مجلة حكمة
الحرية - إشعيا برلين

الحرية – إشعيا برلين / مراجعة: نوفل الحاج لطيف

نوفل
د. نوفل الحاج لطيف

مراجعة لكتاب (الحرية – إشعيا برلين) ترجمة معن الإمام، نشر دار الكتاب، مسقط 2015، عدد صفحاته 464 – العنوان الأصلي (Isaiah Berlin, Liberty : Incorporating ‘Four Essays on Liberty’, edited by Henry Hardy, Oxford 2003)


ماذا نعي بالقول “الإنسان حر” بحسب إشعيا برلين؟ وما الذي تتطلبه حرية الإنسان؟ وما الذي يحول دون تحقق هذه الحرية؟ “من يقر ر أفعالي؟ هل أقوم بها حرّا بالطريقة التي أختارها؟ أم أخضع لأوامر من مصدر آخر للسيطرة والتحكم؟ هل يقرر نشاطي والدي، أم مدير المدرسة، أم رجل الدين، أم الشرطي؟ ألست خاضعا لقواعد انضباط نظام قانوني، أو نظام رأسمالي، أو مالك عبيد أو حكومة (ملكية، أو استبدادية، أو ديمقراطية)؟ بأي معنى دلالي أنا سيد مصيري ومقرر قدري؟ ربما تكون قدراتي على الفعل محدودة لكن إلى أيّ حد؟ من أولئك الذين يقفون حجر عثرة في طريقي، وما حجم القوة التي يستطيعون استخدامها؟” [1] تلك هي المعضلة التي يسعى هذا الكتاب إلى حلها من خلال محاورة مفهوم الحرية في السياق الليبيرالي الحديث من جهة، وفي مواجهة التصورات التاريخانية والوضعية والجبرية التي تقول بالحتمية.

الكلمات المفاتيح: برلين-الحرية-الحتمية-المسئولية-الحرية السلبية والحرية الإيجابية-الليبرالية.

 (1) نقد التفاسير الحتمية لأفعال البشر بوصفها تحييدا للحرية وللمسؤولية:

لقد خص برلين مسألة الحتمية بمقالين، الأول، حمل عنوان: “الحتمية التاريخية”[2]وحمل الثاني عنوان: “مفهومان للحرية”[3]. ولكن للنظر أولا في الحتمية التاريخية. فإذا كانت الحتمية مبدأ مقبولا يقول به لفيف كبير من المفكرين في ميدان العلوم الطبيعية من حيث أن لكل حادث سببا يتبعه بالضرورة، وأن مهمة العلم الطبيعي تقصي القوانين المتحكمة في أحداث الطبيعة، وإذا كان هذا الأمر ينطبق على الطبيعة برمتها، فهل يمكن أن نستثني من ذلك الكائن البشري بحيث يمكن أن نفسر مختلف الأحداث البشرية التاريخية والأفعال البشرية وفق مبدأ الحتمية؟

إن صيغا معينة من الحتمية تثير لبسا لا سبيل للاعتراض عليه فيما يتعلق بتحديد مسؤولية البشر إزاء أفعالهم حيث كانت دائما عاملا مساعدا على التنصل من هذه المسؤولية وكابحا لها. فلا يفتأ كما يقول برلين، “يذكرنا علماء الاجتماع بأن مدى الخيار البشري أكثر محدودية بكثير مما افترضنا، وذلك أن كثيرا من الأفعال التي افترضت غالبا أنها تقع ضمن نطاق سيطرة الفرد ليست كذلك في الواقع-وأن الإنسان شيء في الطبيعة (قابل للتوقع علميا) إلى درجة أكبر مما افترضنا أحيانا، وأن البشر يتصرفون غالبا بسبب سمات ناتجة عن الوراثة أو البيئة المادية أو الاجتماعية، أو التعليم، أو الصفات البيولوجية، أو تفاعل هذه العوامل في ما بينها أو مع عوامل أكثر غموضا تدعى السمات النفسية/العقلية”[4] ومن ثمة يمكن لنا تصنيف وإخضاع كل أفكارنا ومشاعرنا وتعابيرنا من حيث المبدأ لجملة من الافتراضات القوانين وفق مقتضيات المنهج المعتمد في تفسير الظواهر الفيزيائية، وهذا يؤثر يقينا في تصوراتنا حول المسؤولية وحدودها. وعلى هذا النحو لا يعاقب السارق وإنما يتعين معالجته إذا كانت السرقة استجابة لهوس السرقة، وقس على ذلك ما قد يقترفه البشر من آثام وأعمال تخريبية بحيث ينبغي معالجة مقترفيها لا عقابهم إذا ردّت إلى سمات الشخص الشريرة أو إلى أسباب نفسية أو اجتماعية محددة. ومن ثمة نبرئ ساحة هؤلاء ونعتبرهم غير مسؤولين على صنيعهم ذاك.

ولأجل ذلك، يصبح رسم الحد الفاصل بين الحرية والحتمية مسألة علمية حاسمة لا غنى عنها للتصدي للجهل واللاعقلانية ولتوفير بدائل تفسيرية جديدة تأخذ في عين الاعتبار مختلف العوامل أو الاكراهات التاريخية والنفسية والاجتماعية والبيولوجية لم تكن متاحة فيما مضى. كلا فليست الظواهر البشرية مجرد ظواهر سببية أو حتمية وإحصائية قابل للقيس العلمي وخلوة من كل حكم أخلاقي. وذلك دأب المؤرخون الذين يعتقدون في ذلك (اعتبار الأحداث البشرية سببية وإحصائية) حيث يلحون على استبعاد جميع الأحكام الذاتية وخاصة الأخلاقية منها في تفسير تلك الظواهر والتركيز فقط على العوامل الموضوعية سطوتها على التاريخ وعلى المحيط المادي الذي يعيش فيه الناس وعلى العوامل النفسية والاجتماعية وهي لست من صنع البشر بل تخرج عن نطاق سيطرتهم.

ومن السخافة عندئذ تصور الانسان غير مجبر بشكل كامل وأنه من بين جميع الكائنات لا يخضع للقوانين العلمية وهذا ما تشهد عليه أفعال البشر منذ البدايات، منذ أن أكل آدم التفاحة رغم أنه أمر بعدم أكلها حيث لم يعترف بأنه لم يستطع أن يمنع نفسه ولا حتى بأنه لم يفعل ذلك باختياره، بل عزى ذلك إلى حواء معتبرا أنها هي التي أجبرته على ذلك[5]. هذا وأن موقف كهذا من شأنه أن يلقي المسؤولية على عاتق أيّ كان فلا تثريب على أحد على شيء أتاه مهما يكن آثما في رأيه وفي رأي الآخرين، فذلك ما تربى عليه ونشأ، وأن انتماءه إلى جماعة أو ملة أو نحلة أو طبقة أو أمة يتيح لكل واحد من أعضاءها مثل ذلك الصنيع دون أن يدان أو يلام، أو أن ذلك مقترن بتركيبته السيكولوجية التي تفرض عليه أن ينتهج بصفة آلية ما انتهجه والديه أو أنه يخضع للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي فُرضت عليه بحيث ليس في وسعه إلا أن يفعل ذلك، أو أنه مجبر على طاعة الأوامر والامتثال لها.

وبالمحصلة ليس ثمة ما يدعو الناس إلى تبني الحتمية في التاريخ لأنها تناقض الحرية وتقضي عليها وتسلب الحياة العديد من المعايير الأخلاقية. وإن البراهين على الحتمية ليست قاطعة، وإذا ما قُدّر لها أن تكون معتقدًا وأن تدخل في البنية العامة للفكر والسلوك فإن معاني واستعمالات عدد من المفاهيم والكلمات الأساسية في الفكر البشري ستُلغى أو يجب أن تنقلب رأسًا على عقب وبعبارة أخرى إننا عادة ما نسم الأفعال الإنسانية بالخيرة أو الشريرة، وعادة ما نقول إن هذا الفعل محمود أو مذموم، وعادة ما يعود هذا الحكم على الفرد، ومن ثم فالقول بالحتمية مرادف للقضاء على حرية الاختيار وهي جوهر الحرية. وبعبارة أعم إن القول بالحتمية القيمية حسب برلين يتنافى مع القيم الأخلاقية من ناحية، ويقضي على الحرية من ناحية أخرى. ومن ثمة فإنه يرفض الحتمية حفاظًا على الحرية التي يقول فيها:

“ظل جوهر الحرية يكمن على الدوام في القدرة على اختيار ما ترغب في اختياره، لأنك ترغب في الاختيار على هذا النحو، دون إكراه، ودون ترهيب، ودون أن يبتلعك نظام واسع النطاق، وفي الحق في المقاومة، والخروج على السائد والمألوف، والدفاع عن معتقداتك لمجرد أنها معتقداتك أنت. هذه هي الحرية الحقيقية، ومن دونها لا توجد حرية من أيّ نوع، ولا حتى وهم خيالي يحلم بها”[6]

(2) مفهومان للحرية: الحرية السلبية والحرية الإيجابية

بيّن مما تقدم إذن، أن الحرية تحتل مرتبة الصدارة في فلسفة برلين، وهو على الرغم من إيمانه بنسبية مفهومها وتعدد معانيها يكتفي بمعنيين لها أحدهما سلبي والآخر إيجابي.

(أ)الحرية السلبية

يتعلق الأمر هنا بالإجابة عن التساؤل التالي: “ما هو المجال الذي يترك أو يجب أن يترك فيه لشخص (أو مجموعة أشخاص) أن يفعل أو يكون أو ما يقدر على أن يفعله أو يكونه دون تدخل الغير؟”[7]

يُقال عادة إني حر بالقدر الذي لا يسمح بتدخل أيّ كان فردا أو جماعة في نشاطي. والحرية السياسية بهذا المعنى تعني وببساطة المجال الذي يستطيع أن يعمل فيه الفرد دون عائق أو قيد يفرضه عليه الآخرون. فأنا لا أكون حرًا إذا منعني الآخرون من فعل شيء ما وإذا ما قُلص مجال حريتي إلى ما دون حدودها الدنيا ومتى حدث ذلك فإنني أكون عندئذ قد أُكرهت أو أجبرت على عمل شيء ما لا أرغب فيه أو أنيّ استعبدت.  على أن برلين يعتبر أن مفهوم الإجبار لا يُفسر مختلف أوجه المنع أو العجز. فإذا قلت إنني لا أستطيع أن أقفز في الهواء بعلو يزيد على عشرة أقدام، أو إنني لا أستطيع القراءة لأنني فاقد للبصر، أو إنني لا أستطيع فهم بعض كتابات هيجل، قلا يلزم عن ذلك ضرورة أن أقول إنني مستعبد أو مجبر. ومن ثم يذهب إلى أن الإجبار يتضمن تدخلًا متعمدًا من قبل عدد من الناس ينتمون إلى ذلك المجال الذي أتمتع فيه بحرية الفعل. ولذلك فإن الإنسان لا يفقد حريته السياسية أو استقلاليته إلا عندما يُمنع من تحقيق هدفه من قبل أناس آخرين، أما عجزه عن تحقيق هدف لا يعني فقدان الحرية السياسية.

وهذا معناه أن برلين يُميّز بين الإجبار المترتب على تدخل الآخر، وبين العجز الطبيعي أو فقدان القدرة على فعل معين، وبالتالي فالقول بفقدان الحرية بمعناها السلبي مرادف للإجبار أو مترتب عنه، وليس عن العجز الطبيعي لأن هذا العجز لا يعني الافتقار إلى الحرية. وما يجعلني أشعر بأنني ضحية إجبار أو استعباد هو اعتقادي بأن عجزي عن الحصول على شيء ما سببه أن الآخرين منعوني – أنا وليس غيري- من الحصول على ما به أحصل عليه. وبعبارة أخرى إن عجز الإنسان عن التمتع بالحرية لا يرجع لأسباب طبيعية، وإنما يرجع في المقام الأول إلى أن الآخر هو السبب المباشر الذي تدخل ليسلبني هذه الحرية. فحرماني من الحرية نتيجة ترتيب غير عادل وغير نزيه يعني أني كنت ضحية الاضطهاد أو الاستعباد الاقتصادي. “فالاضطهاد، يقول برلين، هو الدور الذي يلعبه الآخرون بأسلوب مباشر أو غير مباشر، أو دون أيّ نية أو قصد لإحباط رغباتي. أعني بالحرية بهذا المدلول عدم التدخل من الآخرين، وكلما اتسع هذا المجال – مجال عدم التدخل – زاد نطاق حريتي”[8]

ذلك ما معنى الحرية الذي كان يقول به الفلاسفة السياسيون الكلاسيكيون في إنجلترا. ويوضح أنهم قد اختلفوا في مدى المجال الذي يتمتع فيه الفرد بحريته. وافترضوا ألا تكون الحرية مطلقة لأن إطلاقتيها تؤدي إلى الفوضى مما قد يودي إلى فوضى تحول دون تحقيق الفرد الحد الأدنى من حاجاته. ويبدأ القوي بما يملك من حرية بقمع واضطهاد حرية الضعيف. ويوضح برلين أن المفكرين من معتنقي هذه الآراء يدركون أن الغايات والنشاطات لا تنسجم تلقائيًا في ما بينها، ولأنهم- مهما كانت سماتهم العقائدية – يبدون اهتمامًا بالغًا بأهداف أخرى كالعدالة، والرفاهية، والسعادة، والثقافة، والسلم، ومستويات مختلفة من المساواة، فقد كانوا على استعداد للحد الحرية من أجل قيم أخرى، بل من أجل حماية الحرية ذاتها. لذلك افترض هؤلاء أن يحد القانون مجال الفعل الفردي الحر. لكنهم افترضوا في مقابل ذلك وخاصة الليبيراليون منهم أمثال جون لوك وجون ستيوارت مل وتوكفيل (في فرنسا) ضرورة توفر حد أدنى من المجال الذي يستطيع الفرد فيه التمتع بحريته الفردية بحيث لا يسمح أن تُنتهك تحت أي مسمى كان أو أي ظرف كان حتى لا يجد الفرد نفسه في مجال ضيق لا يسمح له حتى بالحد الأدنى لتطوير قدراته الطبيعية وهذا من شأنه أن يحول بينه وبين تحقيق غاياته التي يراها صالحة أو صائبة أو مقدسة.

وهكذا يبدو ضروريا رسم الحدود التي تفصل بين مجالي الحياة الفردية والسلطة العامة. على أن تعيين تلك الحدود غير متفق عليه ويثير خلافا وجدلا وربما أيضا مساومة ومماحكة. فالناس يعتمد بعضهم على بعض وأنه لا نشاط خاص بشكل كلي بحيث لا يعوق حياة الآخرين وأن حرية البعض تحتاج إلى قمع حرية الآخرين.

ورغم متانة هذه الحجة إلا أنها برأي برلين تظل ضربا من الهراء السياسي وتزييف لوضع فئة من الناس كبلهم الفقر والشقاء والمرض والجهل ذلك أن الحرية ربما لا تعني شيئا وقد لا يستفيد البعض من تنميتها طالما أنه لا يمكنهم استخدامها ولم تتوفر شروط ممارستها بحيث تكون حاجتهم للتعليم والرعاية الطبية وسد رمقهم هي الأكثر إلحاحا. يحتاج الأمر إذن إلى إحكام ترتيب الأولويات قبلا، “فهناك حالات يكون فيها الحذاء أكثر أهمية وضرورة من بوشكين-حسب التعبير الذي ينسبه دستويفسكى بأسلوب هجائي إلى العدميين، والحرية الفردية ليست حاجة أساسية للجميع لأنها ليست غياب الإحباط من أي نوع كان”[9]. فالحاجة للدواء تسبق أو تفوق الحاجة إلى الحرية الفردية، في حين أن الحد الأدنى منها الآن وغدا تخص جميع البشر بقطع النظر عن مواقعهم.

ومن ثمة فإن ما يقلق ضمائر الليبراليين الغربيين ليس الاعتقاد بأن الحرية التي يطلبها الناس تختلف بحسب ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية، بل إن الأقلية التي تتمتع بها حصلت عليها باستغلال الأكثرية الساحقة التي حرمت منها. فإذا كانت الحرية الفردية هي الهدف الأساسي للناس كافة، في تقديرهم، فلا يجب أن يحرم منها أحد وألا يتمتع بها البعض على حساب البعض الآخر. والمساواة في الحرية، ومعاملة الآخرين كما أريد أن يعاملوني، وأن أسدد ديني لهؤلاء الذين يسروا لي الحصول على حريتي أو رخائي وتنويري، والعدالة بأبسط معنيها وأكثرها شمولا، هي الأسس التي قامت عليها الحرية الأخلاقية. ويعتقد برلين أن الحرية ليست غاية الفرد الوحيدة وفي ذلك كتب: “أستطيع القول مثل الناقد الروسي بيلنسكي “لا أريد الحرية لنفسي إذا سيحرم منها الآخرون، ويبقى إخواني البشر في إسار الفقر والبؤس والسلاسل، بل أرفضها رفضا قاطعا وأفضل مشاركتهم مصيرهم ولا نكسب شيئا من خلط التعابير. ومن أجل تجنب الظلم الفاضح والبؤس الكاسح أنا على استعداد للتضحية ببعض حريتي أوكلها: ربما أفعل ذلك عن طيب خاطر، لكني أتخلى عنها في سبيل المساواة أو العدالة أو حب إخواني البشر. وسوف يحتاجني الشعور بالذنب، وأنا محق، إذا لم أكن في ظروف معينة مستعدا لتقديم هذه التضحية. لكن التضحية لا تزيد من المضحى من أجله، أي الحرية، مهما اشتدت الحاجة الأخلاقية إليها أو التعويض عنها”[10]

 لا شيء يحل محل غيره، فالحرية هي الحرية وليست المساواة أو العدالة أو الثقافة أو السعادة أو الضمير المرتاح.  فإذا كانت حريتي أو حرية طبقتي الاجتماعية أو حرية أمتي تتطلب شقاء الآخرين، فإن النظام الذي يسمح بذلك هو نظام جائر وغير أخلاقي.  لكن إذا تنازلت عن بعض حريتي من أجل تقليص وصم عار مثل هذا الظلم دون أن يقترن ذلك بزيادة في حرية الآخرين ماديا فستفقد الحرية تماما وقد يعوض فقدانها كسب في مجال العدالة أو السعادة أو السلام لكن دون تفادي تفاقم خسارة الحرية الاجتماعية والاقتصادية. على أن القول بالحد من حرية البعض من أجل حرية البعض الآخر يظل قولا سديدا. وهذا معناه أن الحرية ليست مقدسة إلى حد لا يمكن المساس بها.

وفي حين اعتقد المتفائلون بالطبيعة البشرية من المقتنعين بإمكانية انسجام الغايات البشرية أمثال لوك وآدم سميث وجون ستيوارت مل أن التوافق الاجتماعي والتقدم يتوقفان على مقادر ومجال الحرية الفردية الخاصة، الذي يجب ألا تتجاوزه الدولة، أو أن تنتهك حرمته، يرى هوبس والذين يتفقون معه في الرأي من المحافظين والرجعيين بأن منع الناس من أن يدمر بعضهم بعضا وحتى لا تتحول حياتهم الاجتماعية إلى غابة، يفترض توفير وسائل حمائية وردعية أشد قوة من قوتهم تردهم عن ذلك. بيد أن الفريقان لا يختلفان في أهمية محافظة الفرد على هامش من الاستقلالية خارج نطاق السيطرة الاجتماعية يكون انتهاكه مهما يكن محدودا ضربًا من الاستبداد.

وكان أن بنيامين كونستان-وهو من أكثر المتحمسين للحرية والخصوصية الفردية والمدافعين عنها- قد نادى بضرورة حماية حرية الاعتقاد والرأي والملكية من أي انتهاك. وصاغ كل من إدموند بيرك وتوماس بين وجون ستيوارت مل لائحة بصنوف الحريات الفردية لكن الحجة على ضرورة التصدي للسلطة لم تتغير جوهريا[11].

 ويتعين على البشر أن يحافظوا على الحد الأدنى من حريتهم الفردية حتى لا يحطوا من طبيعتهم الإنسانية مادام ليس بوسعهم أن يكونوا أحرارًا بشكل مطلق بل عليهم أن يضحوا ببعض حريتهم حتى لا يفقدوا الجزء المتبقي منها. ويتمثل هذا الحد الأدنى في ذلك الجزء الذي إذا تنازل عنه الفرد انتهك جوهر طبيعته الإنسانية. وقد كان هذا الجوهر والمعايير التي يتوقف عليها دائما محل خلاف دائم. وبقطع النظر عن حدود مجال عدم التدخل في الحرية الفردية سواء تعلق بقانون طبيعي أو حق طبيعي او منفعة ومصلحة أو أمر قطعي، أو حرمة العقد الاجتماعي أو أي تصور آخر توسل من خلاله البشر تفسير اعتقاداتهم الراسخة وتبريرها، فإن الحرية هاهنا تعني “التحرر من”، وغياب التدخل والحرية الوحيدة التي تسمى حرية هي حرية السعي وراء مصلحتنا وفق طريقتنا الخاصة كما يقول بها مل. وهو تصور ينتهي إلى تبرير الإجبار ذلك أنه لما كانت العدالة تتطلب حدا أدنى من الحرية، فإنه يجب تقييد حرية الأخرين ومنعهم ولو استوجب ذلك استعمال القوة من أن يحرموا أحد منها وما من وظيفة للقانون غير منع مثل هذا الصدام حتى تضحى الدولة مجرد حارس ليلي أو شرطي مرور. وهكذا فإن الدفاع عن الحرية يتعلق بالهدف “السلبي” الذي يتمثل في “منع التدخل”[12]

ويخلص برلين إلى القول بأن هذه هي الحرية كما يفهمها الليبراليون. والمطالبة بالحقوق المدنية والحرية الفردية والتصدي لاضطهاد الفرد وإذلاله وتعدي السلطة العامة، تنبع كلها من هذه النزعة الفردانية. وحول هذه النزعة ساق برلين الملاحظات التالية:

– يخلط جون ستيوارت مل بين فكرتين واضحتين ومتميزتين: تتمثل الأولى في أن الإكراه أو الإجبار الذي يؤدي إلى إحباط الرغبات والأهداف أو كبتها، وإن كانت الغاية منه منع شرورا أشد سوءا، ممارسة سيئة، وفي عدم التدخل- وهو نقيض الاجبار – فائدة وإن كانت لم تكن الوحيدة، وهذا هو المفهوم “السلبي” للحرية في شكلها الكلاسيكي[13]. أما الثانية، فتتمثل في أن على الأفراد محاولة اكتشاف الحقيقة وذلك من خلال اتاحة الفرصة لتطور شخصيات بعينها تحمل صفات ناقدة إبداعية، ويمكن إنتاج مثل هذه الشخصيات في ظروف مناسبة من الحرية والاستقلالية. ورغم أن الميزتين ليبراليتان إلا أنهما ليستا متطابقتين، ومحاولة الرابطة بينهما تظل تجريبية في أفضل الأحوال. فليس ثمة ما يثبت أن ازدهار أو حرية التعبير يستحيل حيث تسحق العقائد الدغمائية مختلف أشكال التفكير برمتها. ويكشف أن الاستقامة وحب الحقيقة والفردانية المتوهجة قد تنمو في مجتمعات منضبطة بشكل صارم تمام كما تنمو في المجتمعات المنفتحة والمتسامحة. ومن ثمة تصبح حجة مل بأن الحرية شرط العبقرية والنبوغ لا أساس لها.

– إن مبدأ الحرية الفردية حديث نسبيًا، إذ من النادر كما يبدو وجود أي نقاش حوله بوصفه مثالا سياسيا واعيا في العالم القديم، وقد لاحظ كوندورسيه غياب فكرة الحقوق الفردية في التصورات القانونية اليونانية والرومانية ولا في أي من الحضارات القديمة الأخرى. كما لم تكن هيمنة هذه الفكرة القاعدة حتى في التاريخ الغربي الحديث، بل كانت استثناءا.

– إن الحرية بهذا المفهوم ذات أهمية كبرى، فهي لا تتنافر مع بعض أنماط حكم الأغلبية المستبدة أو مع غياب الحكم الذاتي، و بهذا المعنى تتعلق أساسا بمجال السيطرة والتحكم  لا بمصدره، وكما أن الديمقراطية قد تحرم المواطن من حريات عديدة يُسمح له التمتع بها في ظل نظام آخر، فمن الممكن تصور طاغية ليبرالي يسمح لأبناء شعبه بنسبة عالية من الحرية الفردية، فالطاغية الذي يسمح لرعاياه بمجال واسع من الحرية قد لا يكون عادلًا وقد يحض على اللامساواة المتطرفة ولا يُعير النظام أو الفضيلة أو المعرفة أي أهمية، فإذا فعل ذلك دون أن يكبت الحرية الفردية أو كان الكبت أقل مما هو عليه في الأنظمة الأخرى، فإنه بذلك يتطابق مع  مواصفات مل، والحرية بهذا المفهوم لا ترتبط بالديمقراطية أو بالحكم الذاتي.[14]

 

 (ب)الحرية الإيجابية

يتعلق الأمر هنا بالإجابة عن التساؤل التالي: “ما أو من هو مصدر السيطرة أو التحكم أو التدخل الذي يمكن لشخص أن يقرر ما يفعله أو ما يكونه؟”[15]

إن المفهوم الإيجابي للحرية ينبثق عن رغبة الفرد في أن يكون سيد نفسه[16] فأنا أرغب في أتكون حياتي وقراراتي نابعة من ذاتي وليس أبدا من  قوى خارجية، أرغب في أن تنبع أفعالي من إرادتي لا إرادة الآخرين، أرغب أن تكون إرادتي مستقلة عن وصاية الآخرين وأن أكون فاعلا لا منفعلا،  وأن أهتدي في حياتي بغايات وأهداف شخصية واعية، لا بغايات تُفرض عليّ، أرغب في أن أكون صاحب شأن وليس نكرة عديم الشأن و أن أُقدر بنفسي ما أرغب في القيام به لا أن أفعل ما يُملى علي، وأن أكون مُوجِهًا لا موجَهًا من قبل آخرين، وكأنني شيء أو حيوان أو عبد ليس في استطاعته القيام بدور إنساني يدرك أهدافه ويفكر فيها ويختار أساليب ومناهج شخصية يرغب في تحقيقها.

تبدو الحرية التي تجعل الفرد سيد نفسه لا تختلف كثيرا من الناحية المنطقية عن الحرية التي ترتكز على عدم تدخل الآخرين لمنعي من الاختيار حتى لكأننا نعبر عن الشيء ذاته بطريقتين مختلفتين إيجابية وسلبية، إلا أن تطور المفهومين “السلبي” و”الإيجابي” للحرية في اتجاهات متشعبة وعلى نحو غير منطقي أدى إلى التصادم بينهما.

وتبدو الاستعارتين “أنا سيد نفسي” و” لست عبدًا لأحد” منذ الوهلة الأولى لا شية فيهما.  ولكن ألا يمكن أن أكون عبدًا للطبيعة؟ أو لنزواتي التي لا يمكن السيطرة عليها؟ أليست هذه أصنافًا من العبودية، أليس البعض عبيدا للسياسة، والبعض عبيدا لقوانين أخلاقية أو روحية؟ أَوَلم يمر الإنسان بتجربة التحرر من الاستعباد الروحي أو الطبيعي مما مكنه من أن يكتشف بأن في داخل ذاته جانبًا مسيطرًا رفيعًا ساميًا وجانبًا متدنيًا لابد من كبحه والسيطرة عليه؟[17].

ورغم أن البعض يرى في استعمال مثل الاستعارات الحيوية مجازًا لتبرير إجبار بعض الأفراد من قبل البعض الآخر من أجل الارتقاء بهم إلى مستوى أعلى من الحرية يثير بعض المخاطر، إلا أنه يظل وجيها من وجهة نظر برلين حتى أنه يعتبر أنه يمكن تبرير إجبار الفرد على القيام بفعل من أجل تحقيق أهداف معينة كالعدالة والصحة العامة، وهو ما يستطيع الأفراد- إذا كانوا على درجة من الثقافة والعلم- القيام به دون أن نجبرهم على ذلك. إلا أنهم لا يأتون ذلك لأنهم مصابون بالعمى والجهل والفساد. ومن ثمة فإنه من السهل عليّ أن أدرك السبب الذي يجعلني أجبر الآخرين باسم مصلحتهم هم لا مصلحتي أنا وأدّعي أني أدرى منهم بحاجتهم. ولن يعترضوا على ذلك، في الغالب، لو كانوا حكماء مثلي وتعنيهم مصلحتهم كما تعنيني. لكن تتخفى خلف ذاتهم المسكينة التجريبية ذاتا حقيقية تنكر وجودها مشاعرهم وأفعالهم وأقولهم المعلنة، هذه “الروح الجوانية” هي الذات الوحيدة التي ينبغي أن تأخذ في عين الاعتبار. “وما أن اتبنى هذا الرأي حتى احتل موقعا يتجاهل الرغبات الحقيقية للبشر (أو المجتمعات)، ويستأسد عليهم ويقمعهم، ويعذبهم باسم، ونيابة عن، ذواتهم “الحقيقة”، اعتمادا على أمان معرفة أن هدف الإنسان الحقيقي مهما كان (سعادة، أداء واجب، حكمة، مجتمع عادل، تحقيق أهداف الذات) يجب أن يتطابق مع حريته-حرية ذاته “الحقيقية” في الاختيار، على الرغم من كونها محتجبة وصامتة في كثير من الأحيان”[18].

ولقد تم الكشف عن هذه المفارقة مرارا، ذلك أنه يوجد اختلافًا في القول بأنني أعلم مصلحة فلان بينما لا يعرف هو ذلك، وقد أتجاهل رغباته من أجل مصلحته، وبين قولي إن فلانًا مارس الاختيار بحكم طبيعته لا بكامل وعيه، ولا كما يبدو في حياته اليومية، بل كذات عقلانية قد لا تعرفها ذاته التجريبية، أو كذات حقيقية تُدرك ما هو صالح ولا بد من اختياره.  ويؤكد برلين على أن هذا السجن الوحشي الذي يجعل ما يختاره فلان إذا ما أصبح شيئًا يُخالف طبيعته وبين ما ينشده هذا الفلان حقيقة وما يرغب في اختياره هو النواة لكل النظريات السياسية المتعلقة بإدراك الذات، وإذا قلت إنني قد أُجبر على شيء لمصلحتي التي لا أستطيع إدراكها بسبب عمى بصيرتي، أي إن في هذا الإجبار مصلحتي، فإن هذا القول يختلف تمامًا عن قولي: لو كان الإجبار في مصلحتي فلا أكون بذلك مكرهًا لأن ذلك الإكراه تم بوعي أو من غير وعي، وأنا حر حقيقة، حتى عندما يرفض ذلك جسدي الدنيوي الضعيف وعقلي الأحمق وبذلا كل ما وسعهما ضد أولئك الذين يسعون إلى فرضي مصلحتي بغض النظر عن دوافعهم الخيرة.

ويصر برلين في نهاية المطاف على أن الحرية بالمعنيين المُشار إليهما في ما تقدم هما غاية البشر القصوى إلا أنه يعترف بأنهما محدودان وليسا بمنأى عن التوظيفات الإيديولوجية السالبة ولا عن التحريف والانزياح الذي يناقض جوهرهما، كأن نفسر الحرية السلبية ب “انعدام التدخل” الاقتصادي وما قد يترتب عن ذلك من أضرار ومخاطر قد تلحق بصحة العمال في المناجم أو المصانع، أو أن نبلغ فقيرا بأن له الحرية بأن ينزل فندق فخم حتى وغن لم يكن قادرا على تسديد نفقاته الباهظة. وهذا مين وخلط، لأنه في الحقيقة، إن يكن حرا في النزول في مثل ذلك الفندق، فإنه تعوزه الوسائل التي تكفل له ممارسة حريته[19].

وأما الانحرافات والتشويهات التي عرفتها الحرية الإيجابية تاريخيا فهي أشد هولا فلقد استغل طغاة العالم عبر التاريخ هذه الحرية لممارسة أشد صنوف القمع نذالة وخسة باسم ذات متعالية (أمة أو حزب أو كنيسة…) توسلوا في بلوغها أشنع وأفظع الوسائل وحشية لإخضاع الذات التجريبية وإجبارها على الطاعة والإذعان[20]

 

خاتمة

لقد استحدث هذا الكتاب تاريخا في صلب تصور النظريات الليبيرالية الحديثة للحرية وفتح جدلا كبيرا ولم تكن مقالاته بمنأى عن سهام النقد[21]، من ذلك مثلا أن مارشال كوهين اعتبر أن برلين فشل في التمييز بين الحرية السلبية والحرية الإيجابية وأن مقاربته للحرية لا تعدو أن تكون سوى تأويلا ضيّق الأفق للفلسفة الليبيرالية ينم عن سوء فهم لما أسماه الحرية السلبية مما ترتب عنه غموض في تمثل مختلف أبعاد العلاقة بين الحرية والحكم الذاتي ومن ثمة صياغة تصور مغلوط للحرية الإيجابية ويعود ذلك برأيه إلى أن التمييز الذي ارتآه برلين في ذلك ظل حبيس التبرير المنطقي وأن كل ما قدمه بشأن الحرية لم يكن نابعا من حبه لها بقدر ما هو نابع من كراهيته الشديدة للاستبداد[22].

وفي ذات الاتجاه اعتبر جيرالد ماكالوم أن هذا التمييز ملتبس مفهوميا وتاريخيا. فكل ما هنالك مفهوم أساسي واحد للحرية يلتقي فيه كل الليبيراليون سواء من دعاة الحرية السلبية أو من دعاة الحرية الإيجابية وأن الاختلاف بين الفريقين يتعلق فقط بالكيفية التي يُفسّر بها هذا المفهوم الأحادي للحرية. ويقول ماكالوم بوجود تفسيرات مختلفة ومتنوعة للحرية، ولكن التقسيم الثنائي المفتعل الذي فرضه برلين هو الذي قادنا للتفكير بهذه الثنائية. يعرّف هذا الأخير المفهوم الأساسي للحرية – وهو مفهوم يتفق عليه الجميع – كالتالي: وجود فاعل متحرر من قيود محددة، أو ظروف قاهرة تمنعه من أن يصبح شيئاً محدداً أو أن يقوم بأشياء محددة. ومن ثمة تتحدد الحرية ضمن علاقة ثلاثية الأبعاد: الفاعل، والظروف المانعة، وما يقوم به أو يصبح عليه الفاعل[23]. وباختصار لا يوجد فصل مبسط بين الحرية الايجابية والحرية السلبية، كما لا يمكن اختزالها في هذين المعنيين، بل يجب أن نعترف بوجود نطاق كامل من التفسيرات أو “التصورات” الممكنة للحرية.

 

 


الهوامش:

[1] الحرية، ص 418

[2] ما بين ص 145وص 225 من كتاب الحرية، وهو في الأصل محاضرة ألقاها في الخمسينيات من القرن العشرين

[3] ما بين ص 227وص 287 من المصدر نفسه، هو أيضا محاضرة ألقاها في الفترة ذاتها لما باشر عمله كأستاذ بجامعة أكسفورد

[4] المصدر نفسه، ص 178-179

[5] المصدر نفسه، ص 414

[6] إشعيا برلين، الحرية وخيانتها، لندن وبرنستون، 2002، وردت في كتاب الحرية، ص 6، اعتمدها المحقق كتصدير للكتاب.

[7] المصدر نفسه، ص 230

[8] المصدر نفسه، ص 232

[9] المصدر نفسه، ص 233

[10] المصدر نفسه، ص 234

[11] المصدر نفسه، ص 335

[12] المصدر نفسه، ص 337

[13] المصدر نفسه، ص 237

[14] حول هذه الملاحظات الثلاثة، أنظر، المصدر نفسه، ص 237-239

[15] المصدر نفسه، ص 230

[16] المصدر نفسه، ص 241

[17] المصدر نفسه، ص 242

[18] المصدر نفسه، ص 243

[19] المصدر نفسه، ص 419

[20] المصدر نفسه، 420

[21] المصدر نفسه، الفصل الخاص ببرلين ونقاده، لإيّان هاريس

[22] Cohen, Marshall (1960). “Berlin and the Liberal Tradition”. The Philosophical Quarterly, vol.10, no.40. pp.216-227

[23] McCallum, Gerald (1967), “Negative and Positive freedom”, Philosiphical Review 76, pp. 312-334