينا مكبلاً بالأغلال. وإن لك من حكمتك وشجاعتك ما يعينك على تنفيذ هذه المهمة اليسيرة. ولما كان هذا اللص فضلاً عن ذلك كله غلاماً حقيراً من أبناء الروم، فإننا لن نغفر لك عجزك عن القيام بهذا الواجب أو توانيك في القيام به”.

ولما عاد الإسكندر من أرمينيا نزل على شاطئ نهر أسطوخوس* فهدد بذلك مركز دارا. وفي هذا الوقت أرسل إليه دارا الرسالة التالية:

 

-1-

…. إن إله السماء قد وهب لي ملك الأرض …

[من دارا إلى الإسكندر]

              من عاصمة ملوك العالم. ليعلم الإسكندر اللص الخج …. مادامت الشمس تشرق على رأسه، أن مالك السماء قد وهب لي ملك الأرض، وأن الله القادر على كل شيء قد منحني أركانها الأربعة، وأن العناية قد خصتني بالمجد والرفعة والجلال، وبعدد لا حصر له من الأنصار والأحلاف.

وقد ترامى إلي أنك جمعت حولك طائفة من اللصوص وأراذل الخلق، وأن كثرتهم قد أعجبتك وغرتك فأردت أن تستعين بجمعهم ليكون لك تاج وعرش، ولتخرب ملكنا وتدمر أراضينا وتهلك شعبنا.

ولعمري إن هذه النية الخبيثة لخليقة بأمثالك المفتونين من أبناء الروم. والآن يجدر بك بعد أن تقرأ هذه الرسالة أن تغادر من فورك المكان الذي تقدمت إليه. أما الحركة الإجرامية التي أقدمت عليها فلا تخش من أجلها بطشنا وعقابنا، لأنك لم تصبح بعد في عداد أولئك الذين يستحقون غضبنا وانتقامنا. وهأنذا أرسل إليك صندوقاً مملوءً بالذهب، وحماراً محملاً بالسمسم لتعرف منهما مقدار ما لدي من مال، وما لي من سلطان. ومع هذه الهدية سوط وكرة: فأما الكرة فلكي تلهو بها اللهو الخليق بسنك، وأما السوط فلتعذب به نفسك.

ولما وصلت هذه الرسالة إلى يد الإسكندر أمر بالقبض على حامليها وقطع رؤوسهم، ولكن رجال حاشيته هالهم الأمر فرجوه أن يعفو عنهم، فأجابهم إلى طلبهم، وكتب إلى دارا الرسالة التالية:

 

-2-

…. حتى تقر لي بالغلبة وتذوق مرارة نصري

[من الإسكندر إلى دارا]

من ذي القرنين إلى من يدعي أنه ملك الملوك، وأن جيوش السماء ترهبه، وأن أهل الأرض جميعاً يستضيئون بنوره! أفهل يليق بإنسان كهذا أن يخشى عدواً حقيراً كالإسكندر؟

ألا يعلم دارا أن الله العي الأعلى يهب العزة والسلطان لمن يشاء، وأن من يدعي من عباده الضعفاء الهالكين أنه إله مثله تخضع له جيوش السماء، يحل به غضب الله فيدمر ملكه ويخرب بلاده!

وكيف يدعي الألوهية إنسان قدر عليه الموت والفناء، معرض لأن ينتزع منه ملكه ويصبح تقسيم الدنيا في يد غيره؟

ألا فاعلم أني عقدت النية على لقائك في ميدان القتال، وهأنذا سائر إلى بلادك مقر بأني خادم الله، ضعيف ذليل، أتضرع إليه وأستغفره وأمجده. ولقد بعثت إلى مع رسالتك التي تفخر فيها بقوتك سوطاً وكرة وصندوقاً مملوءً بالذهب وحماراً محملاً بالسمسم، وأنا أعد هذا كله فألاً حسناً ودلالة طيبة. فأما السوط فدليل أني سأكون أداة لتأديبك، وأني سأصبح حاكمك ومعلمك وهاديك: وأما الكرة فتشير إلى أن الأرض وما عليها ستكون خاضعةً لرجالي، وأما الذهب وهو بعض ما لديك من كنوز فيدل على أن مالك كله سينقل إلينا، وأما السمسم فإن حباته وإن كثر عديدها ناعمة الملمس، وهي من أحسن الأطعمة وأقلها ضرراً، وهأنذا أرسل إليك بدلها حفنة من حب الخردل لتذوق فيها مرارة نصري. ولقد أسرفت في القول وغرك ملكك الواسع وعظيم استعدادك. أما أنا فلست أعتمد على غير العناية الإلهية، وما من شك لدي في أن الله جلت قدرته سيجازيك على كبريائك هذا بأن يجعلك عبرة لخلقه، وأنه سيقمع طغيانك، ويذلك إذلالاً لا يعادله إلا كبرياؤك نفسه، ويجعل لي الغلبة عليك. ولست أعتمد في هذا إلا على الله وحده والسلام.

….

واضطر الإسكندر أن يعود إلى مقدونيا لمرض والدته. ولما شفيت واصل سيره لقتال دارا، والتقى الجيشان، ودارت رحى القتال. وفي ذلك يقول ميرخوند.

وتحرك الجيشان كأنهما بحران صاخبان، وتلاطما كأنها جبلان من حديد، وأظلم الجو من كثرة ما ثار من النقع في الميدان، وصمت الآذان من صوت الأبواق ودق الطبول، وأدرك الناس مما رأوه وشاهدوه معنى قوله تعالى “إن زلزلة الساعة شيء عظيم”: وانشقت السماء …. وجرت الدماء على شفار السيوف كأنها المطر المنهمر، وانعكس على نصال الخناجر الزمردية لون دماء القتال القرمزي ….، وحجبت أجسامهم أرض السهل كله عن الأنظار …

وحالف النصر الإسكندر وولى دارا الأدبار فعبر نهر الفرات، وجمع جيشاً أكبر من جيشه الأول، وعرض الصلح على الإسكندر، وقبِل أن ينزل في سبيل ذلك عن نصف ملكه.  ولكن الإسكندر رفض ما عرضه عليه، وفضل أن يغامر بجنده في موقعة أخرى يمتلك بها بلاد الفرس كلها، وخالف في ذلك نصيحة قواده. وإليك نص الرسالة التي بعث بها إلى دارا:

 

-3-

سترى أني أعرف …. كيف أعامل من أغلبهم

[من الإسكندر إلى دارا]

يا دارا

              إن دارا الذي تسمى باسمه* (إذا صدق ما يقوله المؤرخون) قد دمر جميع مدن اليونان على شاطئ الهلسبنت وخرب جميع المستعمرات اليونانية على شاطئه الآسيوي. ولم يكتف بهذا كله بل عبر إلى شاطئه الغربي بجيش جرار، وأغار به على بلادنا. ثم حلت به الهزيمة في البحر، فعاد إلى بلاده، ولكنه ترك قائده مردونيس* ليخرب في غيبته أرض اليونان الخصبة المثمرة ويدك مدنها العامرة.

أضف إلى ذلك مقتل أبي فليب الذي سولت لكم نفوسكم الدنيئة أن تحرضوا عليه من اغتالوه وتغروهم بما وعدتموهم من مال وفير. بذلك الغدر أوقدتم نار الحرب، وبتلك النذالة أججتموها، وهل ثم غدر أو نذالة أكبر من أن تنحط نفوسكم إلى هذا الدرك، فتحاولوا قتل من تخافون لقاءه في ميدان القتال؟

وهل نسيت ما فعلته حين كنت تقود بنفسك جيشك العظيم لقتالي، إذ وعدت من يأتيك برأسي بألف تالنت*؟ إن الحرب التي أخوض غمارها الآن ليست إذن إلا حرباً أدافع بها عن نفسي، وقد أثبتت الآلهة عدالة قضيتي بما أتاحته لجيوشي من النصر، وبما استوليت عليه من أقاليم واسعة في بلادك.

لقد انتصرت عليك في ميدان القتال، والشرف لا يحتم علي أن أجيبك إلى شيء تطلبه، وليست لك علي يد أغضى لها، ولكني مع ذلك أعدك وعداً صادقاً أنك إذا جئتني، كما يجب أن يجيئني من على شاكلتك، أطلقت سراح زوجتك وأبنائك من غير فدية. أما أنت فإنك من الغزاة الفاتحين ولك في هذا تجارب كثيرة، وسترى أني أعرف كيف أعامل من أغلبهم معاملة شريفة. وإذا كنت في شك من أنك ستكون هنا آمناً على نفسك، فإني أعدك بأن أرسل إليك من يحرسك في مجيئك فلا تنس أنك لا تكتب إلى ملك وحسب، بل اعلم أنك تكتب إلى مليكك أيضاً.

……

وفي اليوم الحادي والعشرين من سبتمبر سنة 331 ق.م. عبرت جيوش مقدونيا بقيادة الإسكندر نهر الفرات في أثناء خسوف القمر. وتقابل الفرس واليونان مرة أخرى عند أربيلا ودارت بينهما معركة من أعظم المعارك الحاسمة في التاريخ. وفيها انتصر الإسكندر وأصبح صاحب الأمر والنهي في الجزء الأكبر من العالم المعروف وقتئذ، ولم يكن قد جاوز الخامسة والعشرين من عمره. وفر دارا من ميدان القتال ولكنه اغتيل بيد أحد مرازبته.

وواصل الإسكندر سيره إلى أواسط آسيا ثم أخذ في الثمان السنين الباقية من حياته في تدعيم ملكه، وتنظيم حكمه، وتأديب الخارجين عليه، وفي الدرس والكتابة إلى العلماء والفلاسفة*، وفيما لا يحصى من ضروب البذخ والدعارة إلى أن مات في عام 323 ق.م. غير متجاوز ثلاثة وثلاثين عاماً، وترك ملكه يتنازعه قادته، حتى اقتسمه بطليموس وسلوكس وانتجنس: وأقام أولهما في مصر وثانيهما في سوريا وثالثهما في مقدونيا.