مجلة حكمة
هامسون التجربة الذاتية

كنوت هامسون، وخصوصية التجربة الذاتية – أحمد الحقيل


ككاتب، أستطيع أن أخبرك بأقسى ما يمكن أن تختبره، وهو أن يكون لديك شعور عميق تجاه شيء ما، ثم حينما تكتبه، يظهر مبتذلا! إنه شكل من الألم، أن ترى عاطفتك النبيلة تتحطم هكذا، دون أن تعلم لماذا بالضبط.

كيف يحدث الأدب الرديء؟

يحدث لأسباب عديدة طبعا، ولكن من أهمها في رأيي هو أن الكاتب يثق في انطباعية عواطفه الشفهية أكثر من اللازم.

إنطباعات الإنسان الحميمية خاصة جدا، إنها نتاج تجربة حسية وعصبية تفاعلية. ولذا فإن نقلها إلى خارجه يكون في الغالب مبتذلا لأنها تخسر أهم مواصفاتها: الخصوصية، زاوية الرؤية الشخصية. كيف تقنع شخصا خارجك بقدسية تجربتك الشعورية هذه؟ كيف تبيعه هذا الشعور؟ أعظم مهمة للأدب/الفن هو نقل هذه الحميمية بخصوصيتها. العواطف في حد ذاتها نتاج فائض، في كل مكان، متوفرة لدى رجل الشارع البسيط، لدى الطفل، لدى الجاهل، لدى المثقف، على حد سواء. ستجدها نبيلة حميمية مندفعة لديهم جميعا. العواطف – إذا جاز لنا إصدار حكم وعظي – لا تصنع أدبا عظيما. ما يصنع أدبا عظيما هو السياق الذي تعيش فيه هذه العواطف. وهنا يأتي أهم عنصر في أدب القرن العشرين: التجربة. أنت لا تقرأ، ولكنك تعيش. أنت لا تفكر، ولكنك تحس. أنت لا تُلقَّن، ولكنك تجمع.

في كل العصور تقريبا منذ “اختراع” الأدب، ستجد رأيا يقول أن الأدب استهلك نفسه. في رواية البريطاني جورج جيسينج المهمة new grub street عام 1891 ستجد تجسيدا لهذه النبوءة المتجددة في صراع مثقفين “يحترفون” الأدب – كتاب نقاد أكاديميون ناشرون – ويعيشون نوعا من اللاجدوى في ظل تلك التخمة التي كان يمر بها النشر عموما. إنه أسلوب دفاعي يستخدمه محترفوا الأدب مهما اختلف زمنهم لتبرير “فشلهم” المحتمل في إضافة شيء “جديد”، على اعتبار أن الجِدّة هي معيار القياس المتفق عليه تقريبا، إعطاء أنفسهم زخما دراميا بافتراض أنهم يعيشون زمنا صراعيا ضيقا يفصل علاقتهم بمهنتهم ويجعلهم هامشيين. وأنت تقرأ الرواية، ستشعر أن هذه النبرة لم تتغير، وأن الرواية قد تكون مكتوبة في 1991 وليس العكس. ولذا وأنت تقرؤها لن تصدق أنها كانت على أعتاب أهمّ ثورة أدبية/سردية توشك أن تحدث: هامسون وستريندبرغ هنري جيمس وموزيل وبروست وجويس وتوماس مان وكافكا وفوكنر. أكثر عمل يجوز القول أنه استهلّ هذه الثورة، هو رواية الجوع لهامسون. إنها مانيفستو الحداثة، أو كما يقال: أول روايات القرن العشرين التي كُتبت في القرن التاسع عشر!

ولكن لأشرح شكلية هامسون الثورية في الجوع تحديدا وما بعدها، يجب أن أتكلم عن ماهية هذا الشكل.

أولا، هنالك حدث مفصلي في حياة هامسون يجب الاستهلال به. فحينما كان في الخامسة والعشرين من العمر، تم “الحكم عليه بالموت” حين تم تشخيصه بمرض السل، إلا أنه تم إعادة تشخيص المرض كالتهاب شعيبي. في رسالة مهمة أرسلها هامسون إلى إريك سكرام في يوم البوكسينج داي عام 1888، نجده يصف ردة فعله بعد سماعه الخبر “لقد ألهمتني برغبة يائسة في أن أذهب إلى بيت دعارة في المدينة وأُذنب، أُذنب بفخامة وأقتل نفسي بفعل ذلك. أردت أن أموت في الخطيئة، أهتف منتصرا وألفظ أنفاسي في الفعل” ولكنه لم يفعل ذلك، وإنما وجد متنفسه في الضوء والنار، وهو أمر سأستفيض فيه أكثر في نقطة مهمة آخر المقال. فمن هذه الحادثة، ربما “تغذّت” – ولم تنشأ – تلك الرغبة الضمنية الغامضة في الخطيئة، التي هي متأصلة في كل روايات هامسون، كردة فعل احتقارية على الاقتراحات الميتافيزيقية/الشعرية التي يحاول الدين/الأخلاق تقديمها للإنسان. هامسون الرافض لكل الأجوبة، يجد ملاذه في الحس والذاتية، التي تكون منطلقا لكل روحانية أو صوفية لديه، كما سأشرح لاحقا.

في مقال سابق عن بيرنهارد، تحدثت عن سلم كرونولوجي يتكون من: دوستويفسكي-هامسون-كافكا-بيكيت-بيرنهارد. وقد يضاف ستريندبرغ بين دوستويفسكي وهامسون. فبينما انطلق معظم الأدب السردي مما يحدث خارج الإنسان ثم إلى داخله، استهدف هؤلاء تقديم الإنسان من داخل تجربته النفسية ثم إلى خارجه. كل ما يحدث يحدث أولا في الداخل، ولأن داخل الإنسان وجودٌ شاسع، وغامض، والأهم من ذلك مضمر، وما دام مضمرا فهو مشبوه، فإنه معرض دائما لأن يكون غريبا، والغرابة مفردة معقدة، فوجودها ينفي دلالتها: ما دامت تحدث بكثرة فإنه لا يجوز تسميتها بالغرابة! الواقع يحتكره ظاهرٌ اختزالي يقدم نفسه على أنه نمط اعتيادي “طبيعي”. وبالتالي: ما هي الغرابة إذاً؟ أو بمعنى أصح: أين هي؟ الغرابة بالنسبة لهم هي الذاتية، هي الإنسان في حقيقته المضمرة، التي هي – بنِـسبٍ تزيد أو تقل – في كل واحد منا، ولكنها تختبئ في الهامش، إنها ليست في الهامش لأنها بالضرورة منبوذة، ولكن لنقل منفية، مطالبةٌ دائما بتبرير نفسها. هذا السلم الخماسي يجد شعريته المتحجرة الجافة في الغرابة، ويقدمها على أنها الحالة المزاجية للإنسان الحديث، ولذا هامسون كان يقول “إنني أرى أشياء أغرب مما كتبت وأنا أسير في الشارع”. أبطال هامسون في الجوع وأسرار وبان ليسوا غريبين، ليسوا نتاج واقع شاذ، وإنما هم وجود ينافح عن حقيقيته وطبيعيّته. ولكن لأنهم غالبا يفشلون في إقناع الآخرين بذلك، فإنهم يندحرون، إما يموتون أو ينهزمون أو يهربون. العصر الذي جاء فيه هامسون لم يكن عصر شك وسوداوية فحسب، ولكنه عصر البحث عن منافذ جديدة، عصر كيركجارد ودوستويفسكي وداروين ورامبو وستريندبرغ ونيتشه وفرويد وكونراد. الأخلاقيات/السلوكيات النمطية لإنسان الحضارة الغربية يتم تجريدها، إعادة صياغتها، غربلة البديهيات التي تعيد تشكيل الإنسان ككائن نفسي قبل أن يكون كائنا اجتماعيا، كائن فردي قبل أن يكون كائنا تفاعليا. ولهذا هامسون كان معجبا بدوستويفسكي وستريندبرغ، إنهما أبرز الأمثلة على الأدب النفسي، أدب التجربة الفردية، الذي يعيد الإنسان إلى فرديته، وبالتالي يعيد تبرير أخلاقياته ودوافعه ونزعاته وفق معطيات مختلفة. ولهذا كان يجد مشكلة مع تولستوي مثلا، ومن يشبهه. الأدب الذي يقدم أخلاقياتِ/سلوكياتِ الإنسان الغربي وفق ملحمية الخير والشر، التيه والوصول، البداية والنهاية، الوضوح واللاوضوح. في أغلب روايات هامسون، لا يوجد بداية أو نهاية بالمعنى الفاصل الحتمي، لا يوجد إجابات صريحة، أو حتى أسئلة، لا يوجد وضوح حاد، أو مباشَرة وعظية. كل ما يوجد هو الإنسان، الفرد، وداخله اللانهائي، الذي يتجدد في رصده ومونولوجاته وتجاربه وانفعالاته. ولأنه يتحدث عن الإنسان كفرد، برزت أهم ميزة في رواية الجوع وروايات هامسون عموما. فعندما كان يكتب الرواية أرسل رسالة إلى إدفارد براندز يخبره فيها أنه لا يريد أن يكتب للنرويجيين فحسب، وإنما “للبشر” بشكل عام أينما وَجدوا أنفسهم. الجوع سببت ضجة بسبب هذا، إنها قدمت التجربة الإنسانية من داخل الإنسان، بكل خصوصيتها وصداميتها. إنها رواية لاشفهية، محدودة المباشرة. رواية لاقصصية، محدودة القصة. رواية كيركجاردية بامتياز، رواية الحقيقة الذاتية الاكتفائية. رواية “محاولة وصف حياة العقل الغريبة الفريدة، غموض الحركة العصبية في جسد جائع” كما يصفها هامسون نفسه. رواية بطل، ولكن أي بطل؟ من يكون؟ من أين أتى؟ إلى أين يذهب؟ هذا لا يهم، كل هذا لا يهم. ما يهم، هو التجربة الآنية، هو ما يحدث الآن. ولكن ما الذي يحدث الآن؟ لاشيء في الحقيقة. بالضبط، لاشيء، ورغم ذلك: كل شيء. فكل شيء يظل يحدث حتى وإن لم يكن ثمة حدثٌ ما. كل شيء يحدث في نفس الوقت الذي لا يحدث فيه شيء. ومن هذه اللاشيئية/الشيئية النفسية يخلق هامسون بطلا ورواية وعمقا. من أول الرواية، وإلى نهايتها، أنت لست تقرأ، ولكنك – كما أسلفت – تعيش. إنك تعيش في “حالات غموض العقل” كما يسميها هامسون. الحياة – وهي كلمة معقدة – تجربة نفسية ذاتية. الإنسان من الداخل أولا كما تُصر وجودية كيركجارد ودوستويفسكي، وليس من الخارج. إنك تتنقل مع الشخصية في المدينة التي اكتسبت وجودا حسيا بوصفها الدقيق، أنت ترى الشوارع المرصوفة، أنت ترى الأزقة، أنت ترى الأوجه، البيوت الحجرية، الجوع، الهيام. ولكنك  ترى كل هذا من زاوية رؤية البطل، البطل الذي يتّحد جسده الهازل المستنزف بداخله الفوضوي اللاغائي. أنت تهيم، بالضبط كما يهيم البطل. دون هدف، دون غاية، دون وضوح. يروقني أن أفكر أنّ الرواية صراع بين الفردية والشمولية، بين الداخل والخارج، بين البطل الفنان ومدينة كريستيانيا (أوسلو حاليا). فالشخصية الأخرى الوحيدة الحاضرة بقوة، هي مدينة كريستيانيا. فالمدنيّة التي ظلت تتطاول في أوروبا القرن التاسع عشر صارت جزءا من الصراع الإنساني. ستجدها في سان بطرسبرغ عند دوستويفسكي من ناحية الجريمة والأخلاق، وقبلها في باريس عند بلزاك من ناحية الطبقية والنجاح، والآن عند هامسون وكريستيانيا من ناحية فردية الفنان وخصوصيته المعرضة للاستلاب. الإنسان كوجودٍ غامض لامعرف يواجه وجودا غامضا لامعرفا. الإنسان شبيه بالمدينة، فسيح، متعدد، ملموس، ولكنه أيضا متعذر، خفي، متغير. كريستيانيا موجودة في الرواية بكل تفاصيلها، وكأنها موازية للبطل، وكأن البطل يعيش مرة من خلال نفسه ثم يخرج منها ليعيش مرة أخرى من خلال المدينة والمجتمع التي تمثله بطبقاته وتنظيماته وقوانينه. ومن خلال هاتين الحياتين المتداخلتين يضيع الفرد، يتفكك، بل ويُسلب. الإنسان كحشرة كما يصف البطل نفسه وككائن عبثي في صراع لامتوازٍ مع قوى خفية. ربما هو يتخلص من أمواله، يهيم، يجوع، لأنه لا يريد من المدينة أن تسيطر عليه، لا يريد أن يخسر نفسه كفنان وكشخص. إنه يحتقر الخارج، ويرفض كل شيء يقدمه له. إن فيه نزعة فوضوية، ساخرة وناقمة. ولكن لأن المدنية طريق إجباريٌّ مسدود، حشدٌ عدائي احتكاري، فإنه يخسر، ويهرب إلى البحر. ولكنه لا ينهار، وهنا تبرز فرادة بطل هامسون، إنه يواصل، مثل سيزيف كامو – كما أشار لذلك سْفير لينجستاد – الذي يمثل صورة البطل الحداثي، يواصل دحرجة الصخرة، يواصل تأليف قصة وراء قصة، بل ويواصل الهرب من مكان إلى مكان. إنه لا يخضع لفكرة ميتافيزيقية، لا يبحث عن ترويض وجداني مثل أبطال دوستويفسكي، إنه يواصل، بكل عبثية ولاجدوى. لا إجابات، ولا حتى أسئلة. الفعل نفسه فقط، مكررا.

في مقالي عن برنهارد أيضا، تحدثت عن مفهوم التعددية، وهو مفهوم مهم جدا عند هذا السلم الخماسي تحديدا. التناقض التعددي الذي تقوم عليه تركيبة الفرد، وكيف أن تعدد النسخ جزء أساسي من تكوين الإنسان. هامسون أكثر تعقيدا في هذه النقطة. فمن ناحية، هامسون هو كل شخصياته تقريبا، على الأقل في رواياته المبكرة (وهو ما سأركز عليه لاحقا في تجربة الجوع)، مثل برنهارد، ولكن الفرق هو أن لكل شخصية “نبرة” خاصة جدا، تتغير ليس بتغير المكان فقط (كريستيانيا في الجوع، القرية في أسرار، الغابة في بان) ولكن أيضا في السَّـمْت، في صوت السارد نفسه، في إيقاع وصياغة النثر. شخصيات هامسون منصهرة في ذات السرد، في بنيته وطريقته وموسيقيته. وهو ما يصنع شيئا غريبا: جميع هؤلاء متشابهون تماما، ولكن لكل واحد منهم خصوصية متفردة تبعا لخصوصية الإيقاع في كل نص. وهي بذلك تتجاوز التعددية الخاصة لكل شخصية في روايتها الخاصة بفوضويتها واعتباطيتها إلى تعددية شاملة تجمعها بكل الشخصيات الأخرى في الروايات الأخرى ليشكلون جميعا بناء هرميا يعود إلى صوت واحد، ولكنه رغم ذلك يختلف في كل مرة اختلافا خصوصيا منفردا. وهو بذلك أعقد من برنهارد – أو كافكا – اللذان لا تختلف نبرة صوتيهما في رواياتهما. هامسون ينطبق ولا ينطبق عليه في نفس الوقت مفهوم: رواياته عبارة عن كتاب واحد، لأنها فعلا تتشابه ولكنها أيضا لا تتشابه!

ولأنه يهتم بآنيّة التجربة الذاتية لشخصياته، فإنه لا يهتم كثيرا بالإرهاصات والتاريخ، بل أنه أحيانا يعمد إلى تضليلنا، وهو في هذا يختلف نوعا ما عن دوستويفسكي، الذي يجنح إلى التبرير والشرح والبناء المنطقي لكيف وصل هذا إلى هنا وكيف صار ما هو عليه. وهامسون يبدو في هذه الناحية أشبه بكافكا المنفصل، المجتـزَأ، الذي “يحدث” فجأة .. كافكا بالفعل هو الامتداد المثالي لهامسون، ولا غرابة أنه تأثر به كثيرا.

ثمة فرق آخر بين دوستويفسكي وهامسون، ويربط هامسون بكافكا وبيكيت وبرنهارد: النبرة الساخرة. هامسون يصور عجز الفرد في كثير من الأحيان كشيء مضحك، مسل. العجز الذي يعيشه الفرد في صراعه مع المجتمع، مع خياله، مع متطلباته الشخصية، كلها تدعو إلى نوع من السخرية، ولكنها سخرية لا تهدف إلى الضحك، بقدر ما تهدف إلى الاستهزاء، ولذا هو مثل برنهارد لا يجب أن يؤخذ بجدية دائما. ففي أسرار، البطل يجد متعة في تحقير قناعات الآخرين، يهاجم ويتناقض ويتلاعب ويُحدث بذلك استخفافا ساخرا بكل ما هو عزيز على هؤلاء الأشخاص، لا عن قناعة بالضرورة، ولكن أحيانا لأسباب تافهة، ربما الملل! وفي الجوع، البطل تستفزه تقريبا جدية الآخرين، هذه الآلية المتناسقة التي تسير عليها حيواتهم الاستهلاكية المبتـلَعة في جوف المدنية/الخارج الجشع، ولذا يسخر منها ويسخر أثناء ذلك من نفسه أيضا حينما يُـقدِّم نفسه كأضحوكة، يتخلص برضى من كل شيء يربطه تقريبا بهذا الشكل من المعيشة، بأن يتشرد ويجوع ويفتقر ويصير مهرجا تعيسا، بل يجوز القول أنه “فخورٌ” بجوعه، إنه “يُعرّفه”، من دونه هو مثل غيره.

ولأن هامسون عاش متشردا طوال الشطر الأول من حياته، فقد افترض الكثيرون أن هذا البطل ليس سوى هامسون. فقد كتب عدة رسائل ما بين 1880-1888 يصف كيف أنه يتعرض للجوع، كيف أنه رهن كل شيء يملكه، كيف أنه يعيش في عليّة تهب الريح من خلال جدرانها، كيف أنه يتصبر بمضع أعواد ثقاب منطفئة. حتى أن الناشر إدفارد براندز الذي استقبل هامسون وقد جاءه بمسودة الفصل الثاني من رواية الجوع – والتي ستنشر لاحقا تحت اسم مجهول في 1888 – وصف هامسون بأن في وجهه تعبيرا مستنزفا من التشرد والرثاثة والسفر، لدرجة أنه لم يستطع أن يمحوه من ذاكرته. إن هذا عنصر أساسي في كثير من أدب القرن العشرين، الكاتب صار متورطا في كتاباته، ولكن ليس كأفكار، فهنا يكمن الاختلاف عن رواية القرن التاسع عشر الحافلة بحضور المؤلف فكريا/تلقينيا، ولكن كتجربة، كشخص، مما يجعل الرواية عملا يتراوح بين الذاتي والرصدي. هامسون من أوائل من قدموا هذه التجربة، هذا المزيج المشوه، الذي يشتبك فيه ما هو خيالي بما هو حقيقي، أن يضيع المؤلف في احتمالية أن يكون هو بطله وأن لا يكون هو بطله في نفس الوقت (وستكون حاضرة بشكل أقوى في the wanderer). سمةٌ رأيناها عند ستريندبرغ وسنراها كثيرا عند كافكا وبرنهارد.

رواية الجوع تحديدا، وغالبية روايات هامسون عموما، هي روايات تجارب، ولذا فهي روايات نفسية. إنها لا تؤدي إلى شيء، لا تتحدث عن شيء، تعوم، تطرق أبواب كل شيء، ولكن لا تستقر في مكان. تذهب إلى مسارات عديدة، ولكنها لا تنتهي عند نقطة ما. وهو ما يقود إلى أهم سمات أدب هامسون: الإيقاع.

أعود لأكرر أهم ثيمة في هذا المقال، والتي سأعود لأكررها لاحقا، ولذا تحملوني: هامسون لا يُقرأ فقط، ولكن يُعاش. في الجوع مشهد عظيم، وثوري. حينما يسجن البطل في زنزانة مظلمة تماما، ويبدأ العقل بممارسة “حالاته الغريبة” بأن يخترع كلمة غامضة: كوبواا. هذه الكلمة المجهولة، التي تأتي من مصدر مجهول، ودون سياق معين، تعبر عن الظلمة التي يجلس فيها، “كلمة سوداء بما فيه الكفاية لتناسب الظلمة”. ربما سيلاحظ القارئ، وربما لن يلاحظ، ولكن الكلمة تساوي الظلمة، إيقاعيا. ولكن لماذا؟ ربما لأن اللغة ليست سوى مرادف شفهي للأجواء، للحس. لغة هامسون – مثل بيكيت وبيرنهارد – حسية، إن لها تركيبا موسيقيا ونمطا حركيا/سمعيا خاصا بها. في كل رواية، يصنع هامسون لغته متوازية إيقاعيا مع أجواء الرواية. ففي الجوع كان الإيقاع مزيجا من الهذيان والرصد، فوقية الرصد الذي يتميز به متسكع بلا جدوى يعيش رغم تسكعه في داخله ونرى العالم من خلال عينيه، إنه اعتباطي، “حالة عقلية” في متحرك مادي، يتفكك ولا يتَّسق في مسار تراتبي واحد، ولذا اللغة حادة ومبعثرة ولكن موحية، الراوي لا يتورط بل يُشتت، يفتح لك المسارات سطحيا وينتقل اعتباطيا وفوضويا إلى غيرها ويترك لك الحرية لتتورط بنفسك، ولذا هي – إذا أردنا استخدام تعبير رومانتيكي – لانهائية، أنت تتسكع اعتباطيا في أزقة الرواية، بالضبط كما يتسكع البطل في أزقة كريستيانيا، وتصل إلى لانتيجة، مثله تقريبا. وفي أسرار كان إيقاعه مونولوجيا متورطا، ولكنه يعمد عن طريق الكشف إلى التغميض، أي أنه بكشفه يزداد غموضا، ولذا لغته متناقضة متموجة متلاعبة ومتخمة، فيها الكثير من الكلام ولكن القليل من الوضوح، الكثير من الصور ولكن الكثير من الضبابية، يقطع ويتنقل ويتوقف ويسهب ويقتضب، فوضى خلاقة تبدأ من لاشيء (لماذا توقف نايجل في هذا المكان) وتنتهي عند لاشيء (لماذا اختار ما اختاره في النهاية). إنه من أوائل من فعلوا ذلك بإتقان، وقد ساعده في ذلك دقة وحدّة مقاصده، أنه ليس تلقينيا يعتمد على نثرية قصصه وأفكاره، وإنما على تصميم وشكلانية العمل. هامسون، رغم بساطته الظاهرة، إلا أنه من أعقد الكتاب الذين ستقرأ لهم من ناحية تصاميم عمله، في كل مرة تقرأ له تكتشف شيئا جديدا، ليس فكريا فقط، ولكن كطعم، كتذوق، كإحساس. وهنا يتكامل السحر الهامسوني في هذا المقال: الاندماج بين تلك الذاتية اللاغائية الفوضوية التي ينطلق منها غالبا وبين الإيقاع الشكلي المناسب الذي يبني عليه رواياته، يُـنتج: التجربة. تكاد تكون حسية. عواطفها، مشاعرها، روحها (نعم، سأستخدم كلمة إشكالية مثل هذه على مسؤوليتي). حينما تقرأ أسرار وبان والمتجول مثلا، ستجد أن هنالك حضورا عاطفيا طاغيا يكاد يكون محسوسا، رغم أن هامسون لا يصرح كثيرا بهذه العواطف على ألسنة أبطاله، وإن صرح بها فهي تكون مُمَنتجة ومشبوهة، إنه متقشف، وحاد، وذكوري. ولكنك ستشعر بحضور كل عاطفة، الإيقاعات الشكلية التي يستخدمها ليُخرج – لاشفهيا – كل ما يحس به أبطاله، هو شيء لا يمكن استنساخه.

ولهذا ربما ستجد عند هامسون ارتباطا وثيقا بالمحسوس واللامحسوس، بطريقة تكاد تكون صوفية، أو وثنية بعبارة أدق. تلك الرابطة مثلا في الضوء والنار كـ”حب حسي محض، شبق شهواني” كما يصفها هامسون في رسالته تلك لسكرام التي ذكرتها في أول المقال، والتي جعلَـته يفهم هوس نيرو بـ”التمجيد المتأتي من إحراق روما”، والتي ترتبط بشكل آيروتيكي جنسي في رواية الجوع بحالة البطل الذي يرى في الضوء خطيئة شبقية توحي بنار جحيمية، ولهذا – وهنا استكمال رسالته تلك – لم يقم هامسون بالموت في الخطيئة حينما اكتشف أنه سيموت، ولكنه عوضا عن ذلك وجد متنفسه في النار، حيث أحرق ستائر غرفته ذات يوم، “وبينما جلست هناك أراقب اللهب، شعرت – حرفيا وبكل حواسي – أنني كنت أذنب”. الضوء يرتبط بالنار، والنار جحيمية توحي بثنائية الخطيئة/العقاب.

وهنالك الارتباط بالطبيعة في رواية بان، التي تقدمها كصنم، كوثن، كشيء إلهي ولكنه مفرغٌ من الآيديولوجيا الإلهية، شيء محسوس، إله محسوس، يتعامل معه البطل كصنم، لا يعبد فحسب، ولكنه يُعشق، بل وربما يضاجع!

كخاتمة مناسبة للمقال، ربما يجوز القول أن هامسون لن يسقط في فخ امتهان عواطفه حينما ينقلها كتابيا، فهو من أبرع من ينقل حميمية التجربة الذاتية بكل خصوصيتها. ولهذا يستحيل أن تقرأ له عاطفة مبتذلة، كل شيء شيء يأتي حميميا، خاصا، والأهم: حسيا.