مجلة حكمة

التجارب الطبية تساعد السياسيين: في مديح حقل التجارب البشري / ترجمة: رزان أباالخيل

 يجب على صُنَّاع القرار السياسي أن يستخدموا الأدلة كما يستخدمها الأطباء عند وصف الأدوية


قبل القرن العشرين, كان المرضى حكماء بالبقاء بعيداً عن الأطباء, فقد كانت الأدوية الطبية بالغالب عديمة الفائدة بل وخطرة أحياناً؛ كمطهرات المعدة وإراقة الدماء التي غالباً ما تقتل. وبعد اكتشاف الكائنات الحية الدقيقة واللقاحات والمضادات الحيوية, زُوِّد الأطباء أخيراً بالأسلحة التي تتغلب على الأمراض, لا المرضى. كما أُبتكر مؤخراً  Randomized Controlled Trials “التجربة المنضبطة المعشّاة”(1) (التجربة العشوائية مزدوجة العمية) التي حافظت على حياة الكثيرين. هذه الفكرة بسيطة ولكنها رائعة؛ يُختبر الدواء الجديد عن طريق اعطائه لبعض المرضى الذين تم اختيارهم عشوائياً, ويتلقى البقية الرعاية الصحية المتعارف عليها.

في خمسينيات القرن العشرين، قبل أن تصبح التجربة المنضبطة المعشّاة شائعة, كان من السهل على الطبيب أن يعتقد بأن لا حيلة له عند وفاة المريض على الرغم من جهوده المضنية, بينما يدين المرضى الذين تعافوا بحياتهم له؛ وقد يضر المريض تلو المريض من غير أن يستكشف الأسباب. أما الآن يتم اختبار جميع الأدوية تقريباً بالتجربة المنضبطة المعشّاة قبل أن يجري وصفه على نطاق واسع.

الذي نجح في مكافحة المرض يمكن أن ينجح أيضاً في مكافحة الفقر. ففي العقد الماضي سارعت الحكومات ومنظمات الإغاثة في الدول النامية إلى استغلال التجارب المنضبطة المعشّاة بتشجيع من أصحاب الأعمال الخيرية والمتبرعين الذين يرغبون أن تُنفق أموالهم على نحو جيد. ونَشر هذا الأسبوع اثنان من أبرز الباحثين نتائج لتجارب منضبطة معشّاة لبرنامجي مَنح الناس المُعدَمة ممتلكات (عادةً ماعز أو بقر) وتدريبهم على إدارتها. كانت النتائج مثيرة للإعجاب؛ أصبح المستفيدين في الهند أفضل حالاً بكثير بعد خمس سنوات من انتهاء البرنامج. والأهم من ذلك, أظهرت التجارب بأن برامج الإغاثة هي من صنعت الفرق وليس بعض العوامل الأخرى.

للتجارب المنضبطة المعشّاة قيودها. تصبح مستحيلة حين تؤثر التجربة على الجميع, مثل التغيير في أسعار الفائدة؛ وغير أخلاقية حين يكون الضرر معروف (الأطباء الذين يريدون أن يعرفوا إلى أي مدى التدخين غير صحي, لا يمكنهم طلب حقل تجارب بشري للتدخين). لكن المشكلة الكبرى مع التجارب المنضبطة المعشّاة أنها عادةً لا تُستخدم بما فيه الكفاية.

حتى صُنَّاع القرار السياسي في الدول النامية يسخرون قوتهم العشوائية -التي يقاومها من هم في الدول الغنية- خاصةً في مشارعيهم المفضلة. تجري في بريطانيا حوالي 100 تجربة من التجارب المنضبطة المعشّاة المتعلقة بالتعليم, معظمها منسّقة من قِبَل وقف مؤسسة التعليم -جمعية خيرية أنشأتها الحكومة-. لكنهم يتعاملون مع أسئلة بسيطة, مثل ما إذا كان المراهقون يتعلمون بشكل أكبر لو كان اليوم الدراسي لا يبدأ باكراً. وتُعيد الحكومة في هذا الأثناء تشكيل الإدارة والتمويل للمدراس بشكل جذري في أنحاء البلاد من غير اختبار التغيُّرات من قبل, ناهيك عن إجراء التجارب؛ إنه فعل متهور.

وقامت دولٌ أخرى بشيءِ أفضل قليلاً, أُجريت تجربة منضبطة معشّاة منذ عقود مضت لدراسة تصميم شبكة الأمان لبرنامج الإسكان الرئيسي الأمريكي. وفي الآونة الأخيرة, قد اختبرت التجارب تأثير الفصول الدراسية صغيرة الحجم, المدارس المستأجرة, التثقيف الجنسي, ومرحلة ما قبل المدرسة للأطفال الفقراء. لكن كما هو الحال في بريطانيا, نادراً ما تستخدم التجارب المنضبطة المعشّاة لتقييم تحولات سياسية كبرى؛ مثل قانون الرعاية ميسور التكلفة “أوباما كير” (Obamacare) كان يمكن أن يكون فرصة لسلسلة من التجارب لتحسين قوانينه, ولكن هذه الفرصة قد هُدرَت.

الدورة الانتخابية هي أحد أسباب تجنُّب السياسيين للتجارب المنضبطة المعشّاة. يُجرى تقييم دقيق غالباً ما يأخذ سنوات عند اتباع سياسة جديدة؛ بينما يريد الإصلاحيون النتائج قبل موعد الانتخابات المقبلة. معظم السياسيين مقتنعون بالفعل من حكمة خططهم, ويرون جدوى من إنفاق الوقت والمال لإثبات صحتها. قد لا يهتمون في بعض الأحيان عما إذا كانت السياسة تعمل أم لا, طالما ينظر إليها تقوم بشيء ما. عقوبات السجن القاسية تجعل الحكومة تبدو صارمة حتى وإن كانت لا تخفض معدل الجرائم؛ وقد تكون الضرائب المرتفعة على ذوي الدخل العالي مُتقبلة حتى و إن لم تجمع مبالغاً إضافية.

يريد الأطباء على الأقل فعل شيء جيد بشكل عام؛ ومع ذلك تأخروا في تبني التجارب المنضبطة المعشّاة. وأبدى العديد منهم انزعاجهم فيما اعتبروه افتراء أُلقي على مِهنيّتِهم, أو قلقهم حول أخلاقيات حرمان المرضى الذين تم اختيارهم عشوائياً من دواء جديد واعد. ولم يقتنعوا إلا من خلال رؤيتهم أن العديد من الأدوية المعترف بها ثبت ضررها, والبرهنة على عدم جدوى الأدوية الجديدة الواعدة. ويَعتبر الأطباء الآن التجارب المنضبطة المعشّاة هي المعيار الأقوى للأدلة.

 

صُنع سياسة شجاعة

أن تعيش في ديموقراطية حديثة يعني أن تخضع لتجارب صُنَّاع القرار السياسي من المهد إلى اللحد. ويهدف التعليم إلى قولبة المواطن المستقبلي المستقيم؛ وإعادة توجيه من قد ضل بعقوبة السجن. ولكن في غياب الدليل, تصبح هذه السياسات الموضوعة للمدراس والسجون هي أفضل قليلاً من طبيب يعتمد على العلق وإراقة الدماء. ويستحق المواطنون, بقدر المرضى, معرفة ما إن كانت المعاملة التي يتلقونها قد أثبتت فعاليتها.

 

 

المصدر

 


(1) Randomized: وتعني التجارب المعشّاة: التي تم اختيار عيناتها عشوائيًا