مجلة حكمة
لم ندرس الفلسفة ؟ حوار مع ريبيكا غولدستين / ترجمة: نوال الراجحي

لم ندرس الفلسفة ؟ حوار مع ريبيكا غولدستين / ترجمة: نوال الراجحي

zGwTm3T6
هوب ريس

مقابلة مع ريبيكا نيوبرغير قولدستين، مؤلفة كتاب “أفلاطون في قوقل بليكس”، بعنوان “لم ندرس الفلسفة “، أجرتها هوب ريس


صار من الوارد تهميش الدراسة الفلسفية حين غيرت العلوم والتكنولوجيا الحديثة فهمنا لما يدور بداخلنا، أدلى ستيفن هاوكينق برأيه بقوة وقال: قد اندثرت الفلسفة!

ولكن الأمر مختلف جداً بالنسبة للروائية والفيلسوفة ريبيكا نيوبيرقر قولدستين. درست قولدستين الفلسفة في جامعة بارنارد وحصلت على شهادة الدكتوراة في الفلسفة في جامعة برينسيتون. كتبت عدة كتب، وفازت بمسابقة ماك آرثر لجائزة العباقرة في سنة ١٩٩٦م، ودرَّست في مختلف الجامعات؛ منها: بارنارد وكولومبيا ورتقريز وأخيرا برانديز.

قدم كتاب قولدستين القادم “أفلاطون في قوقل بليكس: السبب وراء بقاء الفلسفة وعدم اندثارها” لمحة عن التطور البليغ الذي صنعته الفلسفة، والذي لا يُرى غالبا. ناقشتُ قولدستين عن مناظرة العلوم ضد الفلسفة التي قامت بها والتي تتحدث عن كيفية قياسنا للتطورات التي أحرزتها الفلسفة وعن أهمية الفلسفة للحياة المعاصرة.

سبق وقد قرأتِ وأنت طفلة قصة الفلسفة لويل دورانت. ماذا كانت أول أفكارك عنها؟
ترعرعت وسط عائلة يهودية أرثوذكسية متدينة جداً، وكان للجميع رأي ثابت لمختلف الأسئلة الأساسية. كنت مهتمة جداً بكيفية معرفتهم لما يعرفون أو يزعمون بمعرفته. وهذا ما أسميه الآن السؤال المعرفي. سُمح لي بالقراءة في مختلف الكتب ومن ضمنها كتاب “قصة الفلسفة”. كنت في الحادية أو الثانية عشر من عمري وقد كان فصل أفلاطون أول تجربة لي أخوضها كنوع من غياب الوعي الفكري، فقد أبحرت  بعيداً عن نفسي. كان هناك العديد من الأشياء التي لم أفهمها، ولكن ثمة شيء معنوي وأبدي ساعد في كل الظواهر المتغيرة في العالم. وردت كلمة “الأوهام” في الفصل، وهي من الكلمات التي احتجت للبحث عن معناها بسبب قلة مصادفتي لها. لم أستوعب ما كنت أقرأ بالكامل، ولكني ذهلت بروعته.

متى بدأتِ دراستك الأكاديمية للفلسفة؟
لم أتخيل يوما بأني سأدرس الفلسفة. أحببت العلوم وقرأت العديد من الكتب وأنا صغيرة، وأفسدت مطبخ أمي بمحاولاتي لتطبيق التجارب الكيميائية. كان هناك العديد من الأشياء التي تجذب انتباهي، وأكثر ما كان يجذبني للفلسفة هو مقدرتي على الاطّلاع في شتى المجالات من خلالها. يوجد في أغلب المجالات جزء مرتبط بالفلسفة، مثل: فلسفة اللغة، وفلسفة السياسة، وفلسفة الرياضيات. كل ما كنت أطمح لمعرفته؛ استطعت الوصول إليه من خلال الفلسفة.

ماذا كان رأي عائلتك المتدينة حول دراستك واهتمامك بالفلسفة؟
لم تكن والدتي مرتاحة البتة. أرادت أن أكون تلميذة مجتهدة ولكن دون أخذ ذلك على محمل الجدية، كانت خائفة من ألا يرغب أحداً بالزواج من إمرأة مدمنة للكتب، ولكني تزوجت في التاسعة عشر من عمري! لم أكن طفلة متمردة، اتّبعت كل القوانين، ولكن المشكلة أنه سُمح لي بالتفكير بما يحلو لي، حتى أني قررت وأنا في عمر صغير ألا أؤمن بأي منه لطالما أن هناك ما يسمى بالحرية العقلية. لهذا السبب كان الأمر مناسبًا لعائلتي.

في أي عمر تعتقدين أن باستطاعة الأطفال البدء بدراسة الفلسفة؟
بدأت بوقت مبكر جدًا مع إبنتاي؛ فهنّ يقلن أشياء مثيرة للإهتمام، لو كنت ماهرًا في الفلسفة ستلاحظ أنها أحد أهم الأقوال الفلسفية. أجمل ما في الأطفال هي طريقتهم العادية في التفكير وذلك يرجع لعدم اقتران الخطط المفاهيمية لديهم حتى الآن. عندما كنت أنادي  طفلتي الصغيرة واقول “دانيل” ترد علي بكل ثقة وتقول “ أنا لست بدانيل! أنا شيء” فكنت أسأل نفسي ما الفكرة التي تحاول أن توصلها إلي؟ سيبدو ذلك سخيفاً بعض الشيء ولكن كانت تحاول أن توصل لي فكرة الأنا المتسامية كما قالته إيمانيول كانت؛ التي تقول أنك لست بشيء كباقي الأشياء في العالم، أنت من تعيش الأشياء الأخرى، وتجمعها مع بعضها البعض. هذا ما كانت تحاول إبنتي الصغيرة قوله لي. أو عندما كانت إبنتي الأخرى ذات الست سنوات في ذلك الحين، كانت كثيرة الإيماءات بيديها خلال الكلام، وبينما تفعل ذلك اصطدمَت بكأس العصير فقالت لي: “أنظري لما فعله جسدي!” فقلت لها: “ألم تفعلي ذلك بنفسك؟” ثم قالت: “لست أنا، بل جسدي من فعل ذلك”. ففهمت حينها أنها تقصد الثنائية الديكارتية، والتي تعني أنها لم تنوي فعل ذلك، وعرَّفت نفسها بالذات المتعمدة. كان تفكيرها رائع جداً بالنسبة لي.

يحب الأطفال المجادلة؛ بإمكانهم مجادلتي حول أي شيء، فلو كانت مجادلة جيدة كنت أخذها على محمل الجد لأرى إن كان باستطاعتهم تغيير رأيي حول الموضوع. إنها تعلمهم ذاتية النقد؛ حيث يمكنني النظر لأرآئهم ومعرفة نقاط ضعفهم. تساعدهم المجادلة في الدفاع عن مواقفهم، وأخذ مواقف الآخرين بجدية، وأن يكونوا قادرين على تصحيح أنفسهم، وعلى الصبر وأن يصبحوا مواطنين جيدين، وألا ينجرفوا بفعل الغوغائية. أيضا لجعلهم يفكرون بالآراء والأفكار الأخلاقية. يمتلك الأطفال نزعة تفردية طبيعية. جميع الأطفال في عمر الثلاث سنوات يقولون “هذا ليس من العدل”، إذن استخدم هذه الفطرة لجعلهم يفكرون بالعدل. سيشعرون بنوع من الأهلِيَّة، ولكن ما المميز فيهم؟ ما الذي يعطيهم الشعور القوي بالإنصاف والعدل؟ فهم فلاسفة بالفطرة ومرنين جدًا. يزيد ضغط الأطفال من زملائهم في سن معين. يريدون أن يصبحوا مثل الجميع، ولكن ما وجدته هو أن غرس هذا التفكير -التفكير المطلق- سيربطهم بهذا التفكير حتى سنوات المراهقة، ويعود لهم بالمنفعة. إنه بالفعل مقوي.

ما هي التغيرات التي وجدتيها في منهج الفلسفة على مدى الأربعين سنة الماضية؟
أكثر ما تغير هو اهتمام النساء بهذا المجال. عُني بالأدب والفلسفة واستخدام الأدب كاختبار فلسفي بشكل كبير. أسعدني هذا الشيء جدًا بسبب أنه كان يُنظر إلي كفيلسوفة تحليلية مخلصة، لاحظت تعجب الناس عندما بدأت بكتابة أول الروايات، ولكن الوضع تغير بالكامل. بدأ الناس بأخذ الأدب بكل جدية، خاصة في الفلسفة الأخلاقية، كالتي في التجارب الفكرية؛ أغلب التجارب الفكرية المطورة والمؤثرة كانت نتيجة للروايات، كما تساعد الروايات في صنع التقدم الأخلاقي بسبب تأثيرها على مشاعر الناس.

صحيح، أظهرت دراسة حديثة بأن قراءة الأدب تساعد في زيادة تعاطف الناس.
بالطبع؛ هي تُغير من نظرتنا لما يمكن تصوره. الخيال التجاري الذي لا يتحدى نظرة الناس النمطية للشخصيات، لا يؤثر على مقدرتهم لفهم بعضهم البعض بشكل أفضل، بينما يؤثر الخيال الأدبي بشكل كبير. كثير من الفيلسوفات تحدّثن عن هذه النقطة. بدأت مارثا نوسباوم هذا المنطلق بقولها أن الأدب يحمل أهمية فلسفية من عدة نواحي، وبأن مما تغير اتّساع استعمال الفلسفة التطبيقية؛ حيث صرنا نطبق النظريات الفلسفية على مشاكل الحياة الحقيقية، مثل أخلاقيات مهنة الطب، والأخلاقيات البيئية، وقضايا الجنسانية. هذا تغير كبير بالنسبة لما كان عليه الوضع ف السابق؛ حيث كنا ندرس الفلسفة كنظريات فقط.

في كتابك الجديد، أجبتِ على الإنتقادات التي تقول بأن الفلسفة لا تتطور وتتقدم كما يحدث في المجالات الآخرى. على سبيل المثال: في الفلسفة، على غير الحال في المجالات الأخرى، تعتبر الشخصية التاريخية القديمة مثل أفلاطون قريبة لما هو الحال اليوم.

هناك ادعاء يقول بأن التقدم الوحيد للفلسفة هو إظهار المشاكل التي يمكن للعلماء حلها. وأن الفلسفة لا تملك الوسائل لحل هذه المشاكل، عليهم الإنتظار حتى يأتي العلماء لحلها. تسمع هذا الإدعاء معظم الوقت. وهناك تحيز ضد الفلسفة الحقيقية بين بعض العلماء. والشعور بأن الفلسفة ستختفي بنهاية المطاف. وعلى الرغم من ذلك، إلا أن هناك الكثير من التقدم الفلسفي الذي لا يُرى. من الصعب رؤيته، لأننا نرى من خلاله، ولأننا نوحد التقدم الفلسفي مع طريقتنا الخاصة في نظرتنا للعالم. سيتفاجأ أفلاطون باستمرار بما نعرفه؛ ليس فقط فيما يخص العلوم أو التكنولوجيا، بل بما نعرفه أخلاقيًا. فنحن نأخذ كثيراً من المُسلّمات، مثل أن حقوق الفرد الأخلاقية لها قدر من الأهمية؛ الطبقة والجنس والدين والعرق لا تهم بقدر أهمية الحقوق الفردية.. لن يخطر بباله هذا التغير. أخبرنا أفلاطون، في كتابه “الجمهورية”، أنه يجب أن تعامل جميع اليونانيين بنفس الطريقة. لم يكن يخطر بباله أنك سوف تعامل غير اليونانين بنفس الطريقة أيضًا.

إنه لمن المدهش كم استغرق هذا التغيير من الوقت، ولكننا أحرزنا تقدمًا، وفي الغالب فإن المناظرة الفلسفية هي من وضعت الفكرة الأولى بحاجتنا لتوسيع دائرة الحقوق، ولصنع تغير اجتماعي حقيقي نحتاج لأكثر من ذلك، نحتاج للتحرك والنشاط والمشاعر. تبدأ كمناظرة، ولكن في آخر المطاف تصبح حقيقة. مسارات العمل الفلسفي مُحيت بسبب وضوحها البديهي. المناظرات ضد الرق، ضد العقوبة القاسية، ضد الحروب الغير عادلة، ضد المعاملة القاسية للأطفال، جميعها كانت مناظرات.

أي من المجادلات الفلسفية التي رأيتيها غيّرَت من حديثنا الوطني، غيّرَت مما كنا نعتقد أنه واضح جدا؟
منذ حوالي ثلاثين سنة، بدأ الفيلسوف بيتر سينقر بالجدال حول الطريقة التي تُعامل بها الحيوانات في مزارعنا، ظنّ الجميع أنه مجنون، ولكني شاهدت هذا التحرك يكبر ويصبح مؤثرًا. يجب أن يكون مؤثراً، ويجب أن يتعاطف الناس معه. هذه هي القاعدة البسيطة، يُحدِثُ الفيلسوف جدالاً، ويُهمشه الجميع، ومن ثم يبدأون بمناقشة الموضوع. أخذ الموضوع على محمل الجد يبدأ حينما ينتقده الناس، أو عندما يرونه كموضوع غير صالح. هذا ما يجب أن نعلمه أطفالنا. يجب عليهم أن يأخذوا الأشياء بشكل جدي، حتى غير البديهية منها. يُغير الجدل ما كان بديهياً قبل جيلين. نحن مخلوقات مصابة بالقصور الذاتي؛ لا نحب أن نغير طريقة تفكيرنا، خاصة لو كانت غير مريحة بالنسبة لنا. وبالطبع فإن الأشخاص ذوي السلطة لا يسألون أنفسهم ما إن كان عليهم الإحتفاظ بهذه السلطة أم لا. إذن  قد يستدعي التغلّب على ذلك الكثير من العمل الشاق.

كيف بإعتقادك يجب أن تُدرس الفلسفة؟
أغضب حين أُقدم الدروس ولا يقاطعني الناس بالأسئلة بعد كل كم جملة. هذه طريقتي في التدريس، ولكنها نادراً ما تحدث؛ أحاول جاهدة أن أشد التلاميذ للتفكير بأنفسهم، وكلما تحدوني بالأسئلة كلما شعرت بأني أستاذة ناجحة. يجب أن يكون الجو نشطًا. استخدم أفلاطون التشبية في تدريس الفلسفة، والذي يقول بأنه من المهم توفر النار في المدرس، وأن الحرارة ستساعد في إشعال هذه النار داخل التلاميذ.. ستشتعل بسبب القرب للحرارة.

ما شعورك عند تدريس الفلسفة لطلاب من ثقافة مختلفة؟
أستاذ الفلسفة الجيد يجب أن يكون على دراية بالشخصيات المختلفة في الصف؛ سبق ودرست تلاميذ ممن شعروا بعدم الراحة حيال الموضوع، واحتاجوا للكثير من المراعاة والمساعدة. أتى بعضهم من ثقافة متدينة جدًا بحيث أن مجرّد الأسئلة جعلتهم يتراجعون، أما بعضهم فأصبحوا من أقوى التلاميذ، اثنان منهم أصبحوا فلاسفة مؤهلين وناجحين. ولكنهم احتاجوا للكثير من الوقت الإضافي بسبب شعورهم بعمق الفلسفة. فأنت تسأل لتفكّر مرة أخرى في كل الآراء والمعتقدات، وعندما ترى أن الأساس غير ثابت؛ سيبعدك هذا عن عائلتك ونشأتك. مررت شخصياً بهذا الامر. رحلتي الفلسفية أبعدتني عن عائلتي، أكثر أحبائي، كان صعبا جدًا بالنسبة لي، لذلك أعلم ما يمرون به. كونها مسيرة صعبة.

ماذا حصل لشعبية الفلسفة كموضوع رئيسي منذ أن كنتِ تدرسينه؟
انخفض جدًا. أصبح طلاب كليتنا عمليين أكثر؛ خلاف وقتنا حين كنا في أواخر ذروة الحركة الجذرية، كان زمناً يعكس الفلسفة بحق، أما الآن فأصبحوا يريدون الحصول على وظائف جيدة وأن يغتنوا بسرعة.

على الرغم من حقيقة أن الكثير من الطلاب يواجهون دين هائل واقتصاد قاتم، كيف تستطيعين توجيههم لدراسة الفلسفة؟
لا أقول بأن عليهم الخوض في الفلسفة، لأن هذا المجال وبصراحة لا يتحمل كمًا هائلًا من الناس، ولكني أقول أنه من الجيد أن تتعلم، وأن تتمكن من التفكير النقدي بغض النظر عن ما تدرسه؛ لتتحدى وجهه نظرك يجب أن تكون جزء من هذا العالم، أن تعلم ما هي مسؤولياتك. كل يوم من حياتك ستُخيَر بالعديد من الإختيارات الأخلاقية، وستُثري حياتك الخاصة. لديك الكثير من الأنظمة لتطبقها على مشاكلك والكثير من الطرق لتفسير الأشياء، فالفلسفة تجعل الحياة مشوقة جداً، إننا بكامل إنسانيتنا، والفلسفة تساعدنا على زيادتها، بغض النظر عن ما تفعله، هذا من الأصول.

ما هو باعتقادك أهم القضايا الفلسفية في الوقت الحاضر؟
التوسع في المعرفة العلمية أظهرت قضايا فلسفية جديدة. مثل فكرة العالم المتعدد. أين نكون في هذا العالم؟ أذهلتنا الفيزياء بهذه الفكرة. السؤال الحقيقي  هل هذه النظريات العلمية علمية حقاً؟ هل سنخرج بتنبؤات منها؟ ومع النمو في العلوم المعرفية وعلم الأعصاب، بدأنا نتعمق بالدماغ ونصور أشكاله؛ هل سنكتشف ما نحن عليه فعلا؟ هل سنجد حل مشكلة الإرادة الحرة؟ هل سنتعلم  بأنه لا يوجد ما يسمى بالإرادة الحرة؟ كم ستخبرنا التطورات في علم الأعصاب عن القضايا الفلسفية العميقة؟ هذه هي الأسئلة التي يواجهها الفلاسفة الآن! ولكني أعتقد أيضا إلى حد ما بأن مجتمعنا بدأ يصبح علمانيًا أكثر. إذن فالسؤال عن كيفية العثور عن معنى لحياتنا، بالنظر إلى أن الكثيرين لم يعودوا ينظرون إلى التوحيد كمعنى لحياتهم كالسابق، ومع تراجع الدين؛ هل هناك شعور بإختفاء معنى الحياة والرد السهل المستهلك الذي كان يشغله الدين؟ هذا ما يجب أن يتناوله الفلاسفة.


المصدر