الليبرتاريون و الحرية
لكن لماذا يريد الإنسان العيش حرا؟ إن تحمل مسؤولية الحياة الخاصة أمر محفوف بالمخاطر، ومثير للقلق. كم من شخص منا يريد حقا عيش هذه المغامرة؟ تتطلب الحرية الإيمان بالمبدأ التالي بكل وضوح: إذا كنا نعتز بها، لنناضل إذن من أجلها. لكن في كل مكان تقريبا، يعيش الناس في حالة عبودية صارمة أكثر أو أقل قليلا. كثيرا ما يسلطون هم أنفسهم هذه العبودية عليهم، لما يصوتون من خلال الديمقراطية. ولا يمر هذا دون أن ينتج مفارقة، إذ كيف لي أن أكون حرا إذا لم تتوفر لي الحرية في التخلي عنها؟ إذا كان يحلو لي، أنا الرجل الحر، أن أصبح عبدا…
وبالفعل، إذا كنا نملك حريتنا كما نملك الأوراق المالية في البورصة، سيكون بإمكاننا تبادلها مقابل قيم أخرى؛ كالأمن، أو عظمة الأمة، أو قضية الشعب، على سبيل المثال. لكن الحال ليس كذلك. فالحرية ليست كمية قابلة للقياس كي تخضع بالتالي للتبادل. لا يمكننا التخلي عن وحدات من الحرية مقابل الضريبة، أو التخطيط المركزي، أو المراقبات البيروقراطية، والحصول مقابل ذلك على وحدات مجانية من السلام والثقافة والصحة.
يمثل هذا النوع من عروض التبادل (الحرية مقابل الأمن) الاقتراح غير الشريف الذي يقدمه الديمقراطيون الاجتماعيون. ومن أجل جعل هذا التبادل يتقدم، فإنهم أسسوه بشكل كامل على تصور آلي للإنسان. لقد تصوروا إنسانا اقتصاديا homo economicus لا يعترف من بين كل القيم الإنسانية إلا بالقيم الاقتصادية القابلة للقياس، تلك القيم التي يمكن أن تكون محور تبادل. وبعبارات أخرى، لم يروا في حرية كائن بشري إلا رأسمالا قابلا للتبادل مثل أي سلعة أخرى، وبالتالي جردت الديمقراطية الاجتماعية حياة هذا الكائن البشري من كل بعد معنوي. إذ لماذا يجب علينا أن نكلف أنفسنا بالعمل وإرساء علاقات إنتاجية سليمة مع الطبيعة ومع الناس الآخرين، ولماذا يجب علينا أن نذخر الوقت ونصون أفعالنا، لماذا يجب علينا أن نتحلى بالعقلانية وبالحكمة، إذا كان ذلك كله من أجل تحصيل السلع المادية الضرورية لرفاهنا، لأنه بإمكاننا التنازل عن حريتنا وأن يخدمنا رجال الدولة على حساب حرية الآخرين؟
تعلمنا الحكمة أن السعادة تنشأ من وراء نشاط يتلائم ومعاييرنا الأخلاقية. لكن الديمقراطيين الاجتماعيين يعمدون إلى إقناع عدد كاف من الناخبين أن هذا التعريف عفا عليه الزمن، أما السعادة الحديثة في نظرهم فهي الاشباع الفوري للرغبات. لكن ألا يعد المرتب والتقاعد المضمون والضمان الاجتماعي والسكن اللائق رغبات ذات أولوية؟ بينما الموارد الضرورية لتحصيل هذه السلع يكفي إعادة توزيعها كما يتصورون؟
إن أي سياسي لا يمكنه أن يعدنا إلا بتقديم سلع مادية في حال انتخابه. ولا يمكنه بالتالي أن يقدم لنا الحكمة أو الحب أو الصحة السليمة… وبالتالي فهو يسعى إلى إقناع مجتمع الناخبين أن القيم الوحيدة المطلوبة هي القيم الاقتصادية. وبما أن التنظيم السياسي للمجتمع يسمح لرجال الدولة بمصادرة جزء من الأملاك الاقتصادية لأقلية من أجل إعادة توزيعها على أغلبية ناخبة، فإن الخطاب الذي يسود المجتمع ومحور أي نقاش يكون حصرا وبشكل طبيعي حول السلع المادية ومسألة “إعادة التوزيع”.