مجلة حكمة
لماذا أمسى الفن قبيحًا؟ / ترجمة: أنس عزة

لماذا أمسى الفن قبيحًا؟ / ترجمة: أنس عزة


لوقت طويل اعتمد نقاد الفن الحداثي وما بعد الحداثي على استراتيجية “أليس هذا قبيحا؟”. وأعني بذلك استراتجية الإشارة إلى الأعمال الفنية بقبحها، تفاهة موضوعاتها، ذائقتها السيئة، وأيضاً استراتيجية “باستطاعة طفل في الخامسة عمل ذلك” وهلم جراً. وبقيت النقود على هذا المستوى. النقاط المجترحة لها نصيب وافر من الصحة، ولكنها أيضاً أمست متعبة وغير مقنعة، وعالم الفن بعامة لم يعد يكترث.

بالطبع، أهم الأعمال في القرن العشرين قبيحة. بالطبع، طفل الخامسة بمقدوره في حالات كثيرة إبداع أعمال مماثلة. هذي النقاط لا يمكن مبارزتها، وهي على كلٍ جانبت السؤال الرئيسي والأهم: لماذا تبنّى عالم الفن خلال القرن المنصرم منحى البشاعة والإساءة؟ لماذا صب كل طاقاته الإبداعية وذكائه في القوالب التافهة وعديمة المعنى؟

بالطبع، أهم الأعمال في القرن العشرين قبيحة

من السهل تمييز المضطربين نفسياً والمتهكمين الذين تعلموا كيف يحصلون على نصيبهم المؤقت من الشهرة أو شيك من مؤسسة ما عبر تلاعبهم بالنظام. أو الطفيليين الذين جلّ همهم هو الحصول على دعوة للحفلات الصاخبة. لكن كل حقل إنساني يحفل بنصيبه من الطفيليين والمختلين، غير أنهم ليسوا هم من يسيّر المشهد العام. السؤال هنا: كيف أصبحت البشاعة والتهكم هي اللعبة التي يجب أن يلعبها الكل ليشق طريقه في عالم الفن؟

نقطتي الأولى ستتمحور حول أن كلا الفنين الحداثي وما بعد الحداثي متجذرين في إطار ثقافي واسع، نشأ مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. بصرف النظر عن ابتهالات “الفن لأجل الفن” ومحاولات الانسحاب من الحياة، كان الفن ولا يزال مهماً، سابراً أغوار نفس المشكلات الانسانية التي تتعرض لها جميع أشكال الحياة الثقافية. الفنانون كائنات مفكرة شاعرة، تشعر وتفكر ملياً بنفس المشاكل التي تهم سائر أقرانهم الأذكياء والشغوفين من البشر. حتى عندما يدّعي بعض الفنانين بأن أعمالهم خلو من أي أهمية أو إحالة أو معنى ما، هذي الادعاءات ذاتها دائما ما تكون ادعاءات مهمة، ذات دلالة و مبطنة بالمعنى. غير أن ما يعتبر زعماً ثقافياً هاماً، يعتمد على ما يجري في الإطار الفكري والثقافي ككل. عالم الفن ليس عالماً مغلقاً بإحكام، مواضيعه يمكن فهمها عن طريق منطق تطوري داخلي، ولكن مواضيعه مع ذلك يندر أن تكون قد خلقت وتولدت من داخله.

نقطتي الثانية هي أن الفن ما بعد الحداثي لا يمثل قطيعة حقيقية مع الحداثة. على الرغم من التغيرات والتحولات التي يقدمها، فإن الفن ما بعد الحداثي لم يتحد بشكل جوهري الإطار العام الذي تبنته الحداثة مع نهاية القرن التاسع عشر. بل نجد اتصالاً وثيقاً بينهما أكثر منه انفصالاً، فهو ببساطة أصبح وعلى نحو متزايد مجموعة ضيقة من التحولات على حزمة صغيرة من المواضيع الحداثية. لمشاهدة ذلك فلنراجع الخطوط الأساسية للتطور.

المواضيع الحداثية

الآن تبدو الثيمات الحداثية واضحة لنا. تأريخات الفن الأساسية تقول لنا أن زمن الفن الحديث انتهى قرابة العام 1970، بعد أن استنزفت ثيماته واستراتيجياته، ونحن الآن أمام أكثر من ربع قرن من الفن ما بعد الحداثي. الانشقاق أو الانفصال الأكبر تم نهاية القرن التاسع عشر. فحتى القرن التاسع عشر، كان الفن عبارة عن عجلة تقود الإثارة، المعنى، والشغف. وأهدافها هي الجمال والأصالة. الفنان وقتها كان حرفياً أستاذاً في حرفته. هؤلاء المهرة كانوا قادرين على تقديم أعمال ذات أهمية إنسانية وقبول عالمي. مازجين المهارة بالرؤية، كان الفنانون كائنات سامية، مقتدرة على إبداع أعمال لها إمكان وقوة مدهشة في استثارة الحواس، الأفكار، والأهواء لأولئك الذين يخبرونها.

حتى نهاية القرن التاسع عشر، كانت أهداف الفن هي الجمال والأصالة.

القطيعة مع هذا التقليد أتت في نهايات القرن التاسع عشر، حينما جعل أوائل الفنانين الحداثيين مشروعهم  المنهجي هو عزل عناصر الفن جميعها، وإلغاءها أوتحدّيها. عديدة هي أسباب هذه القطيعة. انتشار المذهب الطبيعي في القرن التاسع عشر، حذا بأولئك الذين لم يتخلصوا بعد من إرثهم الديني، إلى الشعور بالوحدة والتيه في عالم فسيح وفارغ. ظهور نظريات الفلسفة الشكوكية واللّاعقلانية قاد العديد إلى عدم الاطمئنان للحواس وملكات الذهن، إدراكاً وتعقلاً. تبلور النظريات العلمية للتطور والإنتروبيا جلب معه تصورات قاتمة وتشاؤمية عن الطبيعة البشرية ومصير العالم.

انتشار الليبرالية والأسواق الحرة بالنسبة للمعارضين لها من أصحاب التيار اليساري، والذين كان عدد منهم من الفنانين الطليعيين، تسبب في النظر إلى التطورات السياسية باعتبارها سلسلة من الإحباطات السحيقة. بينما الثورات التقنية، التي استحثها مزيج من العلم والرأسمالية، جعلت الكثيرين يستشرفون مستقبلاً تتوحش فيه الإنسانية أو تدمر من قبل نفس الآلات التي صنعت لتحسين معيشتها. مع بداية القرن العشرين، كان الإحساس العام بعدم الراحة لدى مفكري التاسع عشر قد تفجر إلى قلق حقيقي. فتجاوب الفناون، باحثين في أعمالهم عما يعنيه العيش في عالم يبدو أن المنطق، النزاهة، التفاؤل، والجمال قد اختفت عنه. كان الموضوع الجديد: يجب على الفن أن يكون بحثا عن الحقيقة، مهما كانت وحشية، وليس عن الجمال.

لذا كان السؤال: ما هي حقيقة الفن؟ أول مطالب الحداثة الكبيرة كان عن المحتوى: المطالبة بالاعتراف بأن العالم ليس جميلاً. بل هو مهشّم، منحل، فظيع، كئيب، خاوي، وأخيراً عصيّ على الفهم. هذا المطلب بحد ذاته لم يكن خاصاً بالحداثة، رغم أن الفنانين الذين ساندوه كانوا حصرياً حداثيين. فلقد وجد فنانون في السابق رأوا أن العالم قبيح وشنيع، ولكنهم استعملوا الأشكال الواقعية التقليدية للمنظور واللون ليرسموا لنا هذه الرؤية. كان ابتكار الحداثيين الأوائل هو أن الشكل يجب أن يطابق المضمون. لا ينبغي للفن أن يستخدم أشكال المنظور واللون، الواقعية والتقليدية لأن هذي الأشكال تفترض عالماً منظماً، متجانساً، وقابل للإدراك.

1إدوارد مونش كان أول الواصلين ( الصرخة، 1893): إذا كانت الحقيقة هي أن الواقع دوامة مرعبة ومفككة، إذن يجب على كلا الشكل والمضمون أن يعبّرا عن ذلك. ثاني الواصلين كان بابلو بيكاسو (آنسات آفنيون، 1907): إذا كانت حقيقة الواقع هي مهشمة ومفرغة إذن على الشكل والمضمون أن يعبرا عن ذلك. تروح بنا لوحات سلفادور دالي السيريالية إلى خطوة أبعد: إذا كانت الحقيقة هي أن الواقع عصيّ على الفهم، عندها يمكن للفن أن يلقننا هذا الدرس عبر استخدام أشكال واقعية ضداً على الفكرة القائلة بأننا نقدر على التمييز بين الواقع الموضوعي و ذاتية الأحلام اللاعقلانية.

التطور الثاني والموازي ضمن الحداثية هو الاختزال. إذا كنا غير مرتاحين مع فكرة أن الفن أو أي مسلك آخر قادر على أن يكشف لنا عن حقيقة العالم الخارجي الموضوعي، فلننسحب عندها من أي نوع من المحتوى، إلى فرادة الفن ذاته. وكذلك إذا اهتممنا بما هو فريد في الفن، عندئذ كل وسيط فني هو مختلف بحياله. كمثال، ما الذي يميز الأدب عن الرسم؟ الأدب يحكي القصص، لذا لا ينبغي للرسم أن يدعي امتلاكه لمزية الأدب، بالمقابل عليه أن يركز على فرادته الخاصة. فحقيقة الرسم هي أنه سطح ثنائي الأبعاد ملون. لذلك عوضاً عن قصّ القصص، وفي سبيلها إلى إدراك حقيقة الرسم، سعت الحركة الاختزالية بجسارة إلى إقصاء كل ما يمكن إقصاؤه من اللوحة لمعرفة ما الذي سينجو. عندها فقط نحصل على خلاصة وجوهر الرسم.

2ما دام أننا درجنا في عملية الإقصاء، في ما يلي من اللوحات الأيقونية وأكثرها أهمية في القرن العشرين، نلحظ أنه غالبا ليس ما على اللوحة ما يهم، بل ما ليس عليها. المثير في الأمر هو ما أقصي وصار الآن منسياً. يصبح الفن عن النسيان.

العديد من استراتيجيات الإقصاء قام بتتبعها أوائل المختزلة. إذا كانت أهمية الرسم، تقليدياً ومعرفياً، تكمن في إخباره لنا عن العالم الخارجي، ستصبح المهمة الأولى الآن هي نفي كل محتوى مبني على هذا الوعي المزعوم بالواقع. التحولات لدالي، تقوم بأداء واجب مزدوج. فدالي يتحدى أن فكرة ما نسميه واقعاً، لا تعدو أن تكون أكثر من حالة نفسية ذاتية غريبة. لوحة آنسات بيكاسو أيضا تؤدي واجباً مزدوجاً: إن قلنا أن العيون هي نوافذ إلى الروح، إذن هاته الأرواح فارغة بشكل مخيف. أما إذا عكسنا المنظور لنقول أن العيون هي بوابتنا للعالم، فنساء بيكاسو لا يرون شيئاً.

3

ها نحن أقصينا الرابط العقلي مع الواقع الخارجي. ماذا عسانا أن نقصي أيضا؟ إذا كانت المهارة في الرسم، تكون تقليدياً، في عرض الواقع ثلاثي الأبعاد على سطح ثنائي الأبعاد، فيتوجب علينا من باب الإخلاص للرسم أن نقصي هذا البعد الثالث. النحت ثلاثي أبعاد وليس الرسم. حقيقة الرسم هنا هي أنه ليس ثلاثي أبعاد. على سبيل المثال، لوحة ديونيسوس لبارنت نيومان (1949) – وتتكون من خلفية خضراء مع خطين أفقيين نحيلين، أحدهما أصفر والآخر أحمر- هي أنموذج لهذا التطور. إنه طلاء على لوحة، ليس أكثر من هذا.

4لكننا نجد التضاريس في ملمس اللوحات التقليدية، مما يضفي عليها سمة البعد الثلاثي حين تفحصها عن قرب. لذلك، وكما عرض Morris Louis عام 1961 في لوحته Alpha-phi. بإمكاننا الاقتراب أكثر من جوهر اللوحة ثنائي الأبعاد عبر ترقيق الأطلية في اللوحة حتى لا تتكون التضاريس. نحن الآن ثنائيو البعد أكثر من أي وقت مضى، وهنا نهاية الاستراتيجية الاختزالية، لم يعد للبعد الثالث أثر.

على الصعيد الآخر، إن كان الرسم ثنائي البعد، فمن الأجدر إذن أن نكون مخلصين له فنرسم على مجسمات هي بذاتها ثنائية أبعاد. مثلاً، لوحة White Flag لـ Jasper Johns هي علم أمريكي ملون بدرجات اللون الأبيض فقط، و Drowning Girl و Whaam لـ Roy Lichtenstein، وغيرهما من قصص مصورة مضخمة الحجم مطبوعة على لوحات كبيرة. لكن الأعلام والقصص المصورة هي موضوعات ثنائية الأبعاد، لذا إبداع لوحة منها تكون من البعد الثاني سيحتفظ بحقيقتها الخلاصة ويسمح لنا أن نبقى مخلصين لعالم اللوحة الثنائي البعد. ذكية هي هذه الطريقة، إذ تسمح لنا، دون الخروج عن البعد الثاني، أن نطعّم اللوحة بمواد قد أقصيت سابقاً.

5

6

لكن بالطبع هذا غش، كما يوضح ذلك Lichtenstein بظرافة عبر لوحته المعنونة بـ Brushstroke. إذا لم يكن الرسم سوى ضرب الفرشاة على اللوحة، فكيما نريد تحري الصدق مع الرسم وجب أن تخرج 7اللوحة كما هي: ضربات فرشاة ليس إلا. ومع هذه المزحة الصغيرة، ينتهى خط التطور هذا.

حتى الآن، وفي سعينا للبحث عن حقيقة الرسم، كنا نركز على الفرق بين الثلاثي الأبعاد والثنائي الأبعاد. لكن ماذا عن التكوين وتمايز الألوان؟ هل نستطيع أن نستبعدهما أيضا؟

إذا كانت المهارة كما هو شائع تتطلب إتقاناً للتكوين، إذن، كما يبين Jackson Pollock من خلال لوحاته الشهيرة نستطيع استبدال التكوين الدقيق بالعشوائية. أو حينما كانت المهارة هي التلاعب الماهر بالألوان وتمايزها، فالآن نستطيع استبعادها. في مطلع القرن العشرين، لوحة Kazimir Malevich، المسماة White on White كانت مربعاً أبيضاً مرسوماً على خلفية بيضاء. Abstract Painting   لـAd Reinhardt جلبت معها هذا الخط من التطور إلى نهايته، مظهرة صليباً أسود غامقاً جداً جداً، مطلياً على خلفية أكثر سواد.

أو حينما يعتبر، تقليدياً، موضوع أي عمل فني شيئاً متفرداً، عندها نستطيع أن نستبعد الجانب الخاص للموضوع الفني عبر صناعة منتجات فنية عن مواضيع جد اعتيادية. لينتج لدينا مثل لوحات Andy Warhol الشهيرة لعلب حساء الطماطم. أو عبر تحايل على نفس الثيمة وبإدراج نقد ثقافي، نستطيع إظهار أن ما يصنعه الفن والرأسمالية هو تناول موضوعات هي في حقيقتها خاصة وفريدة، مثل مارلين مونرو، واختزالها إلى سلع استهلاكية ثنائية البعد.

 أو إذا كان الفن مدركاً حسياً مجسداً على هذا النحو، نستطيع أن نفني الحسي والإدراكي معاً، كما في الفن المفاهيمي. لنلقي نظرة على أعمال Joseph Kosuth ،It was It ،Number 4بدايةً، عمل الفنان على خلق خلفية منصوص عليها ما يلي:

“مراقبة الظروف التي تحصل تحتها القراءات الخاطئة، يصدر عنها شك لا أحبذ أن أتركه غير مطروق. لأنه يستطيع أن يكون نقطة بداية لتحرّ مثمر. الكل يعلم كم مرة يجد القارئ نفسه حين يقرأ بصوت عال أن انتباهه انحرف من النص إلى أفكاره الشخصية. كنتيجة لهذا التدهور في الانتباه لا يجد القارئ القدرة على استذكار ما قرأ، إن سئل بطبيعة الحال. قد قرأ القارئ بشكل تلقائي ولكن غالباً بشكل صحيح.”

وبالنيون الأزرق كتب هذا الكلام أمام النص الأسود: “وصف لنفس المحتوى، مرتين.”

8

هنا، يضمحل الجمال الحسي، ويستحيل الفن مشروعاً مفاهيمياً خالصاً. وها نحن قضينا على اللوحة برمتها.

 إذا ما وضعنا جميع الاستراتيجيات الاختزالية سوياً، فسيكون مسار الرسم الحديث قد مر بعدة مراحل للإفناء، من إفناء البعد الثالث، لإفناء التكوين، ثم اللون والمحتوى الحسي، إلى إفناء تفرد الموضوع الفني وخصوصيته.

هذا حتما سيعود بنا إلى Marcel Duchamp، الأب الروحي للفن الحديث والذي بصر بنهاية الطريق قبل عدة عقود. مع “نافورته” (1917) أعلن Duchamp عن أهم تصريح عن تاريخ ومستقبل الفن. من المؤكد أنه كان على دراية بتاريخ الفن، وبما سيؤول إليه كذلك، تبعا لعدة صيحات فنية آنذاك. وقد كان يعلم كذلك بما تم إنجازه من فن، وكيف لقرون عديدة كان الفن عبرها أداة قوية في استدعاء أقصى ملكات المرء إبداعاً وتخليقاً، وتطلب من الفنان مهارة تقنية جبارة. و ما له من قدرة عجيبة في إثارة حواس المتلقين، وعقولهم، وشغوفهم. بمبولته، قدم Duchamp جملة صارمة مفادها أن الفنان ليس خالقاً عظيماً. عمله الفني ليس موضوعاً فريداً من نوعه، فقد اشتراه من محل سباكة. تجربة الفن ليست مثيرة ونبيلة، إنها تجربة محيرة تترك المرء مع شعور بالنفور. فوق هذا كله، Duchamp لم يختر أي أداة جاهزة الصنع لعرضها كحنفية أو مقبض باب على سبيل المثال. باختياره للمبولة، كانت رسالته واضحة: الفن هو شيء تبول عليه.

في الحداثة، يصير الفن مشروعا فلسفياً أكثر منه فنياً

ولكن هنالك نقطة أكثرعمقا نستطيع استنباطها من مبولة Duchamp حول مستقبل الحداثة. وهي أنه في الحداثة، يصير الفن مشروعاً فلسفياً أكثر منه فنياً.

الغاية المحركة لفن الحداثة لا تكمن في كيفية خلق عمل فني بل في معرفة ماهيته. لقد استثنينا س، هل يبقى فناً حينها؟ والآن ص؟ ألا يزال يعتبر فناً؟ الهدف من الموضوع ليس الخوض في تجربة جمالية، بل صنع رموز لمسرح قيد الإنشاء يعنى بالتجربة الفلسفية. في معظم الحالات، تكون النقاشات والمجادلات عن الأعمال أكثر تشويقاً من الأعمال أنفسها. وهذا يعني أن نحتفظ بهذه الأعمال في المتاحف والأرشيفات لننظر إليها ليس لأجلها هي، إنما لذات السبب الذي من أجله يحتفظ العلماء بدفاتر ملاحظات، كسجل لتطور أفكارهم في مراحل متغيرة. أو، باستعارة أخرى، هدف الموضوعات الفنية هو كالإشارات التنبيهية على الطريق السريع، ليست أعمالاً للتأمل في ذاتها ولكن تعمل كدلائل ومؤشرات تخبرنا كم من المسافة قطعنا.

هذا ما كان يعنيه Duchamp حين ألمح بازدراء أن غالبية النقاد فاتهم مقصده: “قذفت برف القوارير والمبولة في وجوههم كتحد، والآن هم معجبون بجماليتهما الاستطيقية.” المبولة ليست فناً، إنها أداة استخدمت كجزء من نشاط فكري لمعرفة ما لا يخولها أن تكون فناً.

الحداثة لم تجد جواباً على تحدي Duchamp، بل وصلت في ستينيات القرن العشرين إلى طريق مسدود. إلى الحد الذي كانت عنده الحداثة تملك محتوى، فإن تشاؤميتها قادت بها إلى نتيجة أن لا يوجد ما يستحق القول. وعندما كانت تلعب بعناصر الإقصاء والاستبعاد، لم تجد عنصراً فنياً حقيقياً يستطيع النفاذ من مبضع الإقصاء. أمسى الفن عدماً. في نفس الحقبة، كان Robert Rauschenberg غالباً ما يتم تداول مقولته التالية: “الفنانون ليسوا أفضل من موظفي الإيداع.” وهذا Andy Warhol بابتسامته المتعجرفة المعتادة يجيب عن سؤال ماهية الفن بقوله: “فن؟ أوه، هذا اسم رجل.”

عناصر ما بعد الحداثة الأربعة

أين يمكن للفن أن يذهب بعيد وفاة الحداثة؟ لا تذهب حركة ما بعد الحداثة، ولم تذهب بعيداً. كانت بحاجة لبعض من المحتوى وأشكال جديدة. لكنها حتماً لم ترد العودة للكلاسيكية، للرومانسية، ولا للواقعية التقليدية.

مثلما كان الحال مع نهاية القرن التاسع عشر، تفاعل عالم الفن واستقى من السياقات الفكرية والثقافية العامة أواخر الستينات والسبعينات. فقد امتص رواجية عالم مذهب الوجودية اللامعقول، فشل اختزالية المذهب الإيجابي، وكذلك انهيار اليسار الجديد للاشتراكية. أسماء كبيرة كانت ذات صلة بالحركة أمثال Thomas Kuhn ،Michel Foucault  و Jacques Derrida.  لقد تماشت وبنت مُثُلها من ثيماتهم المجردة اللاواقعية، التفكيكية، وموقفهم الخصامي مع الحضارة الغربية. مما سبق من أفكار قدمت ما بعد الحداثة هذي التغييرات الأربع على فن الحداثة.

أولاً، أعادت ما بعد الحداثة تقديم المحتوى، لكن كمحتوى ذاتي المرجع أو ساخر. كما عند ما بعد الحداثة الفلسفية، رفضت حركة ما بعد الحداثة الفنية أي شكل للواقعية لتصبح مضادة للواقع. لا يمكن للفن أن يكون عن الواقع أو الطبيعة لأن “الواقع” و “الطبيعة”، تبعاً لما بعد الحداثة، هما مجرد بنى اجتماعية. كل ما لدينا هو العالم الاجتماعي وبناه، وأحد تلك البنى هو عالم الفن. لذا، قد يتسنى لنا أن نوجد محتوى في أعمالنا الفنية ولكن فقط إن كنا نحيله على عالم الفن الاجتماعي.

ثانياً، اتجهت ما بعد الحداثة إلى التدمير العنيف لباقي الجوانب التقليدية التي غفل عن تمام إقصائها الحداثيون من قبل. كانت الحداثة فعلاً اختزالية ولكن بقيت مع ذلك بعض الأهداف الفنية.

على سبيل المثال، كانت النزاهة أو الأصالة الأسلوبية دوماً عنصراً مهماً للفن العظيم، ومعها النقاوة الفنية كقوة ملهمة داخل الحداثة. لذا كانت إحدى الاستراتيجيات هي خلط عدد من الأساليب بشكل انتقائي حتى تقوّض فكرة النزاهة الأسلوبية. أحد الأمثلة المبكرة كان في فن العمارة، وتحديداً مبنى AT&T (الآن تشغره Sony) لـ Philip Johnson في مانهاتن. ناطحة سحاب حديثة والتي تبدو أيضا كخزانة تشيبينديلية (نسبة إلى مصمم الأثاث Chippendale). شركة العمارة Foster & Partners قامت بتصميم مبنى المقر الرئيس لـ Hong Kong and Shanghai Banking Corporation، وهو أشبه بقمرة السفينة، مكتمل بمضاد لصواريخ الطائرات إن كان البنك في حاجة لها يوماً. منزل Friedensreich Hundertwasser في فيينا يبدو أكثر تطرفاً. تلطيخ مقصود لقطع زجاج ناطحات السحاب، جص، والطوب المعتاد، بالإضافة إلى شرف موزعة بشكل غريب ونوافذ اعتباطية الأحجام، ليكتمل أخيراً بقبة روسية بصلية أو اثنتين.

1 2 3

إذا وضعنا كلتا الاستراتجيتيان أعلاه معاً، سيصبح الفن ما بعد الحداثي حينئذ ذاتي المرجعية وهدًام في ذات الوقت. إنه تعليق داخلي على التاريخ الاجتماعي للفن، ولكنه تعليق مخرب. نجد هنا استمرارية للحداثة. فها هو بيكاسو يأخذ أحد لوحات ماتييس لابنته ويستعملها كلوح للسهام، مشجعاً أصدقاءه بالحذو حذوه. لوحة Duchamp المعنونة بـ L.H.O.O.Q كانت إعادة تصوير للمونا ليزا ولكن بإضافة لحية وشارب كرتونيين. Rauschenberg  قام بمسح لوحة لـ de Kooning بقلم شمعي ثقيل. في الستينيات تزعّم George Maciunas عصابة لأداء عمل الفنان Philip Corner ،Piano Activities، وخلاصة العمل أن يقوم عدد من الرجال بتدمير بيانو مستعينين في ذلك بأدوات تهديمية كالمطارق والمناشير والأزاميل.

4

نسخة Niki de Saint Phalle لتمثال Venus de Milo الكلاسيكي الشهير هو بحجمه الحقيقي عبارة عن مجسم من الأسلاك مكبوب عليه جص ومبطن بأكياس من الطلاء الأسود والأحمر. أخذ الفنان بندقية ليطلق النار على المجسم، مخترقاً الجسد وأكياس الطلاء،، محدثاً بذلك أثر الرش المرغوب.

5

يصل بنا هذا العمل إلى الاستراتيجية الثالثة المابعد حداثية. تسمح ما بعد الحداثة للمرء أن يصنع بياناً للمحتوى طالما أن هذا البيان أو التصريح يتحدث عن الواقع الاجتماعي وليس عن واقع مفترض أو موضوعي. وهنا يكمن الانحراف، فعلى البيان أن يكون تصريحاًً أضيق يتكلم عن العرق/الطبقة الاجتماعية/الجنس عوض أن تكون ادعاءات رنانة، كونية تتحدث عن الظرف الإنساني. ترفض ما بعد الحداثة الطبيعة الإنسانية العالمية وتستبدل بها الزعم القائل أننا جميعا مدرجون ضمن جماعات متبارية فيما بينها على الظروف العرقية، الاقتصادية، الإثنية، والجنسية. في الجانب التطبيقي، يبرز لنا هذا الادعاء ما بعد الحداثي أنه لا يوجد فنانون وفقط. لا يوجد سوى فنانون بالإضافة، كالفنانين السود، الفنانون النساء، الفناون الشواذ، فنانون لاتينيون فقراء الخ.

عمل PMS  للفنان المفاهيمي Frederic من التسعينات، مفيد هنا في تقديم مخطط. العمل نصي، لوحة سوداء وعليها كتب بالأحمر:

ما الذي يخلق متلازمة ما قبل الحيض (PMS) في النساء؟ القوة Power، المال Money، الجنس Sex

لنبدأ بالقوة، آخذين في الحسبان مسألة العرق. منحوتة Butcher Boys للفنانة Jane Alexander هي عمل قوي نسبياً عن قوة العرق الأبيض. تضع Alexander ثلاث شخصيات جنوب أفريقية بيضاء على كرسي طويل. جلودهم بلون أبيض باهت وشبحي كلونن الجثث، ورؤوسهم كرؤوس الوحوش تبدو على صدورهم ندبات كآثار ما بعد عملية جراحية قلبية، مشيرة بذلك إلى تحجرهم العاطفي. لكن ثلاثتهم يجلسون على الكرسي كما لو أنهم في انتظار الحافلة، أو ربما يراقبون المشاة في أحد المجمعات التجارية. موضوعها يحكي تفاهة الشر: لا يدرك البيض الوحوش التي أصبحوها.

12

أما عن المال، نجد القاعدة الباقية في عالم الفن والقائلة بأنه لا يجب على المرء أن ينعت الرأسمالية بأي نعت سيء. نستطيع الانتقال بانسيابية من نقود Andy Warhol عن ثقافة التسليع إلى عمل Jenny Holzer المعنون بـ Private Property Created Crime. في قلب الرأسمالية، مربع التايمز في نيويورك، جمع Holzer ما بين المفهومية والتعليق الاجتماعي بطريقة ذكية ساخرة وذلك عبر استخدام إعلام الرأسمالية نفسها لتخريبه. عمل الفنان الألماني Hans Haacke بعنوان Freedom is now simply going to be sponsered out of petty cash هو مثال هائل آخر. بينما يحتفل بقية العالم نهاية العنف القائم خلف ستار الشيوعية الحديدي، أقام Haacke شعار ميرسيديس بنز ضخم فوق برج حراسة كان يحتله سابقاً جنود ألمانيا الشرقية. الرجال المدججون بالسلاح كانوا يشغلون ذلك البرج، لكن Haacke يقترح أن جل ما نفعله الآن هو استبدال حكم السوفييت عديم الرحمة بحكم الشركات الذي لا يقل عنه قساوة.

7أما بخصوص الجنس، فـ Venus لـ Saint Phalle يمكن لها أن تأدية عمل مزدوج هنا. نستطيع تأويل البندقية التي يخترق رصاصها المنحوتة بأنها أداة ذكورية للسيطرة. في هذه الحالة يعتبر عمل الفنانة احتجاجاً نسوياً على السيطرة الذكورية للأنوثة. الخط العام لفن النسوية يتضمن ملصقات Barbara Kruger بكلمات سوداء وحمراء عريضة والتي تملأ معارضاً بأكملها لوجوه تصرخ شعارات “لائقة” حول قضية “جعل المرأة ضحية”، هذا هو الفن كيافطة في مسيرة سياسية. Branded  لـ Jenny Saville هي رسمة شخصية مشوهة. ضداً على مفهوم الجمال الأنثوي، تؤكد Saville على أنها ستكون منتفخة وقبيحة ثم تعرضه لنا بشكل فج.

معرض فني في عام 2000 طلب من زواره أن يضعوا سمكة ذهبية في خلاط ثم يديروه.

الانحراف المابعد حداثي الرابع والأخير عن الحداثة هو انحراف عنيف يتمثل في العدمية. جميع ما سبق ذكره، وعلى الرغم من تركيزه على السلبي إلا أنه كان يتعاطى مع موضوعات مهمة مثل السلطة، الثراء، وإنصاف المرأة. كيف يتسنى لنا أن نقصي بعمق ما تبقى منن إيجابية في الفن؟ على شدة السلبية في الفن الحداثي، فمالذي لم يتم فعله هنا بعد؟

أحشاء مع دم: معرض فني في عام 2000 طلب من زواره أن يضعوا سمكة ذهبية في خلاط ثم يديروه. يكون الفن مختزلاً الحياة لكيلا يتم تمييز الأحشاء السائلة. قام Marc Quinn بصنع قالب جصي مجوف (Self) عام 1991 مصمم على شكل رأسه، مصبوبب  بداخله دماؤه التي جمعها على مدار أشهر. هذا هو الاختزال مع نفحة انتقام.

6الجنس الغريب (الشاذ): الجنسانيات والرغبات الجنسية المختلفة تم استهلاكها خلال القرن العشرين. لكن حتى قريب لم يستكشف الفن عالم الجنس متضمنا الأطفال. أظهر Eric Fischl في Sleepwalker مراهقاً يمارس الاستمناء وهو واقف وسط مسبح صغير في باحة خلفية. أما Bad Boy فيظهر Fischl صبياً يسرق من حقيبة أمه بينما هو ينظر إلى جسدها العاري نائمة على السرير ومباعدة بينن ساقيها. على أي حال، إذا كنا قد قرأنا فرويد فالأرجح أن لن يبدو هذا صادماً. إذن لننتقل إلى Paul McCarthy، Cultural Gothic وموضوع جنس الحيوانات. في هذا العرض الحي، نرى ولداً صغيراً يقف خلف ماعز منتهكاً إياه. لدينا هنا أكثر من مجردد موضوع جنس الأطفال و جنس الحيوانات، فـMcCarthy أضاف تعليقاً اجتماعياً وذلك بوجود الأب واقفا ًخلف ابنه واضعاً يديه على كتف الصبي بصورة أبوية بينما يستمر الصبي في انتهاكه الجنسي للحيوان.

انشغال بالبول والبراز: مجدداً، تستمر ما بعد الحداثة في التزامها بتقليد حداثي قديم. بعد مبولة دوشامب Kunst ist Scheisse (الفن خراء) أصبح هذا العمل الجديد، وبشكل ملائم، شعار الحركة الدادية. في الستينات عرض Piero Manzoni تسعين علبة موسومة منن برازه الخاص للبيع (في عام 2002 قام متحف بريطاني بشراء العلبة رقم 68 بحوالي 40 ألف دولار). أثار Andres Serrano ضجة كبيرة في الثمانينات حينما عرض عمله Piss Christ وهو عبارة عن صليب للمسيح داخل إناء مملوء ببول الفنان. في التسعيناتت قام Chris Ofili بعرض السيدة العذراء محاطة بأعضاء تناسلية منفصلة وقطع صلبة من الفضلات، The Holy Virgin Mary.

8في عام 2000 وكتحية لأستاذهما Marcel Duchamp، قام كل من Yuan Cai و Jian Jun Xi بالتبول في “النافورة” المعروضة في متحف Tate في لندن، وذلك خلال أوقات الزيارة الاعتيادية. (لم يسرّ القائمون على المعرض بهذه الفعلة، ولكن Marcel Duchamp كان حتماً سيفخر بأبنائه الروحيين). ثم لدينا G. G. Allin الذي تحصل على دقائقه المعدودة من الشهرة حينما تغوط على المسرح ثم قذف بفضلاته على الجمهور.

إذن، ها نحن أولاء وصلنا إلى طريق مسدود: من تبول دوشامب على الفن بدايةً إلى تغوط ألين على الجمهور انتهاءً. ولا يعتبر هذا في الحقيقة تطوراً ذو أهمية خلال مسيرة قرن كامل.

مستقبل الفن

كانت ذروة ما بعد الحداثة الفنية خلال الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم. أمست الحداثة بالية مع حلول السبعينات، وأقترح هنا أن ما بعد الحداثة وصلت إلى طريق مسدود مشابه، مرحلة الـ ماذا بعد؟ كان فن ما بعد الحداثة لعبة لعبت ضمن مجال ضيق من الاحتمالات، وقد أصابنا الإعياء والزهق من ذات الأساليب البالية ولكن بتغييرات طفيفة. المقرف والمشين أصبح ميكانيكياً ومكروراً ولم يعد المقرف يقرفنا بعد اليوم.

إذن، ماذا بعد؟

من المفيد لنا تذكر أن الحداثة في الفن خرجت من بيئة ثقافية مخصوصة للغاية أواخر القرن التاسع عشر، وبقيت مخلصة في بقائها داخل أطر المواضيع المتولدة عنها. ولكن ليست تلكم المواضيع هي كل ما كان متاحاً للفنانين، وكثير جداً ما حدث بعد ذلك.

لم نكن لنعلم أن معدل متوسط الأعمار سيتضاعف منذ أن صرخ Edvard Munch. ولا أن أمراضاً فتكت بمئات الألوف من المواليد الجدد قد قضي عليها. ولا كنا سنعلم أي شيء عن معدلات المعيشة المرتفعة، انتشار الديمقراطية الليبرالية، والأسواق الناشئة.

نحن واعون بشكل صارم بفظاعات الاشتراكية الوطنية والشيوعية العالمية، وللفن دور في إبقائنا مدركين لذلك. ولكن يستحيل أن نكون قد عرفنا، من خلال الفن، أننا انتصرنا في هاته المعارك وهزمنا الوحشية.

دخولاً على منطقة أكثر غرابة، إن كنا نعلم حقاً ماهية الفن المعاصر، فيستحيل علينا أن نشعر ولو شيئاً بسيطاً بحماسة مواضيع مثل، علم النفس التطوري، علم كونيات الانفجار الكبير، الهندسة الجينية، جمالية الرياضيات العشرية، والحقيقة المذهلة أن الناس هم الوحيدون القادرون على فعل كل هذا.

عالم الفن متهيء الآن لحركة فنية جريئة

يجب على الفنانين كما عالم الفن أن يكونوا على أتم الاستعداد. عالم الفن الآن مهمّش، منغلق ومحافظ. إنه مهجور، ولا يوجد ما هو أصعب على الفنان المحترم لذاته أن يُهجر.

هنالك بعض الأهداف الثقافية أكثر أهمية من تطوير الفن. جميعنا يعلم بشدة وخصوصية ما يعنيه لنا الفن، فنحن نحيط أنفسنا به. كتب الفن والفيديوهات. أفلام السينما في الدور وأقراص الـDVD. مكبرات الصوت في المنازل، المسجلات المحمولة Walkmans ومشغلاتت الـCD في سياراتنا. الروايات عند الشاطئ وقبل النوم. زيارات معارض الفن والمتاحف. واللوحات التي نزين بها جدران بيوتنا. كل واحدد منا يخلق العالم الفني الذي يطيب له السكنى فيه. من الفن الشخصي في حيواتنا إلى رموز الفن الثقافية والوطنية. من ملصقات الـ10$ إلى لوحة الـ10$ مليون المقتناة من المتحف. لدينا كلنا استثمارات كبيرة في الفن.

عالم الفن متهيء الآن لحركة فنية جريئة. وستتأتّى فقط على أيادي من هم غير مقتنعين بمجرد الإشارة للتغييرات الطفيفة على الموضوعات الفنية الحالية. ستأتي الحركة الجديدة من أولئك الفنانين الذين يعتقدون بأن الجراءة لا تكمن فقط في ما يمكن عمله لقطع الخردة ما لم يعمل من قبل.

ليست النقطة هي في عدم وجود سلبيات في العالم تمكن للفن من مواجهتها، أو أنه لا يجب عليه أن يكون أداة نقدية. هنالك سلبيات وعلى الفن أن لا يتهرب من مواجهتها. نقطتي الرئيسة تتركز في السلبية والتدمير المطبق على عالم الفن. منذ متى قال لنا الفن، خلال القرن العشرين، شيئاً محفزاً عن العلاقات الإنسانية، عن مدى إمكانية الجنس البشري  للنزاهة، عن الشجاعة، عن الشغف الإيجابي الخالص للوجود في العالم؟

الإلهامات الفنية تصنع من قبل قلة. في قلب كل ثورة يوجد دوماً فنان يصل لغاية الإبداع. موضوع رواية ما، عمل جديد، أو الاستخدام الخلاق للتكوين، للجسد أو اللون سيعلن عن بداية حقبة جديدة. الفنانون هم حقا آلهة: فهم يخلقون عوالم في أعمالهم، ويشاركون في تخليق عالمنا الثقافي.

لكن حتى  يصل الفنانون الثوريون لبقية العالم، يلعب الآخرون دوراً مهماً. المقتنون، مالكو المعارض، المسعّرون، والنقاد الذين يتخذون قرارات حول الفنانين الخلاّقين حقاً، وتبعاً لهذا، من منهم يستحق المبالغ التي ستدفع ثمناً لأعماله، ومساحة المعرض، والتوصيات. هؤلاء الأفراد مشاركون أيضاً في صنع الثورات. في عالم الفن الفسيح تعتمد الثورة على أولئك القادرين على التعرف على إنجازات الفنان الحقيقي ومن لديهم جراءة إبداعية لترويج أعماله.

ليست الفكرة هي في العودة للقرن التاسع عشر أو تحويل الفن لمجرد صناعة طوابع بريدية جميلة. الفكرة هي أن تكون إنساناً قادراً على النظر المتجدد إلى العالم. في كل جيل هنالك قلة قليلة ممن يصنعون ذلك بدرجة عالية. هذا هو دوماً التحدي الأكبر للفن وهو أيضا نداؤه الأسمى. عالم الفن الما بعد حداثي أشبه برواق ممتد ومسلح بمرايا من كل جانب، تعكس بعض الابتكارات المقدمة منذ قرن من الزمن. حان أوان التقدم.

المصدر