مجلة حكمة
الليبرتاريون و الحرية

لماذا يدافع الليبرتاريون عن الحرية؟ – كريستيان ميشل / ترجمة: رشيد أوراز


الليبرتاريون و الحرية

لكن لماذا يريد الإنسان العيش حرا؟ إن تحمل مسؤولية الحياة الخاصة أمر محفوف بالمخاطر، ومثير للقلق. كم من شخص منا يريد حقا عيش هذه المغامرة؟ تتطلب الحرية الإيمان بالمبدأ التالي بكل وضوح: إذا كنا نعتز بها، لنناضل إذن من أجلها. لكن في كل مكان تقريبا، يعيش الناس في حالة عبودية صارمة أكثر أو أقل قليلا. كثيرا ما يسلطون هم أنفسهم هذه العبودية عليهم، لما يصوتون من خلال الديمقراطية. ولا يمر هذا دون أن ينتج مفارقة، إذ كيف لي أن أكون حرا إذا لم تتوفر لي الحرية في التخلي عنها؟ إذا كان يحلو لي، أنا الرجل الحر، أن أصبح عبدا…

وبالفعل، إذا كنا نملك حريتنا كما نملك الأوراق المالية في البورصة، سيكون بإمكاننا تبادلها مقابل قيم أخرى؛ كالأمن، أو عظمة الأمة، أو قضية الشعب، على سبيل المثال. لكن الحال ليس كذلك. فالحرية ليست كمية قابلة للقياس كي تخضع بالتالي للتبادل. لا يمكننا التخلي عن وحدات من الحرية مقابل الضريبة، أو التخطيط المركزي، أو المراقبات البيروقراطية، والحصول مقابل ذلك على وحدات مجانية من السلام والثقافة والصحة.

يمثل هذا النوع من عروض التبادل (الحرية مقابل الأمن) الاقتراح غير الشريف الذي يقدمه الديمقراطيون الاجتماعيون. ومن أجل جعل هذا التبادل يتقدم، فإنهم أسسوه بشكل كامل على تصور آلي للإنسان. لقد تصوروا إنسانا اقتصاديا homo economicus  لا يعترف من بين كل القيم الإنسانية إلا بالقيم الاقتصادية القابلة للقياس، تلك القيم التي يمكن أن تكون محور تبادل. وبعبارات أخرى، لم يروا في حرية كائن بشري إلا رأسمالا قابلا للتبادل مثل أي سلعة أخرى، وبالتالي جردت الديمقراطية الاجتماعية حياة هذا الكائن البشري من كل بعد معنوي. إذ لماذا يجب علينا أن نكلف أنفسنا بالعمل وإرساء علاقات إنتاجية سليمة مع الطبيعة ومع الناس الآخرين، ولماذا يجب علينا أن نذخر الوقت ونصون أفعالنا، لماذا يجب علينا أن نتحلى بالعقلانية وبالحكمة، إذا كان ذلك كله من أجل تحصيل السلع المادية الضرورية لرفاهنا، لأنه بإمكاننا التنازل عن حريتنا وأن يخدمنا رجال الدولة على حساب حرية الآخرين؟

تعلمنا الحكمة أن السعادة تنشأ من وراء نشاط يتلائم ومعاييرنا الأخلاقية. لكن الديمقراطيين الاجتماعيين يعمدون إلى إقناع عدد كاف من الناخبين أن هذا التعريف عفا عليه الزمن، أما السعادة الحديثة في نظرهم فهي الاشباع الفوري للرغبات. لكن ألا يعد المرتب والتقاعد المضمون والضمان الاجتماعي والسكن اللائق رغبات ذات أولوية؟ بينما الموارد الضرورية لتحصيل هذه السلع يكفي إعادة توزيعها كما يتصورون؟

إن أي سياسي لا يمكنه أن يعدنا إلا بتقديم سلع مادية في حال انتخابه. ولا يمكنه بالتالي أن يقدم لنا الحكمة أو الحب أو الصحة السليمة… وبالتالي فهو يسعى إلى إقناع مجتمع الناخبين أن القيم الوحيدة المطلوبة هي القيم الاقتصادية. وبما أن التنظيم السياسي للمجتمع يسمح لرجال الدولة بمصادرة جزء من الأملاك الاقتصادية لأقلية من أجل إعادة توزيعها على أغلبية ناخبة، فإن الخطاب الذي يسود المجتمع ومحور أي نقاش يكون حصرا وبشكل طبيعي حول السلع المادية ومسألة “إعادة التوزيع”.

التنظيم السياسي والالتزام الأخلاقي

يتجلى الخطأ الذي وقع فيه الديمقراطيون الاجتماعيون بطبيعة الحال في اعتبار الحرية قيمة اقتصادية قابلة للتبادل مقابل أميال من الطرق السيارة أو مقابل مناصب شغل. لكن الانسان الاقتصادي وفق ما يتصورونه ليس له وجود. أما إذا كنا كائنات قادرة على الحكم على الأشياء وعلى عيش حياة أخلاقية، كما يعتقد الليبرتاريون ذلك، وإذا كان دور التنظيم السياسي هو ضمان أن يعيش كل كائن بشري حياته وفقا لقناعاته، فإن الهدف الأوحد لهذا التنظيم السياسي هو منع أي تصرف أو مس بحرياتنا كأفراد، لأن الكائن البشري يجب أن يعمل وفق قناعته لا أن يدبر عيشه وفق ما يرى قادته أنه خير له.

الجانب المعنوي من الحياة –ذلك الذي تطلب منا الديمقراطية الاجتماعية إلغاءه باسم سياسية “عملية”-  يعلمنا أن نخضع رغباتنا لمبدأ الأولوية. إن هذا الجانب المعنوي من الحياة يدلنا على تلك الرغبات التي تجسد ذرة من الإنسانية التي يحملها كل منا في حد ذاته، وأن نميز  تلك الرغبات التي تجلب لنا الإحباط أو تبدو صعبة المنال. ومما لا شك فيه إن وضعنا السلع المادية على رأس هرم حاجاتنا وقيمنا التي نطلبها من رجال الدولة (مثل العمل القار مدى الحياة)، فإننا سنقبل بعدم الأمان من خلال وضعنا مصدر رفاهنا خارج إرادتنا.

إن العيش التعيس لهو من مخاطر العيش. أما علماء الأخلاق فيدعون أن هذه المخاطر يمكن الحد منها إن نحن التزمنا بتعاليمهم، بل وقد نظفر بالسعادة أيضا. لكن هذه الحياة المعنوية التي يعلموننا إياها شاقة. و في المقابل، لو أمكن الحد من مخاطر العيش، ولو أمكن تلبية رغباتنا من طرف أقلية من الأفراد يتم انتخاباهم من أجل ذلك، فبإمكاننا بالتالي أن نتخلى عن أي التزام أخلاقي. تساءل الفلاسفة القدامى أحد الأسئلة الكبرى: “هل ندرك أننا نعيش؟ هل سندرك بعد الموت أننا عشنا؟” الجواب هو نعم إن كانت لحياتنا قيمة.

لكن هذه القيمة هي بالضبط ما يجب علينا أن نفوز به بمجهودنا ومن أجل أنفسنا، لأن لا أحد يستطيع أن يوزعها علينا مثل تعويضات عائلية. أما الديمقراطيون الاجتماعيون فيواجهون ذلك بالسخرية، لاعتقادهم أن كل فضيلة أخلاقية لا منفعة من ورائها، وأن كل انضباط شخصي شيء لا لزوم له: فكل “حاجاتنا المشروعة”، كما يعدوننا، ستلبيها “الدولة”، من دون جهد يذكر من جانبنا؛ وسيصادر منا الفائض منها، كما سنوفر متاعب التبرع بها بأنفسنا.

الليبرتاريون ليست الحرية السياسية هي ما يأتي في قائمة أولولياتهم، لكن المسؤولية التي تسمح لكل فرد أن يعيش حياة صالحة، حياة تتوافق والتزاماته الأخلاقية. وليس التنظيم السياسي هو ما يحافظ على حريتنا. نحن أحرار، إذن نحن مسؤولون، لمجرد كوننا بشرا. أما التنظيم السياسي فما هو إلا مؤسسة أنشأناها نحن أنفسنا. وبما أننا نعيش في مجتمع، فإن دور هذه المؤسسة المشروع والوحيد هو السماح لنا بممارسة كاملة لمسؤولياتنا داخل المجتمع الذي نعيش فيه. أما المبدأ الليبرالي الرأسمالي “دعمه يعمل” فهو النموذج الوحيد للمؤسسة السياسية التي تتوافق والالتزام الأخلاقي.